قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [لقمان:6-9].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة لقمان: أن من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم.
وصح عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في الغناء، فقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان:6] هو الغناء والموسيقى والمعازف.
ويتخذ آيات الله سبحانه وسبيله هُزُوًا ، قال الله سبحانه: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [لقمان:6] أي: بشرائه لهذا اللهو، فكأنه اشترى الدنيا ودفع الثمن الآخرة والدين، فضيع صلاته، وضيع أمر ربه سبحانه وتعالى، فضل في نفسه وأضل غيره بذلك.
قال تعالى: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لقمان:6] وإن زعم أنه على علم، ولكنه علم كلا علم، بل هو علم كجهل، فيتعلم أشياء بعيدة عن أمر الله سبحانه، بل هي مما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، فعلى ذلك هو ليس على علم، وليس على هدى من الله، ولم يتعلم لا كتاباً ولا سنة، وإنما تعلم لهواً وباطلاً.
قال تعالى: وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا [لقمان:6]، الهاء هنا عائدة على سبيل الله عز وجل، والمعنى: ضل هو عن سبيل الله، وأضل غيره عن سبيل الله، واتخذ سبيل الله هزواً، وما تتبع إنسان سبيل الغناء والمعازف ونحوها إلا وكان بعيداً عن أمر الله، ونحن نرى أنه لا يذهب إلى التلفزيون والسينما وغيرها إلا أهل الفسوق والضياع، فيأتي عليه وقت الصلاة وهو ينظر إلى التلفزيون، ولا يؤدي صلاته، فيُضل غيره عن سبيل الله سبحانه وتعالى.
وإذا كان هذا الإنسان هو في هذا الضلال، فكيف بمن يُتفرج عليه من ممثلة وممثل، ومغنية ومغنٍ، وعازفة وعازف وغيرهم؟! وكيف تكون حياة هؤلاء؟ بل كيف يكون أكلهم وشربهم في معاصي الله سبحانه وتعالى؟ فطعامهم وشرابهم، وأرزاقهم التي يأخذونها من أجور على باطل يأتونه كلها حرام وإثم، فهؤلاء يَضلون ويُضلون، ويوجهون الناس إلى طريق النار والعياذ بالله، ويحسب أن عمله هذا فن، فيغني الشيء الذي يُعجب به الناس في شهواتهم، ويغني لهم عن الحب والضياع، ويغني لهم في لعن القضاء والقدر وسبه وسب الدهر، وغير ذلك، فيَضلون عن سبيل الله، ويُضلون عن سبيل الله، ولقد سمعنا التي تغني وتقول: قدر أحمق الخطى! وهذا القدر هو قدر الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224]، فبعض الشعراء يضل ويبتعد عن طريق الله، ويتكلم في أي شيء، حتى إنه ليذم قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، ولقد سمعنا من يقول: لا أسلم بالمكتوب، ولا أرضى أبيت مغلوباً، يعني: إنه لن يسلم بقدر الله سبحانه، ولن يرضى بقدر الله سبحانه، ثم يأتي المغني فيغني بذلك، فيسمع الناس ويطربون بذلك، وإذا بالناس في ضلال مبين، لا يفهمون كالبهائم، وإذا بهم يرددون هذا الشيء، فإذا أتى على أحدهم قضاء الله عز وجل، أو مصيبة من المصائب، فإذا به يقول: لن أسلم للأمر، والثاني يأتيه مرض من الأمراض ويقول: إنه سيقاوم هذا المرض وسيقضي عليه بالعزيمة والإرادة، وليس عارفاً أين قضاء الله عز وجل وقدره، فهو يريد أن يغلب ويهزم المرض، وقد كان أهل الجاهلية يريدون أن يغالبوا دين الله سبحانه وتعالى، فشن عليهم حسان رضي الله تعالى عنه وقال:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب
فالله سبحانه وتعالى أخبر عن هؤلاء أهل الضلال أنهم يَضلون ويُضلون عن سبيل الله، وكانوا يقولون: الموسيقى فيها خير وشر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن جمعيها، وانظر إلى الغنى كيف بدأ وإلى أي شيء صار؟! فما كان يقال فيما قبل: فلانة مغنية، وفلانة رقاصة، أو فلان مغن، وفلان رقاص، أما الآن فيقال: مغنية ورقاصة، وتراهم يجلسون مع بعض، ويصلون إلى الفجور والعهر، والبعد عن دين الله سبحانه وتعالى، تتعرى المرأة وتقول: لا يوجد عيب حتى أستره! فيضلون عن سبيل الله، ويُضلون عن سبيل الله، وهذا الذي أداهم إليه هو بعدهم عن دين الله، ومن يفتيهم بأن هذا حلال، أو بأن هذا جائز لا يوجد فيه شيء، أو أن الموسيقى فيها وفيها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جميعها لهو، وأنها كلها ممنوعة، إلا ما كان من ضرب بالدف في العرس أو في العيد فقط.
وإننا لنرى من الناس اليوم من يتلهى عن أمر الله سبحانه، ويسمع الموسيقى والأغاني حتى تنسيه الهموم والأحزان، ولا يعلم أنها تنسيه الله سبحانه، فترى هذا يسمع عند مذاكرته، وهذا عند عمله، وهذا يزعج غيره، وإذا بالناس يفقد عندهم الدين والرحمة والأخلاق الحسنة، وترى الإنسان يشغل الأغاني ويزعج الجيران ولا يهمه نوم أحد أو مرضه، وقد يقف أمام المسجد وهو على هذا الأمر فلا يستحيي من الله، ولا يستحيي من أحد من الخلق.
أما كلمة (هزواً)، فيقرؤها حفص فقط من غير همز، وباقي القراء يقرءونها بالهمز: هُزُءاً ويقرؤها حمزة (هُزْءاً) وإذا وقف عليها قرأها (هُزاً) أو (هُزْواً).
والغرض أن الله سبحانه وتعالى يخبر عمن طريقه اللهو واللعب والتفريط والتضييع أنه يتخذ سبيل الله هزواً ويستهزئ به؛ لأنه يريد من الناس أن يفرحوا به، فيمزح ويضحك كثيراً، ويستهزئ حتى يضحك الناس، ويسخر من أهل الله سبحانه ليضحك الناس عليهم، فيتخذ سبيل الله هزواً، قال الله تعالى: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6]، أي: هم في هوان دائم، فيهينهم الله سبحانه وتعالى كما صنعوا بأوليائه ودينه، ويخزيهم في الدنيا والآخرة، ذل المعصية على وجوههم مهما قالوا: إن لهم المرتبة العالية، أو المرتبة الراقية، فهم يستشعرون الذل في أنفسهم.
ولقد اجتمع ذات مرة شخص من هؤلاء مع نقابة الموسيقى، فقال لهم النقيب: نحن فوق الناس، فقال له هذا الرجل: كيف تطرحنا فوق الناس ونحن أقذر خلق الله؟! فهم في أنفسهم يعرفون ما هم فيه من بعد عن الله سبحانه وتعالى، وإن قالوا: نحن أرق الناس حساً، يقول الله تعالى عنهم: لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6]، وهم في أنفسهم يستشعرون هذا الهوان لبعدهم عن ذكر الله، وعن طاعة الله سبحانه وتعالى، ويوم القيامة لهم عذاب مهين بما استهزءوا بدين الله سبحانه وسخروا منه.
فالآية وإن كانت نزلت في هذا السبب لكن العبرة بالعموم، فكل من يتلهى عن دين الله سبحانه، ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، وبهدف اللهو واللعب والبعد عن دين الله سبحانه، فهذا له عذاب مهين عند الله سبحانه وتعالى.
فليحذر المؤمن أن يضل الخلق عن ربهم سبحانه وتعالى.
وانظر إلى واقعنا اليوم، حيث تجد هؤلاء يستقطبون الشباب على المقاهي لشرب الشاي أولاً، ثم يأتي لهم بالشيشة وما شابهها، ثم ينقلهم إلى التلفاز وإظهار الصور العارية، وكل هذا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وأنت ترى المقاهي ملأت الدنيا أكثر من عدد المصانع أو غيرها من الأشياء التي تنفع الناس، فإذا بالإنسان في ضلال دائم، سهر بالليل، ونوم بالنهار، وجيفة بالليل صخاب بالنهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا [لقمان:7] أي: لا يعتبر ولا يتعظ بما يسمع من كلام رب العالمين سبحانه. كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا [لقمان:7] أي: كأن في أذنيه صمماً فلا يسمع شيئاً من كلام الله سبحانه، يسمع الآية ولا يستحيي ولا يعتبر من كلام رب العالمين سبحانه، ولقد أمر ربنا بالتدبر فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82].
وقوله تعالى: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:7] أي: صار له العذاب المهين، وصار له العذاب الأليم ببعده عن الله سبحانه، وبشرائه اللهو، وضلاله عن سبيل الله سبحانه.
فهنا ربنا سبحانه وتعالى يخبر عن هؤلاء المؤمنين أن لهم جنات النعيم، فأنتم أيها المؤمنون لكم عند الله النعيم المقيم، والموسيقى التي تحرم نفسك منها في الدنيا ستسمع أفضل منها في الجنة من أصوات الملائكة وأصوات الحور العين، وأشياء لم تسمع قبل ذلك مثلها أبداً، وما عليك إلا أن تصبر حتى تتعدى هذه الدنيا، والدنيا حقيرة قليلة يسيرة، تجد الإنسان يعيش فيها ستين أو سبعين سنة، ويمر عليه يوم وفاته شريط الذكريات وشريط العمر كأنه يوم أو بعض يوم، وتقعد مع إنسان وهو في آخر حياته، فيحكي لك: كنا نقعد كذا ونعمل كذا، فيفكر بالماضي وكأنه شريط يمر في رأسه، فاحذر من هذه الدنيا، وخذ من شبابك لهرمك، ومن صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، وحاسب نفسك في هذه الدنيا؛ لأن أمامك الجنة، فأنت مثل إنسان يسير في صحراء وأمامه آبار من المياه فيها كدورة، فصبر نفسه وواساها وأملها بنبع صافٍ يقدم عليه، ومنع نفسه عن الشرب من تلك المياه خوفاً من أن تسممه أو تؤذيه، فلا زال يصبر نفسه شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى بر الأمان، وإلى مكان النبع الصافي.
كذلك الإنسان المؤمن يصبر نفسه، كما قال الله عز وجل: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا [آل عمران:200]، وكما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال له: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]، وهنا قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ [لقمان:8]، أي: الجنة التي يتنعمون فيها بنعم الله سبحانه، وبفضله عليهم.
قال تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا [لقمان:9] وهنا يوجهك الله إلى مقارنة بين الدنيا والآخرة، وأنه مهما كان في الدنيا من لهو ولعب فإنه لن يدوم، فمصائب الدنيا وابتلاءاتها كثيرة، أما يوم القيامة في جنة الخلد فلا بلاء ولا خوف ولا حزن ولا تعب ولا نصب ولا مرض، ولا شيء مما يكدر على الإنسان أيامه ولياليه.
يقول الله سبحانه: خَالِدِينَ فِيهَا [لقمان:9] أي: لن يخرجوا من الجنة أبداً، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا [لقمان:9]، أي: هذا وعد، وليس هو وعد المخلوق، بل وعد الخالق سبحانه وتعالى، القادر على الوفاء.
يقول سبحانه: وَهُوَ الْعَزِيزُ [لقمان:9]، أي: الغالب المنيع الجانب سبحانه تبارك وتعالى، الْحَكِيمُ [لقمان:9] أي: الذي له الحكمة في أن حرم هذه الأشياء وإن اشتهتها نفوس الناس، فالشخص يشتهي أن يسمع الموسيقى، أو يسمع الغناء، فيأتي حكم الله بأن هذا ممنوع في الدنيا وهو لك في الجنة، والشخص في الدنيا يريد أن يلبس الحرير، أو يلبس الذهب، فيقال له: ممنوع عليك في الدنيا، وفي الجنة ستلبسها، ويحذره بقوله: لو لبستها في الدنيا لضاعت عليك في الجنة، ولو استمعت لهذا الشيء في الدنيا لم تستمع له في الجنة، فيقارن الإنسان المؤمن بين هذه الدنيا الفانية وبين الجنة التي فيها النعيم المقيم، فيختار الباقية على الفانية.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، والبعد عن محارمه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر