اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة السجدة: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:15-17] .
في هذه الآيات كما قدمنا في الدروس السابقة ذكر الله سبحانه من صفات المؤمنين بالله سبحانه وتعالى أنهم مقبلون على كتابه؛ فإذا ذكروا بآيات ربهم سبحانه يخرون لله عز وجل سجداً، فهم في طاعة الله سبحانه، فيسمعون الذكر ويطيعون ربهم ويقبلون إليه، ويسمعون الأمر بالسجود لله سبحانه فيسجدون في الصلاة وفي غير الصلاة، وذكر الله عز وجل من صفاتهم: أنهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
إذاً: هم يقبلون على تلاوة كتاب الله سبحانه، ويسجدون لله سبحانه سواء في الصلاة أو في غيرها، ويسبحون حامدين ربهم سبحانه، ولا يستكبرون عن طاعة الله وعن عبادته، ويقومون لله بالليل، فتتجافى جنوبهم عن المضاجع وهم يدعون ربهم سبحانه، سواء في القيام أو في غيره، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، فهم يكثرون من الدعاء خوفاً من الله سبحانه، فيستجيرون به من عذابه ومن ناره، ويستغيثون به سبحانه، وكذلك يطمعون في رحمته وفي جنته، فيسألون الله الجنة، ويتعوذون بالله من النار، وينفقون مما رزقهم الله تبارك وتعالى.
وكذلك في خاتمة سورة النجم: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62].
وكذلك في سورة العلق في آخرها أمر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19].
وباقي الآيات فيها الإخبار عن السجود فالعلماء يقولون: هذه الآيات الخمس عشرة التي في كتاب الله عز وجل يستحب السجود عند قراءتها سواء في الصلاة أو في غير الصلاة، وقد قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم وسجد فيها.
ومن الإخبار بالسجود المأخوذ من الآيات ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومن الآثار عن الصحابة أخذ جمهور العلماء أن السجود ليس فرضاً واجباً عند سماع هذه الآيات أو عند تلاوتها، وإنما هو مستحب متأكد الاستحباب، فهي من عزائم السجود، أي: من العزائم التي يعزم على الإنسان فيلزم بها، ولكن ليس إلزام الوجوب، وذهب الأحناف إلى أنه يجب السجود عند هذه الآيات عند سماعها أو عند تلاوتها.
والجمهور أخذوا بأن الآيات نفسها التي ذكر فيها السجود فيها ثلاث آيات بصيغة الأمر التي في الحج وفي النجم وفي العلق، وهذه الثلاث اختلف العلماء هل يجب السجود لها أو لا يجب؟
قالوا: فعلى ذلك باقي الآيات التي بصيغة الإخبار هي أولى بأن لا يلزم السجود فيها.
والإمام البخاري في صحيحه قال: باب: من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود.
وقيل لـعمران بن حصين : الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها، قال عمران رضي الله عنه - وهو صحابي فاضل- : أرأيت لو قعد لها؟ كأنه لا يوجبه عليه، يعني: أن السائل يقول: لو أن واحداً سمع السجدة ولم يأت من أجل أن يستمع القرآن، وإنما جاء لحاجة، فهل يلزمه أنه يسجد لما سمع التالي يقرأ آية السجود، فـعمران بن حصين رضي الله عنه قال: أرأيت لو قعد لها؟ يعني: هل تظن أنه لو قعد لها كان يجب عليه السجود؟ فكأنه يرى أنه لا يجب السجود عند تلاوة هذه الآيات، إنما هو مستحب.
كذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: ما لهذا غدونا، فقد جاء في الأثر عند عبد الرزاق عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: مر سلمان على قوم قعود فقرءوا السجدة فسجدوا، فقيل له، فقال: ليس لهذا غدونا، والمعنى: أنهم قاعدين يقرءون القرآن فمروا بسجدة فسجدوا، لكن سلمان يقول: نحن لسنا نقرأ معهم ولا نسمع معهم، بل نحن نمشي لحاجة، فهم سجدوا، ونحن لا يلزمنا أن نسجد؛ لأننا لم نقعد معهم للسجود أو للتلاوة، إنما نحن مارون.
والغرض من هذا: بيان أن الصحابة رضوان الله عليهم ذكروا هذا السجود، وذهبوا إلى أنه ليس فرضاً واجباً كالذي يجب على الإنسان من ركوع وسجود في الصلاة، فالسجود للتلاوة يتأكد استحبابه، ولكن لا يصل إلى الفرضية.
قال عثمان رضي الله عنه: إنما السجدة على من استمعها، هذا ذكره الإمام البخاري .
وجاء عن عثمان رضي الله عنه أيضاً في مصنف عبد الرزاق : أنه مر بقاص فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان ، فقال عثمان : إنما السجود على من استمع، ثم مضى ولم يسجد، وكأن عثمان رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين مر بالمسجد والقاص يذكر الناس، ولما نظر عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قرأ آية فيها السجدة من أجل أن يسجد هو ومن معه ومن أجل أن عثمان أيضاً يسجد معهم، فلم يسجد معهم رضي الله عنه، ومر وانصرف، وقال عثمان رضي الله عنه: إنما السجود على من استمع، يعني: أن القاعد معك الذي يسمع هو الذي عليه أن يسجد، لكن أنا مار ولست بجالس معكم.
ففيه أن سيدنا عثمان رضي الله عنه لم ير أنه يلزمه أن يسجد حتى ولو استمع لمن يقرأ السجدة، طالما أنه لم يجلس للسماع، وكذلك رأى سلمان الفارسي وعمران بن حصين .
فالغرض: أنهم لم يروا وجوب السجود، فالراجح أن سجود التلاوة مستحب متأكد الاستحباب وليس فرضاً واجباً.
ومن أقوى الأدلة على عدم الوجوب كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله: ما رواه الإمام البخاري عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي عما حضر ربيعة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، أي: لما جاء عمر رضي الله عنه على آية فيها سجدة نزل وسجد، وسجد الناس وهم في أثناء الخطبة، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، يعني: قرأ آية السجود في سورة النحل مرةً ثانيةً وهو رضي الله عنه على المنبر، قال: حتى إذا جاء السجدة قال: (يا أيها الناس! إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)، ولم يسجد عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
إذاً: سواء كان في خطبة أو في غيرها يجوز أن الإمام أو القارئ ينزل إذا قرأ آية فيها سجدة ويسجد ويسجد الناس معه، ويجوز أنه يتم حديثه ويكمل ولا يجب عليه السجود، وهذا فعل عمر .
وقد يقال: إن هذا فعل عمر ، وهو فعل صحابي واحد، وقول الصحابي كما يقول البعض: ليس حجة، ولكن قول عمر رضي الله عنه لا يقال فيه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباع الخلفاء الراشدين المهديين، فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ) فـعمر رضي الله تبارك وتعالى عنه من هؤلاء.
ويقال أيضاً: إن عمر كان يخطب، وكان الحاضرون يسمعون خطبة عمر ، وكلهم من الصحابة ومن التابعين، ولم ينكر أحد على عمر رضي الله عنه فصار إجماعاً.
إذاً: هنا إجماع من الحضور على موافقة عمر رضي الله عنه، ولو خالف أحد عمر في ذلك لرد عليه وقال له: يجب عليك أن تنزل وأن تسجد، ولكن لم يقل له أحد ذلك، فدل على أن فعل عمر كان بموافقة جميع من في المسجد، وهذا من أقوى ما يكون من الإجماع: أن يكون صحابي موجوداً في مجمع يصعب أن يقال: إنه لم يحضره صحابة، بل كانوا يحضرون مع عمر رضي الله عنه خطبة الجمعة، وهذا شاع عن عمر رضي الله عنه، فلو فرضنا أن البعض كان بعيداً عن عمر فلا بد أن يسمع ممن حضر من عمر ذلك، فلو كان هناك منكر لأنكر عليه ولم يسكت عن ذلك، فعلى هذا فهذا إجماع سكوتي من أقوى الإجماعات، فإنهم حضروا لـعمر وسكتوا عما قال، فدل هذا على الموافقة.
قال العلماء: هي من عزائم السجود، والبعض قال: هي إحدى عشرة فقط، والبعض قال: هي أربع عشرة، وأخرج منها السجدة التي في سورة (ص) فقال: ليست من العزائم باعتبار أنها توبة نبي، يعني: أنه تعالى ذكر في سورة (ص) عن النبي داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه خر راكعاً وأناب، فظن داود أنما فتناه، فذكر الله عز وجل أن داود ظن أن الله ابتلاه وامتحنه، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب، فقالوا: هذه ليست من العزائم؛ لأنها فعل نبي عليه الصلاة والسلام، فعلها فسجد، وليس فيها أمر أو إخبار عن المؤمنين، إنما هي توبة نبي، لكن قد سجد فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه فدل على أنها سجدة من ضمن السجدات التي يسجد فيها.
والسجود في القرآن جاء عن أبي رافع في الصحيحين في البخاري ومسلم قال: (صليت خلف
أيضاً: في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ و اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) يعني: كأنه يرد على من يقول: ليس في آخر المصحف في المفصل سجود؛ فهنا سورة الانشقاق وسورة اقرأ من المفصل، وكذلك سورة النجم سجد فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ سورة النجم فسجد فيها وما بقي أحد من القوم إلا سجد) وسورة النجم مكية، وسجد فيها صلى الله عليه وسلم في مكة وسجد معه المسلمون، بل والكفار أيضاً سجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
وفي سورة (ص) ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها، ففي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر سورة (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه).
إذاً: هنا لما قرأ عمر رضي الله عنه سورة النحل نزل وسجد اتباعاً لما في القرآن، ولما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب الجمعة وقرأ عليه الصلاة والسلام: سورة (ص) ولما بلغ السجود نزل وسجد فيها عليه الصلاة والسلام، قال: (فلما كان يوم آخر لعلها الجمعة التي تليها ولعلها بعد ذلك بفترة قرأها، فلما بلغ السجدة تنشز الناس للسجود) أي: لأن الناس سجدوا في المرة الأولى، وظنوا أنه سيسجد، فاستعدوا للسجود مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تنشزتم للسجود) فنزل عليه الصلاة والسلام فسجد بهم صلوات الله وسلامه عليه وسجدوا.
وقوله: (إنما هي توبة) أي: أن السجود ليس واجباً، فمن الممكن أننا نسجد كما سجدنا في المرة السابقة، ومن الممكن أننا نقرأها ولا نسجد، وكذلك غيرها من السور يجوز فيها أن الإنسان يقرأ ويسجد، ويجوز أنه يكمل ما بعدها ولا يسجد.
وفي سورة الحج سجدتان في أول السورة وفي آخر السورة.
إذاً: إذا كان في الصلاة فالأئمة الأربعة على أنه يكبر إذا نزل لسجود التلاوة، ويكبر إذا رفع منها، وما هو دليلهم على التكبير؟ قالوا: إن كان في الصلاة فهذه هيئة من هيئات الصلاة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر في كل خفض في الصلاة ورفع، إلا ما استثني من الرفع في قوله: سمع الله لمن حمده، فليس تكبيراً، وعلى ذلك الأئمة الأربعة على أنه في الصلاة يفعل ذلك، أما ما جاء من حديث ابن عمر أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه) فهذا الحديث رواه الإمام أبو داود عن ابن عمر ، والذي روى هذا الحديث اثنان من التابعين: أحدهما: عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف في حفظه، والآخر أخوه عبيد الله بن عمر العمري وهو ثقة، فـعبيد الله لم يذكر (كبر)، وأخوه ذكرها، قال عبد الرزاق : كان الثوري يعجبه هذا الحديث، أي: يعجبه الحديث الذي فيه التكبير؛ لأن فيه التكبير، وإن كان راويه فيه ضعف في حفظه، قال أبو داود : كان يعجبه -يعني: الثوري - لأنه كبر.
والحديث في سنده ضعف، ولكن يغني عن ذلك عموم حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر مع كل خفض ورفع)، وهذا صح عنه صلوات الله وسلامه عليه، فالحجة أنه كان صلى الله عليه وسلم يكبر مع كل خفض ورفع.
إذاً: إذا كنت في الصلاة فكبر واسجد، وإذا كنت في غيرها فقياساً عليها أيضاً تكبر وتسجد، وتكبر وترفع إن كنت في الصلاة لحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر مع كل خفض ورفع).
إذاً: الأذكار التي يقولها في السجود يقولها أيضاً في سجود التلاوة.
أيضاً: ثبت في حديث عند الترمذي وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رأيتني الليلة أصلي خلف شجرة، فقرأت السجدة -يعني: آية فيها سجدة- فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي) في هذه الرؤيا أن الرجل قرأ آية فيها سجدة فسجد، والشجرة أيضاً سجدت لسجود الرجل، فقال: (فسمعتها وهي تقول وهي ساجدة: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود).
إذاً: الشجرة سجدت، وهذه رؤيا منامية رآها الرجل، وهي رؤيا حق، فقالت الشجرة في سجود التلاوة: (اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود) قال الرجل: (فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد، قال
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر