أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة لقمان: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ * وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لقمان:22-28].
يخبر الله سبحانه وتعالى أن المؤمنين هم الذين يسلمون أنفسهم ويوجهون وجوههم إلى الله سبحانه وتعالى، فهم مستسلمون لله في أمره ونهيه وبقضائه وقدره، راضون بشرعه سبحانه، محسنون يعبدون الله كأنهم يرونه سبحانه وتعالى ويخافونه ويستيقنون أنه معهم سبحانه، فهؤلاء الذين تمسكوا بالعروة الوثقى، وأخذوا بحبل الله سبحانه الذي ينجيهم الله عز وجل به ويوصلهم إلى جنته قال تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22] وهي قول لا إله إلا الله، وهي دين الإسلام، تمسكوا به فثبتهم الله عز وجل عليه حتى يلقوه وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان:22] أي: مرجعها.
فمن كفر من هؤلاء فلا يحزنك كفره، ولا تكن في ضيق مما يمكرون فالله معك: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] فالله بنصره وبقوته يؤيد المؤمنين، فهو مع المتقين ومع المحسنين، وهو معك يا رسول الله!
وقراءة الجمهور: (فلا يحزنك كفره) وقرأها نافع: (فلا يُحزنك كفره) من أحزن الرباعي والثانية من الثلاثي (حزن).
(إلينا مرجعهم) أي: سيرجعون إلينا لنحاسبهم ونعاقبهم على ما فعلوا فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [لقمان:23] لقد كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وكذبوا على الناس ولكن إذا جاءوا إلى ربهم يوم القيامة يوم الفزع الأكبر لن يقدروا على الكذب؛ فإن الله سيفضحهم بما كانوا يفعلون، فإن الله عليم بما أخفته نفوسهم وبما دار في صدورهم.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل يغلظ جلود الكفار) فجلد الإنسان في الدنيا له سمك معين، وجلد الكافر في نار جهم أضعاف مضاعفة فهو سميك جداً، ومعلوم أن أشد الإحساس في الإنسان يكون في جلده لما فيه من أعصاب كثيرة وفي عظمه أيضاً، فيكثف الله عز وجل ويغلظ جلودهم حتى تستوعب العذاب الشديد في نار جهنم والعياذ بالله! وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن ضرس الكافر كجبل أحد) إذاً: رأسه كيف سيكون؟ وجسده كيف سيكون؟ والمقصود هو أن ينال كل جزء من جسده عذاباً شديداً، والمؤمن يكون على خلق آدم ثلاثين ذراعاً في السماء، ولكن فرق بين المؤمنين وبين هؤلاء الكفار الذين يجعلهم الله سبحانه وتعالى على هيئة عظيمة ليذلهم فيرون أنهم مهما كبرت أجسادهم فإن النار تستوعبهم وتقول: هل من مزيد، ويغلظ عليهم العذاب في نار جنهم، ولا حياة كريمة في النار، ولا موت يريح هؤلاء الكفار.
قال الله سبحانه: (نمتعهم!) أي: في الدنيا (قليلاً)، ومهما عمروا في الدنيا فلابد أن يرجعوا إلى الله عز وجل ( ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:24]، (نضطرهم) أي: نلجئهم إلى عذاب غليظ، فيدفعون إلى نار جهنم دفعاً ولا يقدرون على الهرب مع أحجامهم الضخمة يوم القيامة، فالكافر الذي يكون في الدنيا شيئاً عظيماً أمام الناس لا يزن عند الله جناح بعوضة في ميزان الحسنات والسيئات.
فليس عندهم خوف من الله، وليس عندهم علم يقيني ينجيهم من النار، ولكن أنت أيها النبي صلوات الله وسلامه عليه والمؤمنون معه عندكم العلم العظيم علم كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عرفوا ربهم سبحانه بقدرته وبعظمته وبعلمه وبحكمته، عرفوا الله سبحانه وتعالى بآياته المرئية في الكون والمتلوة في كتاب الله سبحانه، فعبدوا الله ولجئوا إليه سبحانه وعلموا العلم الذي ينفعهم قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [لقمان:25] (الحمد لله) أي: الثناء الحسن على الله سبحانه بما يستحقه وبما يليق به سبحانه وتعالى وبجلاله وكرمه وصفاته العظيمة، واشكر ربك سبحانه على ما أنعم عليك من نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، وأهل الجنة حين يدخلون الجنة يقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا [الأعراف:43] فالهدى العظيم هدى الله يهدي به من يشاء.
فالتوراة كلام من كلام الله عز وجل، والله يتكلم بما يشاء وقت ما يشاء سبحانه وتعالى، فلو أن الله قضى أقضية كثيرة فكتب قضاء الله سبحانه، ولو أنه تكلم سبحانه وتعالى بكلامه العظيم الجليل فقطعت الأشجار إلى أقلام والبحار التي في الأرض جميعها كل بحر يمده من ورائه سبعة أبحر تحولت إلى مداد، فكتب بهذه الأقلام وكتب بهذا المداد، والله يتكلم بقضائه وقدره وبكتبه سبحانه؛ لتكسرت الأقلام ونفدت ونفد المداد ولم تنفد كلمات الله سبحانه وتعالى وحكمه وقضاؤه وقدره!
قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27] وانظر للمناسبة العظيمة بين الآيات وختام الآيات، فحين يتكلم عن عطاء الله سبحانه وتعالى وما يملكه الله سبحانه يختم بقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [لقمان:26] وكل شيء ملك لله سبحانه، فهو الغني الذي يعطي من غناه سبحانه، وهو المستحق للحمد تبارك وتعالى.
(إن الله عزيز) أي: منيع الجانب غالب قاهر سبحانه وتعالى، (حكيم) ينزل ما يشاء بحكمة، ولو شاء لجعل القرآن العظيم الذي بين أيدينا مجلدات كثيرة فهو على كل شيء قدير، ولكن من يطيق ذلك؟ ومن يقدر أن يحفظ ذلك؟ فالله لرحمته بعباده أنزل هذا الكتاب العظيم على هذا القدر الذي فيه تفصيل كل شيء وفيه النفع بأحكامه، فما أنزله إلا بحكمته سبحانه وبعلمه.
قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لقمان:28] والله يسمع كل شيء، ويرى كل شيء سبحانه وتعالى، ولا يخفى عليه شيء من أصوات وحركات وأشياء يقولها الإنسان ويخفيها ويسرها، فالله يعلم كل شيء.
فقد ذكروا في هذه الآية وغيرها أن الكفار كانوا يتعجبون: كيف خلق الله عز وجل الخلق أطواراً؟ وتسأل الكفار في مكة وفي المدينة وفي غيرها النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أن الله خلق الإنسان أطواراً من تراب ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم جعل المضغة عظاماً وكسى العظام لحماً، ثم أنشأه خلقاً آخر؟ كل هذه المراحل مر بها الناس، ثم سيخرجهم الله مرة واحدة من القبور، فيقول الله سبحانه: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28] أي: كما هو يسير على الله سبحانه أن يخلق نفساً واحدة كذلك يسير عليه أن يخلق الجميع ويبعث الجميع من قبورهم مرة واحدة، فالله على كل شيء قدير، ولا يصعب عليه شيء.
وقد ورد أن مجموعة من الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال منهم أبي بن خلف ومنهم رجل اسمه أبو الأشدين، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم متعجبين من هذا الأمر، وأبو الأشدين رجل من كفار مكة، ولذلك من يقول: إن هذه الآية مكية يقول: أبو الأشدين رجل من كفار مكة، والأشد مبالغة من الشديد، تقول: فلان شديد وفلان أشد، وأبو الأشدين كان فيه قوة عظيمة جداً، فقد كان يأخذ السجادة ويضع رجله عليها ويقول لعشرة: شدوها من تحت رجلي، وإذا قدرتم فخذوا كذا وكذا، فلا يقدرون، وتتمزق السجادة تحت رجله ورجله ثابتة فوقها، وكان كافراً، وكان يكيد للنبي صلى الله عليه وسلم كيداً شديداً، وفيه نزل قول الله عز وجل: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد:5]، وكان رجلاً كذاباً، فإذا سئل عن شيء قال: أنفقت مالاً كثيراً في كذا وفي كذا، والله عز وجل قد كذب هذا الرجل، فإنه لما سمع قول الله عز وجل في نار جهنم عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30] اغتر وقال للناس: جهنم عليها تسعة عشر، أنا أكفيكم تسعة واكفوني الباقي، أكفيكم خمسة على ظهري وأربعة بيدي، واكفوني بقيتهم ونغلب محمداً بهذا الشيء! لقد كان مغروراً، لقد قاس الملائكة على الناس، ولم يعرف أنه في حماقته وغبائه وجهله لا يفهم شيئاً، فأين هذا المجرم الآن؟ وكم من مجرم مثل هذا الإنسان اغتر بقوته وظن بغبائه أنه قادر على ذلك، فيعجب الله عز وجل الخلق من مثل هذا الأحمق المغرور الغبي ثم يرينا نهايته، فإنه مات كافراً مجرماً، فإذا ذكر ضحك الناس على غبائه وأتبعوه لعنة إلى يوم القيامة، لعنة الله عليه وعلى أمثاله.
فليحذر الإنسان المؤمن أن يغتر بهؤلاء الكفار وبما أعطاهم الله من قوة ومال؛ فإن هذا كله مسلوب من هؤلاء، وسيرجعون إلى ربهم مهما تمتعوا في الدنيا يوماً من الأيام، وسوف يرينا في الدنيا عواقب هؤلاء الكفار، وعواقبهم غير محمودة، فيرينا كيف أنه إذا أعطاهم شيئاً سلبه منهم شيئاً فشيئاً، صحةً وقوةً وغنى، وفجأة يضيع منه كل هذا ليرينا أن الحياة الدنيا مهما استمتع فيها الإنسان فما هي إلا متاع الغرور.
نسأل الله عز وجل أن يهدينا وألا يضلنا، ونسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر