إسلام ويب

تفسير سورة الشورى [36 - 38]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • وصف الله عباده المؤمنين الذين أعد لهم جنات النعيم بأنهم يتوكلون على الله في جميع أمورهم، وأنهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وأنهم يغفرون عند غضبهم، وأنهم استجابوا لأوامر ربهم، وانتهوا عما نهاهم عنه خالقهم، وأنهم يقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون، وأنهم ينتصرون ممن ظلمهم إن كان الخير في الانتصار، وإلا صبروا وعفوا إن كان في ذلك صلاح وخير.

    1.   

    بيان صفات المؤمنين المذكورة في سورة الشورى

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الشورى: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى:36-39].

    هذه صفات من صفات المؤمنين الذين أخبر الله عز وجل أنه أعد لهم ما هو خير مما في هذه الدنيا من زينة ومال وغير ذلك، قال تعالى: فَمَا أُوتِيتُمْ أي: مهما أوتيتم أو كل ما أوتيتم من هذه الحياة الدنيا فهو متاع قليل كما قال تعالى: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الشورى:36].

    التوكل على الله

    وقال تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الشورى:36] أي: الذي عند الله هو الأخير والأبقى الذي يناله من فيه هذه الصفات، والتي هي كما قال تعالى: لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى:36] أي: المؤمنون الأتقياء الذين يثقون في الله عز وجل ويتوكلون عليه ولا يكلون أمورهم إلى غيره سبحانه وتعالى، والذين يستيقنون بما أعد الله عز وجل للمؤمنين من فضل وكرامة ورحمة، الذين يستيقنون أن ربهم هو الرزاق الكريم، وأنهم ما خلقوا إلا لعبادته سبحانه، وأنه يرزقهم من فضله سبحانه.

    اجتناب الكبائر والعفو عن الناس

    ومن صفاتهم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37].

    أي: من صفاتهم اجتناب الكبائر والفواحش، وإذا وقعوا في شيء منها تابوا إلى ربهم سبحانه وتعالى، ورجعوا إليه، وإذا غضبوا على أحد من الخلق أساء إليهم فهم يتذكرون ما عند الله من فضل لمن عفا فيعفون ويصفحون ويسامحون ويتجاوزون، فالله يعاملهم بما عاملوا به الخلق، فلما عاملوهم بالتجاوز والإحسان فالله عز وجل يحسن الله إليهم، ويتجاوز عنهم سبحانه وتعالى.

    الاستجابة لله وإقامة الصلاة

    ومن صفات هؤلاء أيضاً كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] أي: أنهم استجابوا لله سبحانه وتعالى لما دعاهم إليه واستجابوا لما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلا يتلكئون، ولا ينكصون على أعقابهم، ولا يترددون في قبول ما أمرهم الله عز وجل به.

    ومنها: أنهم صلوا الصلاة التي يرضى عنهم بها ربهم سبحانه وتعالى، فقوله: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ أي: اعتدلوا في صلاتهم، وأحسنوا فيها، واستيقنوا بالأجر من الله فاستراحوا بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والأسوة يقول: (أرحنا بها يا بلال)، ويقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).

    فكذلك المؤمنون يستريحون بالصلاة لقربهم من ربهم سبحانه وتعالى، فهم أقاموا الصلاة وواظبوا عليها، وواظبوا على صلاة الجماعة فلم يتركوها، وإذا دعوا إليها فنادى المنادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، استجابوا وأسرعوا ملبين نداء ربهم مستيقنين بالفضل من الله سبحانه وتعالى.

    المشاورة في الأمر

    ومن صفاتهم قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] فالمؤمنون يشاور بعضهم بعضاً في أمورهم، ولا يستبد أحدهم بالأمر دون غيره، والشورى تكون في أهل الرأي، فلا يستشار الحمقى والمغفلون، وأهل الاستهتار والفسوق، وإنما الشورى تكون لأهل الدين والتقوى، ولأهل الخبرة والحنكة، ولأهل الفن الذي يسأل صاحبه فيه.

    فالذي يجيد القتال والجهاد في سبيل الله عز وجل يستشار في أمور الجهاد والقتال في سبيل الله، والذي يعرف بيع الناس وشراءهم وما يقومون به من معاملات، فيحتاجون لأن يسعر عليهم الحاكم، أو يضع عنهم أشياء من أرباحهم، أو غير ذلك، فيستشير أهل المعرفة والتخصص في هذا الشيء.

    وأهل الاقتصاد الذين يفهمون أحوال المسلمين، وأحوال سوق المال الذي عند المسلمين يستشارون في ذلك، أما حدود الله سبحانه وتعالى فيتكلم عنها العلماء والفقهاء وأهل الحديث؛ لأنهم أصحاب المعرفة في دين الله عز وجل، أما أن يترك أهل العلم، وأهل الفقه، وأهل الدين، ويستشار أهل الفسق، وأهل الرقص والغناء، فهذا بمنأى عن التعقل.

    فلو أن إنساناً جاء وجمع مجموعة من الناس لا يفهمون شيئاً في أمر البيع والشراء وقال لهم: أنا أريد أن أعمل تجارة فبماذا تشيرون علي؟ لقيل له: بم يشيرون عليك فيها؟ فهم لا يعرفون كيف يشيرون عليك، وإذا أشاروا عليه أخطئوا فيها؛ لأنها ليست مهنتهم، وليست عملهم، ولقيل له: إذا أردت أن تفتح محلاً وتتاجر في شيء فاسأل أهل الصنعة في هذا الشيء.

    وإذا أردت أن تبني عمارة من العمارات فاسأل المهندس والمقاول اللذين يفهمان في ذلك.

    فالشورى تكون لمن يفهم ويجيد وعنده تخصص في ذلك، بحيث يكون أميناً في دينه، خبيراً في هذا الشيء، فقد يكون الإنسان أميناً ولكن لا خبرة له بهذا الشيء، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستشير أصحابه أهل مشورته كـأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولقد كانا كالوزيرين للنبي صلى الله عليه وسلم يستشيرهما في أموره صلى الله عليه وسلم.

    فكان كلما حدث شيء جمع له المسلمين الذين يفهمون في ذلك وأخذ بآرائهم صلوات الله وسلامه عليه، ففي يوم الخندق استشار النبي صلوات الله وسلامه عليه المسلمين ماذا يصنعون مع الكفار إذا قدموا؟ فأشار عليه سلمان رضي الله تعالى عنه بحفر خندق بينهم وبين الكفار؛ لأن عدد الكفار القادمون عليهم عدد ضخم جداً، والأمر أصعب من أن يخرجوا لقتالهم، فيفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما قال سلمان.

    وكان النبي بنفسه عليه الصلاة والسلام يحفر معهم الخندق، وينشد مع من ينشد من المسلمين قائلاً: اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة.

    فالغرض أن الاستشارة تكون لأهل العلم في الأمر الذي يستشارون فيه، فلا يجوز أن يستشير الحاكم في أحكام الله ودينه سبحانه إنساناً لا خبرة له في ذلك، أو يستشير إنساناً فاسقاً في دينه، بعيداً كل البعد عن كتاب الله وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    من صفات المؤمنين الإنفاق في سبيل الله

    ومن صفات المؤمنين قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الشورى:38] أي: إن من صفاتهم الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وسواء قلت النفقة أو كثرت فهي بحسب ما يعطي الله سبحانه وتعالى الإنسان، قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] وقال: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق:7]، فالإنسان الغني ينفق من هذا الغنى ومن هذه السعة، قال تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7] أي: ضيق عليه رزقه: فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7] أي: مما أعطاه الله من مال قليل.

    وهناك نفقات واجبة على الإنسان كأن ينفق نفسه، أو على زوجته، أو على أولاده، أو على أبيه وأمه الذين يحتاجون إلى ذلك، فهذه نفقات أمر الله عز وجل بها، فهي نفقة وهي صدقة تؤجر عليها، وهناك نفقة إذا كنت غنياً وتملك نصاباً فتخرج زكاة مالك التي أمرك الله عز وجل بها وقال: وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، فتنفق على الفقراء والمساكين، وعلى من يحتاجون، فالإنسان ينفق مما آتاه الله، قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد أمرك بالإنفاق من الطيب فقال: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] وقال: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57]، وقال: وَلا تَيَمَّمُوا [البقرة:267] أي: لا تتوجهوا إلى الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] فلا تنفق الشيء الرديء فتقول: هذا لله، ولكن أخرج لله ما يرضى ربك عنك بإنفاقك إياه، وانظر إلى ابني آدم لما أراد كل منهما أن يعرف منزلته وأيهما أفضل؟ فقيل لهما: قربا قرباناً، فهذا تقرب إلى الله بأجود ما يجد من بهيمة الأنعام التي عنده، وذاك نظر إلى حقله وبستانه وقال: الله غني عن هذا، فنقى أردأ شيء مما عنده وقال: هذه لله، فإذا بالله يقبل ما كان طيباً وصالحاً، فقبل من هذا ولم يقبل من هذا؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.

    فلا تيمموا إلى الخبيث تنفقون منه وإذا أعطاكم أحد هذا الخبيث فمستحيل أن تقبلوه، قال تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ [البقرة:267] أي: إذا أعطاكم أحد هذا الخبيث فلن تأخذوه إلا إذا خدعكم إنسان فأعطاكموه.

    فالذي ينبغي في النفقة هو أن تنفق ما تحب أن تأخذه، أو ما تحب أن يرزقك الله عز وجل مثله وأمثاله. إذاًً: من صفات المؤمنين الإنفاق في سبيل الله، قال الله عز وجل: يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة:274]، أي: أنهم لا ينفقون في النهار فقط لأجل الرياء، بل هم ينفقون بالليل والنهار، بل من وجدوه محتاجاً أعطوه من مال الله، وينفقون سراً وعلانية، فإذا كانوا في العلانية أرادوا أن يقتدي الناس بهم، وإذا كانوا في السر أنفقوا فكان أعظم في الأجر، فهم ينفقون في كل أحوالهم بالليل والنهار في السر والعلانية.

    فضل الصدقة

    الصدقة عظيمة جداً، وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في فضل الصدقة التي تخرجها لله سبحانه، والأجر الذي يكون عند الله، منها ما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب)، أي: من تصدق بنحو تمرة أو ما يشابهها، كأن أعطيت فقيراً ثمرة أو ثمن ثمرة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بعدل تمرة)، أي: بأقل ما وجد، فالله عز وجل يعلم أن هذه إمكانياتك التي تقدر عليها، فيقبل منك بكرمه وفضله وجوده ذلك.

    قال رسول الله: (فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل)، الفلو: المهر الصغير، فهو يشبه نماء الصدقة بالحصان الصغير الذي تعلفه وتطعمه وتسقيه إلى أن يصير كبيراً، فكذلك الصدقة التي تصدقت بها فإنها كانت تمرة بسيطة فإذا بالله ينميها لك سبحانه، فيعطيك عشر أمثالها، أو سبعمائة ضعف فيها، أو ما شاء الله عز وجل من أجر عليها، وعندها تصير التمرة جبلاً عظيماً من الحسنات بفضل الله وكرمه.

    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم)، فالدرهم كان لإنسان فقير، كل ثروته درهمان فتصدق بدرهم، فهو أنفق نصف ثروته، والآخر له مال عظيم كثير فتصدق من عرض ماله بمائة ألف، فله أجر عظيم عند الله على المائة ألف، ولكن من نظرة أخرى فإن الأول تصدق بنصف ثروته، والثاني تصدق بشيء من ماله، أو بعشر ثروته، أو غير ذلك، فكأن الدرهم سبق المائة الألف، ولكل أجر وخير عند الله سبحانه وتعالى.

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة : (ما نقص مال من صدقة)، وهذا وعد من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعدنا لأن الله أوحى إليه بذلك، وقد ذكر في حديث آخر أنه قال: (ثلاث أقسم عليهن.. وذكر منها: وما نقص مال من صدقة).

    فثق في وعد الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا أنفقت مالك فإنه لا ينقص بسبب الصدقة، وإنما ينميه الله ويبارك فيه سبحانه وتعالى.

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً).

    والنظرة في هذه الأحاديث كلها نظرة دنيوية ونظرة أخروية، فنظرة الدنيا هي أنك إذا أنفقت من مال الله أتاك الناس ونصحوك بإبقاء مالك فلعلك تحتاجه، فتوقن بأن مالك لن ينقص، بل سيزيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة).

    والنظرة الدنيوية الأخرى هي العفو، وذلك حين يعفو الإنسان عمن ظلمه، فنظرة الناس والأهل والأصدقاء أن هذا العفو ضعف من الإنسان.

    أما نظرة الآخرة فهي أنك قد تعززت بذلك، فيزيدك الله عز وجل بهذا العفو عزاً عنده سبحانه وتعالى وعند الخلق، فتصير عزيزاً حتى وإن تكلم عليك الناس، ولكن الله عز وجل يجعل لك عزة على الناس بسبب ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً).

    1.   

    التواضع وفضله

    الأمر الثالث الذي يقسم عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)، أي: أن الإنسان المتواضع ينكر الناس عليه ويقولون له: لماذا تلبس لباس الفقراء؟ ولماذا تمشي على قدميك؟ ولماذا؟ ولماذا؟

    فينظرون إليك على أنك هاضم لنفسك، ولكن النظرة عند الله عز وجل أنك إذا تواضعت لله يرفعك الله سبحانه وتعالى، ولا تظن أنك سترتفع في الدنيا بتطاولك على الناس واستكبارك عليهم، بل هذا الترفع على الخلق يجلب من الناس العداوة والبغض، وهو أسرع طريقة لأن يكرهك الناس، وأسرع طريقة لأن يحبك الناس هي أن تتواضع لهم، وأن توافقهم في الصواب؛ ولذلك كانوا يسألون قيس بن عاصم: لماذا يحبك الناس؟ فقال: لو امتنعوا عن شرب الماء لامتنعت عنه، ومستحيل أن يمتنع أحد عن شرب الماء، وليس مقصده ذلك، وإنما المقصد عدم المخالفة.

    وإياك أن تنظر لنفسك وترفعها، فما رفع الإنسان نفسه إلا وضعه الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك تواضع، فإذا كنت في مجلس مع الناس وقيل لك: اجلس، فاختر المكان المتواضع لتجلس فيه، ولا تختر أعلى الأماكن وتجلس فيها، فإذا فعلت ذلك لعل الناس يتركونك مرة، ولكن لن يتركوك دائماً في ذلك، وقد نهاك النبي صلى الله عليه وسلم أن تجلس على مكرمة إنسان إلا بإذنه، فإن استضافك أحد عنده في بيته، وأدخلك غرفة الجلوس، فلا تجلس حتى تسأل عن مكان جلوسك؛ فلعلك تجلس في مكان لا يرغب رب الدار أن تجلس فيه.

    فهذه آداب عظيمة يعلمناها الإسلام العظيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، صلوات الله وسلامه عليه.

    وقد رفعه الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة وكرمه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن).

    والتواضع: هو أن ترى نفسك وضيعة، وأنها أقل من الغير، فبهذا يرفعك الله سبحانه وتعالى، أما إذا نظرت إلى نفسك بأنها أعلى من الغير وأحسن منهم، فيأبى الله أن يدوم لك هذا النظر، فيريك أنك أقل من الناس ويبتليك بمرض، فيجعلك تحتاج للدكتور وتحتاج للناس، فتجد نفسك قد احتجت لهؤلاء الذين كنت تستغني عنهم.

    والله عز وجل جعل بعضكم يحتاج إلى بعض، فأنت اليوم معك مال ولا تدري بكوارث الأيام ومصائبها؛ لذلك تواضع لله.

    ولا تستكبر بوظيفتك، فإن الوظيفة لا تدوم، واعلم أنك مهما عاملت به الناس أثناء غناك أو وظيفتك فإنهم سيعاملونك حين فقدك، فإن تواضعت لهم رفعوك، وإن تكبرت عليهم تركوك وأهملوك، وانظر إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، فلقد كان يخرج بين الناس ويمشي بينهم، وينام في الطريق، ولقد نام مرة تحت شجرة، فأتى رجل من بلاد الفرس يبحث عن عمر فدل على مكانه تحت الشجرة، فلما أتى إليه ووجده نائماً قال: عدلت فأمنت فنمت يا عمر .

    فالإنسان الذي يعدل في الدنيا يحبه الخلق، وفي الآخرة يجعله الله سبحانه وتعالى على منبر من نور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة).

    1.   

    فضل الصدقة

    نرجع لحديث النفقة، روى الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل: لأتصدقن بصدقة!)، وانظر إلى هذا الرجل كيف يلزم نفسه بالصدقة في وقت تأتي النفس فتجبن صاحبها وتبخله، فهذا الرجل قال: (لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق)، إذ إنه خرج في الظلام فوجد رجلاً فأعطاه تلك الصدقة، ورجع هذا المنفق إلى بيته، ورجع الآخر إلى بيته، ثم قام يحدث الناس بما جرى له في الليل، (فأصبح الناس يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: الحمد لله على سارق) فحمد الله سبحانه على ذلك، ولم يمنعه ذلك من التصدق مرة أخرى فقال: (لأتصدقن بصدقة، فخرج بالليل فوضعها في يد امرأة) فإذا بها امرأة زانية.

    فأخذت المرأة المال، ولما أصبحت تحدثت بهذا الشيء، (فقيل: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، ثم خرج الليلة الثالثة وتصدق بصدقة فوضعها في يد غني ثم ذهب يحدث بها، فتحدث الناس: تصدق الليلة على غني، فقال الرجل: الحمد لله على سارق، وعلى زانية، وعلى غني، فإذا بهذا الرجل ينادى فقيل له: إن الله سبحانه وتعالى يقول: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته).

    فالله له حكمة سبحانه وتعالى في ذلك، منها أن هذا الذي أخذها وسخر عليك اليوم، غداً سيتوب ويتصدق كما تصدقت أنت عليه، فقد سننت له سنة حسنة وأرجعته عما كان فيه من ذلك.

    قال: (وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله)، أي: كأن الله يقول: لم نضيع لك هذه الصدقة، بل لك أجر الصدقة وأجر السنة الحسنة التي سننتها في هؤلاء ليعملوا مثلك بعد ذلك فيكون لك أجر هؤلاء.

    وانظر إلى الذكرى كيف يذكرهم الله سبحانه فيقول: ومَمَا رَزَقْنَاهُمْ [البقرة:3] فالمال مال الله سبحانه وتعالى، فكأن الله يقول: نحن رزقناك فأعطن فلست الذي خلقت المال، ولست الذي اكتسبته بجدك وتعبك، وإنما ذلك من توفيق الله عز وجل لك، ورزق الله سبحانه وتعالى لك.

    روى الإمام أحمد من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة).

    أي: أن الصدقة ظل، وهذا الظل ظل الله سبحانه وتعالى، وليس هناك ظل يوم القيامة إلا ظل الله، في يوم مقداره خمسين ألف سنة، والناس قائمون كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] وتدنو الشمس من رءوس الخلائق، ويكون هناك حر شديد، وفي الدنيا يغمى على الإنسان من شدة الحر، أما في الآخرة فلن يغمى عليه، والإنسان في الدنيا إذا غرق يموت، أما في الآخرة فإنه لا يغرق في عرقه، فموقف القيامة موقف عصيب وعظيم، والإنسان المؤمن يظله الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فإذا كنت من أهل الصدقة المكثرين فإن الله عز وجل يظلك في ظل صدقتك، ويكون هذا الظل في الموقف كله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يفصل بين الناس)، أو قال: (حتى يحكم بين الناس)، وراوي الحديث هو يزيد بن أبي حبيب يحدث عن أبي الخير واسمه مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر ، وعقبة صحابي، قال يزيد بن أبي حبيب : وكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة.

    أي: أنه كان يتصدق بأي شيء وجده، فإن وجد كعكة تصدق بها، وإن وجد بصلة تصدق بها. وهذا الحديث رواه ابن خزيمة، وذكر عن مرثد أنه كان أول أهل مصر يذهب إلى المسجد، وما رأيته داخلاً المسجد قط إلا وفي كمه صدقة، إما مال، وإما خبز، وإما قمح، حتى ربما رأيته يحمل البصل فأقول: يا أبا الخير ! هذا ينتن ثيابك، فيقول يا ابن حبيب ! أما إني لم أجد في البيت شيئاً أتصدق به غير هذا، إنه حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ظل المؤمن يوم القيامة صدقته).

    وأنت أيها الأخ! تصدق بما استطعت من الصدقة، فاللقمة تجعلها في فم امرأتك صدقة، والنفقة على عيالك صدقة، والتبسم لأخيك صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه عليها صدقة، وأن تصلح بين متخاصمين صدقة، وأن تلقي السلام على المسلم صدقة، فتصدق فإن المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة.

    وروى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد).

    أي: أن أحب أموال أبي طلحة إليه حديقة عظيمة جميلة اسمها بيرحاء، وكانت أمام مسجد النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الحديقة كان فيها بئر من الآبار العذبة الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يشرب منها.

    قال أنس : (فلما أنزلت هذه الآية: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]) أي: أنه لما سمع هذه الآية فإذا به يفكر، ويرى أن البر اسم جامع لجميع خصال الخير، وحتى أكون باراً وأجمع خصال الخير فلن يتوفر لي ذلك حتى أنفق مما أحب من المال، فذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء).

    وانظر إلى قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا [آل عمران:92] (من) هنا تبعيضية، أي: من بعض ما تحبون، فهذا يحب هذه الحديقة فيخرج منها شجرة، يخرج منها ثماراً، فـأبو طلحة قال: أنا أحب هذه الحديقة، فهي كلها لله سبحانه وتعالى.

    فقال: (إنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بخ، ذاك مال رابح)، و(بخ) كلمة تقال عند الثناء والمدح والتعجب لما فعل هذا الإنسان من مكرمة عظيمة، وقوله: (ذاك مال رابح)، أي: أن تجارتك مع الله رابحة عظيمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين).

    وهذا من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم الكريم ومن حنانه؛ إذ لم يأخذها ويوزعها على الناس بنفسه، بل جعل أبا طلحة نفسه هو الذي يوزعها، وهذا أحب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الناس سيحبونه لذلك، فإذا أعطى الأقربين أحبه الأقربون، ولن يزالوا يذكرون له ذلك ويمدحونه، ويثنون عليه، ويدعون الله له، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الذي يفعل ذلك بنفسه حتى يؤجر عليها الأجر العظيم، فقال: (أرى أن تجعلها في الأقربين، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه).

    نسأل الله عز وجل أن يعيننا على كل ما يحبه ويرضاه.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765793176