إسلام ويب

تفسير سورة الشورى (تابع) الآية [37]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما كان ابن آدم خطاء ولابد أن يدرك حظه من الذنوب، جاءت هذه الآية في سياق ذكر صفات المؤمنين، فبين الله عز وجل أن الذنوب تتفاوت، وأن منها كبائر وصغائر، فالكبائر لا تكفرها إلا التوبة، أما صغائر الذنوب فقد جعل الله عز وجل لها مكفرات كثيرة منها: اجتناب الكبائر وفواحش الذنوب، فمن صفات المؤمنين اجتنابها وعدم الإصرار على الصغائر، ثم ذكر صفة أخرى وهي أن المؤمن ليس كغيره بل هو مسيطر على نفسه، مالك لها، إذا غضب تجاوز عمن أساء إليه، وليس تجاوزه عجزاً، إنما هو تجاوز الكريم عند مقدرته على خصمه، فيعمل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37].

    إن اجتناب كبائر الإثم والفواحش من صفات المؤمنين الذين يغفر الله عز وجل لهم عند وفاتهم بفضله وكرمه، قال سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31] فالكبائر إذا اجتنبها المؤمن طول حياته فإن الله عز وجل يكفر عنه سيئاته التي هي صغائر ذنوبه بفضله وكرمه ورحمته سبحانه وتعالى.

    وقد جعل الله مكفرات كثيرة، فجعل الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، وكذلك اجتناب الكبائر، كل ذلك مكفرات لصغائر الذنوب عن العبد.

    وقد ذكر الله هنا الذين يجتنبون كبائر الإثم ويجتنبون الفواحش، وفي سورة النجم ذكر الاستثناء فقال: إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، فهم يجتنبون كبائر الإثم، ولكن يقعون في اللمم وهي الصغائر، وكل إنسان لا بد أن يقع في حال غضبه، أو في حال فرحه، أو في حال هربه من شيء، فلابد أن يقع في شيء من اللمم.

    فعلى المؤمن أن يجتنب الكبائر ولا يستهين بالصغائر، وإذا وقع في شيء من الصغائر تاب إلى الله تعالى ورجع إليه.

    فإذا كان عند الوفاة وبقي عليه شيء من سيئاته وقد اجتنب كل الكبائر فالله عز وجل يكفر عنه هذه السيئات بفضله ورحمته سبحانه.

    وكذلك قد جعل الله عز وجل للعبد في حياته مكفرات، مثل الشوكة يشاكها، والبلاء يبتلى به، والمصيبة يبتلى بها، وما يصيبه من هم وغم ووصب ونصب ومصيبة إلا كان له في ذلك أجر وكفر الله عز وجل عنه من سيئاته بذلك.

    وفي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ [الشورى:37] قراءتان: قراءة الجمهور: (الذين يجتنبون كبائر الإثم).

    وقراءة حمزة والكسائي : (كبير الإِثْمِ)، أي: الإثم الكبير.

    وقوله تعالى: وَالْفَوَاحِشَ [الشورى:37]، أي: ويجتنبون أيضاً الفواحش.

    ضابط الكبيرة

    وهنا يتكلم العلماء في أمر الكبائر، وليست الكبائر هي التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم أو هي التي ذكرها الله عز وجل في كتابه فقط، بل قد وضع العلماء لها ضابطاً، فقالوا: كل ذنب من الذنوب توعد الله عز وجل عليه بالعذاب، أو جعل فيه حداً، أو لعن الله عز وجل فاعله أو غضب عليه فهو كبيرة من الكبائر التي تفحش في نظر المؤمن حين يسمعها، ولو لم ينص على أن هذا من كبائر الذنوب.

    يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المذكورة في القرآن كالسرقة، والزنا، وقتل النفس، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول مثلاً: فمن شتم الرب سبحانه وتعالى، فانظر إلى المشرك وانظر إلى الذي يشتم، فالمشرك بالله معظم لله تبارك وتعالى، ويقول: أن لا أقدر أنا أعبد ربي مباشرة، إنما أجعل الصنم يوصل هذه العبادة؛ لأنني أحقر من أن أصل إلى الرب فأعبده مباشرة، فهذا عنده شيء من التعظيم، لكنه أشرك في تعظيمه، فوقع في كبيرة من الكبائر.

    والذي يشتم الرب سبحانه وتعالى تجده أفحش بكثير من الذي أشرك بالله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا استهان بربه.

    فالأول: جعل معه في ملكه غيره.

    والثاني: كأنه ألغى ربه، فلاشك أن الشتم أفحش.

    وكذلك الذي يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يستهين برسل الله عليهم الصلاة والسلام، أو يكذب أحداً من رسل الله.

    وقد جعل الله تعالى الحرم آمناً كما في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].

    فالحرم آمن شرعاً وقدراً، ففي الجاهلية كانوا يعرفون حرمة هذا الحرم، فما كان أحد يجرؤ أن يلحد داخل الحرم، كأن يقتل إنساناً، أو يأخذ مال إنسان، بل كان الرجل يجد قاتل أبيه وقاتل أخيه داخل الحرم فلا يمسه بسوء، وينتظره خارج الحرم إن أراده بسوء، أما داخل الحرم فكانوا يخافون من ذلك، فهذا التحريم القدري.

    أما التحريم الشرعي فبما أنزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه من قرآن ومن سنة.

    فلو أن إنساناً ظلم إنساناً داخل الحرم وقد جعله الله حرماً آمناً، فهذا ألحد في الحرم، قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، ففي الآية وعيد للذي تحدثه نفسه أن يلحد في الحرم أن يذاق من عذاب أليم، فكيف بمن يفعل ذلك؟

    ولو كان يؤذي الحرم نفسه، كأن يفكر بهد الحرم، أو يسرق شيئاً من الحرم، أو لطخ الحرم بعذرة، أو تغوط أو بال داخل الحرم الذي قدسه الله عز وجل وجعله طاهراً آمناً، فإذا سقنا كل ذلك على الإلحاد في الحرم نجد أنها من كبائر الذنوب، مع أن هذا مما لم يذكر في القرآن ولا في السنة، ولكن دخل بقياس الأولى، فهذا أولى بأن يكون إلحاداً في الحرم من غيره.

    كذلك جعل الله عز وجل المصحف له حرمة عظيمة، قال تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر)، فلو أن إنساناً رمى المصحف أو مزقه، فقد يكون ذنب هذا الإنسان أفحش من مسه على غير طهارة، بل يكفر الذي يفعل ذلك.

    كذلك الزنا كبيرة من الكبائر، فإذا زنى الإنسان بحليلة جاره كان هذا أفحش، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يزني الرجل بعشرة أبيات أيسر من أن يزني بحليلة جاره)، وهذا الذي يزني بعشرة أبيات واقع في كبيرة من الكبائر، ولكن أفحش من ذلك أن يقع في حليلة جاره، وأفحش من ذلك أن يمسك امرأة محصنة لغيره ليزني بها، فيقول العلماء: هذا من فواحش الذنوب ومن كبائر الذنوب التي يقع فيها الإنسان.

    كذلك القتل من كبائر الذنوب، والذي يمسك بمؤمن لغيره ليقتله هذا مشارك له ومماثل له في هذا الذي فعله.

    كذلك من الكبائر: أكل مال اليتيم، فلو أنه أخذ مال اليتيم، واشترى به طعاماً وأكله فهذا من كبائر الذنوب، ولو أنه أخذ مال اليتيم ورماه في البحر، فيكون هذا أفحش بكثير من الأول، فالأول قد يكون جائعاً، ولكنه واقع في كبيرة وأكل ناراً والعياذ بالله.

    أما الثاني: فإنه استهان بالشريعة، واستهان بحق اليتيم، وكسر قلبه بأن أحرق ماله، أو أتلفه عليه، فهذا أعظم بكثير.

    فهذه الأشياء إن لم تنص عليها الشريعة فقد نصت على ما هو أقل منها، فهذا أفضع وأشنع من الأول الذي نص عليه قوله سبحانه: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]،

    كذلك لو أن إنساناً هرب في القتال فقد وقع في كبيرة من الكبائر، وقد توعده الله عز وجل بغضبه، قال سبحانه وتعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16]، فلو أن إنساناً دل الكفار على عورات المسلمين بأن قال لهم: في المكان الفلاني مجموعة من المسلمين؛ فتجسس للكفار، فأنزلوا عليهم القنابل فأحرقوا المسلمين، كيف يكون فحش ذنب هذا الإنسان؟ لا ننظر إلى أنه قال كلمة، إنما ننظر للنتيجة لذلك، فهذا أشار بيده على المكان فدمروه.

    وهذا مثلما كان يفعل اليهود بالفلسطينيين، يجندون بعضاً منهم يقف لهم في مكان فيشير على السيارة، فتأتي الطائرة وتضرب الصاروخ على قادة حماس وقادة القسام فتحرقهم.

    فهذا الذي دلهم ذنبه أعظم من أن يقتل مؤمناً، وكذلك لو دل الكفار على عورات المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلون بدلالته، ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم، ويزنون بنسائهم، وانظر إلى الكفار لما دخلوا العراق، واقرأ عن المذابح التي حصلت هناك، واقرأ عن الفواحش التي ارتكبوها في نساء المسلمين، يدخلون لتفتيش البيوت ثم يزنون بنساء المسلمين، والعالم كله ساكت على ذلك، ولا أحد يعترض على هذه الجرائم التي فعلوها في سجن أبو غريب وغيره من السجون هناك.

    فهذا الذي دلهم على عورات المسلمين، والذي عرض بلاد المسلمين لذلك، والذي أعان على مثل ذلك، كيف يكون ذنبه عند الله سبحانه وتعالى؟! وأي كبيرة وقع فيها؟ وأي فحش وقع فيه أعظم من هذا الذي يقع في ذلك؟ وقس على ذلك غيره.

    يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: وهذا نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من تولية يوم الزحف.

    عندما تقول: فلان هرب من الحرب، أيهما أعظم جرماً عند الله سبحانه وتعالى وأيهما أعظم جرماً في عقل الإنسان: هذا الذي دل على العورات، فحصلت كل المفاسد والمصائب، أم الآخر الذي هرب من القتال وحده؟ فإن وقع هذا في كبيرة، فهذا وقع في أعظم وأشنع من أن يوصف بكبيرة فقط.

    ولو أن إنساناً كذب ليأكل ويستحل مال مسلم، أو كذب ليأخذ شيئاً من مال مسلم ثم أنكر أنه أخذه، وحلف يميناً غموساً، فهذا وقع في كبيرة من الكبائر استحق بها النار.

    ولو أن هذا الإنسان كذب وقال: إن فلاناً هذا رأيته يقتل فلاناً، فأخذوه وقتلوه.

    أي الاثنين أعظم جرماً: هذا الذي أخذ شيئاً من المال، أم الذي شهد على الإنسان وكذب عليه فقتل بسبب كذبه؟

    لا شك أن هذا أعظم بكثير من الأول، فإذا كان فعل الأول كبيرة؛ فالثاني من فواحش الكبائر.

    يقول العلماء: ولو شهد اثنان بالزور على قتل موجب للقصاص، فسلم الحاكم المشهود عليه إلى الوالي فقتله، وكلهم عالمون بأنهم ظالمون، فذنبهم أعظم ممن قتل إنساناً عمداً وعدواناً.

    ولو أن مجموعة تواطئوا مع الحاكم على الشهادة على شخص أنه قتل شخصاً آخر، فأمر الحاكم الجلاد بأن يقتل هذا الرجل فهؤلاء ذنبهم أعظم ممن قتل إنساناً عامداً مع أنهم لم يباشروا القتل.

    هذا مختصر لكلام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتاب قواعد الأحكام.

    فالخلاصة: إذا أردت أن تعرف أن هذا الذنب كبيرة من الكبائر فانظر لما يترتب عليه من مفسدة، وقسها على الكبائر التي جاءت في القرآن الكريم أو جاءت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لتعرف قبح هذا الذنب هل يوصله إلى أن يعد من الكبائر أم لا؟

    العفو والغفران من صفات المؤمنين

    قال الله عز وجل: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37].

    الإنسان المؤمن مطلوب منه عند الغضب أن يكظم غيظه، ولا ينفذ غضبه حتى لا يؤذي نفسه ويؤذي غيره إلا أن يكون الغضب لله سبحانه وتعالى.

    فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبر ويحلم إلا أن يكون لله فيغضب ويقيم حد الله سبحانه.

    والمطلوب من المؤمن أن يتجاوز ويعفو إلا أن يكون في حد من حدود الله سبحانه، إلا أن تنتهك حرمات الله ففي هذه الحالة يغضب لله سبحانه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا لم يتمعر وجهه حين تنتهك حدود وحرمات الله فهو يستحق العذاب لذلك.

    وقوله تعالى: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، نزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقوله: (يغفرون) أي: يتجاوزون ويحلمون عمن يسيئ إليهم.

    فـأبو بكر شتمه إنسان، فتجاوز عنه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فلامه الناس لماذا لا يرد عليه، وكان ذلك في مكة، فمدح الله تعالى أبا بكر رضي الله عنه في ذلك.

    وقيل: بل نزلت حين لامه الناس على إنفاق ماله كله، وحين شتم فعفا وصفح، فأنزل الله عز وجل ذلك.

    ولكن العبرة بعموم اللفظ، فهي وإن كانت نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ولكنها تعم أبا بكر وغيره من المؤمنين.

    فكل إنسان مؤمن أوذي في شيء وعفا مع قدرته على الانتصار فالله عز وجل يعطيه هذا الأجر.

    وقد كانت العرب تعد من مكارم الأخلاق أن يتغافل الإنسان أحياناً عمن يسيء إليك، ولذلك قال أحدهم:

    ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

    أي: أمر على هذا اللئيم وهو يسبني فأقول: إنه لا يقصدني إنما يقصد شخصاً آخر، ويتغافل عن مثل ذلك.

    وقد يقدر الإنسان أن ينتصر على من ظلمه، ولكن الإسلام يعود الإنسان على ضبط النفس والعفو مع القدرة، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصائم: (فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم)، لم يقل: فليسبه وليقاتله، ولكن قال: (فليقل: إني صائم)، فيذكر نفسه ويذكر غيره بأنه صائم، فلا يرد على الإنسان ما فعله بمثله، ولكن يعفو ويصفح، إلا أن يكون في حد من حدود الله فينتقم لله سبحانه وتعالى.

    قال تعالى: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، أي: يتجاوزون ويحلمون، وإذا كظمت الغيظ فقد يهيج الناس المشاعر بقولهم: أنت ضعيف لم تقدر عليه؛ فهنا تذكر نفسك بمثل هذه الآية، وبمثل قوله سبحانه وتعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

    وبما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث في البشارة بما يكون وراء هذا الصبر العظيم.

    فمما جاء عنه صلى الله عليه وسلم حديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وهو حديث صحيح، ورواه الإمام أحمد أيضاً ونذكر رواية الإمام أحمد وهي أطول من غيرها وهي حسنة، عن سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظه وهو يقدر على أن ينتصر دعاه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره في حور العين أيتهن شاء).

    فالإنسان المؤمن يذكر نفسه بأن من وراء كظم الغيظ حور العين، وهذه أعظم جائزة يتمناها الإنسان من الله سبحانه وتعالى، والحور العين ليست مثل نساء الدنيا، بل أعظم وأجمل بكثير من نساء الدنيا، ولو أن واحدة منهن اطلعت على هذه الدنيا لأضاءتها، والحور العين خلقهن الله عز وجل لعباده المؤمنين، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56].

    ثم قال: (ومن ترك أن يلبس صالح الثياب وهو يقدر عليه تواضعاً لله تبارك وتعالى، دعاه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره في حلل الإيمان أيتهن شاء).

    وهذا من فضل الله سبحانه على الإنسان المؤمن الغني حين يتواضع، فهو يقدر أن يشتري أفخر الثياب، وبإمكانه أن يشتري بدلة بعشرة آلاف جنيه، أو بمائة ألف جنيه، لكنه يتواضع فيلبس مثل الناس.

    وليس معنى ذلك أن يلبس الصوف، أو يلبس الخشن، أو يلبس الشيء الذي يزدريه الناس، لكن المطلوب هو التواضع، فيعيش كما يعيش الناس، يلبس الزهيد من الثياب، والعادي من الثياب الذي يلبسه الناس، لكن بقصد أن يفعل ذلك ابتغاء وجه الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (وهو يقدر عليه)، فهو لم يتركه بخلاً لكنه بدل أن ينفق هذا المال في شراء الثياب يتصدق به، فيدعوه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره بين حلل الإيمان أيتهن شاء.

    وهذا الحديث يدلنا على عظم ثواب كظم الغيظ.

    عفو النبي صلى الله عليه و سلم وكظمه للغيظ

    وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلنا على ذلك بفعله وهو القدوة الحسنة العظيمة، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] يأتي إليه ورجل يقول: (يا محمد! أعطني من مال الله لا من مالك ولا مال أبيك، ويلببه بردائه)، أي: يخنق النبي صلى الله عليه وسلم بقميصه، ويا ترى هذا الإنسان الذي يفعل هذا الشيء هل يستحق أن أحداً يعطيه شيئاً؟! ويقول: يا محمد، ولا يقول: يا رسول الله، أو يا نبي الله.

    ولكن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (اترك ردائي، أعطوه من مال الله) ويصفح عنه صلوات الله وسلامه عليه ويأمر بإعطائه ويضرب بذلك المثل القدوة، ولو أنه زجره لاستحق ذلك، ولو غير النبي صلى الله عليه وسلم زجره لاستحق ذلك ولا لوم عليه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يؤدبه ربه ويجعله أسوة يكظم غيظه ويصبر طاعة لله، ويأمر لهذا الإنسان بالعطاء.

    وجلس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مع مجموعة من المشركين يدعوهم إلى الإسلام، وأثناء ذلك يأتي رجل ويقول: (يا رسول الله! علمني مما علمك الله، علمني مما علمك الله، علمني مما علمك الله، فعبس النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: قطب وجهه، وعبس صلى الله عليه وسلم، كأنه يتمنى منه الصبر عسى الله أن يهدي هؤلاء.

    ولو أن إنساناً مكان النبي صلى الله عليه وسلم وزجره لا يلام؛ لكون الدعوة إلى الله عز وجل هنا أهم من تعليمه ما ليس فرضاً عليه كالصلاة، ويجوز تأخير البيان عن وقت المخاطبة.

    إذاً: ليس فرضاً عليه الآن أن يعلم هذا، إنما الفرض عليه أن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى عسى أن يدخل هؤلاء المشركون في دين الله.

    ولكن أيضاً يؤدب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، فينزل القرآن ويقول: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:1-4]، فيعاتب في ذلك، وغاية ما فعله مع رجل أعمى أن قطب جبينه صلى الله عليه وسلم، وظهر عليه ملامح الغضب فقط، فيجيء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيقول: (مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي).

    فعلينا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا شتم أحدنا تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصنع شيئاً غير تقطيب وجهه وعوتب في ذلك، فيعفو عن هذا الإنسان لعل الله عز وجل يعفو عنا يوم القيامة.

    وهذا حديث آخر رواه الإمام أحمد في مسنده، وأصله في البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وسنسوق لفظ الإمام أحمد ؛ لأن فيه فائدة زائدة عن غيره، وهو حديث إسناده صحيح قال: (قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث) وهذه الغرة ذكرت في رواية مسلم يقول جابر : (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلق سيفه بغصن من أغصانها وتفرق الناس)، فالغرة أنهم تركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده تحت شجرة وعلق سيفه في الشجرة.

    قال: (فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم تحت الشجرة حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ سيف النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: من يمنعك مني؟)، كأنه يقول: لقيتك أخيراً، وأنت نائم على الأرض، وسيفك في يدي، فمن يجيرك مني؟

    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله يمنعني منك، فسقط السيف من يد الرجل، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟)، وهنا كان لسان الحال: فالله منعني، وعرفت أنني على الحق، وأنت كافر، فليس بيننا وبينك أمان، (وإذا بالرجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كن خير آخذ).

    فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتشهد أن لا إله الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك) ومعنى قوله: إني لن أقاتلك مرة أخرى ولن أكون مع قوم يقاتلونك، أما الإسلام فلن أدخل فيه. (فخلى سبيله، ونادى النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الناس إليه فقال: إن رجلاً أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلتاً في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قلت: الله، قال: فشام السيف فهاهو ذا جالس)، ومعنى (شام السيف) أدخله في غمده، واختصر القصة كلها.

    ولو أن أحداً مكانه لقال: فعل كذا وفعلت كذا، ويطيل في وصف القصة.

    ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال لهم: إني صرخت فيه، فقلت: الله، فسقط منه السيف، لعل الصحابة يقتلونه.

    قال: (فذهب الرجل إلى أصحابه، وقال لهم: قد جئتكم من عند خير الناس).

    فهذا الرجل الكافر رجع إلى أصحابه، وقال: جئت من عند خير الناس، قال: (فلما كان الظهر أو العصر صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف).

    أيضاً مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس) فإذا أردت أن يحبك الله سبحانه وتعالى فانفع نفسك وانفع غيرك.

    فالإنسان حين يعمل ويكسب من عمله وينفع الناس يكون نافعاً لنفسه وللناس، فيحبه الله عز وجل.

    قال: (وأحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعه)، فمن الأعمال التي يحبها الله سبحانه وتعالى أن تدخل السرور على قلب إنسان مؤمن آذاك في شيء، وتوقع منك العقوبة فهو خائف من هذه العقوبة، فإذا بك تفرج عنه وتعفو فتدخل السرور على قلبه بذلك، فيكون لك الأجر عند الله سبحانه ويحبك الله سبحانه وتعالى.

    (أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً)، عليه دين والدين كربة من الكربات ففرج عنه بقضائه، (أو تطرد عنه جوعاً)، كأن يكون صائماً وجاء وقت الإفطار وليس عنده شيء يأكله، فأعطيته وأطعمته.

    قال: (ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً) أي: يعتكف في المسجد النبوي، وفي الاعتكاف أجر عظيم جداً.

    فأعظم من هذا الأجر أن يمشي مع صاحب حاجة حتى يقضي له حاجته.

    قال: (ومن كف غضبه ستر الله عورته)، وهذا الشاهد، فإذا كنت تريد الله تعالى يسترك في الدنيا وفي الآخر فاكظم غيظك ما استطعت، وحدث نفسك بأن الله عز وجل أقدر عليك من قدرتك على هذا، وحدث نفسك بالحور العين، واذكر قول الله عز وجل لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، وإذا كنت قائماً فاجلس، وإذا كنت جالساً فاضطجع، ولا تتكلم في وقت الغضب لعلك تنطق بالشيء الذي يثير الشر أكثر وأكثر.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نعالج الغضب، قال: (لا تغضب)، أي: لا تتعاط أسباب الغضب، فإذا وقعت في الغضب وثرت جداً قال: (إذا كنت قائماً فاجلس، وإذا كنت جالساً فاضطجع).

    وقال: (توضأ وصل ركعتين)، وذلك لأن الغضب من نار، والماء يطفئ النار، فتطفئ نار غضبك بهذا الوضوء.

    وقال: (من كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه) فهناك إنسان قوي يستطيع أن ينتصر وإنسان ضعيف لا يقدر أن ينتصر، وكل منهما إذا كظم غيظه فهو مأجور، ولكن الأعظم أجراً هو القادر على أن يفعل بخصمه ما يستطيع ثم يكظم غيظه وغضبه ويسكت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة)، ففي يوم القيامة يوم اليأس، والناس في ذلك الموقف العظيم، يقولون لله: (يا رب! اصرفنا ولو إلى النار)، يقولون ذلك من شدة ما يعانونه من وقوف على أقدامهم خمسين ألف سنة، والشمس قد دنت من الرءوس، فإذا بالله يملأ قلب هذا الإنسان رجاءً، فهو راجٍ ربه سبحانه، ومؤمل ما عند الله، والذي في قلبه الرجاء يعطيه الله ما يرجوه منه سبحانه وتعالى.

    قال: (ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام)، فالذي يمشي مع أخيه في حاجة، كأن يقول: تعال كلم لي فلاناً، فأنا أخاف غضبه، فيذهب معه ويمنع غضب هذا الآخر عنه، فهذا يثبت الله قدمه على الصراط يوم تزل الأقدام على الصراط فلا يسقط في نار جهنم.

    قال: (وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل)، فقد يعمل الإنسان خيراً كثيراً جداً، ولكنه بسوء خلقه يضيع أجره، كان يعطي الفقراء ثم يمن عليهم، أو يشتمهم، ومثل ذلك: كإنسان عنده عسل فيخلطه بالخل فيفسده، وكذلك سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.

    ذكر أن الأحنف بن قيس رضي الله عنه كان من أحلم الناس، وكان الناس يتعجبون من حلم هذا الرجل، فيقولون له: ممن تعلمت الحلم؟

    قال: تعلمته من قيس بن عاصم المنقري التميمي -وهو الذي سن الوأد ثم تاب إلى الله عز وجل وبعد ذلك كان من أحلم العرب- قال: شهدته وقد جلس في قومه وهو محتب. قال: فجاءوا إليه برجل موثق في الحبال فقالوا: هذا ابن أخيك قتل ابنك. قال: فوالله ما حل حبوته، ثم قال لابن أخيه: يا بن أخي! قطعت رحمك، وأفسدت ما بيننا وبينك.

    ثم قال: أطلقوه. وقال: قوموا إلى أم المقتول فأعطوها مائة ناقة فإنها غريبة.

    من يفعل هذا الأمر؟! ليس المطلوب أن تكون مثله، لكن المطلوب ممن يغضب لأتفه الأسباب أن يتذكر هذا الرجل.

    وقصة أخرى للأحنف أنه كان واضعاً ابنه على رجليه، وجاءت الجارية وفي يدها سفود فيه شواء، فإذا بالسيخ يسقط من يدها على الغلام فيقتله، ففزعت المرأة، فقال لها: لا تفزعي، أنت حرة لوجه الله.

    ليس المطلوب أن نصل إلى مثل هذا، ولكن نكظم غيظنا، ونتعود مثل ذلك الخلق لئلا نحرم أنفسنا من هذا الثواب العظيم المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة)، وفي قوله: (إن الله يناديه على رءوس الخلائق ويخيره من يشاء من الحور العين)، وقوله: (من كف غضبه ستر الله عورته).

    فهذه الأحاديث تذكرك بطاعة الله إذا أمسكت نفسك في وقت الغيظ، وفي وقت الغضب، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43].

    نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ما يرضيه.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765794468