اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة سبأ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:12-14].
لما ذكر الله سبحانه وتعالى شيئاً من قصة داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف من عليه سبحانه وأعطاه ملكاً، وسخر معه الجبال يسبحن معه والطير، أمر داود أن يشكره عليها فقال: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] فالذين يشكرون الله عز وجل من خلقه هم القليلون، والذين يكفرون نعم الله عز وجل كثيرون، فقال: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] فهذا داود ذكر الله لنا شيئاً مما جاء من قصصه عليه الصلاة والسلام، وهذا سليمان ابنه ذكر لنا ربنا كيف أنعم على هذا وذاك، إذ أنعم عليهما الابن بالعلم والفهم والملك والنبوة.
فمن نعم الله عز وجل على سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما حكاه الله بقوله: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سبأ:12] وهذا من تسخير الله عز وجل الكائنات لسليمان عليه الصلاة والسلام، فالريح سخرها له، فقال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ [الأنبياء:81] أي: سخر لسليمان الريح، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر : ( ولسليمان الرياح ) أي: سخرنا الرياح له، وقراءة شعبة عن عاصم : (ولسليمان الريحُ) أي والريح لسليمان مسخرة، كأنها مبتدأ مؤخر؛ لأن الله سبحانه وتعالى يذكر أن هذه الرياح سخرها لسليمان، إذاً الريح لسليمان مسخرة بفضل الله وبقوته سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12] فهذا تسخير عجيب، حيث إن الريح تطيع أمر سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
والريح خلق من خلق الله سبحانه وتعالى يرسلها فيجعلها نسيماً بارداً على قوم، ويجعلها حارة شديدة على قوم، ويجعلها عاصفة على قوم، ويجعلها قاصفة على قوم، فالله يصرف في كونه ما يشاء سبحانه وتعالى.
فالله سخر لسليمان الريح، وسرعتها عظيمة جداً إذ إن غدوها شهر، والغدو: هو الخروج مع أول النهار، فكأن سليمان عليه الصلاة والسلام يسخر له ربه هذه الريح فتحمله مسيرة شهر في غدوة واحدة، فهو ينتقل من مكان إلى مكان، لو أنه ركب على فرسه لسار شهراً كاملاً حتى يصل إليه، ولكن الريح تحمله بأمر الله سبحانه هو ومن يريد أن يحمله معه في مقدار الضحى من النهار، ولو أن غيرها الذي سارها لسار مسيرة شهر، والرواح: هو العود بالعشي، والريح رواحها شهر!
إذاً كأنه يذهب إلى مكان ويرجع إليه في غدو ورواح يذهب ويقضي حاجة ويرجع فيما لو ركب على الفرس وجرى إلى هذا المكان ورجع منه في شهرين، فالريح تذهب وترجع به في غدو ورواح في ذلك الوقت القليل!
قال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12] ذكر بعض أهل العلم منهم الثعالبي أن الريح إذا ذكرت في القرآن فلا تأتي إلا في الخير، والرياح لا تأتي إلا في الشر، وهذا فيه نظر؛ لأن ما من كلمة ريح جاءت إلا وفيها قراءة أخرى الرياح، فعلى هذا يكون الكلام غير مطرد إلا إن كان يقصد في اللغة، يعني: عند أهل اللغة ذلك، أما في القرآن فهو غير مطرد، فكأنه بنا على قراءة واحدة التفرقة بين الريح والرياح.
فالجنة هم الشياطين، يسخرهم الله عز وجل له فيخافون منه، ويهابونه، وأذلهم الله عز وجل له ولسلطانه بأمره سبحانه وتعالى، فيعملون مسخرين لسليمان عليه الصلاة والسلام.
وذكر الله تعالى تسخير الرياح لسليمان في سورة الأنبياء فقال: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء:81] فجعل الرياح تجري بأمر سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء:81] أي: أن الله عز وجل أعلم بمن يستحق ذلك فأعطاه.
وسليمان كان قد دعا ربه سبحانه فقال: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] وكان من صغره قد فطنه الله عز وجل وأعطاه الحكمة العظيمة، حتى إنه ليقضي بقضاء من يفهم بتفهيم الله عز وجل له، ويحتاج إليه أبوه فيأخذ بقول ابنه وهو صبي صغير، وقالوا: إنه تولى الخلافة بعد أبيه وله سبع عشرة سنة، وقيل: بل وله ثلاث عشرة سنة، مما يدل على أنه كان صغيراً، فقد كان خليفة بعد أبيه من بعد وفاته بأمر من الله سبحانه وتعالى، وبما أعطاه الله سبحانه وتعالى من حكمة، وقدرته على الفصل في الخصومات؛ فلذلك أحب الناس أن يكون هو الذي عليهم، فكان بأمر الله سبحانه وتعالى هو الخليفة والملك بعد أبيه داود.
ولقد من الله على داود بالملك وكان قبل ذلك راعي غنم، وما من نبي إلا ورعى الغنم، ثم صار بعد ذلك في هذا الملك العظيم، أما ابنه سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى خيلاً عظيمة فنظر إليها يوماً من الأيام وهي تجري أمامه فأعجبه منظرها، فجاء عليه وقت صلاة فنسي الصلاة من جمال الخيل، فلما تذكر الصلاة قال: رُدُّوهَا عَلَيَّ [ص:33] وعلم أن الخيل التي نظر إليها فأعجبته ضيعت عليه الصلاة، فقال: رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:33].
قيل: طفق مسحاً أي: قتلاً، وكان ذلك جائزاً له ففعل ذلك، وقيل: بل كان يمسح عليها فالله أعلم بذلك، ولكنه رجع إلى ربه سبحانه وتعالى تائباً إليه، ودعا ربه سبحانه وتعالى أن يغفر له ذلك.
وأراد أن يكون له مائة من الولد، قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة فيكون لي من كل واحدة ولداً فيكون لي مائة من الولد يجاهدون معي في سبيل الله، وهذه نية عظيمة وجميلة وطلب حسن، وإذا بالملك بجواره يقول: قل: إن شاء الله، فلم يقل، وكأنه نظر إلى أن النية الصالحة تغني عن ذلك، أو أنه غفل عن ذلك، فلم يقل: إن شاء الله، فما ولدت منهن إلا امرأة واحدة فقط من المائة، ووضعت شق غلام أي: نصف غلام غير مكتمل في بطن أمه لا يصلح لشيء، ولهذا قال سبحانه: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34] أي: رجع إلى ربه فتذكر أنه لم يقل: إن شاء الله، فأناب إلى ربه ودعا ربه تائباً إليه وقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] فسأل ربه فأعطاه الله سبحانه وتعالى ملكاً لا يكون لأحد بعد سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
والله عز وجل سخر لسليمان الجن يعملون بين يديه بإذن ربه سبحانه كما قال تعالى: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سبأ:12] إذ ليس هو المالك المتصرف، ولكن بإذن الله، فالله هو مالك الملك سبحانه وتعالى، ولذلك قال: وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا [سبأ:12] أي: لقد أمرنا الجن بطاعة سليمان ومن ينحرف عن طاعة الله سبحانه نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [سبأ:12] فجعل له العذاب يوم القيامة على ذلك.
كذلك في الدنيا يؤدبه ربه سبحانه بأن سخر لسليمان ما يؤدب الجن به، فسليمان يؤدب الإنس والجن بتسخير من الله سبحانه وتعالى، ومن ينحرف عما يقوله سليمان ولا يطيع بل يعصي فجزاؤه: نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [سبأ:12] أي: من عذاب النار المستعرة.
قال تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13] المحراب: هو المكان الشريف والمقدم في أي مكان، ويطلق المحراب على المسجد، وعلى مقدم المسجد، وعلى الغرفة العالية، وعلى البناء العالي جداً، وعلى القصر العالي، كل هذا يطلق عليه المحراب، فكأن الله عز وجل سخرهم يبنون له ما يشاء من مساجد، وقصور، وأبنية عالية، وعلامات في الطريق، فيصنعون ذلك.
قال تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ أي: يعملون له تماثيل، وهذا كان جائزاً في شريعته ولا يحل لنا في ديننا، فقد حرمه الله عز وجل علينا، ومن صور صورة من هذه الأمة يأمره الله عز وجل يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، ويعذبهم في نار جهنم سبحانه وتعالى حتى يفعل ذلك وما هو بفاعل، فجعل لسليمان عليه الصلاة والسلام الجن يصنعون له ذلك لحكمة منها أن تكون كعلامات للمكان، كأن يصور صور أناس ويريد بها شيئاً فالله أعلم بها، ولكن كان ذلك جائزاً في شريعة سليمان عليه الصلاة والسلام وليس جائزاً في شريعتنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين، وذكر أن من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، يعني لا يقدر على ذلك.
قال سبحانه: وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ [سبأ:13].
الجواب والجوابي: جمع جابية، وفي قراءة يعقوب : (وجفان كالجوابي)، ومثلها قراءة ورش عند الوصل وكذلك أبي عمرو : (كالجوابي وقدور راسيات) في الوصل فقط، فإذا وقف عليها يقول: (كالجواب).
والجوابي جمع جابية، ومنها الجوبة: وهو المكان أو الشيء المقعر، فهي الحياض العظيمة التي تجتمع فيها الماء، فالجن يصنعون له الجفان: وهي جمع جفنة، والجفنة القدر الضخم جداً، يقول تعالى: وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ يعني: جفنة عظيمة جداً مثل الحوض الذي تأتي الإبل لكي تشرب منه، فيصنعونها في الأرض على الصخر حتى يصير كهيئة الوعاء الضخم، والجفنة: هي التي يوضع فيها الطعام، فكأنهم يصنعون له كهيئة الحوض العظيم الضخم، وليس حوضاً واحداً، بل حياضاً كثيرة لأجل أن يأكل منها جند سليمان وضيوفه.
وكل جفنة تسع عدداً كبيراً من الرجال، ومما ذكره المفسرون في ذلك أنها تسع ألف رجل يجلسون عليها، وهذا شيء عظيم وواسع جداً مما يصنعون فالله أعلم، ولكن الله عز وجل ذكر ضخامتها بهذه الصورة، فقال: وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ يعني: كالحوض والحياض العظيمة الواسعة، تصنعها الجن لسليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ القدر: هو الحلة والإناء الذي يطبخ فيه، والقدر الذي عندنا نحمله فنذهب ونأتي به، لكن القدور التي يصنعها الجن قدور عظيمة جداً راسية على الأرض لا تتحرك من ثقلها، ومن عظيم هيئتها، فكونهم يصنعون له الحياض العظيمة أو الجفان التي كالجوابي، والقدور التي يطبخ فيها لأجل أن يوضع في هذه الحياض الأكل ليأكل الناس، يدل على وجود عدد كبير جداً من الناس يطعمون عند سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهذا مما أعطاه الله عز وجل وجل من الملك، وهذا من الشيء الذي يمدح عليه الإنسان، ويوصف بأنه كريم، إذ إن جفنته عظيمة وملآنة وضخمة جداً، وكان العرب فيهم ذلك، فلقد كان عبد الله بن جدعان له قدر عظيم يصعد إليه بسلم، وهذا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يملؤها للحجيج، فيضع فيها لحماً كثيراً جداً، ومن أراد اللحم صعد على القدر بسلم لكي يأخذ منه.
إذاً الجفنة العظيمة دليل على كرم صاحبها، وكون سليمان عليه الصلاة والسلام يصنع هذه الجفان العظيمة أو يأمر بصنعها لإطعام الخلق من محتاجين وضيوف وغيرهم دليل على الكرم العظيم الذي كان عليه سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
إذاً الشكر يكون عملاً وليس بالقول فقط، وكذا كل مؤمن مأمور بأن يشكر الله سبحانه وتعالى بلسانه وقلبه وعمله.
وشكراً في قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا يحتمل أن تكون تمييزاً لهذا العمل، ويحتمل أن تكون مفعولاً لهذا الفعل، فكأن العمل الذي تعملونه هو الشكر لله سبحانه أو يكون شكراً لله سبحانه وتعالى، فالمؤمن يعمل لله عز وجل شاكراً نعم الله عز وجل عليه، فيعمل ويجتهد ويصلي ويصوم ويقوم لله سبحانه وتعالى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم قياماً طويلاً، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: حتى ترم قدماه صلوات الله وسلامه عليه، أي: تتورم قدماه، فتقول: (يا رسول الله! ألم يغفر الله عز وجل لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً) عليه الصلاة والسلام.
فالعبد الشكور هو الذي يعرف نعمة الله فيشكر بلسانه وبقلبه وبعمله.
قال تعالى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13] فكان داود يعمل العمل العظيم من التسبيح الذي كان تتجاوب معه الجبال والطير، ويقوم في ثلث الليل مصلياً لله سبحانه وتعالى، ويحكم بين الناس بالحق، ويطيع الله سبحانه في أمره وحكمه بين الناس، وكان ذا استغفار وتسبيح كثير، كذلك سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما قال الله عز وجل: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13] قاموا بذلك ونفذوه، وهذا كله تهيئة وتوطئة ليبين لنا بعد ذلك أن الذين شكروا الله عز وجل على نعمه أعطاهم الفضل العظيم، وأن من لم يشكر الله سبحانه يستحق نقمة الله عليه جزاء وفاقاً.
قال سبحانه: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] أي: أن قليلاً من عباد الله عز وجل من يشكر، فيمكن لكل إنسان أن يقول: الحمد لله، ولكن هل هذه الكلمة تخرج من قلب هذا الإنسان وهو يقول: الحمد لله أم هو يستقل نعمة الله عز وجل عليه، ويستكثر نعمة الله على غيره، فيحسد الغير ويحقد عليه؟!
العبد الذي يشكر لله سبحانه يعرف أن مبدأ النعم منه سبحانه، وأنه يعطي ما يشاء لمن يشاء سبحانه، يعطي ليس لاستحقاق العبد ولكن فضلاً منه سبحانه، فيعطي بفضله من يشاء، فإذا أعطاك الله عز وجل شيئاً فاحمد ربك على ما أعطاك، واعلم أنك مهما بالغت من شكر فإن النفع لنفسك، كما قال ربنا: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [النمل:40]، فشكرك يرجع إليك بنعم من الله، كما قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] فإذا شكر العبد ربه سبحانه زاده الله من الخير، وزاده من النعم كما فعل بداود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فذكر أنه أنعم عليهما وأنه أمر آل داود -وهم: داود وأبناؤه وذريته- أن يعملوا لله عز وجل شاكرين له سبحانه.
وقوله: (مِنسَأَتَهُ) فيها قراءات: قراءة الجمهور: تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ [سبأ:14] وقراءة هشام بخلفه، وقراءة ابن ذكون : (تأكل منسأْته) بتسكين الهمزة، وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو : (تأكل منساته).
قوله تعالى: فَلَمَّا خَرَّ [سبأ:14] أي: وقع سليمان، وكأنه ما بين أن بدأت الأرضة في أكل العصا إلى أن أكلت جزءاً من العصا فتحرك وسقط سليمان أخذت وقتاً طويلاً، قالوا: عاماً كاملاً وهو على هذا الحال واقف يصلي، وكان قد سأل ربه سبحانه أن يعمي عليهم موته، لحكمة منه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقيل: إن الحكمة هي أن الجن كانوا يزعمون أنهم يعلمون الغيب، فيقولون للإنس ذلك، فأراد سليمان أن يظهر للإنس أن الجن لا تعلم شيئاً من الغيب، وقيل: إنه سخر الجن في إكمال ما بدأه داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من بناء بيت المقدس، وكان قد أوصى سليمان بأن يكمله، فسخر سليمان الجن لذلك، فكانوا يحملون الحجارة ويقومون بالبنيان، وخشي أن تعلم الجن بموته فلا تكمل ذلك.
والغرض أن سليمان عليه الصلاة والسلام مر عليه وقت طويل، وذكروا أنه سنة وهو على هذا الحال، فأجساد الأموات تبلى، ولكن أجساد الأنبياء لا يأكلها شيء، ولا تبلى، والله عز وجل يحفظها بحفظه سبحانه، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يصلي علي إلا وبلغني الملك فرددت عليه السلام -أو ما من أحد سلم علي إلا بلغني الملك فرددت عليه- فقالوا: يا رسول الله! كيف ترد عليه وقد أرمت؟) (أرم) يعني أكلتك الأرض ولم يبق منك شيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)
إذاً ليس النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل كل الأنبياء حرم الله عز وجل على الأرض أن تأكل شيئاً منهم، فلا يتغيرون بموتهم عليهم الصلاة والسلام.
فالغرض أن نبي الله سليمان ظل قائماً في مصلاه يصلي وفي يده منسأته، ومات وهو على هذا الحال، وقدرة الله سبحانه وتعالى حفظته فلم يسقط، والجن تعمل فيما أمر به سليمان، ويتعبون ويذهبون ينظرون إليه وهو في مصلاه قائم يصلي، فيرجعون مسخرين في العمل ذاهبين راجعين وسليمان على حاله إلى أن شاء الله عز وجل أن تأكل الأرضة هذه العصا فيسقط سليمان عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ [سبأ:14] أي: ظهر كذبهم فيما يدعونه من معرفة الغيب.
تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14] فلقد كانوا مسخرين عاماً كاملاً يعملون وهم يخافون من سليمان أن يعاقبهم ويعذبهم فيعملون بأمره وهو ميت عليه الصلاة والسلام، فتبينت الجن أي ظهر لهم أنهم كذبوا وأنهم لا يعرفون شيئاً من أمر الغيب.
وقوله: (تَبَيَّنَتِ) هي قراءة الجمهور، وقراءة رويس عن يعقوب (تبينت) على البناء للمفعول، بمعنى: ظهر أمر الجن للناس، فكأنه تبين للناس أن الجن لا يعرفون شيئاً من الغيب، فهذا راجع إلى الناس.
فهذه هي قصة سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
لما أعطى الله عز وجل لداود وسليمان الحكم والملك أمر الله عز وجل بالحكم بالعدل فقال لداود : يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] وهذه مقولة قالها الله لنبي من أنبيائه عليه الصلاة والسلام، فغيره من باب أولى، إذ على من تولى أمر الناس ألا يتبع الهوى حتى لا يضل، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو لمن تولى أمر الناس ورفق بهم ويدعو على من تولى أمر الناس فشق عليهم، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليهم، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به).
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم على من يتولى أمور الناس فيعنفهم ويشق عليهم ويقسو عليهم بأن يعامله الله بمعاملته، ومن تولى أمر الناس فرفق بهم أن يرفق الله عز وجل به.
وهذه قصة ذكرها ربنا عز وجل في كتابه، فقال: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء:78] وذكر أنه ذهب اثنان يختصمان إلى داود النبي، وكان أحد الاثنين صاحب حرث ومزرعة، والآخر عنده غنم، فخرجت غنمه على مزرعة هذا الآخر فأكلت ما فيه من حرث، فقضى داود بقضاء، وسليمان قضى بقضاء آخر، فكان القضاء من داود أن المزرعة تساوي مبلغ كذا، والغنم تساوي كذا، بنفس قيمة الزرع، فحكم بأن صاحب المزرعة يأخذ الغنم، وهذا قضاء صحيح له وجهة من النظر، حيث غرمه قيمة ما أفسده.
أما سليمان فحكم بشيء آخر حيث قال: هلا غير ذلك؟! أي: شيء آخر غير ذلك، قال: وما ذاك؟ قال: تعطي الغنم لصاحب الحرث فينتفع بها حتى يزرع له الآخر أرضه حتى تعود كما كانت ثم يرجع الغنم لصاحبها، فرفق بالاثنين، فهذا صاحب الحرث ليس عنده ما يأكله ولا يشربه، فحكم له أن يأخذ الغنم فينتفع بها إلى أن يصلح هذا الآخر له أرضه، فيزرعها مرة أخرى إلى أن ينمو الزرع فيأخذ هذا غنمه وهذا يأخذ زرعه، فيكون هذا فيه رحمة بالاثنين، فلا هذا فقد الغنم بالكل، ولا هذا فقد زرعه ولم يأخذ بدله شيئاً، فكان حكم سليمان أقرب إلى الحكم الذي هو أرفق بالناس من حكم داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال الله عز وجل: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79].
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم آخر أيضاً عن سليمان مما فهمه الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كانت امرأتان معهما ابناهما، وجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت إحداهما لصاحبتها: ذهب بابنك).
أي: أن امرأتين كان مع كل منهما طفل رضيع، فجاء الذئب وخطف واحداً من الولدين فقتله، فإذا بالمرأة تقول للأخرى: أخذ ولدك أنت، وهذه تقول: أخذ ولدك.
وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: فقال سليمان: (ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله! هو ابنها، فقضى به للصغرى) فذكر الله عز وجل أنه فهم سليمان حكماً فقال تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، نسأل الله من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر