قال الله عز وجل في سورة الشورى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:25-27].
قوله سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)، فالله توّاب رحيم سبحانه، فهو يتوب على عبده، والله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إلى الله عز وجل، فالله يستجيب له، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل)، وقال: (يستجاب لأحدكم ما لم يدعُ بإثم أو قطعية رحم)، فالله سبحانه يستجيب دعوات العبد ما لم يعجل في دعائه وطلبه من الله عز وجل، وما لم يدع بقطيعة رحم أو بإثم.
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) أي: يقبل فيتجاوز عن سيئاتهم وعن ذنوبهم.
(وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ) هنا يخبر أنه يعفو عنها، فيمحو هذه السيئات ويجعلها كأنها لم تكن شيئاً، فيعفو الله سبحانه وتعالى عنها ويسامح في ذلك، ففضله على خلقه عظيم سبحانه، وأعظم السيئات هو الشرك، فإذا تاب العبد منه إلى الله عز وجل تاب الله عز وجل عليه.
(وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) أي: يعلم ويقدر على المجازاة سبحانه، فيجازي العبد على ما يفعله.
إن الله غفور رحيم، وعفو كريم، فهو يبدل السيئات حسنات، ويبدل الآثام بالحسنات، وهذا من فضله سبحانه، ويؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله عز وجل لملائكته: أحضروا كبار وصغار سيئاته، فيأتي ببعض سيئات هذا العبد ويخفي عنه الباقي، والعبد يتذكر: عملت كذا وعملت كذا، فالله عز وجل يقول له: عملت كذا؟ فيقول: نعم، وهو يعلم أن هناك ما هو أشد من ذلك، فالله عز وجل يقول له: عملت كذا؟ فيعترف بذنبه أمام الله عز وجل، ويقول له: وعملت كذا؟ فيقول: نعم يا رب! كل ذلك وقد ستر الله عز وجل عنه من كبائر ذنوبه؛ لأنه قد تاب في الدنيا، فالآن الله عز وجل ستر عنه البعض وأراه البعض الآخر، فلما رأى ذلك من فضل الله سبحانه إذا بالله سبحانه يقول: قد عفونا عنك، وقد بدلناها لك حسنات، أي: فهذا الذي تراه أمامك الآن قد غفرناه لك، وبدلنا هذه السيئات حسنات، فإذا بالعبد يتطاول ويقول لله عز وجل: هناك ذنوب ليست هاهنا، يعني: هناك معاصٍ أنا عملتها وليست مكتوبة، وذلك لما رأى أن السيئات تنقلب إلى حسنات، والله عز وجل كريم يتفضل على عبده بالتوبة والمغفرة.
فهذا الحديث فيه: أن أناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا على الشرك، وقالوا: نحن في أيام الشرك عملنا كثيراً من السيئات، فقد قتلنا وسرقنا وزنينا وأكثرنا من ذلك، فهل إذا دخلنا في الإسلام سيفغر لنا ربنا أو ماذا سيفعل بنا؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70]، وأنزل الله سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فالله يغفر الذنوب جميعاً، فإذا تبتم إلى الله ودخلتم في الإسلام، فالله يغفر الذنوب جميعاً سبحانه.
ومن الأحاديث العظيمة ما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل ممن كانوا قبلنا قتل تسعة وتسعين نفساً فأراد أن يتوب، فذهب يبحث عن أعلم أهل الأرض، فدل على عابد من العباد، فذهب إليه فقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ فقال: ليس لك توبة، فقتله وكمل به المائة، ثم سأل فدلوه على عالم فذهب إليه وسأله: قتلت تسعة وتسعين نفساً وكلمت مائة فهل لي من توبة؟ قال: ومن يمنعك من التوبة؟ ولكن أنت في أرض أهلها أشرار، اترك هذه الأرض واذهب إلى مكان كذا؛ فإن فيه أناساً يعبدون الله، فاذهب فاعبد الله معهم، فخرج هذا الرجل من هذه الأرض إلى الأرض الأخرى ومات في الطريق، فإذا بالملائكة يختصمون فيه، فملائكة العذاب يقولون: لم يعمل خيراً قط، وملائكة الرحمة يقولون: إنه خرج تائباً، فأوحى الله عز وجل إلى الاثنين أن قيسوا ما بينه وبين الأرضين، فإلى أيتهما كان أقرب فهو من أهلها، فقاسوا فإذا بالله يوحي إلى الأرض أن اقربي من هنا وابعدي من هنا، فوجدوه أقرب إلى أرض الرحمة فجعلوه من أهلها، فيقبض إلى رحمة الله سبحانه).
فهذا قتل وأكثر، وتاب إلى الله فأدركته الرحمة فكيف بما دون ذلك من الذنوب؟! فإذا تاب العبد تاب الله عز وجل عليه، حتى ولو كان قاتلاً ثم تاب فإن الله يرحمه، ولكن الغالب أن قاتل النفس لا يتوب.
فإذا أدركت العبد التوبة من الله عز وجل فالله يتوب عليه، أما إذا لم تدركه التوبة وافتخر بما فعل، وفعل هذا الشيء معانداً، وفرح بهذا الذي فعله من قتْل مؤمن بغير جرم وبغير حق، فهذا الذي جاء فيه الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما كان الله ليجعل لقاتل مؤمن توبة).
إن الإنسان الذي يعرف الإسلام ويعرف الحق، ويعرف أن هذا مؤمن ثم يذهب فيقتله بغير ذنب، أو يقتل إنساناً مؤمناً على شيء حقير من الدنيا لا يساوي أن يقتله من أجله، فنقول: رحمة الله تسع كل شيء، ولكن الله له الحكمة البالغة، فبحكمته سبحانه يلهم هذا التوبة فيتوب، ويحجب عن هذا التوبة فلا يتوب، فالله عليم حكيم والأمر راجع إليه سبحانه وتعالى؛ لذلك فالعبد يخاف من الله عز وجل، وما يدريه إن قتل إنساناً فلعل الله لا يلهمه أن يتوب، ولكن من وقع في المعصية فنقول له: تب إلى الله عز وجل، والله يتوب على من تاب، لكن عليك أن تفكر إذا عملت معصية من يضمن لك أن ترجع إلى الله وأن تتوب، أو تعيش حتى تتوب؟ فلعلك تقع في المعصية ويقبضك الله عز وجل عليها، فتموت على هذه المصيبة التي فعلت.
فلذلك الإنسان المؤمن إذا وقع في المعصية فليتب إلى الله، وإذا لم يقع في المعصية فليقل لنفسه: من لي بالتوبة إذا وقعت في هذه المعصية، ولعلي أموت عليها فأكون من أهل النار، ولذلك فابتعد عن المعاصي، وإذا وقعت فتب وبادر بالتوبة إلى الله، فإنه هو الغفور الرحيم.
فعلى المسلم أن يستشعر التوبة، وأن يستشعر بالجرم الذي وقع فيه، وأن يستشعر أنه وقع في شيء عظيم تجاه الله سبحانه، فإذا استشعر ذلك فتاب تاب الله عليه، وقد يعاود فيقع مرة ثانية ويستشعر بالذنب فيبادر بالتوبة، فالله عز وجل جعل ملكين: ملكاً على اليمين وملكاً على الشمال، ملكاً يكتب الحسنات، والآخر يكتب السيئات، وجعل ملك الحسنات هو الأمير على ملك السيئات، فإذا وقع العبد في معصية يقول: ارفع يدك؛ لعله يتوب، فيرفع يده ست ساعات عن العبد لعله يتوب إلى الله، فإذا مات فلا يلومنّ إلا نفسه؛ لأنه هو الذي وقع في ذلك، فقد فُتح له الباب للتوبة فلم يتب إلى الله، فاستحق العقوبة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه سبحانه، قال: الله عز وجل: (إذا أذنب العبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، قال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب ذنباً وتاب، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، ثم أذنب العبد ذنباً ثالثاً ثم رجع تائباً إلى الله، فقال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، وفي الرابعة يقول الله: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك).
فإذا وقع في الذنب علم أن الله سيعاقبه فيبادر سريعاً، وقد جاء في الحديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، ولا يمكن ألا يقع الإنسان في حياته كلها في الذنب، ولكنه إذا أذنب رجع فتاب إلى الله، ويندم على ذنبه، ويستغفر على معصيته، ويعزم ألا يرجع إلى الذنب مرة ثانية، وإذا كان في حق إنسان رد المظلمة إليه واستحله، ففي هذه الحالة يكون تائباً حقيقة، فالتائب ليس هو الذي قال: أستغفر الله وكفى، بل التائب هو الذي يتوب ويندم ويبكي على خطيئته التي وقع فيها، ويعزم على ألا يرجع إليها مرة ثانية فهذا يستحق أن يتوب الله عز وجل عليه، وكلما أذنب رجع، فكأن الله يقول له: إن كانت هذه عادتك: أنك إذا وقعت في الخطأ لم تتعمد هذا الخطأ، أو تعمدت فوقعت فيه وبادرت بالتوبة، فإذا فعلت ذلك ولو مراراً فسنغفر لك، فرحمة الله عظيمة واسعة، وكما جاء في الحديث: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).
والعبد يكون مع ربه بين الخوف والرجاء، بين الخوف من الذنوب، والخوف ألا يتوب الله عليه، وبين رجاء رحمة الله، فهو يرجو رحمته ويخاف عقابه، فإذا كان هكذا فهو جدير بأن يتوب توبة صادقة، وأن يغفر الله له، وفرق بين هذا وبين من ينوي العود إلى الذنب، وإذا تاب فإنما يستغفر الله باللسان، وأما القلب فلم يتحرك، ولم يندم، ولم يعزم على ترك الذنب، فالقول باللسان لا ينفعه عدم موافقة القلب، وليس داخلاً في هذا الحديث، وإنما هذا الحديث في التائب الصادق إلى الله سبحانه.
قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، يعلم ما تفعلون فيجازيكم على ما فعلتم.
إذاً: فالله يقبل، والله يعفو، والله يعلم، والله يستجيب، والأصل المعروف أن تكون الجملة هكذا: ويستجيب للذين آمنوا، ولكن قال هنا: ويستجيب الذين آمنوا ، فهي أحياناً تتعدى للمفعول بنفسها، وإن كان الغالب أنها تتعدى للمفعول باللام، فيقال: يستجيب لـ(كذا)، وقد تكون: يستجيب كذا، فيستجيب بمعنى يجيب، وكأن السين لاستدعاء الفعل منه سبحانه، وكأنهم طلبوا فاستجاب سبحانه لهم، تقول: طلبت من الله فأجابني، ودعوت الله فاستجاب لي.
فقوله: يستجيب الذين آمنوا معناها: يجيب الذين آمنوا، فضُمِّن معنى الإعطاء.
قالوا: ومن معانيها أيضاً: ليشفع بعضهم في بعض، فكأنهم يطلبون منه فيفعل، فيدخل بعضهم الجنة، ثم يطلع على النار فيجد فيها صديقه الذين كان معه في الدنيا وكان على الإسلام، ولكن عصى الله سبحانه، فيقول: يا رب! شفعني فيه، إنه كان صديقي في الدنيا، فيستجيب الله عز وجل فيشفع هذا في هذا، ويخرج هذا من النار بشفاعة هذا فيه، فتأتي بمعنى: أنه يستدعي للذين آمنوا الإجابة، أي: يجيبهم فيما سألوه وطلبوه.
وكذلك قد يأتي المعنى في قوله: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) على بابها وعلى أصلها، أي: فيستجيب المؤمنون لله، ويدخلون في دين الله طواعية، ويتابعون النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويعملون بما أمر الله عز وجل به، ويتركون ما نهى الله عز وجل عنه، فيزيدهم الله عز وجل من فضله، وإن كان المعنى الأول أجمل في أن الضمير في كل الأفعال السابقة عائد على الله سبحانه، فهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو يعلم ما تفعلون، وهو الذي يستجيب سبحانه، ويزيدهم من فضله سبحانه.
(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) إذاً فالذي يستحق الإجابة من الله وأن يعطيه سبحانه هو المؤمن الذي يعمل الصالحات؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الكافر سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو غير ذلك إذا أسلم فحسن عمله، فالله عز وجل يكفر عنه ما مضى، فالإنسان في كفره يقع في معاصٍ كثيرة، والكفر أعظم الذنب، فإذا أسلم وأحسن فالإسلام يهدم كل ما كان قبله.
فإذا أسلم ولم يحسن، إذا أسلم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن ما زال يسرق، أو يزني، أو يقع في المعاصي فإنه يؤاخذ بهذه الذنوب، أي: بما يفعله الآن في الإسلام، وتنفعه لا إله إلا لله في أنه لا يخلد في النار، فإذا قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فإنها تنفعه يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه، إذاً فكلمة لا إله إلا الله تنفع كل مسلم حتى وإن دخل النار، وفي النهاية فالله سبحانه يخرجه من النار برحمته وشفاعة الشافعين ويدخله جنته سبحانه، وهؤلاء هم عتقاء الله من النار، لكنه قد يكون في النار إلى ما شاء الله، وهذا خلود دون خلود الكفار، فالكفار يخلدون في النار فإذا رأوا البهائم قد صارت تراباً قال أحدهم: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، ولا يكونون تراباً، بل لا يزالون في النار أبد الآبدين، نسأل الله العفو والعافية.
فيستجيب الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله أي: يعطيهم الحسنى ويزيدهم من فضله سبحانه.
فالعبد يسأل ربه والله يستجيب له ويعطيه عطاء عظيماً، وعطاء يليق به، والعبد مهما تخيل الجنة فلن يصل إلى حقيقتها، وسيتخيل من البيئة التي هو فيها، ومن الأرض التي خلق عليها، فالإنسان عندما يرى بستاناً عظيماً جميلاً فيه من الثمار ما شاء الله فإنه يقول: هذا مثل الجنة، وهذا في تخيله هو وإلا فالجنة أعظم من ذلك بكثير، فليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، لكن الحقيقة أعظم بكثير، وانظر إلى أهل الجنة وهم يعطون من ثمار الجنة فيقولون: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ [البقرة:25]، فتشتبه مع الثمر السابق في المنظر فقط، وأما الطعم فشيء آخر خالص، فيقول الله سبحانه: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25] فالتشابه في المنظر، وأما الطعم فيختلف.
فيعطيهم ما طلبوه ويزيدهم، والحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله سبحانه.
(وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)، وأعظم فضله سبحانه على عباده: النظر إلى وجهه، وأعظم فضله سبحانه رضوانه، ولذلك جاء في الحديث أن الله يقول لأهل الجنة: (يا أهل الجنة! هل لكم من شيء تريدونه؟ فيقولون: يا رب! وماذا نطلب وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من العالمين؟! فيقول: اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً).
وأما الكافرون فيقول الله سبحانه عنهم: (وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)، وانظر إلى منظرهم في النار، قال تعالى: وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104]، تقول: فلان كلح وجهه، إذا اشتد قبح وجهه ولو أن إنساناً لفحته النار في وجهه -والعياذ بالله- فإن منظر وجهه سوف يتغير، ويحتاج إلى عدة عمليات تجميل حتى يرجع شيء مما كان عليه قبل ذلك، فالكفار إذا دخلوا النار كلحت وجوههم، فصاروا سود الوجوه، زرق العيون، عمياً في النار، فتحرقهم النار، فإذا بالشفة السفلى تنزل إلى صدر أحدهم، والشفة العليا تشمر إلى أعلى، فتخيل منظر إنسان بهذه البشاعة!!
وأهل النار يوبخهم ربنا سبحانه بقوله: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:105]، فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الجاثية:31]، ألم تكن الآيات تتلى عليكم، فلماذا لم تتبعوا القرآن ولم تتبعوا الآيات؟
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:109-110]، فقد كان الكفار المجرمون أهل النار يضحكون من المؤمنين ويسخرون منهم، وكم من إنسان أراد أن يصلي فيمنعه هؤلاء المجرمون بسخريتهم، وهؤلاء قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ [المطففين:29-33]، وفي يوم القيامة: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:34-36] .
(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ) ماذا سيكون؟ لو أن كل الناس صاروا أغنياء فهل سيحتاج بعضهم إلى بعض؟ وهل سينظر أحدهم إلى الثاني؟ وأين التكافل الاجتماعي بين الناس؟ لكن في حال وجود الضعيف مع القوي فالقوي يشفق على الضعيف ويحنّ له، ويميل إليه فيعطيه وينفق عليه، فالفقير يحب الغني الذي يعطيه، فيدعو له، فتكون هناك ألفة وترابط بين الناس، فالله عز وجل بحكمته جعل العباد فيهم الضعيف والقوي، وفيهم الفقير والغني، وفيهم الصغير والكبير، وجعل الله عز وجل العباد يحتاج بعضهم إلى بعض؛ حتى يوجد التكافل بين الناس، وتوجد المعاشرة والمحبة بينهم، ولا يستغني بعضهم عن بعض.
وكان يخرج من بيته صلوات الله وسلامه عليه وقد استشعر الجوع الشديد، ولا شيء في بيته صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد طعام يطعمه في بيته، فكان يمر عليه اليوم واليوم واليوم ولا يوجد في بيته شيء صلوات الله وسلامه عليه، وكان يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، وقد خرج يوماً فإذا بـأبي بكر فقال: ما أخرجك يا أبا بكر ؟ قال: الجوع يا رسول الله! وجاء عمر رضي الله عنه فقال له: ما أخرجك؟ قال: أخرجني الذي أخرجكما الجوع، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر حتى وصلوا إلى بيت رجل من الأنصار، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم فرح به ودعاه هو وأبا بكر وعمر ، فجلسوا وآتاهم بعنقود من عناقيد حديقته فيه رطب، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وجاء لهم بماء بارد فشربوا الماء وحمدوا الله، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لتسألن عن النعيم) أي: هذا من النعيم الذي تسألون عنه، فقال عمر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي نعيم يا رسول الله؟! وإنما هما الأسودان التمر والماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة)، فهذا النبي الكريم جعله الله سبحانه يجد أحياناً ولا يجد أحياناً، ويموت النبي صلى الله عليه وسلم وقد مرت عليه شهور ولم توقد في بيته نار، ولم يطبخ في بيته شيء، ومن منا يمر عليه ستون يوماً ولم توقد النار في البيت لعمل الطعام والشراب؟!! فتُسأل عائشة : فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان - أي: السائد عندنا في المدينة - التمر والماء.
وهذا أبو هريرة يطعم الناس الخبز، فقد عمل لهم فرناً وأوقف عليه خبازاً، وأبو هريرة كان من أفقر خلق الله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه، وكان رجلاً قنوعاً، وقد تعلم القناعة من النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان أهم شيء عنده أن يطلب العلم من النبي صلى الله عليه وسلم، ويحفظ منه أحاديثه صلوات الله وسلامه عليه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم بأن دعا له أن يحفظ فلا ينسى، قال: (شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنني أنسى، فقال: ابسط ثوبك، فبسط ثوبه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اضمم عليك ثوبك، فضم عليه ثوبه، قال: فما نسيت بعد ذلك شيئاً حفظته)، فـأبو هريرة استحق المكافأة مع أنه لم يكن من السابقين المهاجرين، فإسلامه كان متأخراً، فقد أسلم في عام خيبر، ومع ذلك حفظ من الأحاديث ما لم يحفظه غيره رضي الله عنه، وصار راوية الإسلام رضي الله عنه، فأحب الدين، وأحب الله، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحبه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكرمه، وجعله قريباً منه ليسمع منه أحاديثه الكثيرة التي يقولها، ودعا له أنه لا يحبه إلا مؤمن، وفعلاً ما من مؤمن يرى أبا هريرة إلا ويحب أبا هريرة رضي الله عنه، وما من مؤمن يسمع لـأبي هريرة إلا ويحب أبا هريرة ، ومن أبغض أبا هريرة فلا يستحق أن يكون مؤمناً.
فـأبو هريرة رضوان الله تبارك وتعالى عليه كان فقيراً، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم أغناه الله عز وجل، ومع ذلك لم ينسَ الفقر، ولم ينسَ أنه كان فقيراً، وكان يقول للناس: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأكل النقي من الخبز.
فـأبو هريرة كان يطعم الناس الخبز، ويقول لهم: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يطعم ولم يأكل من هذا صلوات الله وسلامه عليه، فعرف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به، والمؤمنون الفقراء يتأسون به، ولما فتحت عليه الدنيا صلى الله عليه وسلم ما وضعها في جيبه، ولم يدخرها، وإنما أنفق لله سبحانه، وكان يأخذ ما يقوت أهله، والباقي ينفقه على المؤمنين وعلى ضيوفه، حتى إنه قبل أن يتوفى فتح الله عز وجل عليه، فصار له نصيب من المغنم، ونصيب من الفيء، فكان له فدك وغيرها، فيقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) أي: ما تركناه فهو صدقة، فلا يورث مال النبي صلى الله عليه وسلم، فأنفق ماله كله مما فتح الله عز وجل عليه في سبيل الله، والمسلمون كذلك كان لهم من المغانم، ويموت أحدهم وله أموال، وله بيوت، ويرثه أهله، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن كذلك، فقد توفي صلى الله عليه وسلم وكل ما تركه صدقة على المسلمين، فلم يأخذ شيئاً حياً ولا ميتاً صلوات الله وسلامه عليه، ولا ترك لأهله إلا محبة المسلمين والدعاء لهم، وما جعله الله عز وجل لهم في كتابه سبحانه وتعالى.
إذاً: لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا، ولكن جعل منهم فقراء وأغنياء، فالفقير يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وليس عنده شيء صلوات الله وسلامه عليه، ومات ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود في أوساق من شعير، وإذا لم يدفع أحد الثمن فإن اليهودي سيبيع هذه الدرع ويأخذ منها ثمن الشعير، ولكن قضى عنه علي رضي الله عنه دينه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، واسترد هذه الدرع من اليهودي، فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهو على هذه الحالة، مات ودرعه مرهونة عند يهودي.
والسبب الذي جعل النبي صلوات الله وسلامه عليه يشتري من اليهودي أن اليهودي سيطلب حقه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشتر من المسلم شفقة وخوفاً أن المسلم لا يأخذ ماله، أو إذا مات النبي صلى الله عليه وسلم فإن المسلم يستحي أن يقول لأهل النبي صلى الله عليه وسلم: أين حقي؟ فسيقولون: ما ترك لنا النبي صلى الله عليه وسلم، فيستحي المسلم أن يأخذ حقه، وأما اليهودي فلن يستحيي، فمات النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند اليهودي حتى فكها علي رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والغرض من هذه القصص بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يحزن المؤمن إذا وجد نفسه فقيراً، وإذا بات جائعاً، أو بات عارياً، وإن كان هذا نادراً ما يحدث، ولكن الله يفعل بعباده ما يشاء.
نسأل الله من فضله ورحمته في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر