أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة الشورى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ [الشورى:19-22].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن اسم من أسمائه وصفة من صفاته العظيمة وهي: صفة اللطف منه سبحانه وتعالى، ومن أسمائه اللطيف، قال سبحانه: اللَّهُ لَطِيفٌ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) أي: عد هذه الأسماء، وعرف هذه الأسماء، وحفظها، وعرف معانيها، واستعمل هذه الأسماء في دعائه، فاختار الاسم المناسب للدعاء الذي يريده، فدعا ربه عز وجل به، وذكره به، فالله عز وجل يكشف عنه ما به ببركة استخدامه ذكر الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
وقوله: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ الله اللطيف سبحانه، واللطف فيه معنى البر منه سبحانه وتعالى، وفيه معنى اللطف والرفق بالعباد، والعلم الخفي بهم، ولننظر إلى آيات الله سبحانه وتعالى، فإنه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، وهم يؤذون النبي صلوات الله وسلامه عليه، والسورة مكية، وهم يبتعدون وينفرون الناس عنه، والله يلطف بهم، ويرزقهم ويعطيهم، ويمد لهم؛ لعلهم يرجعون إليه سبحانه وتعالى.
انظر إلى إبراهيم وهو يدعو ربه سبحانه: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126] إبراهيم الخليل الذي اجتباه الله واصطفاه بني بيت الله الحرام، ودعا ربه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة:127]، ودعا ربه سبحانه أن يجعل ذريته ذريةً مسلمة له سبحانه، وأن يرزق المسلمين من فضله سبحانه، فكان جواب الله عز وجل: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ [البقرة:126] فهو سبحانه وتعالى لا يمنع رزقه عن مؤمن ولا عن كافر، فقد يضيق على من يشاء ولا يمنعه، فكل إنسان خلقه الله خلق له رزقه معه، فرزق الله سوف يأتيك، ولو أنك تفر من رزقك كما تفر من موتك لأتاك رزقك كما يأتيك الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن ابن آدم فر من رزقه كما يفر من الموت لأتاه رزقه كما يأتيه الموت).
وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى بعباده، فالله لطيف بهم.. حفي بهم.. كريم بهم.. بر بهم.. يوصل إليهم أرزاقهم بشيء لطيف خفي، فلا يدري الإنسان حين يخرج من بيته ما الذي يحضره اليوم؟ وما الذي يرزقه الله اليوم؟ فإذا بالله يسبب أسباباً لطيفة خفية، حتى يصل إليه رزقه الذي قسم له، فهو سبحانه يرزق من يشاء من عباده ويمنع من يشاء بلطفه سبحانه؛ فقد تكون محتاجاً لشيء، وتجد ذلك الشيء أمامك، فتمد يدك لتأخذه فيضيع منك، ويأخذه غيرك؛ لأنه لم يقسم لك، فتحزن أنت في نفسك على أن هذا فاتك، ولكن الله لطيف بعباده سبحانه، علم الله بعلمه الخفي أنك لو أخذت هذا لضرك، فمنعه عنك، ومنع عنك الضرر الذي يكون من ورائه، فلا تدري أن الله سبحانه يعطيك بفضله سبحانه، ويمنعك بفضله وبعدله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يتفضل عليك؛ فإذا به يمنع عنك شيئاً سيضرك بعد ذلك، وأنت لا تدري، وأنت تظن أنه نفع محض، والله يعلم أن هذا يؤذيك ويضرك في دينك ودنياك وأخراك فيحجب عنك ذلك ويمنعه بلطفه الخفي تبارك وتعالى.
إذاً: الله لطيف بر رفيق بعباده سبحانه في إيصال المنافع لهم، وفي صرف البلاء عنهم من وجه يلطف إدراكه، أي: يخفى إدراكه، فقد تدعو ربك: يا رب! أعطني، كذا يا رب! أعطني كذا، يا رب! أعطني كذا، وأنت مؤمل أن يعطيك، فيعطيك الله سبحانه، وقد تدعو ربك وتلجأ إليه سبحانه: يا رب! أعطني كذا، فلا يعطيك؛ لأنه يعلم أنه سوف ينزل بك بلاء لو أنك أخذت ذلك الشيء، فيصرفه عنك، ويرفع عنك ذلك البلاء، فأنت قد تدرك أن هذا لم يأتك، ولكن الله سبحانه قد صرف عنك بلاءً شديداً، لعله مرض ينزل بك، أو مصيبة تنزل بأحد ممن تحبهم، فيرفع الله عز وجل ذلك.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت! وأنت رسول الله هكذا، وقيصر وكسرى على الحرير وعلى الذهب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفي شك أنت يا
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يلطف بك بعلمه الخفي، وبره الحفي، فيعطيك شيئاً، ويدخر لك الكثير عنده سبحانه وتعالى، وهذا الذي يصنعه الإنسان الذي يخاف على نفسه من الدنيا، ويخاف على نفسه من النار يوم القيامة، ينفق في الدنيا شيئاً، ويدخر عند الله عز وجل الأشياء الكثيرة التي تنفعه، فقد ورد أنهم ذبحوا للنبي صلى الله عليه وسلم شاة وفرقوا منها، فلما جاء صلوات الله وسلامه عليه سأل فقال: (ما بقي منها؟ قالت له
كذلك من لطف الله سبحانه: أن ينشر مناقب العباد، وأن يستر مثالبهم، فالله لطيف بعباده، تجد الشيء الخيّر الذي تفعله الله عز وجل ينشره، وتجد من يقول لك: جزاك الله خيراً على ما فعلت، وقد تستر هذا الشيء، ويشاء الله عز وجل أن يعرف؛ ليشكرك الناس، وأنت لم تطلب ذلك.
والذنوب التي أفعلها بيني وبين ربي من لطفه أنه يسترها سبحانه وتعالى، فالله لطيف بعباده، يستر عليك ذنوبك، فلا أحد يطلع على شيء قد ستره الله سبحانه وتعالى، ولم يؤاخذك بها في الدنيا، ولم يفضحك بها في الدنيا، فلطف بك، ونشر ما تمدح به، وستر ما تذم به من لطفه وكرمه سبحانه وتعالى.
ومن لطفه أن كلف العباد عبادته، وكلفهم بما هو دون طاقتهم، ولم يكلفهم ما هو فوق الطاقة، والله عز وجل كلف عباده بأن يعبدوه بأشياء معينة، وبطرق معينة، قال سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
ولكن هل كلفنا الله طاقتنا جميعها؟ أبداً والله! بل الله سبحانه رحيم لطيف بعباده، كلفنا أقل من ذلك، كلفنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة، وموسى عليه الصلاة والسلام استثقلها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك.
وها نحن نصلي الخمس الصلوات، ونصلي التراويح، ونصلي النوافل، ونقدر عليها، ونقدر على أكثر منها، ولم يكلفنا الله سبحانه إلا ما هو أقل، وكلفنا أن نصوم شهر رمضان، فنحن نصوم رمضان، ونصوم ستاً من شوال، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وقد يصوم البعض الإثنين والخميس، وغير ذلك.
فعلم الله أنكم تقدرون، ولكنه بفضله كلفكم الشيء الأقل؛ وحتى لا تتعبوا، وحتى لا يشق عليكم، وحتى لا تتركوا العبادة فكلفكم بما تطيقون، وبأقل مما تطيقون أيضاً، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فإنه سبحانه لما أمرك أن تنفق قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] ولم يكلفك الشيء الذي لم يؤتك إياه، وقال: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] فكلفك الله بالإنفاق الواجب على زوجتك، وعلى عيالك، وعلى أمك، وعلى أبيك بما أتاك الله، فإذا كنت قليل المال فمن هذا المال القليل، وإذا كنت كثير المال فمن سعتك ومن طاقتك، ومع ذلك يعطيك أكثر مما تنفق، ووعد سبحانه أنه لا ينقص المال من النفقة ومن الصدقة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، هذا رزق الله، وهذا كرم الله سبحانه، فالله لطيف بعباده.
وحين تنزل المصيبة في مكان ويتأمل الإنسان ويقول: يا ترى ماذا سيفعل أهل هذا المكان؟ فمن لطف الله عز وجل أنه يرفع هذه المصيبة، ويرفع هذا البلاء، ويرزق أهله الصبر عليه.
فالإنسان يتوقع لو حصل فيّ شيء فلن أستطيع أن أصبر على هذا الشيء، فيقع عليك وتصبر عليه؛ لأن الذي لطف بك هو الله سبحانه وتعالى، والذي صبرك وقدرك وأعانك على هذا البلاء هو رب العالمين تبارك وتعالى.
فانظر إلى السيدة أم سلمة رضي الله عنها حين توفي زوجها أبو سلمة رضي الله عنه، وكان أبو سلمة خير الناس لها، وهي لا تظن أن أحداً من الناس خير من أبي سلمة رضي الله عنه، فلما مات حزنت عليه حزناً شديداً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أن تدعو وتقول: (اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها)، وأن تقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون).
فالإنسان قد تنزل به المصيبة، والذي أنزلها هو الله، والذي يكشفها هو الله، والذي يعين عليها ويصبِّر عليها هو الله، فالله لطيف بعباده سبحانه، فعلمها فقالت ذلك الدعاء، قالت: ولكن كنت أقول: أبو سلمة مات وأقول: اخلف لي خيراً منه، من خير من أبي سلمة ؟
وكونها تقول: اخلف لي خيراً منه، قد يخلف لها في الدنيا فيعطيها زوجاً آخر، وقد يعطيها صبراً ورزقاً ويعطيها ما يشاء تبارك وتعالى، ولا يشترط أن يكون الخير أن يرزقها زوجاً، فهي ظنت أنه لا أحد خير من أبي سلمة .
وتمر الأيام والليالي، وتمر عدتها، وإذا بالذي يخطبها هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا شيء ما كان على بالها أبداً، فلم يكن في بالها أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يخطبها، ولذلك قالت: من خير من أبي سلمة ؟ فهي تظن أنه لا أحد خير من أبي سلمة لا أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما، وكل امرأة عندها زوجها هو خير ما يكون، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخطبها ويتزوجها، قالت: (فأبدلني الله خيراً منه)، أبدلها الله خيراً من أبي سلمة بسيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
فالله لطيف بعباده؛ يلطف بك من وجه أنت لا تستشعره، ولا تحسه؛ فإذا بلطف الله يأتي ويخفف عنك البلاء، يكشف البلاء، ويرفع عنك الحرج الذي أنت فيه والهم والغم والمصيبة.
والمسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة مرة، وهاجروا مرة أخرى، وهاجروا إلى المدينة، هاجروا وهم لا يدرون إلا أن هناك الجنة، وهناك الأجر من الله سبحانه وتعالى، لكن كم مقدار هذا الأجر؟ هل كانوا يتوقعون أن يخلد الله ذكرهم بأن يذكرهم في القرآن ويصفهم المهاجرين السابقين الأولين لأنهم هاجروا إلى مكان الإيمان؟ وأهل المدينة هل كانوا يتوقعون أن يذكرهم الله سبحانه، ويخلد ذكرهم لأنهم تبوءوا الدار، وتبوءوا الإيمان، وكانوا هم الذين ينصرون الله ورسوله؟ فالمهاجرون الصالحون والأنصار المفلحون ما كانوا يتوقعون أن الله يمدحهم في الدنيا، ويذكر ذلك، فإذا بالله يمدح هؤلاء وهؤلاء بما يدوم إلى يوم القيامة من ذكرهم رضي الله تبارك وتعالى عن جميعهم.
فالإنسان المؤمن يفعل الخير وهو يحسن الظن في الله، وهو يؤمل فضل الله، فالله لطيف بعباده، اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ.
فاذهب واحفظ قواميس اللغة كلها، واعرف كلام العرب كله، وحاول أن تأتي بمثله، فلن تقدر؛ فإن العرب كانوا عارفين بهذا الشيء، ولكنهم ما قدروا على ذلك أبداً، ولا استطاعوا إليه سبيلاً، وقد حاولوا فما وصلوا.
فمن لطف الله أنه أنزل هذا القرآن العظيم شريعة ومنهاجاً، وقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر:17] فتحفظ كتاب الله فتجده سهلاً، وبقدر الآيات التي تحفظها لو أعطوك كلام أناس تحفظه فإنك ستجده صعباً وتقول: لا أستطيع، وهكذا أبيات الشعر، لكنك تستطيع أن تحفظ من القرآن ما يشاء الله سبحانه وتعالى، والقرآن ميسر الفهم، فأنت تفهم القرآن، وكل من يفهم العربية يفهم القرآن، والله يفضل بعضكم على بعض في الفهم؛ فإذا قرأت الآية: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ، فإن كل واحد يفهم أن الله لطيف، فعندما تنزل مصيبة بإنسان يقول: يا لطيف! يا رب! الطف بنا، تجد الإنسان يقول هذا من غير أن يعرف اللغة العربية، فالله لطيف بعباده، لطف الله سبحانه بعباده فكان براً بهم، وحفياً بهم، ورفيقاً بهم، أوصل إليهم النفع بطرق خفية، وأحدهم لا يدري من أين يأتي هذا النفع إليه، تشتد بهم المصيبة حتى تبلغ الذرى فإذا بفضل الله يأتي وتنكشف الكرب التي هم فيها، فالمصائب إذا نزلت وجلت وعظمت، فكلما عظمت إذا بالله يخففها فترتفع، والبلاء حين يشتد ينفرج، كما قيل: اشتدي أزمة تنفرجي، فإذا اشتدت الأزمة ونزل الكرب بالإنسان جاء لطف الله سبحانه، فانكشفت هذه الأزمة، كما قال الشاعر:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
فقد يشتد البلاء والأزمة فتقول: لا أستطيع، لا أقدر، وإذا بلطف الله يأتي، وترى المريض يبيت في البيت يصرخ ويصرخ، ويطلع الصبح فيقول: سبحان الله! كانت ليلة شديدة، فإذا اشتد الكرب جاء الفرج من عند الله سبحانه، وذهب هذا الشيء، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى، وكلنا نفهم هذا المعنى.
وقوله: يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ أي: يعطي من يشاء الرزق.
وقوله: وَهُوَ الْقَوِيُّ أي: القادر القاهر العزيز سبحانه.
فمثلاً: قول الله عز وجل: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] هل يأتي إنسان ويقول: لا أفهم معنى كون الطلاق مرتين؟
الجواب: لا، بل يفهم أنه لك أن تطلق مرة وتراجع، وتطلق مرة أخرى وتراجع، فإن طلقها الثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، فالإنسان يفهم هذا، وفهم هذا، وفهم أهل العلم من وراء ذلك.
فأعطى الله عز وجل كل إنسان على قدر ما آتاه من علم أعطاه فهماً وفقهاً، ولا يحرم أحداً، بل الكل يقرأ القرآن فيفهم ولو المعنى العام الذي تدل عليه هذه الآيات، فيفرح بأن يسر الله عز وجل له دينه.
قال عز وجل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] أي: هل من متعظ؟ فإنك تقرأ قصيدة من قصائد الشعر فتقف عند كل بيت قليلاً وتقول: ماذا يقصد هنا؟ وهكذا البيت الثاني، ويمكن أن تقف عند القصيدة كلها، وإذا قرأت السورة من القرآن فمستحيل أن يكون الأمر كذلك؛ فإن هذا كتاب رب العالمين نزل للخلق جميعهم هداية من رب العالمين، فجعله سهلاً، فاقرأ القرآن يفهمك الله سبحانه، ويعلمك الله، كما قال سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282].
إذاً: من لطف الله سبحانه أنه نزل القرآن ويسره وفصله، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يفهمهم ما قد يشكل عليهم منه، وعلم أهل العلم ففهموا وفطنوا، وعلَّموا خلق الله ما يريده الله سبحانه وتعالى.
فمن لطف الله عز وجل أنه جعل أولياءه يعرفونه، قال عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] فإن كنت تريد أن تكون ولياً فالأمر سهل، وليس صعباً، فالناس يرون أن الأولياء هم الذين ماتوا. وأن الأولياء هم سيدي فلان، وسيدي فلان، وقد يكون هؤلاء من الأولياء، ولكن الولاية لم يحجرها ربنا على قوم دون غيرهم، بل الله عز وجل يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم أولياء الله؟ قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] فآمن واتق ربك تكن من أولياء الله سبحانه وتعالى.
فأولياء الله تولوا ربهم ولم يتولوا غيره، ولم يشركوا بالله سبحانه، وتوكلوا على الله، ولم يكلوا أمورهم لغيره سبحانه، وأخذوا بالأسباب ولم يتكلوا، وكانوا رءوساً في دين الله سبحانه وتعالى، وتوجهوا إلى ربهم فاستعانوا به فأعانهم، وآمنوا فاستشعروا بحلاوة الإيمان، ولا يستشعر الإنسان حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فكن كذلك تكن ولياً لله سبحانه وتعالى.
فاستقم على طريق الله سبحانه حتى يعطيك من فضله ومن رحمته ما يوصلك إلى هذا المقام العظيم، مقام التواضع بين يدي الله سبحانه، مقام هضم النفس، وترى نفسك أنك لا شيء، فكلما زادك الله علماً ازددت علماً بجهلك، وكلما زادك الله مكانة ازددت تواضعاً، وكلما أعزك الله سبحانه هضمت أنت نفسك؛ حتى تكون ولياً لله سبحانه وتعالى.
قال الجنيد : لطف بأوليائه حتى عرفوه. أي: حتى عرفوا الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، علموا أن الله هو القاهر القوي الغالب القادر، علموا أن الله هو الرحمن الرحيم، اللطيف، الخبير، عرفوا الله بأسمائه الحسنى، عرفوا الله من شرعه، عرفوا الله من آياته، رأوا في كل شيء لله عز وجل آية:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فمن لطف الله أن عرفهم، ويسر لهم العلم فتعلموا، فكانوا أولياء الله سبحانه وتعالى.
قال: ولو لطف بأعدائه لما جحدوه.
وهذا محمد بن علي الكتاني يقول: اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق.
أي: أن الله سبحانه هو اللطيف بمن لجأ إليه وقد يئس من العباد، وجد كل الناس يخذلونه، ولا أحد يقف بجواره، وجد نفسه مظلوماً، وعادة الناس أن يقفوا مع القوي، فإن كان القوي هو المظلوم وقفوا معه، وإن كان القوي هو الظالم وقفوا معه؛ لأنهم يخافون من الظالم القوي، فيكونون معه، وهذه عادة الناس، فإذا استيئس الإنسان من الناس لجأ إلى رب الناس سبحانه فلطف به سبحانه وأعطاه وكان معه، قال سبحانه: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].
فقوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ أي: يئسوا من إيمان قومهم، وحصل عندهم اليأس من إيمان قومهم، كما قال نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يذكر قومه: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27] أي: هؤلاء لو تركتهم يا رب فأولادهم سيكونون مثلهم، فأنا قد بلوتهم وخبرتهم، وعشت معهم، كما قال سبحانه حاكياً عنه: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:5-12].
دعاهم بالترغيب ليل نهار، ولكن لا فائدة، ولذا قال: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13] أي: لا تخافون من ربنا؟ فدعاهم بالترهيب والتخويف، وقال: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:13-14]، وذكر لهم آيات الله سبحانه، وفي النهاية: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26] أي: لا يوجد فائدة يا رب! فقد صار لي ألف سنة أدعو هؤلاء القوم، ولكن لا فائدة وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:26-27] أي: لا فائدة فيهم، كما قال سبحانه: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ [يوسف:110] أي: ظن الرسل أن قومهم كذبوا بهم، جاءهم نصر الله.
فظن الرسل أنهم قد كذبوا، أي: حدث لهم ظن أن قومهم كذبوهم، وظن أتباعهم أن رسلهم قد كذبوا، وأنهم لم يفهموا عن ربهم ما أراده سبحانه.
فالأمر ضيق جداً، والرسل يجدون الكفار يكيدون لهم، والأتباع بدوا يتشككون، فلما ضاق الأمر جاء أمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله: فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ[يوسف:110] أي: فينجي الله بعظمته سبحانه وتعالى المؤمنين.
وقوله: وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110] هذا من لطف الله بعباده المؤمنين؛ حتى لا يصلوا إلى الشك، فيكفروا بالله سبحانه وتعالى، فإذا بنصر الله يأتي، ونصر الله قريب، فالله لطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق، فإذا توكل على الله سبحانه، ورجع إليه، قبله الله سبحانه، وأقبل الله عز وجل عليه.
فلم يكن وهو ينفق على الناس يقول: أنا جعفر بن أبي طالب أعطيكم هذا الطعام، وإنما كان يكتم ويستر؛ ولما مات نشر الله سبحانه وتعالى له هذا الفضل، فنعرف فضله، ونعرف فضل المنفقين من أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، أسروا طاعة الله سبحانه؛ فإذا بالله ينشرها، ويطلع المؤمنون على فضل الله على هؤلاء، فيقتدون فهم، ويؤجر أولئك الصحابة مثل أجرهم، وكمثل أجر من يعمل بأعمالهم إلى أن تقوم الساعة.
((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ))، فهو الذي يظهر الجميل، ويستر القبيح سبحانه، ويبذل الكثير، وييسر العسير بفضله وكرمه.
نسأل الله من لطفه وكرمه وفضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر