اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة السجدة: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-19].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها صفات المؤمنين الصالحين الذين يؤمنون بآيات الله سبحانه ويقبلون عليها خاشعين متدبرين، ويخرون لله سبحانه سجداً مسبحين بحمده، لا يستكبرون عن عبادته، قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16]، فيقومون لله عز وجل ليلاً طويلاً يصلون، أو بحسب ما يقدرون عليه.
قال تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، يعني: في جميع أحوالهم يدعون الله سبحانه وتعالى وليس في الصلاة فقط، ولكن الدعاء في اليوم كله ما استطاعوا، فيدعون الله سبحانه، ويسألونه من فضله، ويتعوذون به من عذابه، ويدعون ربهم خوفاً من ناره، ومن أن يحرموا من جنته سبحانه، وطمعاً في فضله وفي كرمه وفي رحمته وفي رضوانه، وينفقون لله سبحانه وتعالى من أموالهم ومما رزقهم الله، فالفضل من الله أولاً وآخراً، هو الذي أعطى الإنسان المال وأعطاه الصحة وأعطاه حياته، فهو الذي أعطاه من فضله ومن كرمه سبحانه، وهو الذي هداه ووفقه، فهم ينفقون مما رزقهم الله، ومما تفضل به عليهم، ولم يبخلوا وقد علموا أن المال مال الله سبحانه، والرزق رزقه سبحانه، وأن المال لا تنقصه الصدقة أبداً، فهم مما رزقهم الله عز وجل ينفقون، قال تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].
وفي هذه الآية إشارة إلى أن المال ليس مال العبد، وإنما هو رزق الله سبحانه، وفيه أيضاً أن الإنسان ينفق من القليل ومن الكثير، (مما) أي: من كل ما أعطاهم الله سبحانه، أعطاهم شيئاً يسيراً، أو آتاهم شيئاً كثيراً، فهم مما أعطاهم ينفقون، فيخرجون زكاة أموالهم، وينفقون النفقة الواجبة عليهم، ويتصدقون من أموالهم، فيزيد الله عز وجل لهم أموالهم، فلا ينقص مال من صدقة أبداً.
على الماضي، والأولى على المبني للمجهول، أي: ما قد أخفي لهم، فبنى الفعل للمجهول، والمعنى: تعظيم هذا الشيء الذي قد أخفي لهم، والذي أخفاه هو الله سبحانه الذي خلقه، فقد أخفى عنهم ذلك ليعملوا بالغيب وللغيب، فهذا غيب الثواب، والجنة غيب، والنار غيب، فالإنسان يعبد ربه وهو مستيقن بهذا الغيب، ومستيقن بثواب الله سبحانه، فيستحق هذا الثواب الذي أخفاه الله سبحانه وآمن به العبد، فهؤلاء يؤمنون بالغيب، ويؤمنون بالجنة ولم يروها، ويخافون من النار ولم يروها، فلذلك استحقوا هذا الثواب من الله سبحانه وتعالى.
والقراءة الأخرى: (مَا أُخْفِيَ لَهُمْ) أي: ما أخفيه على الفعل المضارع، أي: الذي أخفيه لهؤلاء من الثواب العظيم عندي.
وقوله تعالى: مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، أي: مما تقر به أعينهم وتستقر وتفرح وتطمئن به، وتطمئن القلوب من قرة الأعين، فداخل الجنة يكون قرير العين، يعني: فرحان في غاية الفرح، يقال لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، فهم في جنة يحبرون، ينعمون، ويسرون، وقال تعالى في سورة يس: فَاكِهُونَ [يس:55]، فرحون مسرورون، لا أحزان في الجنة، ولا خوف فيها، قال تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].
هذا الجزاء من الله بسبب ما كانوا يعملون، بسبب العمل الذي عملوه في الدنيا، إذ عاشوا في الدنيا يعبدون الله سبحانه بالمعنى الأعم للعبادة، بصلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وأمر بالمعروف، ونهي عن منكر، وجهاد في سبيله سبحانه، فهم يعبدون الله بأعمالهم وتقواهم، ويتقنون أعمالهم ويتقربون بها إلى الله سبحانه بكل ما فرضه الله عز وجل عليهم وحثهم عليه، واستحبه منهم، فهم يفعلون ما يرضي ربهم سبحانه، فجازاهم الله بالجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
وفي الحديث: قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واقرؤوا إن شئتم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16]، إلى قوله سبحانه: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]).
أيضاً جاء في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى عليه السلام ربه فقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الله عز وجل: هو رجل يأتي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟)، هذا أقل أهل الجنة منزلة، يقال له: (أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب)، ويرضى بأقل من ذلك (فيقول: لك ذلك ومثله، ومثله ومثله معه، ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت رب، فقال: هذا لك وعشرة أمثاله!) يعني رضي بالشيء الواحد مثل ملك من ملوك الدنيا، فقال: مثله ومثله، ومثله ومثله، ومثله خمس مرات، قال: رضيت رب، قال: وعشرة أمثال هذا أيضاً، هذا لأقل أهل الجنة منزلة.
قال: (ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردتهم، غرست كرامتهم بيدي) غرست، يعني: ما أكرمهم به في الجنة أنا بيدي فعلت لهم ذلك، قال: (غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها) يعني: أغلقتها وأخفيتها فلا يراها أحد أبداً، قال: (فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومصداقه من كتاب الله: قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17])، هؤلاء أعلى أهل الجنة منزلة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
وقوله تعالى: نُزُلًا [السجدة:19] أي: كرامة من الله، وضيافة منه سبحانه، والنزل: أصله طعام الضيف، والمعنى: ننزلهم هذه الجنة ليقيموا فيها إقامة دائمة، ونحن نطعمهم، ونحن نسقيهم، ونحن نعطيهم هذا النزل، ليس من عند أحد من البشر، وليس من عند أحد من الملائكة، ولكن منا نحن، نُزُلًا .
وقوله تعالى: بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:19] أي: ثواباً من الله سبحانه وتعالى، وما يهيأ لهم من الضيافة هذا من الله سبحانه جزاء على أعمالهم.
قال الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [السجدة:20]، كأنهم توهموا أنهم يخرجون، والنار سوداء مظلمة والعياذ بالله، تدور بهم النار فتفور بهم، فإذا فارت صعدوا إلى أعلاها فظنوا أنهم يخرجون منها، فيريدون الخروج فتهوي بهم مرة ثانية، قال تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا [السجدة:20]، والعياذ بالله: أُعِيدُوا فِيهَا .
وقال تعالى: وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:21]، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:22]، والمقامع: ما يقمع به الإنسان من مرازب من حديد، ومرزبة حديد يعني: مقلاع من حديد، يضربون بها على رءوسهم فيعادون إلى أسفل النار والعياذ بالله، قال تعالى: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة:20].
يقول الله سبحانه تبارك وتعالى في هؤلاء الكفار: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى [السجدة:21]، قالوا: هي مصائب الدنيا، وأسقام الدنيا مما يبتلى به العبيد، وأيضاً مما يذيق الله به الكفار من عذاب في الدنيا في جهاد مع المسلمين وغير ذلك.
وقوله تعالى: دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ [السجدة:21] عذاب النار وعذاب يوم القيامة.
قال تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21] أي: لعلهم يتوبون إلى الله بما أذاقهم في الدنيا ويرجعون إليه.
قال الله سبحانه: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ أي: سننتقم من هؤلاء الفجرة الكفرة الذين أعرضوا عن ذكر الله سبحانه، ننتقم منهم في الدنيا وفي الآخرة، قال سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، يذيقه في الدنيا الحياة الضنك الشديدة التي يسأم منها ويمل، من كثرة ما يبتليه الله سبحانه وتعالى حتى ولو أعطاه المال، ولكن يذيقه عذاب الدنيا وفتنها وبلاءها.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر