اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ [محمد:17-18].
الله سبحانه وتعالى يمن على المؤمنين بالهدى ويزيدهم إيماناً فوق إيمانهم بطاعتهم، فالمؤمن كلما ازداد طاعة زاده الله عز وجل إيماناً، وزاده رفعة، وزاده درجات عنده سبحانه وتعالى، وكلما وقع الإنسان في المعصية نكت على قلبه، وتغير شيء من قلبه، فإذا تاب مسحت هذه النكتة السوداء التي تكون على قلبه.
وإذا وقع في المعصية رجعت مرة أخرى، فإما أن يصير صاحب معاصٍ فيختم على قلبه ويطبع، ولا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، أو أنه ينزع ويتوب إلى الله عز وجل ويبيض قلبه، فيعرف الخير ويزداد إيماناً، فالمؤمنون يزيدهم الله عز وجل هدى.
وذكر الله المنافقين وكيف أنهم كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ويسمعون كلامه العظيم صلوات الله وسلامه عليه، ويريدون أن يشككوا الناس فيما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيسألون أهل العلم أمام الناس فيقولون: ماذا قال آنفاً؟ كأنهم لم يعقلوا ولم يفهموا ما الذي يقوله صلوات الله وسلامه عليه! استهزاءً بما يقول، وتنفيراً للناس عن النبي صلى الله عليه وسلم حين يرون هؤلاء أنهم لم يفهموا، فلعل غيرهم يقولون ما يقول هؤلاء، فيتشككون في كلامه صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً[محمد:18] أي: إذا جاءت الساعة جاءت بغتة تذهل الناس، وترجع الناس فيأخذهم الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ[محمد:18]، أي: كيف ومن أين لهم إذا جاءتهم هذه الساعة أن يتذكروا؟ أي: متى يتاح لهم أن يتذكروا، يأتي الموت ثم تأتي الساعة، ولا يلحق الإنسان أن يتذكر التذكرة التي تنفعه في العمل، فإنه إذا رأى الموت رأى ما كان غائباً عنه قبل ذلك، فلا تنفعه الذكرى، ولا تنفعه التوبة، ولا يستطيع أن يقول: تبت إلى الله، بل يختم عليه ويمسك لسانه، فلا يقدر أن يقول: لا إله إلا الله، أو أن يقول: تبت إلى الله، قال تعالى: لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا[الأنعام:158] .
فقوله تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ[محمد:18] ، أي: من أين وكيف لهم أن يتذكروا فينتفعوا بهذه الذكرى؟ فأنى لهم إذا جاءتهم الساعة أن يتذكروا وأن ينتفعوا بذلك، وأن يناجي بعضهم بعضاً، فيذكر بعضهم بعضاً، والحق أنَّ الساعة ستقوم، بل تأتي الساعة عليهم كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد يكونون في سوقهم يتبايعون، يبيع الرجل الثوب ويمده ويمتره ويذرعه، وهذا يشد وهذا يشد وهذا يقيس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينفخ في الصور فإذا بهم يسمعون صوت نفخة، فيصغي الرجل ليتاً ويرفع ليتاً) والليت: جانب العنق، يصغي: يميل ليسمع ما هو هذا الصوت، فلا يلحق بل يخر ميتاً، وذكر أن إنساناً آخر يلوط حوض إبله، أي: يحضر الحوض الذي سيسقي فيه إبله ويجهزه، ولا يلحق أن يأتي الإبل ويسقيها، فإذا به يسمع النفخ في الصور فيخر صعقاً، والرجل يمسك اللقمة يرفعها إلى فيه، فيسمع الصوت ويصغي له، ولا يلحق أن يأكل اللقمة، ويخر ميتاً.
فمتى يتذكرون؟ ومتى يعتبرون؟ ومتى يدعو بعضهم بعضاً؟ ومتى يذكر بعضهم بعضاً وينادي بعضهم على بعض أن الساعة حق؟ ومتى يلحقون قول لا إله إلا الله قبل أن تقوم الساعة؟ أنى لهم ومن أين لهم هذا الشيء؟ لا يقدرون.
فقد جاء من الله عز وجل أشراط، أي: علامات لهذه الساعة، جاءت العلامات الصغرى لعلهم يعتبرون قبل أن تأتي الكبرى، وقبل: لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ[الأنعام:158].
وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا القول: عليك السلام يا فلان، قال صلى الله عليه وسلم: (عليك السلام تحية الموتى، إنما تقول: السلام عليكم) .
فـابن مسعود كان في الصلاة، ومعلوم أنه إذا سلم الإنسان على إنسان يصلي، فإنَّ المصلين لن يردوا عليه السلام، ولكن يرد بيده إذا كان يرفع يده ويرفع إصبعه، ينبه أن سمع السلام ويكفي، وكان ابن مسعود في الصلاة، فقال: صدق رسول الله، أو كان لم يدخل في الصلاة فقال ذلك، والله أعلم، لكن الغرض: أنه رفع صوته بذلك، قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انتهى ابن مسعود من الصلاة ورجع سألوه عن سبب قوله: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة) يعني: من علامات الساعة: مجموعة من الناس موجودون، فيسلم المار على أحدهم، وبقية الناس لا قيمة لهم.
ومن علامات الساعة أن يظهر جهل الناس، ويسلم على واحد فقط، فأنت إذا أردت السلام على واحدٍ بين قوم، تسلم على الجميع، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61] أي: يُسلم بعضكم على بعض، فلا تنتقي واحداً وتسلم على الذي تعرفه فقط، والباقي لا تسلم عليهم، فـابن مسعود يقول: صدق رسول الله، يعني: حدث هذا في عهده رضي الله تعالى عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة) يعني: الإنسان يسلم على الذي يعرفه فقط، أما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يسلمون على الجميع، مثل عبد الله بن عمر رضي الله عنه، كان يخرج إلى السوق ومعه جماعة من الناس، ولا يريد أن يبيع ولا يريد أن يشتري ولكن ليسلم على الناس فقط، ثمَّ يرجع إلى البيت.
وإذا خرج الإنسان إلى السوق وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، يأخذ ألف ألف حسنة على هذه الكلمة التي يقولها، يعني: مليون حسنة على هذه الكلمة!
فالإنسان المؤمن يفكر كيف يأخذ الثواب من الله عز وجل، وكيف يعمل العمل الذي يؤجر عليه الأجر العظيم، أما أنه يسلم على واحد فقط من بين الناس، فهذا لا ينبغي.
إن تسليم الخاصة يجعل العداوة والبغضاء في قلوب الناس، فبتسليمه كسب عداوة الباقين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمنين، ويقول: (افش السلام على من عرفت ومن لم تعرف) أي: سلم على الجميع على من عرفت وعلى من لم تعرف.
والأب يعرف أن ابنه فقير ومحتاج، لكن لا يتدخل به، فتقطع الأرحام بسبب جمع المال والحرص عليه، وكل إنسان لا يريد أن يعطي الحق الواجب عليه.
وإنسان يبغض فلاناً فيشهد عليه زوراً وهو لم يرَ شيئاً، وقد يجلس شخص على القهوة، وينتظر أحد يناديه، تعال واشهد معي في المحكمة وسأعطيك مبلغاً من المال، فيذهب ويشهد كذباً وزوراً ويحلف اليمين الغموس، وكم تسمع عن أمثال هؤلاء وهم لم يشاهدوا شيئاً حتى يشهدوا!
والذي يشهد شهادة الزور يعتبرها خدمة ومجاملة، فيشهد زوراً وكذباً لإنسان؛ فتضيع حقوق الناس، وقد يظلم أهل التقوى ويسجنون بسبب شهادة الزور.
والمرأة تشهد على جارتها وتحلف كذباً لأنها تغيظ منها، كذلك المحامي يقول لمن يحامي عنه: أوجع نفسك بأي جرح واتهم بما حدث لك فلاناً، فهذه أيضاً من شهادة الزور.
فالمطلوب منك أن تدلي بشهادة الحق، حتى لا يضيع المال على صاحبه.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكذبة والفساق أنه يسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته، ويخبر أنه من علامة المؤمن أن يؤدي الشهادة قبل أن تطلب منه، وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من يشهد بعد أن تطلب منه، وأمر بأن يشهد من غير أن يطلب منه؛ لأنه يعلم أن الحق سيضيع على أصحابه لو لم يشهد.
فيبدأ هو بالشهادة من عند نفسه من غير أن يستدعيه إنسان، فمن يعرف مظلوماً سيضيع حقه، فعليه أن يؤدي الشهادة بحقها حتى لا يضيع هذا المظلوم.
وأيام النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم: (نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) أي: الذين يكتبون عدد قليل جداً، ولكن هو يخبر أنه في يوم من الأيام سيكون أكثر هذه الأمم يعرفون القراءة والكتابة، وسيظهر القلم، وسيكون كل إنسان يقرأ ويكتب ويحسب ويعرف هذا الشيء، وليس هذا ذماً لظهور القلم أن يكتب الناس، ولكن يخبر أن الأمة العربية التي كانت جاهلة وكانت أمية، سيأتي يوم من الأيام على أغلبها يظهر فيهم القلم، وسيكون كل شيء بالكتاب، ويخبر أنه ستصاب هذه الأمة بالنسيان، حتى تحتاج إلى القلم.
فالعرب لم يكونوا يحتاجون إلى القلم، بل منهم من كان يفتخر أنه لا يكتب بالقلم كما قال الشعبي : ما كتبت بيضاء في سوداء، بل يسمع فقط، وكان حافظاً من الحفاظ، وعالماً من العلماء، وفقيهاً من الفقهاء، ويحفظ ما سمعه، والإمام ابن شهاب الزهري عالم لا يحتاج إلى كتاب يكتب إليه، فهو يحفظ الحديث حين يسمعه من مرة واحدة فقط، ولا يحتاج أن يكرر عليه الحديث، قال العلماء عنه: الحديث الذي لا يعرفه الزهري ليس بحديث، فـالزهري ليس محتاجاً إلى أن يكتب، حفظه قوي جداً، فكان العرب هذه عادتهم، إذْ كانوا يفتخرون بالحفظ، فإذا بأحدهم يحفظ القصيدة مائة بيت ومائتي بيت من الأول إلى الآخر، وينكسها من الآخر إلى الأول من غير كتابة ولا حفظ يعانيه ولا غيره!
فقوله صلى الله عليه وسلم: (وظهور القلم) معناه: ستنسون وستتعودون على النسيان، حتى تحتاجوا إلى أقلامٍ لكتابة هذا الشيء.
وحديث جبريل حديث طويل، وهذا الحديث مختصر: (إذا رأيت الأمة ولدت ربتها)، والمعنى: أمة جارية تلد سيدتها، تكون ابنتها سيدتها، وابنها سيدها، وهذا لا يجوز؛ لأن الابن لا يستعبد أمه، والبنت لا تستعبد أمها، هذا لا يكون أبداً، ولكن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا سيكون في يوم من الأيام!
ومعلوم أن الأمة إذا وطأها سيدها، ثم أحبلها الجنين الذي في بطنها عندما تضعه يكون سبب عتقها، ولا يجوز أن تكون أمة بعد ذلك، فإذا مات هذا السيد، وكان ابنها هو الذي يستعبدها بعد ذلك، تصير عبدة عند ابنها، فهذا من علامات الساعة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال: (ورأيت أصحاب البنيان يتطاولون في البنيان)، والذي يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كله حاصل، فهناك بيوت عالية جداً بحق وبباطل، وبيوت ناطحات سحاب في السماء، وما كان الصحابة يتخيلون بيتاً مكوناً من طابقين، بل أعلى شيء يتخيلونه أن تكون هناك غرفة مشرفة عالية في البيت.
قال: (ورأيت الحفاة الجياع العالة، كانوا رءوس النا) ، أي: إنسان يكون فقيراً وفي يوم من الأيام يكون رئيساً على الناس، ولا يوجد مانع من هذا الشيء، ومن يمنع رحمة الله عز وجل؟
ولكن المعنى: أن الناس يجعلون صاحب المال رئيساً فيهم، فصاحب المال هذا كان في يوم من الأيام حافياً جائعاً، ولم يكن يملك شيئاً، وليس له حظ في العلم ولا في العمل ولا وجاهة له في الناس، وفجأة أصبح هذا الإنسان غنياً، وأصبح فوق رءوس الناس، فصار هو الذي يصلح أن يقودهم، وليست عنده حكمة، وليس عنده علم، وليس هو من أهل الخبرة في ذلك، ولكن ماله هو الذي جعله فوق الناس، يعني: الناس لا يحترمون إلا من له مال.
فإذاً: هو صاحب الرأي فيهم، وهو الذي يصلح فيهم أن يقودهم، فهذا من علامات الساعة، لكن أهل الجاهلية من العرب لم يكن رئيسهم صاحب مال، بل صاحب العقل فيهم، وصاحب السن فيهم، يعرفون له سناً، ويعرفون له حكمته، فيقبلون منه، ويذهبون إليه فيتقاضون عنده، لكن إذا صار الأمر إلى أن الذي عنده مال هو الذي يصلح، ضاع الرأي إذا كان المال من ورائه، قال صلى الله عليه وسلم: (فذلك من معالم الساعة وأشراطها).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام، فلا خير فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة) .
إذا فسد أهل الشام، وإذا ضاع الإيمان، وضاع الدين من بلاد الشام، هذا آخر ما يكون في الإيمان، فقد فسدت الدنيا فانتظروا الساعة.
هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله) أي: إذا صار يحكم الناس، ويقوم بشئونهم أصحاب المحسوبية والرشاوى والأقارب والإنسان الذي لا يستحق؛ ضاعت بلاد المسلمين، وانتظروا الساعة من وراء ذلك.
يقول: (ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار، فيظل ساخطاً) ، يخبر أنه يصبح الناس في يوم من الأيام أغنياء، فيعطي الرجل مائة دينار يعني: نصف كيلو ذهب: أربعمائة وخمسة وعشرون جراماً من الذهب تقريباً، فيسخط ويريد أكثر من ذلك، ولا يرضى بهذا المال.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته) أي: معاصٍ وذنوب تدخل جميع البيوت، ما من بيت من البيوت إلا وتجد فيه فتنة من الفتن، في النساء وفي الرجال وفي المال وغير ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول صلى الله عليه وسلم: (ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر) أي: بينكم وبين الغرب، بينكم وبين الكفار تكون هدنة، فيغدرون ويدخلون بلادكم، قال: (ويأتونكم تحت ثمانين راية) أي: تحت ثمانين لواء، (تحت كل راية اثنا عشر ألفاً) يعني: ستأتيكم جيوش ضخمة من هؤلاء الكفار على بلادكم، يصل عددهم إلى نحو مليون، حوالي تسعمائة وستين ألف مقاتل، ويسمونها جيوش الأحلاف، هؤلاء الكفار يدخلون على المسلمين في بلادهم، فيحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، هذه بعض علامات الساعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر