اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة يس: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ * وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [يس:12-19].
يخبرنا الله تبارك وتعالى في هذه الآيات: أنه سبحانه بقدرته العظيمة يحيي الموتى، ويكتب ما قدم الإنسان وما أخر بعده، وما ترك من آثار، وكل شيء قد أحصاه الله سبحانه وتعالى في كتاب عنده، فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12].
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]، كان الكفار يعترضون على النبي صلى الله عليه وسلم أن دعاهم إلى عبادة الله الذي يحيي ويميت، فقالوا: أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد:5].. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون:82] فقال الله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى [يس:12] .. اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم:11] بدأ الخلق من عدم، أليس الذي بدأه من عدم قادراً على أن يعيده مرة ثانية بعد أن يفنى؟ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف:33].
إِنَّا نَحْنُ عبر هنا سبحانه تبارك وتعالى بنون العظمة لبيان عظيم فعله، وأنه الله الخالق العظيم الذي يحيي الموتى بقدرته سبحانه، وبغير حاجة إلى أحد من عباده، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]، يحيي الموتى ويبعثهم يوم القيامة للجزاء والحساب.
ما يقدمه الإنسان هو ما يفعله الآن، وأثره هو ما يتركه بعد وفاته، فيظل موجوداً باقياً، كالوقف الذي يحبسه، كمبنى يبنيه ويجعله مسجداً لله سبحانه وتعالى، هذا أثر للإنسان بعد ما يموت، حيث يظل الناس يصلون في هذا المكان، فيكون هذا أثراً من آثار هذا الإنسان يكتبه الله سبحانه وتعالى، فآثار المرء تبقى وتذكر بعده بخير أو بشر، ولو سن للناس سنة شر لكانت بعده في الناس يذكرونه بها.
من آثار الخير الحسنة التي يتركها الإنسان بعد وفاته: العلم الذي يعلمه، أو النهر الذي يجريه، أو البئر يحفرها للناس، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو مسجداً بناه، أو مصحفاً ورثه، أو ترك أولاداً صالحين يدعون له، كل هذا مما يكون أثراً لهذا الإنسان ينتفع به بعد وفاته.
أما الإنسان الذي يسن للناس سنة شر، فيصنع للناس أشياء فيقلده الناس عليها، كإنسان ظلم نوعاً من الظلم وسنه للناس، فصار عليه الناس بعده يسنون هذا الظلم ويتبعونه ويقلدونه، كفرضه على الناس أشياء لم ينزل الله عز وجل بها من سلطان، فيأخذ بها الناس، أو يضرب الناس على أشياء لم يؤمر بها لا في كتاب الله، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مما يتركه الإنسان ويسنه ويقلده من يليه بعد ذلك، فيأخذ من الناس أموالاً بغير حق، فيقلده الناس في ذلك، فهذا من المظالم.
ولذلك يذكر العلماء من ذلك وظيفة وظفها بعض الظلمة على المسلمين، فقلده الناس في ذلك، ثم مات هذا الذي صنع هذه الوظيفة للناس، وجاء من بعده وعملها ومشى عليها، فكانت مظالم من سنها يأخذ أوزار الباقين من غير ما ينقص من أوزارهم شيء.
كذلك لو أن إنساناً أحدث للناس بدعة من البدع فاتبعه الناس عليها، كمن أحدث للناس أنواعاً من الكهانة والعرافة وعلم النجوم والسحر والأبراج وغيره، ومات هذا وجاء من بعده يصنع ذلك، فهذا أثر سيئ، ولا يزال عليه اسمه ما وجد العمل بين الناس كما قال الله: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]، وهذا نوع من أنواع الآثار.
روى هذا الحديث الإمام أحمد بلفظ آخر من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: هممنا أن ننتقل من دورنا لقرب المسجد، فزجرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: (لا تعروا المدينة)، يعني: أطراف المدينة يكون سكانها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، وتبقى أطراف المدينة للمنافقين، ويجيء الكفار من هذه الأماكن، قال: (لا تعروا المدينة)، لا تتركوا أطراف المدينة عارية بحيث يقدم علينا أي أحد ولا ندري ما الذي يحدث فيها.
قال صلى الله عليه وسلم: (لا تعروا المدينة، فإن لكم فضيلة على من عند المسجد بكل خطوة درجة).
فمن يصلي في مسجده صلاة الجماعة تزيد على صلاته لوحده في بيته ومحله وسوقه بعضاً وعشرين درجة.
ويعلل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الزيادة بقوله: (إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفع بها درجة أو حطت عنه بها خطيئة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه).
هذا فضل عظيم من الله عز وجل، كل خطوة تخطوها إلى بيت الله سبحانه يمحو بها عنك خطيئة ويرفع لك بها درجة، وقال: (والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه).
أيضاً: وأنت آت للمسجد أنت في رحمة من الله سبحانه، ولك حكم المصلي كما جاء في الحديث: (إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ولا تأتوها وأنتم تسعون؛ ولا يزال أحدكم في صلاة ما دام متوجهاً إلى الصلاة)، فحكمك وأنت خارج من بيتك إلى المسجد كأنك في صلاة، وأنت بداخل المسجد جالس تنتظر الصلاة في صلاة، وإن انتهت الصلاة وأنت جالس تذكر الله عز وجل أنت أيضاً في صلاة، والملائكة تحوطك وتدعو لك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه، تقول: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه)، تدعو له الملائكة أن يثني الله عز وجل عليه، أن يصلي الله عز وجل عليه، أن يرحمه الله سبحانه (ما لم يحدث فيه)، يعني: ما دام على وضوء في بيت الله عز وجل فحكمه أنه كالذي يصلي، والملائكة تدعو له، قال: (ما لم يحدث فيه، ما لم يؤذ فيه).
أي: له هذه الفضيلة وهو في المسجد، ولكن ليست له هذه الفضيلة إذا كان على غير وضوء، أو على وضوء لكن كان شغله الشاغل أذية الناس ومضايقتهم، فهو يشاغل هذا، ويرفع صوته على هذا، ويناوش هذا، فهذا لا يستحق أن تدعو له الملائكة.
لذا فإن أدب النبي صلوات الله وسلامه عليه في المسجد: أن نتذكر أن المسجد ممتلئ بملائكة الله سبحانه، والملائكة تدعو للمصلين: اللهم صل عليهم، اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم، فهي تدعو لكم ما دمتم جالسين لذكر الله سبحانه على وضوء لا تؤذون أحداً في بيت الله تبارك وتعالى.
الغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث أن كل خطوة لك أجر فيها، يمحو الله عز وجل عنك بها سيئة، ويرفع لك درجة.
فمن خرج إلى بيت الله سبحانه يبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالنور التام يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله سبحانه بقوله: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد:12]، فنور المؤمن يترتب على ما عاناه في الدنيا من بذل لله سبحانه، ومن صبر على الطاعة، فيؤجر الأجر العظيم عند الله سبحانه.
ذكر العلماء أن هذه الآية مع الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها بيان فضيلة من بيته بعيد عن المسجد، ويأتي إلى بيت الله سبحانه حرصاً على الصلاة ألا تفوته تكبيرة الإحرام، وقد ذكرنا قبل ذلك فضيلة حضور الصلاة، وحضور تكبيرة الإحرام مع الإمام، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من صلى لله أربعين صلاة في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق).
المؤمن يحرص دائماً على شهود الجماعة، وأن يكون موجوداً عند تكبيرة الإحرام أو قبلها، ولا يضيع النوافل، ويبدي اهتماماً بالصلاة، فالله عز وجل يعطيه براءتين بشرط أن يكمل أربعين يوماً وهو مواظب على الصلوات الخمس لا يضيع تكبيرة الإحرام:
براءة من النفاق؛ لأن المنافق يصلي يوماً ويترك آخر، لكن الذي يواظب أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة، واعتاد أن يحضر مع تكبيرة الإحرام ولا يضيعها، فالله عز وجل يعطيه براءة من النفاق.
وبراءة أخرى من النار: فلا يدخل النار بفضل الله ورحمته سبحانه وتعالى.
أما إذا كان بيته قريباً من المسجد فهل يبحث عن مسجد بعيد يذهب إليه حتى تكتب الآثار؟
الجواب: ليس الأمر كذلك، طالما أنك قريب من المسجد فالله عز وجل رحمك بذلك، والذي تفعله هو أن تحضر مبكراً إلى بيت الله سبحانه، وتعوض آثار غيرك بالمكث في بيت الله سبحانه وتعالى، فعندما تسمع الأذان تأتي إلى بيت الله، أو تأتي قبل الأذان بفترة، فهذا يعوض لك وتنال من صلاة الملائكة عليك: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم صل عليه. وهذا أجر عظيم.
لكن أن يترك الإنسان المسجد الذي بقربه خاصة إذا كان مسجداً على السنة، ويهتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويقيمون فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا معنى أن يترك ذلك وأن يتوجه إلى مسجد بعيد مثلاً وقد لا يكون على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون فيه بدعة من البدع، بدعوى تكثير الخطى، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن مثل ذلك، فقد روى الطبراني عن ابن عمر وصححه الشيخ الألباني رحمه الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليصل الرجل في المسجد الذي يليه ولا يتتبع المساجد)، يعني: لا يقول: أنا أبحث عن أبعد مسجد وأصلي فيه، بل يصلي في المسجد الذي يليه.
وهذه لها حكمة في هذا الدين العظيم، فأهل الحي عندما يصلون في مسجد الحي سيعرف من الذي يواظب على الصلاة؟ أهل التقوى والخير والطاعة الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه وقال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، فإذا كان هؤلاء المهتدون كل واحد ذاهب إلى مسجد، وهم في حي واحد، فلن يتعرف بعضهم على بعض، ولن يستطيع أحد أن يطلب من الآخر شيئاً، ولكن المسجد يجمع الناس، ويؤلف بين قلوب المسلمين، ويعرف المسلم أخاه المسلم، يعرف جاره وقريبه، يعرف من هو مثله مواظب على الصلاة، وتجد محبة عجيبة جداً تجمع قلوب الناس، وخاصة الذين يجتمعون في الصلاة يمشي بعضهم مع بعض، يذكر بعضهم بعضاً، إذا مرض أحدهم عاده الآخر، فيدعو لأخيه، ويسلم عليه، وإذا مات الإنسان فيؤتى به للمسجد، فيقال: فلان الذي كان يصلي معنا صلاة الفجر كل يوم توفي اليوم، فحينها يعرفه الجميع ويصلون عليه، ويمشون في جنازته، ويقفون عند قبره يدعون له.
إذاً: الصلاة قربت ما بين الناس، هذه هي الصلاة التي قال الله عز وجل فيها: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، والتي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها للمصلين: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، فهنا إما أن تسوي الصفوف، وإما أن يفارق الله عز وجل بين القلوب والوجوه.
فالصلاة يقف المؤمن فيها بجوار أخيه، لا أحد أفضل من أحد، بل من جاء مبكراً صلى في الصف الأول، ومن جاء متأخراً يصلي حيث وصل به الصف مهما كانت وظيفة هذا الإنسان، فأكرمهم عند الله عز وجل أتقاهم له سبحانه وتعالى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
لذلك أهل العلم أن الإنسان لا ينبغي له أن يتتبع المساجد بدعوى أنه تكتب له الآثار، فمن وجد مسجداً قريباً من بيته فإنه يصلي فيه، وإن قام على سنة النبي صلى الله عليه وسلم فليحرص على حضور الصلاة، وأن يحضر مبكراً.
والبعض من الناس بيته قريب لكنه يتعمد التأخر حتى يدخل الإمام في الصلاة، وهذا فوت على نفسه خيراً كثيراً بتفويته لتكبيرة الإحرام، مع أن ربنا رحمه وجعله قريباً من بيته سبحانه وتعالى حتى يحرص على الصلاة، لكنه يضيع على نفسه ذلك، ولعل البعض في الشارع يتكلم ويسمع الإمام يصلي وهو يكمل كلامه في الشارع، ويضيع على نفسه صلاة الجماعة، أو تكبيرة الإحرام، فاحرصوا على حضور تكبيرة الإحرام، ولا تضيعوا على نفسكم هذا الفضل العظيم من الله، ليكون لأحدكم براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق.
الإمام المبين هو اللوح المحفوظ، وهو عند الله عز وجل، مكتوب فيه كل شيء.
كذلك صحائف الأعمال للعباد، كل عبد صحيفته يراها يوم القيامة: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، ففي يوم القيامة يجد كل إنسان كتاباً كتبت فيه أعماله من حسنات وسيئات، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا [الإسراء:13].
يجد هذا الكتاب منشوراً أمامه، وتتطاير الصحف، فالناس منهم آخذ باليمين ومنهم آخذ بالشمال: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ [الإسراء:13]، أي: عمله: فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا [الإسراء:13]، يتلقى هذا الكتاب إما بيمينه وإما بيساره مفتوحاً أمامه.
ويقال: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، هذه صحيفتك، هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]، هذا كتاب رب العالمين الذي كتب لكل إنسان ما فعل، وعد عليه كل شيء فعله، إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84]، يعد ويحصي عليهم كل شيء يقولونه ويفعلونه فهل مكتوب عند الله تبارك وتعالى، فِي إِمَامٍ ، صحيفة أعمال، أو اللوح المحفوظ، وهذا الإمام للإنسان يوم القيامة، أي: الكتاب الذي عند الله سبحانه وتعالى، فهو الكتاب المقتدى به، وهو حجة على العباد.
قالوا أيضاً: معناه: صحائف أعمال العباد.
إذاً: إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، هو اللوح المحفوظ، الذي ينسخ منه ما في أيدي الملائكة، والكتب التي يجد فيها العباد ما عملوا في الدنيا.
وهم رسل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كانوا يدعون أقواماً إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه القرية قالوا هي قرية أنطاكيا، وهي في شمال سوريا قريبة من البحر المتوسط وليست عليه، فهذه القرية أرسل الله سبحانه وتعالى إليها ثلاثة من رسل المسيح عليه الصلاة والسلام، أمرهم أن يذهبوا فيدعوا أهل هذه القرية.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا [يس:13]، يعني: هذا من الأمثلة التي يتعجب لمثلها، فاحذروا أن تكونوا مثل أهل هذه القرية، كأنه يقول: قص عليهم هذه القصة لتكون لهم كالمثل وكالعظة وكالعبرة حتى لا يقعوا في ذلك، ولا يستحقوا عذابنا بكفرهم.
إِذْ أَرْسَلْنَا، الأمر من الله سبحانه، والذي ينفذ هذا الأمر المسيح عليه الصلاة والسلام، فأمر هؤلاء أن يتوجهوا إلى هذه القرية، وقيل: إنهم ذهبوا بعد رفع المسيح عليه الصلاة والسلام وقيل: بل في وجوده، والله أعلم بذلك؛ ولكن القصة هنا لم تذكر وجود أو عدم وجوده.
فتوجه اثنان منهما إلى هذه القرية يدعوان ملكها إلى دين الله سبحانه تبارك وتعالى، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس:14]، فكذبوا هذين الاثنين: فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ [يس:14]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة شعبة عن عاصم : فَعَززْنَا بِثَالِثٍ ، والتعزيز بمعنى الشد والتقوية، يعني: شددنا الاثنين بثالث، يقويهما ويتكلم معهما، ويدعو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:14]، قالوا لملك هذه القرية إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:14]، أرسلنا المسيح عليه الصلاة والسلام بدعوة الله سبحانه تبارك وتعالى يدعوكم إلى عبادة الرب سبحانه.
وعادة أهل الكفر التكذيب والإعراض، فقالوا: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ [يس:15]، من غير أن ينظروا لآية في أيديهم، ولبينة معهم، الكبراء من القوم يصدون خوفاً على الكراسي، فعندما يجيء هؤلاء يدعونهم إلى دين الله فيسلم الضعفاء يشعر الكبراء أن الرئاسة ضاعت منهم؛ لأن هؤلاء الرسل سيحكمون فيهم، فلذلك أول من يصد عن سبيل الله هم الكبراء من القوم الذين يرفضون ويعرضون، ويقولون: أنتم مجانين، أنتم كاذبون.
وقالوا هنا: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ [يس:15]، وكأنهم دعوهم إلى الرحمن سبحانه، فقالوا: وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ [يس:15].
قالت الرسل: رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس:16]، يعني: نحن صادقون فيما نقول، والله يشهد علينا بأنا صادقون فيما نقول: وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس:17]، كما قال الله: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:21-22]، لا تملك أن تحول هؤلاء من كفر إلى إيمان، إنما تملك أن تدعوهم، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48]، فيدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم والله يقص عليه مثل هذه القصة حتى يطمئن.
كذب الذين من قبله وأوذوا أذى شديداً وصبروا كما سننظر في هذه القصة، قال هؤلاء القوم للرسل: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس:15-17]، ما علينا إلا أن نبلغ رسالة الله سبحانه بلاغاً بيناً واضحاً، ونريكم آيات الله سبحانه وتعالى.
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا [يس:18]، أي: نحن تشاءمنا منكم.
وقيل: إنهم عندما لم يستجيبوا منع عنهم المطر ثلاث سنوات أو فترة طويلة، فقالوا للرسل بدلاً من الاستجابة: أنتم شؤم علينا.
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [يس:18]، إما أن تنتهوا عن هذا الذي تدعوننا إليه، وتذهبوا بشؤمكم، أو نرجمكم.
والرجم هو القذف بالحجارة حتى القتل، كأنهم يهددونهم بأن يقتلوهم رمياً بالحجارة، سنعذبكم، سنفعل بكم ونفعل من ألوان العذاب، وإما أن تنتهوا عما أنتم فيه.
فقالت الرسل: طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ [يس:19]، شؤمكم معكم، شؤمكم منكم، أنتم سبب الكوارث والمصائب التي تحدث لنا.
طَائِرُكُمْ : صحف أعمالكم التي تعملونها معكم، كفركم بالله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي يجلب عليكم العذاب، والشؤم الحقيقي يوم القيامة حين دخول النار، أما في الدنيا فمهما حدث فهذه أشياء ليست بالأشياء الكبيرة إنما كفركم هو سبب بلائكم.
أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ [يس:19]، أئن ذكرناكم بالله سبحانه تبارك وتعالى أعرضتم وقلتم مثل ذلك: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [يس:19].
أي: أسرفتم على أنفسكم بالكفر، أسرفتم على أنفسكم حين لم تنظروا فيما دعوناكم وتركتمونا وديننا، وفي كفركم الإسراف وتجاوز الحد، ولا تريدون أن تنظروا إلى الآيات التي معنا.
وقد جعل الله عز وجل لهم آيات يعلم بها الناس أن هؤلاء رسل الله، ومعهم معجزات من الله سبحانه وبينات، فلم ينظروا فيما معهم، وقالوا: أنتم قوم كاذبون، ولم يؤمنوا، ولم يصدقوا، قال الرسل: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [يس:19]، أي: مفسدون في الأرض، أسرفتم على أنفسكم بالكفر، ولم تنظروا في آيات الله سبحانه وتعالى.
والقصص القرآني قصص عجيب جداً، فيه التشويق، والاختصار، وبيان الفائدة، فالقرآن يشير بإشارات لطيفة إلى مجمل الأحداث: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20]، يا ترى من هذا الرجل؟ وما حكايته، وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:20-21].
هذا الرجل كان يسمى حبيب النجار ، هذا الرجل آمن وكان قبل ذلك كافراً، وجاء عن ابن عباس أنه كان ينحت الأصنام قل ذلك، وأنه كان مريضاً مرضاً شديداً، قيل بالجذام وقيل بغير ذلك، وكان يصنع الأصنام ويدعوها من دون الله سبحانه سنين طويلة فما نفع دعاؤه، فمر به الرسل وهم آتون إلى هذه القرية فدعوه إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فتعجب من كلامهم، ومن هو الله؟ فدعوه إلى الله سبحانه الذي خلقه، ورزقه، والذي يحيي ويميت، والذي يشفي المرضى، فقال: لو أنا دخلت في دينكم هل سيشفيني الله؟ قالوا: ندعو لك، والله إن شاء يشفيك.
فإذا به يتابعهم فيدعون له، فلما دعوا له شفاه الله، فعرف أن الحق هو ما عليه الرسل، فلما عرف ذلك آمن، وكان أهل القرية أهل ظلم وعدوان، فلذلك لم يشتهر عنه أنه آمن بهؤلاء الرسل، وتوجه الرسل إلى غيره يدعونهم إلى الله سبحانه من ضعفاء الناس، فمنهم من استجاب، ولكن الأغلب لم يستجيبوا لهم، وتوجهوا إلى ملك هذه القرية يدعونه إلى الله سبحانه، فلم يستجب لهم، وقيل: استجاب، فالله أعلم بذلك، لكن الأغلب من الكبراء وأهل هذه القرية أنهم لم يؤمنوا، وأصروا على قتل هؤلاء الرسل عليهم السلام.
فلما أصروا على القتل، واستفاض الخبر في المدينة أنهم سيقتلون جاء هذا الرجل العابد مسرعاً لينقذ هؤلاء، أو يحاول أن يدافع عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
قص الله عز وجل علينا قصته فقال: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20]، جاء يجري من أقصى المدينة خائفاً على الرسل الذين أرسلهم ربنا سبحانه، وكانوا السبب في أن يرد الله عز وجل عليه صحته وعافيته، فقال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20]، هؤلاء أهل خير وليسوا أهل شر كما تزعمون، وليسوا كاذبين وإنما هم رسل من عند رب العالمين سبحانه.
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:21]؛ لأنه جرب قبل ذلك، فقد مر عليه الرسل فدعوا له ولم يطلبوا منه أجراً، فهو يعلم أن هؤلاء يدعون إلى الله ولا يطلبون من الناس شيئاً.
ويلاحظ أن هذا الرجل جاء مسرعاً وأطال الكلام معهم كأنه يكسب وقتاً للرسل لكي يفلتوا، أو لعل الناس يتركونهم، أو يأتي من ينقذ هؤلاء الرسل، لذلك جادل كثيراً مع هؤلاء القوم: قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20]، حتى الآن ما قال لهم: أنا آمنت، ولكن قال: (يا قومي!) أي: أنا منكم، اتركوهم واسمعوا لهم، فهو يحاول أن ينقذ هؤلاء الرسل بأي شيء يقوله لهؤلاء القوم.
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:21]، فأنا خبرتهم من قبل، وسمعت كلامهم، وهم على هدى، ولم يقل: أنا آمنت معهم حتى الآن.
وحين لم يجد فائدة منهم قال: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:22]، يتكلم عن نفسه: لماذا أنا لا أدخل في دين هؤلاء؟ لم لا أعبد الذي فطرني وهم يدعونني إليه: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:22]، سوف نرجع إلى الله سبحانه وتعالى مرة ثانية.
وَمَا لِيَ [يس:22]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها هشام بخلفه: وَمَا لِيْ وقوله: (وَإِلَيْهِ تُرْجِعُونَ)، هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب : وَإِلَيْهِ تَرْجَعُونَ [يس:22]، وكذا في كل كلمة ترجع بمعنى الرجوع إلى الله سبحانه يقرؤها يعقوب : ( تَرجع )، ويقرؤها الجمهور: ( تُرجع ).
قال: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [يس:23]، وهم يعلمون أنه كان يصنع لهم الأصنام قبل ذلك.
وقوله: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ [يس:22]، يعجب من نفسه: كيف يتبين لي الحق ثم لا أعبد الله الذي فطرني؟ أي الذي خلقني تبارك وتعالى، وإليه المصير يوم القيامة.
هل أعبد آلهة من دون الله سبحانه، وماذا تنفع هذه الآلهة؟ لقد صنعنا أصناماً قبل ذلك ولم تفدنا، كنت مجذوماً سنيناً من الدهر ولم تنفع هذه الأصنام، وإنما الذي نفعني الله سبحانه، وحسن عبادته تبارك وتعالى.
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، والتقاء همزتين هنا فيها قراءات، فيقرؤها البعض منهم بتسهيل الهمزة الثانية، ويقرأها البعض بتحقيق الاثنتين: فيقرأ ورش وابن كثير ورويس : أَأَتَّخِذُ [يس:23]، وقرأ الأزرق عن ورش : ( آتخذ من دونه آلهة ) بإبدال الهمزة مداً، وقرأها قالون وأبو عمرو ورواية عن هشام : (آاتخذ) بالمد همزة ممدودة وبعدها تسهيل الهمز الثانية، لصعوبة نطق الهمزتين مع بعض، والبعض يفصل بينهما بألف أو يسهل الهمزة الثانية سواء فصل بألف أو لم يفصل، فكأن هنا قالون يقرأها: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [يس:23]، ويقرؤها هشام : ( آأتخذ من دونه آلهة ) وله فيها ثلاث قراءات.
(يردن) هذه بالكسر، ويقرؤها أبو جعفر وصلاً ووقفاً بالياء، فإذا وقف يقرؤها: ( إن يردنيْ ) فإذا وصل يقرؤها: ( إن يردنيَ الرحمن ) ويقرؤها يعقوب وقفاً بالياء: ( إن يردني )فإذا وصل قرأها كغيره: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ [يس:23].
أيضاً قوله: (وَلا يُنقِذُونِ) يقرؤها يعقوب بالياء سواء وصل أو وقف، وورش يقرؤها بالياء وصلاً، ويقرؤها وقفاً كغيره: وَلا يُنقِذُونِ.
إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ [يس:23].
هذه الأصنام لا تشفع عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا تغني شيئاً، ولا تنقذني من عذاب الله سبحانه تبارك وتعالى.
إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:24]، لو أني عبدت هذه الأصنام من دون الله سبحانه: إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:24]، والضلال بمعنى: التيه والبعد، ضل الإنسان الطريق بمعنى: تاه، دخل في صحراء وما عرف يرجع.
قراءة الجمهور: إِنِّي إِذًا [يس:24]، ويقرؤها نافع وأبو جعفر وأبو عمرو : ( إنيَ إذاً لفي ضلال مبين ).
وقوله: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:25] هذه أيضاً سيقرؤها نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر : ( إنيَ آمنت بربكم فاسمعون ).
قوله: إِنِّي آمَنْتُ [يس:25]، هو كان مؤمناً قبل ذلك، وكأنه يريد وقتاً يجادل فيه القوم، ولو بدأ بقوله: أنا مؤمن فسوف يقتلونه معهم، ولكن بدا بأنه يحاور ويجادل لعلهم يتركون هؤلاء وينظرون في المعجزات التي أيدهم الله عز وجل بها، ولكن لم ينفع ذلك مع هؤلاء، فلما وصل لذلك: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس:25-26]، وكأن هنا شيئاً محذوفاً في السياق، وكأنه أول ما قال إنه مؤمن قاموا إليه فقتلوه.
وجاء عن ابن مسعود أنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرجت قصبة دبره أي: معائه خرجت منه.
وقيل: بل رموه في بئر وسدوا عليه البئر ودفنوه حياً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإذا به شهيد عند الله سبحانه، فأدخله الله عز وجل الجنة.
ثم قال معبراً عن ذلك، وكأن الدنيا لا تستحق أن تذكر بما فيها من قتل وعذاب مقابل الجنة العظيمة التي عمل لها هذا، وعمل لها الرسل، ويعمل لها المؤمنون، قال الله سبحانه: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس:26]، قال له ربه أو قالت له الملائكة: ادخل الجنة، فهو شهيد، قال الله سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهداء أرواحهم في أجواف طير خضر تروح في الجنة وتسرح كيف تشاء)، هنا أرواح هؤلاء تدخل الجنة، أما اجتماع الروح في البدن فإنه يوم القيامة حين يوفى الإنسان حسابه يوم القيامة.
قال الله سبحانه وتعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس:26]، هذه قراءة الجمهور، ويقرؤها هشام والكسائي ورويس أيضاً: ( قُيل ) لبيان أنه مبني للمجهول.
قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].
هنا انتهت قصة هذا الرجل الفاضل الذي جعله الله عز وجل قدوة، وكيف أنه بدأ حياته بعبادة غير الله سبحانه، وفي النهاية عبد الله سبحانه، وكأن فترة العبادة لله كانت قصيرة، وعبادته لغير الله كانت طويلة، ومع ذلك هذه الفترة القصيرة أدخله الله عز وجل بها الجنة، فكان من أهل الجنة، وقيل له ادخل الجنة، فقال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس:26]، وهنا بيان رحمة هذا الإنسان، وشفقته على قومه، فهو ما قال: يا رب! أهلك قومي، وإن كان ربه سبحانه غضب له فدمر هذه القرية، ولكن الرجل كان رحيماً بأهله وبقريته فقال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس:26]، دخل الجنة فتمنى لهم أن يؤمنوا وأن يدخلوا الجنة مثله، فنصحهم حياً وميتاً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:27]، بغفران ربي لي سبحانه وتعالى، وأن جعلني من المكرمين بهذه الجنة، بعد ما كان على غير دين فصار على عبادة الله سبحانه، وصار من أهل الجنة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته، وأن يقينا ناره ونقمته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر