قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ * وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ * حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:92-96].
ذكر الله سبحانه وتعالى لنا ذكراً عن بعض أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام في الآيات السابقة، فذكر أسماء سبعة عشر من الأنبياء وأولادهم، ومنهم السيدة مريم عليها السلام، ومنهم ذو الكفل على أنه كان نبياً أو كان عبداً صالحاً.
بعد أن ذكر هؤلاء الأنبياء قال: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92] إشارة إلى الأنبياء ومن تبعهم من الأقوام على دين الله سبحانه وتعالى، فالجميع أمة واحدة، ومجتمعون على شيء واحد، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى.
فدين الله هو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده، والذي قال فيه سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
فالله سبحانه سمانا المسلمين، قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] يعني: إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام أسلم نفسه وبدنه ووجهه لله، فوصفنا الله بوصف إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وصار اسماً اختاره الله عز وجل لهذه الأمة أمة الإسلام، وإن كان دينه سبحانه هو دين الإسلام قبل ذلك، كما كان نوح إذ قال لربه: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90].
قال ابن عباس : الأمة بمعنى: الدين، وقال: هو دين الإسلام، فقوله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92] يعني: هذا دينكم الذي جاءكم هو دين هؤلاء الأنبياء من قبلكم، وهو دين الإسلام، فذكر الله عز وجل الأنبياء من لدن نوح إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة وقال: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92]، أي: هذا دينكم، وحاله أنه دين واحد من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
قال تعالى: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، الرب واحد والدين واحد، فكيف يتوجه العباد لغير رب العالمين سبحانه بالعبادة.
وقوله تعالى: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] الجميع يقفون عليها بالسكون، ما عدا يعقوب يقف عليها بالياء: (وأنا ربكم فاعبدوني) وإذا وصلها أيضاً يصلها بالياء يقول: (فاعبدوني * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ [الأنبياء:93].
وأخبر عن هؤلاء أنهم وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ [الأنبياء:93]، أي تقطعوا هذا الدين فمنهم من عبد الله سبحانه وتعالى وهم أهل الإسلام الذين تابعوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومنهم من فرق الدين، فذهب لعبادة الأصنام أو عبد الملائكة أو ادعى على الله سبحانه وتعالى أن له الصاحبة وأن له الولد، وعبد من دون الله عز وجل ما لم ينزل به سلطاناً.
فقوله تعالى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ [المؤمنون:53] أي: قطعوا وفرقوا دينهم فصاروا شيعاً، ومنهم من فرق الدين، فذهب لعبادة الأصنام أو عبد الملائكة، أو ادعى على الله سبحانه وتعالى كذباً أن له الصاحبة وأن له الولد، وعبد من دون الله عز وجل ما لم ينزل به سلطاناً.
قال تعالى: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء:93] هؤلاء الذين زعموا أنهم يعبدون غير الله سبحانه لن يرجعوا إلى هذا الغير، وإنما يرجعون إلى الله سبحانه.
فكل هؤلاء أفراداً وجماعات يرجعون إلى الله ليجازيهم ويحاسبهم، فهم فريقان إما أهل الأعمال الصالحة والتوحيد، وإما أهل الشرك والكفر.
هذا قيد، فقد يفعل الرجل من الكفار عملاً صالحاً، ولكن لا يقبل منه؛ لأنه ليس مؤمناً، فشرط قبول العمل أن يكون العامل مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ [الأنبياء:94] للتبعيض لم يقل: من يعمل الصالحات؛ لأنه قليلٌ من يعمل كل الصالحات، بل لعله من التكليف بما لا يطاق، أن كل إنسان يعمل كل الأعمال الصالحة، ولكن الله عز وجل تكرم على العباد فجعل الإنسان يعمل من الصالحات، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
فقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الأنبياء:94] أي: عمل أعمالاً صالحة وكان مؤمناً فهذا لا كفران لسعيه.
قال تعالى: فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء:94]
الكفران بمعنى: الستر، وبمعنى: التضييع، وبمعنى: الجحد، ومنه الكافر، سمي كافراً لكونه جحد فقال: لا يوجد إله، فكأنه غطى على هذه المعلومة ولم يخرجها ولم يقل بها.
والكافر أيضاً: الزارع، وهو الفلاح الذي يضع البذرة في الأرض ويغطي عليها التراب، فهذا كفرها أي: غطاها بالتراب لكي تظهر بعد ذلك.
فهذا يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، فهؤلاء زراع وهؤلاء زراع، ولكن عبر في الثاني بالكفار؛ لأن المقصود: أنه زارع، ولكنه من هؤلاء الكفرة، فيعجب الزراع المؤمنين الذين زرع الله عز وجل في قلوبهم الإيمان فنبت أعمالاً صالحة، فتغيظ منهم الكفرة الذين كفروا ربهم، فستروا أمر الله عز وجل، وكأنهم قالوا: لا إله، وعبدوا مع الله عز وجل آلهة أخرى، وجحدوا نعم الله عز وجل، فوجهوا العبادة لغير الله سبحانه، فهؤلاء الكفار مصيرهم النار، والمؤمنون لا كفران لسعيهم، يعني: لن نضيعه، ولن نستره، ولن نغطيه، ولكن نظهره يوم القيامة في كتاب، وسنجزيهم عليه أعظم الثواب.
وقوله تعالى: لِسَعْيِهِ [الأنبياء:94] أي: ما سعاه، وما تعب فيه، واجتهد وعمل الصالحات.
قال تعالى: وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء:94] يطمئن الخلق أن لا شيء يضيع عندنا، فالله عز وجل لا ينسى شيئاً ولكن يطمئنك، ستجد صحيفتك يوم القيامة، وكل أعمالك موجودة في هذه الصحيفة، فيوم القيامة لا يضيع شيء مما عملته.
ويفهم من هذه الآية أن الذين يعملون السيئات سيكون عقابهم شديداً، وعذابهم أليماً، وتظهر أعمالهم التي عملوها، ولا شيء يضيعه الله سبحانه وتعالى، بل كل شيء يُكتب في كتاب.
أي: يحرم عليهم أن يرجعوا، فإذا أهلكناهم لن نرجعهم مرة أخرى إلى الدنيا.
قرئت: (حرام) وهذه قراءة الجمهور، وقرئت: (وحرم على قرية) وهي بنفس المعنى، مثل: حلال وحل، حرام وحرم.
فالجمهور يقرءونها: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ [الأنبياء:95]، وأما شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف يقرءون: (وحرم على قرية) أي: هذا محرم عليهم، إذا جاءهم العذاب فأهلكناهم فلا رجوع إلى هذه الدنيا.
إذاً: على هذا المعنى فإن قوله تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95] كأن (لا) بمعنى: (ما) الموصولة، وكأنه حرام رجوعهم، فيكون حراماً رجوع هؤلاء الناس إلى هذه الدنيا مرة ثانية.
وهم يتمنون الرجوع عند الله سبحانه وتعالى ويقولون: رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] لكن الله يقول: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95] فحرام بمعنى: وجب ولزم عدم رجوعهم إلى الدنيا.
وهناك معنى آخر اختاره ابن عباس رضي الله عنه وهو: لا يرجعون بالتوبة، يعني: حظرنا عليهم التوبة، فالله عز وجل لا يقبل التوبة في موضعين: إذا جاء العذاب من عند الله سبحانه وعاينه الكفار فلا يقبل توبتهم.
والحالة الثانية: عند الغرغرة وخروج نفس الإنسان، وكأن المعنى على هذا: أنه حرمنا ومنعنا قبول التوبة من هؤلاء في هذا الحين، حين يرون العذاب.
قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا [يونس:98] لم يحصل ذلك. إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا [يونس:98] أحسوا بأنه سيأتي العذاب بمغادرة الرسول المكان فتابوا إلى الله عز وجل قبل أن يعاينوا العذاب.
قال الله تعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس:98] هذه القرية الوحيدة التي حذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام العذاب، ثم ترك القرية وركب البحر وخرج عنهم، فإذا بهم يستيقنون أن العذاب سيأتي مادام أن النبي عليه الصلاة والسلام تركهم، فتابوا إلى الله فقبل الله عز وجل منهم.
فهذه هي القرية الوحيدة التي قبل منهم، فإذا جاء العذاب من عند الله على قرية منع عنهم قبول التوبة، فالتوبة لا تقبل إلا من الإنسان الذي يعرف أن هذا غيب، فهو لا يرى الجنة ولا يرى النار ولا يرى الله سبحانه وتعالى، ولكنه مستيقن بذلك في قلبه، فتاب خائفاً من الله، راجياً رحمته، مرعوباً ومرهوباً من ناره، هذا هو الذي تقبل منه التوبة.
فقوله تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95] أي: أنهم لا يتوبون، فقد منعنا عنهم التوبة في ذلك، أو منعنا القبول للتوبة حين يعاينون العذاب.
قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء:96] قبيلتان من أعظم القبائل التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وهم قبيلتان من بني آدم، وقدمنا ذكرهم في سورة الكهف.
وجاء في حديث طويل في صحيح مسلم ذكر هؤلاء الناس، وذكرت قصتهم في سورة الكهف.
قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القرنين [الكهف:83] وذو القرنين عبد من عباد الله الصالحين مكن له ربه في الأرض، قال تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:84] يعني: يصل إلى أي مكان في الأرض يريد الله أن يصل إليه فيسبب له الأسباب، فقد وصل إلى مشرق الشمس وإلى مغرب الشمس بتيسير من الله سبحانه.
واتبع ذو القرنين الأسباب حتى وصل إلى قوم لم يجعل الله لهم من دون الشمس سبباً أو ستراً، والله على كل شيء قدير، يجعل لأناس عقولاً يفكرون فيكون بينهم وبين الشمس ستر، ويجعل لغيرهم من الناس قلة حيلة، فلا يعرفون أن يستتروا من الشمس بشيء، فهؤلاء لا بيوت لهم يستترون بها من الشمس.
قال تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:89] فـذو القرنين وصل إلى مطلع الشمس ووصل إلى مغرب الشمس، ثم أتى إلى قوم لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93]والقراءة الأخرى: (لا يكادون يُفقِهون قولا) يعني: لا يعرفون أن يتكلموا بكلام يفهم منهم، وهم أنفسهم لا يفهمون ما يقال، يعني: لسانه غير لسانهم، فلا يفهم منهم ما يقولون، فهم يتكلمون بلغة غريبة عليه فلا يكادون يُفقِهونه أو يفهمونه ما يريدون أن يقولوه، والغرض: أنهم أفهموه أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، قال الله تعالى: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94] أي: ندفع لك ضريبة وتضع بيننا وبينهم سداً.
قال تعالى: قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف:95]أي: لن أنتظر ضرائبكم، فالله قد أعطاني خيراً عظيماً، لكن أعينوني بما عندكم من آلات، قال تعالى: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [الكهف:96]
أي: رفع الحديد بين الجبلين وجعل حديداً وفوقه نحاساً، فجعل سداً عظيماً بينه وبين هؤلاء وأفرغ عليه من القطر، أي: النحاس، حتى لا يخرج هؤلاء القوم، فحبسهم الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف:97] أي: لم يستطيعوا أن يقفزوا من فوقه، قال تعالى: وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف:97] أي: لم يستطيعوا أن يخرقوا فيه خرقاً يخرجوا منه؛ لأن هذا أمر الله سبحانه وتعالى.
فلما حبسهم قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98] فهذا أمرٌ مؤقت إلى أن تأتي علامات الساعة، فمن علامات الساعة أن يخرجوا من هذا المكان.
قال تعالى: وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98] أي: لا بد أن يقع ذلك.
هنا قال تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]
فقوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ [الأنبياء:96] قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر وأبي جعفر ويعقوب : (حتى إذا فُتِّحت).
وقوله تعالى: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء:96] هذه قراءة عاصم فقط، وباقي القراء يقرءون: (ياجوج وماجوج).
وسبحان الله لا أحد يعرف أين هم الآن، فقد حجبهم الله من أيام ذي القرنين ، لكنهم موجودون يقيناً، فالله عز وجل هو الذي أخبر بذلك، والله لا يخبرنا بشيء لا يكون أبداً سبحانه وتعالى، فهم موجودون، ولكنّ الإنسان جاهل، ومع ذلك يدعي أنه عرف كل شيء في الكون، وهو بجهله يعلم في نفسه أنه لم يعرف كل شيء، ولكن يتعالم ويتعالى.
فهم يتكلمون مثلاً عن مثلث برمودا، فأمريكا لم تعرف ما هو سر هذا المثلث، فلا طائرة تصل إليه إلا اختفت، فقد أرسلوا سرباً من الطائرات للبحث عن طائرة ضاعت هناك، فلم تعد الطائرة ولم يعد السرب، فأرسلوا سفناً إلى تلك الأماكن فلم تعد تلك السفن، ويكتمون ذلك ويقولون: مكان مجهول من الأرض لا نعرف ما فيه، فهنا يعجزهم الله عز وجل فلا يعرفون ما هناك، ولا يعرفون أين اختفت الطائرات من سنة سبع وأربعين حتى الآن.
فإذا أخبرنا الله عز وجل أن هناك مكاناً في الأرض فيه سد موجود ووراءه هؤلاء القوم وأنهم كثرة كاثرة، فلا يقول الإنسان: أين هم؟ قد طفنا الأرض كلها، فأنت لم تعرف كل شيء في الأرض، فإن في الأرض أماكن لا يعرف الإنسان ما هو الشيء الموجود فيها، فالله سبحانه أخبرنا أنه سترهم خلال هذه الفترة، وأخبر عنهم أنهم سيخرجون ومن كل حدب ينسلون.
والنسل يعني: الإيجاد السريع، أي: يخرج بسرعة، فكأن هؤلاء في وقت خروجهم يفتح الله السد الذي حبسهم به فيخرجون إلى الناس، وهو السد الذي بناه عليهم ذو القرنين ، فهم في كل يوم يحاولون خرق هذا السد ولكنهم لا يستطيعون، ولكن في كل يوم يفتحون منه شيئاً، فيقول كبيرهم في آخر هذا اليوم: غداً نفتحه فنخرج على الناس ولا يستثني بقول: إن شاء الله، فيعود السد كما كان وتغلق تلك الفتحة فيقومون في الصباح فيجدون السد قد أغلق، وهكذا حتى يأتي وعد الله، فيقول كبيرهم: غداً إن شاء الله نفتحه، فتبقى الفتحة كما هي، فإذا جاء الصباح أكلموا فتحه وخرجوا على الخلق، فيأكلون ما في الأرض من نبات، ويشربون ما في الأرض من مياه، ويهلكون أهل الأرض.
قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وعقد
إذاً: فأهل الصلاح تغافلوا عن أهل المعاصي وكثر أهل المعاصي، ولم يقدر لهم أحد على شيء، فيأتي عذاب الله سبحانه وتعالى والفتنة، قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] فالبلاء يأتي على الجميع، وهؤلاء يخرجون على الجميع.
ثم ذكر لهم صفاته وكيف يعتصمون منه، قال: (إنه شاب قطط عينه طافية كأني أشبهه بـ
فقوله: (شاب قطط) يعني: شعره جعد وقوله: (عينه طافئة) وفي رواية: (طافية)، كأنه أعور.
قال: (فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف) ولذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ الآيات العشر الأول من سورة الكهف، وعشر آيات أخيرة من سورة الكهف.
قال: (إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله! فاثبتوا. قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم)، يعني: سيعيش في الأرض أربعين يوماً، ولكن من هذه الأربعين يوم كسنة حقيقية، ولذلك سألوا النبي صلى الله عليه وسلم (قالوا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا، اقدروا له قدره) معناه: أن الشمس تطلع وتغرب فيكون هذا اليوم ثلاثمائة وستين يوماً تمر على العباد أو أقل من ذلك فقال: (اقدروا له)، أي: تحدد وقتك بالزمن ما بين الفجر والظهر وما بين الظهر والعصر، وما بين العصر والمغرب، يعني: تحسب أوقات الصلاة بالساعات.
قال: (قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح) يعني: كالريح تأتي شديدة، وقليل يأتي منها الغيث، فهذا كالغيث الذي استدبرته الريح.
أي: يأتي على قوم من الناس يفتنهم فيقول: أنا ربكم، فيؤمنون به، فعندما يؤمنون به، يأمر السماء أن أمطري، فينزل المطر عليهم، ويأمر الأرض أن أخرجي الحب وتنبت لهم، وتصير الإبل والبقر والغنم أعظم ما تكون في السمن، ويذهب الدجال إلى أناس آخرين فيكفرون به، قال: (ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم) .
وهذه فتنة عظيمة لهؤلاء المؤمنين الصالحين، فإذا بأرضهم بعد أن كانت تنبت تكون يابسة، ولا مطر ينزل عليهم.
قال: (ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل) أي: مثل ذكور النحل، فتتبعه الذهب والفضة وكنوز الأرض.
قال: (ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل) وهذا أفضل أهل الأرض إيماناً في ذلك الحين ومن أعظم الشهداء، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدعوه ثم يطلب منه أن يؤمن به فيرفض أن يؤمن به، فيضربه بالسيف فيقطعه نصفين ويمشي بين شقيه لكي يخيف الناس.
قال: (ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك، فيسأله: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة بأنك المسيح الكذاب الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم)، فيريد أن يقتله مرة ثانية فلا يسلط عليه، يعني: هو لن يقتل إلا رجلاً واحداً يقتله مرة ويحييه مرة، ولا يسلط عليه بعد ذلك؛ لأن الله يخزيه أمامهم.
قال: (فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق بين مهرودتين) يعني: يلبس ثوبين، قال: (واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ) يعني: كأنه خارج من حمام، ما زال يتصبب عرقه مثل الجوهر واللؤلؤ، وهيئة الإنسان النظيف الخارج من الحمام يتساقط منه ماؤه، فهذا المسيح صلوات الله وسلامه عليه يخرج على الناس على هذه الصورة.
قال: (فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه) ، فالله يفعل ما يشاء، فالإنسان يشم رائحة نفس المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويموت، ونفسه يصل إلى منتهى طرفه، فهذا شيء عجيب من أمر الله، أنه يهلك الكفار الموجودين بأنفاس المسيح صلوات الله وسلامه عليه، ونفسه يصل إلى حيث ينتهي طرفه.
قال: (حتى يدركه بباب لد) أي: في مكان اسمه لد قال: (فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم) يعني: الناس الذين عصمهم الله من الدجال ، يأتون المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فيربت عليهم ويمسح على وجوههم ويحدثهم صلوات الله وسلامه عليه بدرجاتهم في الجنة.
إذاً: المسيح الدجال يخرج أولاً، ثم يقتله المسيح صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك يخرج يأجوج ومأجوج.
قال تعالى: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96] يعني: يخرجون سراعاً من كل جبل ومن كل مكان، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية في فلسطين فيشربون ما فيها.
قال صلى الله عليه وسلم: (ويمر آخرهم فيقول: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار).
إذاً: المسيح لن يسلط على يأجوج ومأجوج، فإذا بهم يختبئون ويحصرون في مكان إلى أن يكون رأس الثور الذي يشتريه الناس بدراهم قليلة يساوي مائة دينار، أي: يساوي نصف كيلو من الذهب، من قلة الطعام ومن قلة الزاد، قال: (فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيدعون ربهم سبحانه وتعالى فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم) فبعدما يفسدون في الأرض ويظنون أنهم قد أهلكوا من على الأرض، ولا يوجد على الأرض إلا المؤمنون الذين اختبئوا مع المسيح عليه الصلاة والسلام، فإذا بيأجوج ومأجوج يقولون: نهلك من في السماء، فيوجهون نشابهم إلى السماء فيفتنهم الله، وينزل إليهم رماحهم مخضبة دماً. فيقولون: إذاً أهلكنا من في السماء.
فبينما هم على ذلك يدعو المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ربه، فإذا بالله عز وجل يهلك هؤلاء بأحقر ما يكون، فيرسل عليهم سبحانه وتعالى النغف، وهي دود تكون في أنوف الإبل والأغنام، يرسلها على هؤلاء في أقفائهم فتأكلهم هذه الدود.
وانظروا إلى الإنسان المتكبر كيف يحقره الله سبحانه وتعالى ويسلط عليه أضعف خلقه، فهذه الديدان الصغيرة التي تكون في أنوف الإبل لا تؤذيها، فتكون في هؤلاء فتؤذيهم وتهلكهم، قال: (فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم).
فإن أعداد هؤلاء القوم تملأ الدنيا، فلا يستطيع أحد أن يدفنهم، فقد ملئوا الأرض نتناً؛ بسبب أبدانهم الميتة، قال: (فيرغب نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت) فالله عز وجل يخلق ما يشاء، يرسل طيراً مثل أعناق البخت، والبخت: نوعٌ من أنواع الإبل.
قال: (فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله) تنزل الطيور من السماء تأخذهم وترميهم حيث شاء سبحانه.
أما آثارهم على الأرض قال: (ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة).
العصابة: المجموعة من الناس عشرة فما دونهم، كل عشرة يأكلون رمانة واحدة لبركتها. (ويستظلون بقحفها) أي: هذه الرمانة يستظل بها عشرة أفراد.
قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]
أي: لو أنهم آمنوا لفتحت عليهم بركات السماء، يعني: المطر، وبركات الأرض، يعني: الثمار.
قال: (ويبارك في الرسل -يعني : اللبن- حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس) يعني: الجماعة من الناس، واللقحة: اللبون، قال: (واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس) والفخذ من الناس: الذين هم جماعة أقل من القبيلة، يعني: غنمة واحدة تكفي مجموعة كبيرة، والبقرة تكفي قبيلة كاملة، والواحدة من الإبل تكفي عدداً ضخماً من الناس بحليبها.
قال صلى الله عليه وسلم: (فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة) .
فالله كريم ورحيم سبحانه وتعالى، يريد أن يقبض هؤلاء العباد الذين صبروا بريح طيبة يشمونها، فيموتون، قال: (فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم) ، ريح طيبة من عند الله سبحانه وتعالى تأخذهم تحت آباطهم، أو ريح طيبة بمعنى: نسيم عليل طيب تأتي كل إنسان تحت إبطه فيموت.
أما الكفار ما زالوا أحياء، فهم الذين سيبقون عليها، قال: (ويبقى شرار الخلق، يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة).
وفي الحديث الآخر: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق) هم هؤلاء الذين لا يقال فيهم: الله الله، ولا يعرفون الله، فإذا ذكر أحد الله يقولون: قد كان يقال ذلك، فهؤلاء يتهارجون، ويهرج بمعنى: يجامع، فالرجل يأتي المرأة ويزني بها في الشارع أمام الناس، ويفعلون ذلك مثل الحمير، هؤلاء شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر