اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:36-38].
هذه الآيات الأخيرة من سورة محمد صلى الله عليه وسلم وهي سورة القتال، يقول الله عز وجل فيها ويخبر عن هذه الحياة الدنيا التي يستعذبها الإنسان، ويستحلي أن يعيش فيها، ويطلب أن يعمر فيها عمراً طويلاً، فيبين لنا حقيقة هذه الدنيا، قال تعالى: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد:36] الآخرة: هي الحيوان والحياة الحقيقية، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] أي: العاقبة الحسنة، فهم لم يطلبوا الدنيا للعب، ولا للهو، ولا للبغي، ولا للفساد، ولا للاستكبار، ولا ليحصلوها، لم يريدوا ذلك، وإنما أرادوا أن يرضوا ربهم سبحانه، فمن طلب الدنيا للدنيا فهذا طالب لهو ولغو ولعب: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد:36].
أما الذي يطلب الآخرة فلن يلعب في الدنيا، ولن يلهو فيها، وإنما يستعد للآخرة، يستعد للقاء الله سبحانه تبارك وتعالى، يستعد للجزاء والحساب، فلذلك هو يؤمن ويتقي ربه سبحانه، وينتظر الأجر العظيم من الله.
قال الله عز وجل: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36]، هل حصلت المال في الدنيا لتنتفع به في الدنيا؟! ولتبغي به في الدنيا ولتفسد ولتتعالى على غيرك وتزهو في الدنيا؟! لا ليس كذلك، فالحياة الدنيا متاع قليل، ثم بعد فترة يزول وتترك ما حصلت فيها، فاحذر من أن تعيش في هذه الدنيا لاعباً كسلاناً، مؤخراً عمل اليوم إلى الغد، وترجو أنه يغفر لك من غير عمل، فهنا الحياة الدنيا لعب ولهو لمن أراد الدنيا للدنيا، ولكن المؤمن التقي ينشغل في هذه الحياة الدنيا ليله ونهاره عبادة لله سبحانه تبارك وتعالى، فيعبد ربه في قيامه كما يعبده في نومه، ويعبد ربه في عمله كما يعبده في أكله وشربه، ويعبد ربه في قضاء شهوته، فحياته كلها عبادة.
قال الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن هذا المال خضرة حلوة)، كهذه البقول التي تخرج من الأرض، وكهذه الخضروات التي تخرج من الأرض، لكن المسلم سيكون المال خيراً له: (ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم (وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) هذا المال الذي يريد الإنسان أن يحصله: إما أن يحصله للخير ليعبد الله عز وجل به، ويعطي الحق لأصحابه، وينفق على أهله وعياله من طول، وعلى المسكين واليتيم وابن السبيل، فيخرج من المال ما يطهر به هذا المال، فهذا الذي ينتفع به العبد يوم القيامة.
ولكن الذي يجمع المال من حل وحرام، وينفق المال في حل وحرام، فهذا كالذي يأكل ولا يشبع، حتى إذا امتلأ في النهاية مات من التخمة، ويأتي المال يوم القيامة ليكون شهيداً على صاحبه، فهذا الذي يلعب في الدنيا ويلهو ويجمع المال للعبث، يكون المال شهيداً عليه يوم القيامة، فالحياة الدنيا إذا استغلها العبد لطاعة الله عز وجل في كل لحظة كانت عظيمة عند الله.
وجاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) غدوة في الصباح تذهب مطيعاً لله عز وجل فيها، مجاهداً في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، أو روحة في سبيل الله، في المساء، فهذه خير من الدنيا جميعها.
فهذه الدنيا كل ما فيها بعيد من رحمة الله، وكأن الدنيا مليئة بالمصائب، وبالعبث واللهو، ومليئة بكل ما يلهي الإنسان عما عند الله سبحانه تبارك وتعالى، إلا أن يجعل الإنسان أمامه نوراً من الله سبحانه تبارك وتعالى، من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها، يعني: كل ما فيها يبعد عن طاعة الله سبحانه، إلا أن تتشبث بذكر الله عز وجل، ويكون لسانك ذاكراً لله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (إلا ذكر الله وما والاه)، وما يتبع ذلك من ذكر الله كالصلاة والزكاة والصيام، فتذكر الله وتصوم ما فرضه الله عز وجل عليك، وتعمل ما سنه لك النبي صلى الله عليه وسلم، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
كذلك العالم والمتعلم، فيكون الإنسان عالماً يعلم غيره، ويكون متعلماً يستفيد من غيره، وغير ذلك كله بعد عن طاعة الله، لو تأملت في ذلك ونظرت في حقيقة ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم عندما يجيء الإنسان يقول: هم ثلاثة فقط، والباقي كله بعيد عن رحمة الله عز وجل؟! فستجد أنهم الثلاثة فقط الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والباقي بعيد عن الله عز وجل.
كيف تعرف ربك إن لم تكن عالماً أو متعلماً؟! وكيف تعرف دين الله عز وجل إن لم تكن عالماً أو متعلماً؟! وكيف تطيع الله سبحانه تبارك وتعالى؟! وبأي شيء تعبده إن لم تكن عالماً أو متعلماً؟!
فلذلك كل من بعد عن ذلك فليس بعالم ولا متعلماً، فكيف سيعرف هذا العبادة والمعاملة؟ وكيف سيقيم شرع الله عز وجل وهو لم يتعلم ولا هو من أهل العلم، ولا هو طائف على موائدهم؟! فغير هؤلاء يكون بعيداً عن طاعة الله عز وجل، ويتكلم فيما لا يعنيه، ويهرف بما لا يعرف، ويتكلم في الدين وفي غير الدين بعقله وهواه، فيغويه الشيطان ويتبع هواه فيكون من أصحاب النار والعياذ بالله!
فالإنسان يصلي الخمس الصلوات في اليوم والليلة، ويصلي رواتبها، ويذكر الله، فهو ما بين صلاة وصلاة في ذكر لله عز وجل، فلا ينسى ربه أبداً، ولا ينسى طاعة الله سبحانه، ويستحيل أن تتخيل إنساناً ذاكراً لله عز وجل وهو تارك للصلاة لا يصلي، أو ذاكراً لله عز وجل وهو تارك للصوم والعبادة، فهذا مستحيل، ولكن قد يكون الإنسان يصلي وقت الصلاة وفي غير وقت الصلاة مشغول بهذه الدنيا، فلذلك قال الله عز وجل: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
ذكر الله عز وجل أعظم من الصلاة؛ لأن الذاكر لله عز وجل يصلي ويذكر الله عز وجل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله).
قال تعالى: يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36] يعني: لم يسألكم الله عز وجل جميع أموالكم، فالله سبحانه تبارك وتعالى كريم، فحين يفرض الله عز وجل عليك زكاة مالك شيئاً يسيراً، فستتمتع بسبعة وتسعين ونصف في المائة من مالك، وادفع لله عز وجل اثنين ونصف في المائة من مالك، فهذه هي الزكاة التي يفرضها الله عز وجل، فهي نسبة يسيرة جداً من مالك.
وإذا كان لديك زروع وثمار تسقيها بتعبك، فتشتري الماء وتسقي الزرع، فستخرج نصف العشر مما تخرجه الأرض، وإذا كان الماء من السماء من غير تعب منك فتخرج العشر منها، وتستمتع بالتسعة الأعشار، والعشر لله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا العشر هو الذي يطهر لك باقي المال.
وإذا حفر الإنسان في الأرض فخرج وعاء ذهب أو فضة من غير تعب منه فهذا يعتبر ركازاً من دفن الجاهلية، فيجب عليك فيه الخمس، مقدار عشرين في المائة؛ لأنك لم تتعب أصلاً، فإذا زاد التعب قلت الزكاة وخفت، فالله عز وجل ليس بطامع في المال الذي عندك كما تفعل الحكومات مع الناس، حيث وضعوا ضرائب على الناس، فيأتي عامل الضرائب يقول للناس: سنخفف عليك والآخر يضع عليه ضرائب أكثر، ويرفض منه، ويجعل له المقيدات، فالدين لا يفعل ذلك أبداً بالإنسان، قال تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، الإنسان عندما يؤمر بالنفقة يبخل، فالدين يجعل الإنسان يدفع، ولو كل مؤمن على الأرض دفع زكاة ماله لما بقي فقير أبداً، وزكاة المال كثيرة جداً، فهي اثنين ونصف في المائة، وكل إنسان يرغب فيما عند الله، ويرهب من عذاب الله عز وجل فيدفع المال، ولو أن الحكومات ترشد إنفاق هذا المال على الوجوه التي ترضي الله عز وجل لكانت البركة في الأرض، فالإنسان يدفع الزكاة وهو راض، وقد يدفع أكثر مما يطلب من أجل الله، ويصرف أكثر من النسبة المطلوبة؛ لأنه ينوي الأجر من الله، لا ينفق لأنه مجبر على ذلك، وليس كالضرائب ولسان حال أحدهم: أنا يأخذ مني أكثر، والثاني يأخذ منه أقل، وفلان المليونير لا يدفع شيئاً وفلان له محسوبية! الدين ليس فيه هذا الشيء، الناس كلهم سواسية، فعندما يطبق شرع الله عز وجل تجد الإنسان مسروراً في دفع الشيء؛ لأنه يصدق فيما يقول.
وكان عثمان رضي الله عنه يقول للناس: هذا شهر زكاة مالكم، فلينظر الإنسان ما عليه من الدين، ثم يدفع ما عليه من زكاة المال فلا يصدق أحد ويقول: أنا علي ديون كذا، والمال الذي عندي كله دين، وأنا عندي عشرة آلاف لكن غالبه دين والذي يأتي إليه يصدقه فيما يقول، فلا يلزمه ويقول: زك مالك وإلا سندخلك السجن ونعمل فيك هذا، هذه أشياء الشريعة لا تأتي بمثلها أبداً، ولذلك ربنا يقول لنا: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ [محمد:37]، فالله سبحانه يحثنا ويأمرنا بدفع الزكاة وإذا بنا نبخل وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [محمد:37] وكأنها طبيعة في الإنسان يقال له: هات أكثر فيقول: لا ما أدفع أكثر من هذا الشيء، فيتعلم الإنسان أنه لا يرهق أخاه، الله سبحانه يخفف والإنسان يشدد على غيره ليدفع أكثر فالله سبحانه تبارك وتعالى أعلم بنفوس الخلق: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36] يعني: لا يسألكم جميع أموالكم، وإنما هي نسبة بسيطة من المال يطهر بها لكم أموالكم، ويأخذ الفقراء نصيبهم الذي عندكم، ولم يسألكم المال كله.
قوله: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38]، أنتم الفقراء، والله الغني بذاته، عطاؤه كلام: (كُنْ فَيَكُونُ)، والإنسان فقير بذاته خرج إلى الدنيا عرياناً لا شيء معه، وجاء إليها وهو طفل صغير يحتاج إلى غيره وليس معه ثوب، ويخرج من الدنيا كذلك وهو لا شيء له، فهو فقير بأصل خلقته، وفقير بذاته وَاللَّهُ الْغَنِيُّ [محمد:38] سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا [محمد:38] إذا توليتم عن طاعة الله، وهربتم من الإنفاق في سبيل الله استبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم، ومن يتولى عن طاعة الله ودينه، ويهرب من هذا الدين العظيم فإن ربنا يقول: الله الغني لا يحتاج إليك، والله القادر على أن يأتي بقوم غيركم يعبدون الله ويؤدون حقه سبحانه تبارك وتعالى، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابة سألوه صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء الذين يستبدلهم الله عز وجل بنا إذا نحن تولينا؟ وكان سلمان بجوار النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إليه وقال: (هذا وأصحابه)، من الفرس والعجم، إذا تولى العرب عن طاعة الله أيد الله عز وجل هذا الدين بغيرهم، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل البر والفاجر)، فقد يؤيد هذا الدين بمن ينصره من الأبرار، والفجار، والله على كل شيء قدير، فالمكسب هو للإنسان المؤمن، أقبل على الله سبحانه، لا تتولى، فأنت الذي تربح إذا أقبلت، وأنت الذي تخسر إذا أدبرت، ولن تضر الله شيئاً، ولن تضر دين الله شيئاً.
قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] بل يكونون مطيعين لله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على دينه، وأن يثبتنا على الإيمان حتى نلقاه به.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر