اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:22-23].
يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى عباده في هذه الآيات أنهم ما كانوا يستترون أن يشهد عليهم سمعهم ولا أبصارهم ولا جلودهم، والاستتار بمعنى: الاختباء، والاستخفاء، وللآية معنيان:
المعنى الأول: ما كنتم تستخفون من أنفسكم، فهم حين رأوا أيديهم، وجلودهم، وأفخاذهم، وسمعهم، وأبصارهم تشهد عليهم، علموا أنهم ما كانوا يستخفون من هذه الأعضاء أن تشهد عليهم يوم القيامة.
والمعنى الثاني: أن الإنسان إذا علم في الدنيا أن فلاناً لو دعي للشهادة لشهد عليه، فإنه إذا أراد أن يفعل شيئاً يوجب الشهادة، يحرص على التخفي والبعد عنه حتى لا يراه، أما هؤلاء فلا يستطيعون ذلك، ولذا ينكر الله عليهم مستفهماً: هل كنتم تستخفون من أنفسكم؟ وهذه الآية في الإنسان الذي يأتي يوم القيامة ويقول لله عز وجل: لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي! ألم تجرني من الظلم؟ فإني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا منها، فرفض الملائكة الكرام شهوداً، ورفض أن يشهد عليه أحد، فإذا بالله يستدرجه من حيث يظن أنه أمن، فيختم على فيه وتنطق جوارحه بما عمل في هذه الدنيا، فيقول لنفسه: بعداً لكُنّ -يريد أعضاءه- فعنكن كنت أناضل.
فقوله: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ[فصلت:22] أي: تستخفون من أنفسكم أن تشهد عليكم، وقيل: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ[فصلت:22]، أي: تستحيون من الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنتم تعلمون أن الله يرى، ويسمع ما تقولون، فما استحييتم وما اتقيتم ربكم سبحانه تبارك وتعالى، وجهرتم بالمعاصي والذنوب بغير حياء، فما كنتم تستترون أن يجعل الله هذه الأعضاء التي وقعتم بسببها في المعاصي تشهد عليكم يوم القيامة، قوله: أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ[فصلت:22]، فقد سمعوا السوء، وسمعوا الغيبة والنميمة، والتلصص والتجسس على الناس، وسمعوا ما حرم الله سبحانه من معازف وغيرها، ولم يستحيوا من الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا بالله عز وجل يجعل هذه الأعضاء التي تتلذذ بالمعصية تشهد عليهم يوم القيامة.
قوله: أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ[فصلت:22]، كذلك الأبصار، فقد نظر إلى ما حرم الله سبحانه، فإذا بهذه الأبصار تشهد عليهم يوم القيامة، وقد تقدم حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وأعضاء الإنسان تكفر اللسان، تكفر أي: تذل وتخضع له، وتحذره من الوقوع في المصائب والآثام، وتقول له: إذا أنت عصيت الله عز وجل فسنكون معك في النار، فاحذر من معصية الله، ومع ذلك يقع الإنسان في المعصية، ويتكلم بما لا ينبغي أن يتكلم به، فيستحق عقوبة رب العالمين.
وقوله: وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ[فصلت:22] أي: ظنوا بربهم ظن السوء، وهو: أن الله لا يعلم بأعمالهم، ولا يسمع أقوالهم، وأنهم يختبئون من الله فلا يعرف ما الذي يقولونه، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: قرشيان، وثقفي، رجل قرشي وختناه من ثقيف، وكان ابن مسعود حينها مختبئاً من الكفار وراء أستار الكعبة، في الزمان الذي كان يؤذى فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء هؤلاء الثلاثة ووقفوا أمامه، وهم لا يرونه وهو يسمع ما يقولون، قال رضي الله عنه واصفاً هؤلاء: قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، أي: أجسامهم مليئة أسمع بعض كلامهم ويخفى علي أكثره، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، أي: عند رفع أصواتنا يسمعنا، وعندما نتكلم سراً لا يسمعنا، فقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، كأنه يريد: إن الله يطلع على ما نقول، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فأنزل الله عز وجل: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ[فصلت:22]، فكان ظنهم أن الله لا يسمع ما يقولون، هو ظن السوء بالله سبحانه تبارك وتعالى، وظن السوء يمنع العبد من العمل؛ لأنه إن ظن أن الله لا يسمع ما يقول؛ قال ما شاء، وإذا ظن أن الله لا يراه؛ فعل ما شاء من المعاصي.
وكأنهم يعرفون ما لا يعرفه الله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً!
ومن سوء الظن كذلك ما قالت اليهود في الله سبحانه تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ[المائدة:64]، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
ومن سوء الظن كذلك ما قالت النصارى واليهود في الله عز وجل: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ[التوبة:30]، فصرفوا عن توحيد الله سبحانه بهذا الذي اخترعوه من كلام باطل، وكذب على الله سبحانه أنه اتخذ صاحبة واتخذ الولد، حاشا له سبحانه، إنما يحتاج إلى الولد من هو ضعيف يموت ليبقى الولد ذكره بعده، والله حي لا يموت، فلا يحتاج إلى أحد، ويحتاج إلى الولد من يضعف في كبر سنه وتأتيه الشيخوخة، فيحتاج إلى من يعينه إذ المخلوق ضعيف بطبعه فقير بخلقته، يحتاج إلى المال، ويحتاج إلى البنين، ويحتاج إلى أنصار ليكونوا عونه في نوائبه، أما الله فهو الغني الحميد سبحانه تبارك وتعالى.
ومن ظن السوء ما ظنه المشركون بالله من أنه لا يقدر على الإرجاع مرة ثانية، قالوا: نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ[الجاثية:24]، فأساءوا الظن بالله، ولذلك يعذبهم الله يوم القيامة على إساءتهم الظن فيه، وإساءتهم الاعتقاد فيه، أما المؤمن فهو يؤمن أن الله على كل شيء قدير، أليس الذي بدأ الخلق بقادر على أن يعيده مرة أخرى، بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الأحقاف:33].
يسأل النبي صلى الله عليه وسلم بوجه الله، وهو أعظم شيء يقسم به، ولذا لا يجوز لإنسان أن يقسم على أحد طالباً دنيا بمثل هذا القسم العظيم، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)، أما الرجل فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن دينه، فأقسم عليه بأغلظ ما يعرف من اليمين، وقال: أسألك بوجه الله: بم بعثك الله إلينا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بالإسلام، قال: قلت: وما آيات الإسلام)، يستفهم عن الإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت)، وهنا ندرك أن دعوة الرسل كلها دعوة التوحيد، وأن الرسل كلهم عليهم الصلاة والسلام يدعون إلى التوحيد يقولون: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:23]، ويدعون إلى: لا إله إلا الله، التي تتضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قل أسلمت لله وتخليت)، إذ إن معنى لا إله إلا الله: أنني أسلمت نفسي لله، فله أن يأمرني بما يشاء، وليس لي إلا أن أفعل ما أمر به، وأحقق عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى، قوله عليه الصلاة والسلام: (وتخليت) أي: عن كل معبود سوى الله سبحانه تبارك وتعالى، فكان معنى لا إله إلا الله: أسلمت لله وتخليت عن كل شيء سواه سبحانه تبارك وتعالى.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم أخوان نصيران)، وأخذ النبي يشرح له أركان الإسلام، لأنه من المتعذر أن يعلمه كل الإسلام في جلسة واحدة، ولكن يخبره عن أهم ما يكون في هذا الدين العظيم؛ حتى يستوعب معاوية رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسلم على مسلم محرم: أخوان نصيران).
بمعنى: المسلم أخو المسلم، ينصره على نفسه، وينصره على عدوه، ويأخذ له بحقه من ظالمه.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله من مشرك أشرك بعد ما أسلم عملاً) أي: أن الإنسان الذي يسلم ثم يرتد يحبط عمله كما قال الله سبحانه: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وتفارق المشركين إلى المسلمين) أي: لا تعود إلى المشركين، فتكون أكيلهم وشريبهم؛ وإلا يصيبك ما يصيب هؤلاء، فإذا غزا المسلمون المشركين كنت أنت معهم، وحينها لا يميزون بينك وبينهم، فلذا ليس لك أن تقيم مع المشركين.
ثم قال: (ما لي أمسك بحجزكم عن النار)، الحجز مكان معقد الحزام، والحجزة أقوى ما يمسك الإنسان منه الحزام، بحيث لا يتفلت، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا أمسككم مسكاً قوياً، حتى لا تدخلوا النار، ومع ذلك تتفلتون وتهربون فتشركون بالله سبحانه، وتقعون في المعاصي.
ثم قال: (ألا إن ربي عز وجل سائلي: هل بلغت عباده، وإني قائل: رب إني قد بلغتهم فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ثم إنكم مدعوون مفدمة أفواهكم بالفدام)، قوله: (ثم إنكم مدعوون) أي: يدعوكم ربكم، قوله: (مفدمة أفواهكم بالفدام) الفدام: الغطاء الذي يوضع على الوعاء؛ لكي لا يدخل فيه شيء يشوبه، وقد يربط على فوهة السقاء، والمعنى: أنه إذا جاء يوم القيامة يختم على أفواهكم، فلا تنطق الأفواه قبل أن تنطق الأعضاء شاهدة على الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: (ثم إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه قال
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر