اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكرنا قول الله سبحانه وتعالى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18] يعني: أشراط الساعة، هل ينتظر الناس إلا أن تأتي الساعة؟ فقد جعل الله عز وجل أشراطاً لهذه الساعة، وبدأت هذه الأشراط بمبعث النبي صلوات الله وسلامه عليه، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ .
وقد ذكرنا جملة من أشراط الساعة التي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها، وهنا جملة أخرى من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة، قد ذكرنا منها الأشراط الكبرى وهي العشر الآيات، وسنذكر أشراط أخرى هي علامات صغرى للساعة.
حتى إن الرجل يلقاه أخوه فيقتله، أي: أن الإخوة من النسب يلتقيان فيختلفان على شيء تافه فيقتل أحدهما الآخر، كذلك الأخ في الدين يلقى أخاه فيختلفان على أمر من أمور الدنيا فيقتله. (ينتزع عقول أهل ذلك الزمن) أي: أن الله عز وجل ينتزع عقولهم، فيصبحون لا عقول لهم، ولا رحمة، فلا يهتدون لشيء، إنما الذي يحكمهم والذي يريدونه هو الدنيا، والمنصب، والدينار، والدرهم، يقول: (ويخلف لها هباء من الناس يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على شيء)، فيكون أكثر الناس لا عقول لهم، ولا يعرفون شيئاً عن دين الله سبحانه وتعالى، بل إن آخر ما يتكلمون عنه هو دين الله سبحانه وتعالى، فيحسبون أنهم على شيء وليسوا على شيء، ويخلف لهذا الزمان قوم يكون لهم هباء من الناس، يعني: أمثال الذر الذي لا قيمة له.
روى الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً)، وهذا دليل على رقة الدين، وضعفه، حتى إن الإنسان ليتحول إلى الكفر ولا يعصمه دينه عن ذلك، فكأنه لا شيء في قلبه، فمجرد أن يتنازع مع آخر على الدنيا سرعان ما يترك الدين، ويترك شرع الله عز وجل، ينام الرجل على الإسلام ثم يصبح على أبسط الأمور يسب دين الله عز وجل، ويتبرأ منه! وهذا من الفتن، يقول صلى الله عليه وسلم: (القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي)؛ لأنه اقتتال بين المسلمين على الملك، وعلى الحكم، وعلى الدنيا، فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: ابتعدوا عنها، فأفضل إنسان في هذه الفتن من ابتعد عنها ولكن قد يخوض البعض من الناس فيها، فيقول: إن الذي قعد وابتعد عنها خير من الذي دخل فيها.
والمعنى أن أناساً يسابقون في الفتن وأناساً يتباطئون عنها ويبتعدون عنها، فالمتباطئ أفضل من الذي يسعى، وكأن المعنى ابتعدوا عنها قدر الاستطاعة حتى إن وجدت نفسك على وشك أن تدخل في الفتنة فأخر نفسك، وابتعد عنها ولا تقاتل مسلماً أبداً، فيقول هنا صلى الله عليه وسلم: (فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بحجارة فإن دخل على أحد منكم بيته فليكن كخير ابني آدم) أي لا تكن مع واحد من الفريقين الذين يتقاتلون على الدنيا، حتى وإن دخل على أحدكم، هذا إذا كان القتال من أجل الدنيا، أما من أجل دين الله، فعلى المؤمن أن يدافع عن دينه، وأن يقاتل الكفار، والمنافقين، وكل من يتعرض لدين الإسلام، فإن قتل كان شهيداً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اكسر سيفك) هو إذا كان القتال على المال أو الحكم أو أمر من أمور الدنيا فلا تقاتل لأجل الدنيا، ولكن قاتل القتال المشروع، الذي تدافع فيه عن دين الله سبحانه، أو عن النفس، أو عن الأرض.
وليس الأصاغر بمعنى أن عمره عشر سنين أو خمسة عشر سنة، فقد يكون شيخاً كبيراً عمره سبعين أو ثمانين سنة لكنه صغير في العلم لا علم عنده، لا يعرف كتاباً ولا سنة، ويغر بعض هؤلاء أنه عالم باللغة العربية، ودخل مجمع اللغة العربية، ومجمع البحوث الإسلامية من هذا الباب، فإذا به يفتي في الفقه، ويفتي في القرآن, ويفتي في كذا؛ لأنه عالم باللغة العربية، فيتكلم بكلام لم يقله أحد قبله، ولا يستحيي من نفسه أنه لم يقل أحد هذا الكلام قبله، حتى إنه ليرد على من أنكر عليه بقوله: يوجد من يوافقني على ما أقول، والمخالفون لي أقل... وهكذا بعض الشيعة وبعض المسلمين، وفيهم هذا الذي يتكلم أن آدم أبو البشر ليس أول إنسان، وببساطة يكلم الشيخ ويقول له: توجد أحاديث في البخاري أنا أردها! فيقال لمثل هذا. ما هي العلة التي رددت بسببها أحاديث البخاري ومسلم ؟ وما هو الحكم الذي تحكم من خلاله على الأحاديث بالضعف؟ فقد يأتي غيرك ويقول: وأنا أيضاً هذا الحديث عندي غير صحيح، وأصبح الحديث الذي نعرف صحته بالنظر في سنده ومتنه مردود عند هؤلاء ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلم تبق إلا الأحاديث المكذوبة التي يرويها الشيعة وغيرهم، فنقول له: أنت تأخذ بهذه المكذوبات وتقول بها؟ فبماذا تعرف دينك إذا تركت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتركت ما عرفناه من كتاب الله عز وجل؟ فما الذي يبقى للإنسان إذا رد ذلك؟
قال: (وخسف) أي: زلازل تخسف بالإنسان في الأرض، يكون فوق الأرض فتنشق الأرض من الزلزال ويكون في باطنها.
قال: (وقذف) يعني: حجارة تمطر عليهم من السماء، وسيكون ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر في حديث آخر أن من علامات الساعة أن تكثر الزلازل، وهذا أمر حاصل، فالمناطق التي كانوا يقولون عنها: ليست داخلة تحت حزام الزلازل، دخلت الآن تحت حزام الزلازل، وأصبح كل يوم تسمع: حصل زلزال قوته كذا، وما كانوا يسمعون عن ذلك في الماضي!
هذه البلدة يقول شراح الحديث: القسطنطينية، معقل الروم أيام هرقل، فإنه بعدما أخذت منه ديار الشام تحسر وهو ينظر إلى سوريا وفر منها إلى القسطنطينية، وهي في شمال البحر المتوسط جزء منها في البحر المتوسط وبعضها على البحر الأسود، فهي بلدة محاطة بالبحر الأبيض والبحر الأسود، وهذه البلدة لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، وكان كثير من شراح الأحاديث يقولون: إن الصواب أنهم من بني إسماعيل، ولا مانع أن يكونوا من بني إسحاق، فإن إسماعيل وإسحاق ولدان لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإسماعيل أبو العرب، وإسحاق أبو العجم، وكأن معنى الحديث وهو في صحيح مسلم أن بني إسحاق سيدخلون في دين الله عز وجل، وقد حصل أن كثيراً من ولد إسحاق دخلوا في دين الله، فيخبر عن هؤلاء الذين أسلموا من بني إسحاق أنهم سيفتحون هذه البلدة وأن ذلك من أشراط الساعة.
يقول: (فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم) وقد يقول قائل: الكفار يسيطرون على بلاد الدنيا الآن فنقول له: ومع ذلك هناك فتح ثاني غير الفتح الإسلامي الماضي، فإن الفتح الإسلامي الماضي ما كان فيه (فلم يقاتلوا...) لكن هذا الفتح يخبر أنه سيكون في يوم من الأيام، وأنه سيلي ذلك خروج المسيح الدجال، وهذا الفتح ليس الذي حصل للقسطنطينية في الماضي، ولكن المقصود فتح جديد سيكون بعد ذلك، وفي هذا الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل سيفتح للمؤمنين فليتمسكوا بدينهم، فإن الله عز وجل سيعطيهم قوة، والإنسان المسلم حين ينظر لأسباب القوة اليوم يشعر بشيء من اليأس؛ لأن الكفار والمشركين يملكون قنابل نووية ومع ذلك يمنعون المسلمين أن يمتلكوا تلك الأسلحة، فيقول للمؤمن: لا تيئس، سيكون الفتح من الله عز وجل، ولن تحتاج لقنابل نووية ولا غيره من السلاح، بل سيجعل الله عز وجل من بني إسحاق من يسلم وهم الذين سيتغلبون على هذه البلدة، وسيكونون من أفضل خلق الله عز وجل، فيقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا جاءوها) أي: بلدة القسطنطينية (نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم).
أي: إنما قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها، قال الله وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه [آل عمران:126]، وكم من بلد أسقطه الله سبحانه وتعالى بالمظاهرة بلا سلاح ولا غيره، والذي حصل إما خيانات أو مظاهرات من الناس، فإذا كان هؤلاء الكفار سقطت بلدانهم بمظاهرات ألا ينصر الله عز وجل هذا الدين بلا إله إلا الله والله أكبر؟! يقول: (فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلونها، فيغنمون، فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ ينادي عليهم: الحقوا ذراريكم فقد خرج
لذلك المؤمن حين يسمع أن قطع الرحم من علامات الساعة يستدرك نفسه، فيزور أرحامه وأقرباءه حتى لا يكون واحداً من هؤلاء الذين ذمهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولهم العقوبة الشديدة عند الله عز وجل، وقطيعة الرحم لا تكون إلا من نقص الإيمان، والإنسان الذي يحب أقرباءه حين يحس أنهم سيطلبون منه حاجة من حوائج الدنيا تحصل منه القطيعة لهم ويقول: لن أذهب إلى أقربائي الذين يؤذوني ويطمعون في مالي! ينظر نظرة دنيوية فلا يصلهم حتى لا يخسر؛ فتتقطع الأرحام بذلك، فليحذر المؤمن من مثل هذه النظرة، وليعلم أن صلة الرحم تزيد في الرزق، وينسئ الله عز وجل له في عمره بسبب ذلك، أي: يكون عمره طويلاً، وليس المقصود من الطول في حياته أنه يعيش عمراً طويلاً بين أسرته، بل المقصود أنه يخلف آثاراً وذكراً ودعوات تكون له كإنسان عاش أكثر منه.
يقول: (وتخوين الأمين) أي: أن الإنسان الأمين تلفق له التهم أنه خائن ومختلس ومرتش وكذا؛ لأنه يقول كلمة الحق، فيخون الأمين حتى ينزل من المكان الذي هو فيه لكونه أمين.
(ويؤتمن الخائن) أي: أن الإنسان الخائن يعطى المناصب الكبيرة، ويعطى الودائع والأمانات، ويقال عنه: هذا أمين، وهم يعرفون أنه خائن!
أي: من أشراط الساعة أن الناس إذا قل الإيمان احتاج المؤمن لشيء يثبته، فالله عز وجل يجعل أشياء كهذه علامات للمؤمن تثبته على دينه؛ لأن الإنسان حين يرى أنه لا يوجد حوله إلا الكفر والفسوق والعصيان، فتن في الطريق، وفتن في البيت، يحتاج إلى شيء يثبته، فالله عز وجل يثبته، بأن يرى رؤيا صالحة يثبته الله عز وجل بها، أو يجد حوله بعض المؤمنين الذي يأمرونه بالمعروف وينهونه عن منكر، وما شابه ذلك مما يجعله الله عز وجل تثبيتاً للمؤمنين، والصحابة ما كانوا يحتاجون إلى رؤية أشياء حسية تثبتهم على الدين؛ لأنهم عرفوا الدين، وامتلأت قلوبهم إيماناً به، فلا يحتاجون إلى ذلك، لكن من أشراط الساعة: أن يقل عدد المؤمنين فيحتاج المؤمن إلى شيء يثبته، فيجعل الله عز وجل آيات وكرامات للبعض من المؤمنين، مثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس)، سيحدث في يوم من الأيام أن السباع، والبهائم، والأسود، والنمور، والكلاب، تكلم المسلم: افعل كذا ولا تفعل كذا، تأمره بشيء أو تطلب منه شيئاً! فيتعجب المسلم فيكون تثبيتاً له.
وفي الأحاديث أن الجمل ذهب يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن جذع الشجرة الذي كان يقف عليه صلى الله عليه وسلم حين تركه وصعد على المنبر حنَّ وبكى، فقد يأتي أناس فيقولون: لم يصح من هذا شيء، فيجعل الله عز وجل لهم آية من الآيات يعرفون بها صدق ذلك، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم (يقاتل المسلمون اليهود، وأن الحجر والشجر يقول للمسلم: يا مسلم! ورائي يهودي تعال فاقتله) فقد يتعجب المؤمن من هذا الشيء، فلما يحدث أمام عينيه، ويسمع ذلك؛ يشعر بصدق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول: (والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه)، السوط هو العصا، فيكلم السوط الإنسان: احذر من كذا! وهذا شيء عجيب جداً، وليس المعنى: أن الإنسان يبحث عنها حتى تحصل له، لا، ولكن لا شك أنه سيكون ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه، وحين نسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إليه اثنان من الصحابة أحدهما أسيد بن حضير رضي الله عنهما، وسهرا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الليل، فلما خرجا من عنده ولم يكن هناك قمر ولا مصابيح، والطريق مظلم، فإذا بالله عز وجل يجعل لهما نوراً أمامهما في سوط أحدهما، فلما افترق الرجلان إذا بكل منهما معه نور في الطريق الذي هو فيه، فقد يجيء إنسان ويقول: هذا لا يكون، أما المؤمن فإنه يصدق ولا يحتاج إلى شيء إذا صح الحديث، ولكن المشككون الذين يقول أحدهم: أرد الحديث لأن عقلي لا يقبله، فيجعل الله لهم آية كهذه الآية حتى يعلموا أن عذاب الله صدق، وأن الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق.
يقول في هذا الحديث: (حتى يكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، ويخبره فخذه بما يحدث أهله بعده) أي: أنه حين يصل إلى بيته رجله تتكلم، وفخذه تتكلم: حصل كذا وكذا في بيتك.
وهذا عجب من العجب، ولكن سيكون ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه قطعاً ولا نشك في ذلك أبداً.
نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على الإيمان حتى نلقاه به.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر