إسلام ويب

تفسير سورة الشورى (تابع) الآية [38]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله عز وجل مبدأ الشورى في كتابه الكريم، وأمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم لما يترتب عليها من المصالح الدينية والدنيوية والأخروية، وهذه الشورى لها آدابها وأحكامها وحدودها، وليست بالشورى التي يتزعمها من رضعوا اليوم من لبان الغرب، فجاءوا يتشدقون بملء أفواههم أن شورى الغرب المستوردة هي من الإسلام، فشورى الإسلام معلومة ومحسومة لا تقبل التعديلات ولا التبديلات.

    1.   

    الشورى في الإسلام

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    تكلمنا في الحديث السابق عن صفات المؤمنين الذين يستحقون من الله سبحانه وتعالى أن يعطيهم الخير، أو ما هو أخير من هذه الحياة الدنيا في الجنة من النعيم المقيم، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [القصص:60]، والذين يستحقون الجنة هم المؤمنون الذين يتوكلون على ربهم، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، والذين إذا ما غضبوا هم يغفرون، وكذلك هم الذين يقيمون الصلاة وأمرهم شورى بينهم، وذكرنا أن الشورى صفة تتعلق بهذا المجتمع المسلم، ومن الصفات العظيمة التي أمر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ووصف المؤمنين بها ومدحهم عليها، فقال: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان يستشير أصحابه صلوات الله وسلامه عليه في أمور الدنيا، كالقتال مثلاً، حتى يعود المسلمين على مبدأ الشورى العظيم.

    اهتمام الإمام أحمد بالشورى

    وللعلماء كلام عظيم في مبدأ الشورى، يقول ابن مفلح الحنبلي في الآداب الشرعية: فصل في التزام المشورة في الأمور كلها ومعنى قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159].

    قال: قال المروزي : كان أبو عبد الله -يقصد الإمام أحمد رحمه الله- لا يدع المشورة، يقتدي بالنبي صلوات الله وسلامه عليه فيما أمره الله عز وجل به في قوله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، يقول: حتى إنه كان ليشاور من هو دونه فهذا إمام من الأئمة العظام رحمه الله ورضي الله عنه، وهو الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، الفقيه العظيم العالم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والذي حفظ من المتون ومن الأحاديث ما لم يكن يحفظ أحد مثله رحمه الله، فقد قالوا: إنه حفظ ألف ألف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين وغيرهم من أحاديث موصولة بأسانيد كثيرة، ومن أحاديث منقطعة، ومن آثار عن الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم وغير ذلك مما حفظه، فكان فقيهاً عظيماً، وإماماً من أئمة أهل السنة، ابتلي فصبر ودافع عن دين الله عز وجل، حتى توفي وهو على منهج النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنه وأرضاه.

    فكان رحمه الله يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في الشورى، حتى إنه ليشاور من هو دونه، وليس هذا عيباً أن الإنسان يستشير غيره، ويأخذ برأي غيره، ويستفيد منه، فلعله يكون عند نفسه مصيباً، فإذا استشار بان له الخطأ في رأيه، وهذا من عظمة الشورى.

    يقول: وكان إذا أشار عليه من يثق به، أو أشار عليه من لا يتهمه من أهل النسك من غير أن يشاوره قَبِل مشورته، وكان إذا شاوره الرجل اجتهد له رأيه، وأشار عليه بما يرى من صلاح، وكان يستشير الناس، فإن جاءه أحد من أهل الصلاح المتمسكين والمتعبدين يشير عليه برأي قبل رأيه وأخذ بنصيحته، وهو أيضاً إذا جاءه إنسان يطلب منه النصيحة والمشورة أشار عليه، واجتهد له برأيه رضي الله عنه ورحمه.

    معنى الشورى

    يقول ابن الجوزي رحمه الله في قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159] معناه: استخرج آراءهم واعلم ما عندهم بالشورى، فإذا استشرت الناس فكل منهم سيدلي برأيه الذي عنده، فتستفيد من آرائهم إذا رأيت، ولعلك تجد رأياً من آراء الناس أصوب مما تقوله أنت، فلا تحتقر لأحد رأياً حتى تسمع ما يقول.

    يقول الزجاج : يقال: شاورت الرجل مشاورة وشواراً، وما يكون عن ذلك اسم المشورة، ويقال لها المشورة، يقال: فلان حسن الصورة والمشورة، أي: حسن الهيئة واللباس، وحسن المشورة أي: صاحب رأي.

    قالوا: معنى شاورت فلاناً أي: أظهرت ما عندي وما عنده، يقال: وشرت الدابة إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها -فهذا من معاني كلمة شار- قال: وشرت العسل إذا أخذته من مواضع النحل، وعسل مشار، أي: مأخوذ من أماكن النحل.

    فالمشورة هي عرض الآراء على الناس، أو على أهل الشورى، وأخذ هذه الآراء والنظر فيها.

    الهدف من أمر الله نبيه بالشورى

    يقول ابن الجوزي : اختلف العلماء رضي الله عنهم لأي معنىً أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه، مع كمال رأيه وتدبيره صلوات الله وسلامه عليه، بمعنى: هل كان محتاجاً لآرائهم صلى الله عليه وسلم وقد كمل علمه وحلمه، وكملت أراؤه عليه الصلاة والسلام؟

    يقول ابن الجوزي : قيل: ليستن به من بعده، وهذا صحيح، فالله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، وليس معنى ذلك أنه لا يتقي الله صلوات الله وسلامه عليه، فيأمره الله عز وجل بذلك ليتقوا الله وليأتمروا بأمره، ولا يستنكفوا عن عبادته.

    وقيل مثل ذلك في مقام الوعيد: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وحاشاه أن يقع في الشرك صلى الله عليه وسلم وأن يكون من الخاسرين، وقد أخبره الله بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]، والنبي صلى الله عليه وسلم مستحيل أن يشرك وقد عصمه الله سبحانه، ولكن إذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك فالأمة أولى بذلك، فعلى المسلمين أن يخافوا على أنفسهم من الشرك.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه حتى يستن به المؤمنون.

    وقيل: لتطييب قلوبهم حين يستشيرهم، ولو استشار الإنسان إنساناً آخر في أمر من الأمور فسوف يحس ذلك المستشار أن له وضعاً واعتباراً واحتراماً، فيقول رأيه وهو طيب النفس، حتى ولو كان أقل منك، ولن تأخذ برأيه، ولكنك قد أرحت باله وطيبت نفسه باستشارتك له.

    فالشورى مبدأ عظيم تطيب به نفوس الناس، وإذا حدث خطأ بعدها فلن يقول أحد لآخر: أنت انفردت بالرأي والحكم، ولكن سيقال: هذا رأي الجميع والخطأ منهم جميعاً.

    فوائد الشورى

    قال ابن الجوزي : من فوائد المشاورة: تطييب القلوب، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البكر تستأمر في نفسها)، فالبكر تستأذن فإذا كانت صغيرة فلأبيها عليها ولاية إجبار، فيجبرها أن تتزوج، ولكن مع ذلك يطيب خاطرها بالمشاورة؛ لأنه يستأمرها، ويأخذ رأيها، حتى وإن كان له ولاية إجبار في سن معينة، ولكن لابد أن يستشيرها ويأخذ رأيها حتى يطيب قلبها، وتطيب نفسها.

    كذلك من هذا الباب كما يقول الشافعي : مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أمر بذبحه، فقد رأى في المنام أنه يذبح ابنه، ولا بد أن ينفذ ذلك، فرؤيا الأنبياء وحي من الله عز وجل، فكونه يقول لابنه: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، ليس معنى ذلك أن إسماعيل لو رفض الذبح سيترك إبراهيم أمر الله، وإنما لتطييب القلب والموافقة على أمر الله، والرضا بقضائه وقدره، فقال الابن الكريم لأبيه الكريم: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].

    ومن فوائد المشاورة: أن المشاور إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ولو أن إنساناً استشار جماعة في المسالة الفلانية، وكل أدلى برأيه، واتفقت الآراء على عمل معين، وبعد ذلك لم يتحقق المطلوب، فسوف يقول: هذا قضاء الله وقدره، بعد أن استخرنا الله واستشرنا الناس.

    ومن فوائد الشورى أيضاً: أنه قد يعزم على أمر ويتبين له الصواب في قول غيره، فقد يعزم على شيء، ثم يستشير الناس، فيشيرون عليه بترك ذلك الشيء لما سيترتب عليه من المضار، وقد يعزم على نكاح امرأة، ويستشير الناس في ذلك فيشيرون عليه بأن هذه المرأة لا تصلح لك، وفيها من الصفات ما لا يناسبك، ثم يتبين له الصواب في رأيهم بعد ذلك، وقس على ذلك غيره.

    يقول علي رضي الله عنه: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم. وهذا كلام حكيم من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإذا استشار الإنسان غيره وصل إلى الصواب في الأمر، وقد خاطر من استغنى برأيه، أي: أن الإنسان الذي يحسب نفسه أنه يفهم كل شيء، فيعمل ما يريد بدون أن يستشير الناس؛ فإنه قد يصل في النهاية إلى مأزق خطير لا يقدر على الخلاص منه، فيتمنى لو أنه استشار أولئك الذين احتقر آراءهم.

    قال رضي الله عنه: وما استنبط الصواب بمثل المشاورة، بمعنى: ما استدرك أو ما استخرج الصواب، يقال: استنبطت الماء: أي: استخرجته من الأرض، واستنبط الصواب بمعنى: استخرجه من قلوب الناس وعقولهم وتفكيرهم، فعلم الإنسان أن يشاور حتى يصل إلى الصواب.

    قال: ولا حصنت النعم بمثل المواساة وهذا كلام رجل حكيم، ومعناه: إذا أردت أن تحافظ على النعم التي أعطاك الله إياها فتصدق منها وأد زكاتها، قال: ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر، والمعنى: إذا تواضعت للناس أحبك الناس كلهم، وإذا استكبرت عليهم أبغضك الناس كلهم.

    من هم أهل الشورى

    يقول ابن الجوزي رحمه الله: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يؤت به وحي، وعمهم بالذكر والمقصود أرباب العلم وأصحاب الرأي والحكمة.

    فقوله سبحانه: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، هذه صيغة عموم، والمقصد من هذا العموم: الخصوص، وليس العموم، والمعنى: شاور بعضهم وليس جميعهم، رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً، ولكن اجمع أهل المشورة واستشرهم، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يجمع إليه القراء وحفاظ القرآن فيشاورهم، وإذا أشار عليه أحد غيرهم بشيء قبله إذا كان فيه صواب، فقد أشارت عليه امرأة بشيء فقبل منها.

    فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله عز وجل بالشورى قال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، ففي يوم بدر قال: (أشيروا علي أيها الناس)، فتكلم أبو بكر ، فأعرض عنه، وتكلم عمر فأعرض عنه، وهو يقول: (أشيروا علي أيها الناس) وهو يريد مشاورة الأنصار، فهم أهل المدينة وأصحاب البلد الذي فيه النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن)، وسيأتي هذا الخبر في قصة طويلة له صلى الله عليه وسلم.

    إن الإنسان حين يستشير إنساناً فقد ائتمنه على هذا الرأي الذي يقوله، وكذلك إذا استشارك إنسان فقد ائتمنك، وطلب منك الأمانة، فاحذر أن تشيره بما يكون فيه ضرر عليه، فهذه أمانة ولابد أن تؤدي، يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فإذا أعطاك إنسان سره، واستشارك وطلب منك الرد فقد أودعك أمانة، فرد إليه أمانته برأيك الصحيح.

    وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن)، معناه: أنه مسئول يوم القيامة عند الله عز وجل عن هذه الأمانة التي لزمه أن يردها، وأن يجيب على من استشاره.

    قال الحسن رضي الله عنه: إن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لحاجة منه إلى رأيهم، ولكن أراد أن يعرفهم ما في المشاورة من البركة، ففي آراء الجماعة بركة، فأراد الله عز وجل أن يعرف المسلمين ذلك.

    وقال عمر رضي عنه: شاور في أمرك من يخاف الله، أي: لا تذهب إلى من يعاديك، أو يتمنى لك الشر لتستشيره، ولكن شاور من يخاف الله سبحانه وتعالى، ويعطيك الرأي السديد.

    قيل لرجل من قبيلة عبس: ما أكثر صوابكم! أي: الصواب عندكم كثير، فقال الرجل: نحن ألف -أي: عدد القبيلة ألف رجل- وفينا حازم واحد نشاوره في أمرنا -فإذا حدث للقبيلة أمر شاوروه وأخذوا بمشورته- قال: فصرنا ألف حازم.

    فعلى المرء ألا يهضم كلام العلماء ولا يستهتر به ولا يحتقره، وليأخذ بكلام العقلاء والحكماء، وليعمل به، فإن كثيراً من الناس يستشير عالماً في مسألة لا ليعمل أو يتفقه، فإن وافق الحكم هواه أخذ به، وإلا سأل آخر، فيطلب ما يوافق هواه، وهذا استهتار بدين الله عز وجل.

    كان علي رضي الله عنه يقول: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام، أي: مشهده في القتال، فالغلام أقوى في الحرب، ولكن رأي الشيخ خير من مشهد الغلام؛ لأن الشيخ له خبرة في الحياة، وخبرة في الحرب، وقد خاض المعارك قبل ذلك وعرفها، فالأخذ برأي الشيخ أولى من الأخذ برأي الغلام، ومع ذلك فالغلام يؤخذ برأيه، ولذلك لما أراد عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أن يدخل الشام وفيها الطاعون استشار جمعاً من المهاجرين، فاختلفوا عليه: فمنهم من يقول: ادخل، أتفر من قضاء الله سبحانه وتعالى؟ ومنهم من يقول: ارجع ولا تدخل، ثم استشار مشايخ قريش الكبار، فقال: ما رأيكم؟ فلم يختلف عليه أحد منهم، وقالوا: ارجع ولا تذهب، فإنك سوف تهلك نفسك وتهلك الجيش، فهذه آراء الشيوخ، فاقتنع بكلامهم ورجع.

    وكان من بركة هذه المشورة أن عبد الرحمن بن عوف كان غائباً، فلما رجع قال لـعمر بن الخطاب: لقد أصبت فيما فعلت، وعندي في ذلك خبر، فحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا نزل الطاعون في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن لم تكونوا فيها فلا تدخلوها)، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ورجع، وهذا هو رأي المشيخة، فلقد كانت آراؤهم أصوب؛ لما لهم من خبرة في الحياة، فإذا لم يكن عندهم سنة في أمر من الأمور فكروا وأعملوا الآراء، وهم أهل لأن يوفقوا، بسبب كبر سنهم، وكثرة عبادتهم، وخبرتهم في إدارة الأمور.

    يقول عبد الملك بن مروان : لأن أخطئ وقد استشرت أحب إلي من أن أصيب من غير مشورة، بمعنى: أنه ليس أحب إليه أن يصيب بدون أن يستشير، بل الأحب أنه لو أخطأ بعد أن استشار، وهذا كلام حكيم من رجل عالم، فلقد كان هذا الرجل يقرب العلماء ويحبهم، فكان إذا أخطأ وقد استشار لم يندم، وإذا أصاب من غير مشورة يدخله العجب، وهكذا فالإنسان عندما يصيب مرة بدون مشورة يفرح ويعجب بنفسه، لكنه إن أصاب هذه المرة فقد يخطئ مرة أخرى ويضيع نفسه ومن معه بعد ذلك، هذا ما قاله العلماء.

    ومن كلامهم أيضاً: من طلب الرخصة من الإخوان عند المشورة، ومن الفقهاء عند الشبهة، ومن الأطباء عند المرض، أخطأ الرأي وحمل الوزر وازداد مرضاً، وهذه من حكم العلماء، ومعنى (من طلب الرخصة من الإخوان) أي: أنه يشاور ويريد ممن يشاوره أن يسهل عليه ولا يعطيه الحقيقة؛ فينبغي على المرء ألا يطلب الرخصة عند المشورة، ولذلك قالوا: صديقك من صدقك لا من صدقك، وأخوك من وعظك لا من عذرك، وقالوا: أخوك من عذلك لا من عذرك، أي: أخوك حقيقة هو الذي يعظك ويعذلك، ويذكرك بأخطائك، أما الذي يعذرك دائماً، ولا يقول لك إذا أخطأت: أنت مخطئ، فقد غرك، وسوف تظل على الخطأ بدون أن يمنعك منه أحد، وإذا أتى إليك من ينصحك ويذكرك بأخطائك فقد تظن أنه يكرهك.

    وقولهم: صديقك من صدقك، بمعنى أن الصديق الحقيقي هو الذي يصدقك، يقول: ما يقول ولا يكذب عليك، ويقول لك الصدق، فإذا أصبت صوبك، وإذا أخطأت خطأك، فهو صادق معك، وليس صديقك من صدقك، فكلما تقول شيئاً يقول: أنت صادق فيه، مع أن كل الناس يقولون: إنك مخطئ، فمن صفات أهل الجاهلية أن تصوب المخطئ من أجل قرابة بينك وبينه، وهذه هي العصبية.

    وقولهم: ومن الفقهاء عند الشبهة، أي: أن يسأل الفقيه في أمر مشتبه فيه ويريد منه رخصة في هذا الأمر.

    وقولهم: ومن الأطباء عند المرض، أي: أن يمرض ويذهب إلى الأطباء فيمنعوه من بعض الأشياء، فيطلب منهم ألا يمنعوه من ذلك وأن يسهلوا عليه.

    فإذا صنع الإنسان ذلك فقد أخطأ الرأي، وحمل الوزر، وازداد مرضاً، طالما أنه يعمل بالشبهة، ويطلب من الفقيه أن يفتيه بجوازها، فيأثم الفقيه ويأثم هو أيضاً، ويحمل الوزر، ويزداد مرضاً.

    حديث: (المستشار مؤتمن) وما فيه من فوائد وعبر

    ذكرنا أن النبي صلوات الله وسلامه عليه قال في الحديث: (المستشار مؤتمن)، وفيه قصة جميلة رواها الإمام مسلم والترمذي ، وهذا لفظ الإمام الترمذي عن أبي هريرة ، يقول: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فقال: ما جاء بك يا أبا بكر ؟! فقال: خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر في وجهه وأسلم عليه.

    فلم يلبث أن جاء عمر فقال: ما جاء بك يا عمر ؟! فقال: الجوع يا رسول الله! -فقد كان فقيراً لا يجد شيئاً يأكله- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا قد وجدت بعض ذلك)، وكذلك أبو بكر ولكنه استحيا، ولذلك جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجني الذي أخرجكما)، أي: إذا كان أخرجكم الجوع ولم تستطيعوا الجلوس فخرجتم إلى الطريق، فكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الجوع، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري -وهو رجل من الأنصار كان كثير النخل والشاة، ولم يكن له خدم، بل كان يخدم نفسه بنفسه- قال: فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء -أي: خرج يحضر لهم ماءً عذباً من بئر بعيد- فلم يلبث أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها فوضعها، ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه صلوات الله وسلامه عليه -فقد وجده خير ضيف أتى إليه- فأقبل إليه يحتضنه ويقبله ويقول: فداك أبي وأمي، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطاً، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلا تنقيت لنا من رطبه -أي: أنه أعطاهم قنواً مملوءاً بالبلح، من الأحمر والأسود، وفيه من كل الأنواع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: لو أعطيتنا أقل من هذا- فقال الرجل الكريم: يا رسول الله! إني أردت أن تختاروا أو تخيروا من رطبه وبسره -وهذا من كرمه، فإنه لما رأى عليهم علامات الجوع أطعمهم الموجود، ولم يتأخر عليهم- فأكلوا، وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد. فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً، -وهذا بعد أن قدم لهم ما كان موجوداً؛ لشدة جوعهم- فلما انطلق قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تذبحن ذات در -أي: أنه صلى الله عليه وسلم نهاه أن يذبح شاة فيها لبن- فذبح لهم عناقاً أو جدياً -من الماعز- فأتاهم به فأكلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك خادم؟ قال: لا، قال: فإذا أتانا سبي فأتنا)، فرد الجميل بالجميل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أهدى إليه إنسان شيئاً يعطيه المثل والمثلين وأكثر من ذلك، فبما أن هذا الرجل قد أكرمهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيعطيه عبداً من العبيد يخدمه في المكان الذي هو فيه.

    ومما ينبه عليه هنا أن بعض الناس ربما يضحك ممن يقدم للضيف شيئاً قبل الغداء، وقد يقول: إنه ما أعطاهم ذلك إلا لكي يأكلوا بعده ما سيقدمه لهم.

    فـأبو الهيثم بن التيهان لما رأى عليهم الجوع أعطاهم شيئاً يأكلونه، ولو أنه ذهب وذبح الشاة وطبخها لتأخر عليهم وتركهم جياعاً، وهذا من أدبه وكرمه رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف كرم هذا الرجل، ولذلك قال له: (لا تذبحن ذات در)، فلما جاء سبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أتاه هذا الرجل، وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعبدين لا ثالث لهما، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اختر -أي: واحداً من الاثنين رداً لجميله الماضي- فقال أبو الهيثم للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الشاهد من الحديث كله-: إن المستشار مؤتمن -أي: بما أنه قد استشار النبي صلى الله عليه وسلم فسوف يختار له الأفضل؛ لأن المشورة أمانة- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به معروفاً).

    إن أبا الهيثم له حديقة كبيرة، ونخل كثير، وشاة وغنم كثير، وليس له خادم يخدمه، فهو يخدم نفسه بنفسه رضي الله تعالى عنه، فلذلك أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه ما ينتفع به، فالإنسان حين يهدي لآخر فلينظر الشيء الذي ينتفع به ويهديه له، وبعد أن أعطاه العبد أوصاه به خيراً، فانطلق أبو الهيثم فرحاً بالعبد الذي أخذه وذهب إلى امرأته وقال: هذا العبد أهدانيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرها بأنه قال: (استوص به خيراً)، وكانت امرأة تقية، فقالت له: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، وهذا من صلاحها وتقواها، فلم ترض أن ترتاح مع زوجها والعبد يعمل، فأعتق الرجل العبد واستمع لنصيحة امرأته الفاضلة رضي الله عنهما، وقال: هو عتيق، فهذه المرأة أشارت على زوجها بالصواب، وإن كانت تلك المشورة على نفسها.

    فعلى الإنسان أن ينصح ولو على نفسه، يقول الله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135]، فإذا نصح الإنسان لأخيه كما ينصح لنفسه وأدى الأمانة فلينتظر البركة من وراء ذلك، فهذا الرجل بعد أن أعتق العبد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بما صنع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل حين سمع منه ما فعل هو وامرأته: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً)، وقس على ذلك من بعدهم، فكل إنسان يملك أمراً من الأمور، ويعمل عملاً من الأعمال فحوله أناس، وله بطانة، منهم من يأمره بخير، ومنهم من يأمره بشر، فالذين يريدون أن يأكلوا منه ويأخذوا المال يأمرونه بالشر، أو بأي شيء، المهم أن يأخذوا من ورائه المال، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن يوق بطانة السوء فقد وقي)، فكأنه يمدح تلك المرأة التي جعلها الله بطانة خير، فقد أشارت عليه بالخير وأمرت بالمعروف.

    وهكذا فكل إنسان له بطانتان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة)، فبئست البطانة أن يكون من حولك خونة، ينظرون في مصالحهم فقط، فيعنونك على الخطأ ولا يرشدونك إلى الصواب؛ حتى يأخذوا من ورائك المال، ويحصلوا منك على مصلحة.

    فالكبير والصغير من الناس له بطانة سوء تفسد ولا تصلح، وبطانة خير تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن يوق بطانة السوء فقد وقي).

    نسأل الله عز وجل أن يقينا بطانة السوء، وأن يقينا كل شر في الدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765790454