الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة فاطر: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:19-28].
يبين الله سبحانه تبارك وتعالى لعباده ما الكفار عليه من ظلم لأنفسهم وضلالة وظلمة وبعد عن الهدى، وما يصيرون إليه يوم القيامة من دخول النار، كما يبين ما عليه المؤمن من نور وإيمان وطاعة لله سبحانه تبارك وتعالى، بضرب هذه الأمثلة للناس فقوله: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ [فاطر:20-22] أمثلة يضربها الله عز وجل لبيان الشيء ونقيضه، حتى يتبين لمن يعقل أن هناك فرقاً بين هذا وذاك، فكل من يبصر يفهم الفرق بينهما, وجملة الأمثلة التي ضربها لنا الله سبحانه تبارك وتعالى مسوقة لبيان أنه لا يستوي الإنسان المؤمن مع الإنسان الكافر؛ لأنه لا يستوي الإيمان مع الكفر، فإذا كان الله سبحانه تبارك وتعالى قد أمر العباد بالطاعة فأطاعه قوم وعصاه آخرون، فهل يستوي مآل الجميع بأن يصيروا تراباً ثم لا بعث ولا نشور، ولا قيام من القبور، ولا حساب يوم القيامة، ولا جنة ولا نار؟ هذا بعيد جداً، إن عقل الإنسان يقول: لا. لا يستوي أبداً من عمل بالطاعة ومن عمل بالمعصية، لا يستوي من أسلم وآمن ومن كفر وترك دين الله سبحانه تبارك وتعالى، لا يستوون كما أنه لا يستوي الأعمى مع المبصر، لا يستوون كما لا تستوي الظلمة مع النور، ولا الظل مع الحرور، ولا الحي مع الميت، فكل عاقل يفهم ذلك فلا يستوي أبداً المؤمن الذي أطاع الله سبحانه مع الكافر الذي كفر بالله وعصى الله سبحانه تبارك وتعالى, قال سبحانه: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [فاطر:19] والعمى هنا: عمى القلب كأنه يقول: الكافر كهذا الأعمى فهو أعمى عمى ضلالة لا يعرف الحق، وكأنه غشي على بصره فلا يريد أن يفهم أو يتفهم ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم يردف بمثل آخر وهو قوله سبحانه: وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ [فاطر:20] إذا وجد الإنسان طريقاً مظلماً فإنه يبتعد عنه وإذا وجد طريقاً منيرا فإنه يسير فيه، فلا يستوي هذا مع ذاك، إذ أن هذا طريق يعرض عنه كل من ينظر ويرى، وهذا طريق يسلكه كل من ينظر ويرى، فالإيمان طريق النور، ومن يعرف الحق فلا تستوي الظلمة مع النور.
ثم قال سبحانه مؤكداً: وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ [فاطر:21] أي: لا يستوي المكان الظليل مع المكان الشديد الحر تحت وهج الشمس، وكأن في الآية إشارة إلى مصير هؤلاء فالمؤمن مصيره كما قال الله سبحانه: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء:57] والكافر مصيره إلى نار السموم وإلى عذاب أليم، فهل يستوي هذا مع ذاك فكأن الظل إشارة إلى مآل المؤمن وأنه إلى الظل الظليل في الجنة, وكأن الحرور إشارة إلى النار والسعير؛ لأنها مآل الكافر، فلا تستوي الجنة مع النار والمثال مسوق لبيان عدم استواء الإيمان مع الكفر، ومضرب المثل يقول: لو كنت في الفلاة ووجدت مكاناً فيه شمس حارة ومكاناً آخر ظليلاً، فهل تترك هذا المكان الظليل لتكون تحت الشمس؟ لا شك أنه لا عقل لمن يقول بهذا الشيء، الحرور: تطلق على الرياح الساخنة الشديدة، ويطلق على اليوم الحار شديد الحرارة وجاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قالت النار: ربي أكل بعضي بعضاً فأذن لي أن أتنفس فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير؛ فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور؛ فمن نفس جهنم)، وفي الحديث تذكرة للعباد، وبيان أن أشد يوم يكون على الناس برده؛ فإنه من نفس جهنم، وأن أشد يوم يكون على الناس حره؛ فإنه من نفس النار, وكما أن الحر الشديد لا يستوي مع البرد وكذلك المكان الظليل لا يستوي مع المكان الشديد الحر؛ فكذلك مصير المؤمن لا يستوي مع مصير الكافر.
ثم يتبعه بمثال آخر فيقول: وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ [فاطر:22] الأحياء المراد بهم المؤمنون فهم أحياء يفهمون ويفقهون، وحياتهم لها قيمة، فيوم القيامة يجزون عليها أفضل الجزاء على الأعمال الصالحة, أما الكفار؛ فإن حياتهم موت لا قيمة لها، وإنما هي حياة تستجلب عليهم عذاب رب العالمين، لأنهم فيها أنكروا ربهم سبحانه وأنكروا عبادته ولم يتوجهوا إليه بل أشركوا معه غيره، فصدق عليهم أنهم أموات ضيعوا هذه الحياة ولم يستغلوها لتكون لهم الحياة الدائمة عند الله عز وجل في جنة الخلود، ولذلك لا يستوي الأحياء وهم المؤمنون مع الأموات وهم الذين كفروا بالله سبحانه تبارك وتعالى ولم يستمعوا إلى موعظة النبي صلى الله عليه وسلم.
تفرد الله سبحانه بهداية البشر
بيان عدم سماع الأموات كلام الأحياء
الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا كان من سنته
ومثل ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (
إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)، وفي رواية: (ببعض بكاء أهله عليه) فإن
عائشة رضي الله عنها قد خطأت الراوي أيضاً وهو
عبد الله بن عمر رضي الله عنه وقالت له: الحديث ليس هكذا، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن) فالحديث يحتمل أن
عائشة رضي الله عنها سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كما يحتمل أنها لم تسمع، ولكن
ابن عمر سمع من النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه) وقد احتجت
عائشة رضي الله عنها بقوله تعالى:
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] وهو استدلال صحيح، ولكن لو أن الميت أوصى أهله بالبكاء عليه، أو علم من حال أهله أنهم في الجنائز يصوتون ويصرخون، ويندبون حظهم، ويتضجرون من قضاء الله سبحانه ولم ينكر عليهم ذلك؛ فإنه يعذب ببكائهم، وفيه أن الإنسان إذا مات وصرخت عليه النائحة فقالت: وا بعلاه فإن الملائكة يؤنبون هذا الإنسان ويقولون له: أنت كذلك! أنت كذلك! وكذا لو ندبت وقالت: يا من كان يطعمني! أو: يا من كان يسقيني، فإن الملائكة تنهر هذا الميت وتقوله: أنت كنت كذلك؟ أنت كنت كذلك؟ منكرين عليه؛ لأن الذي يطعم ويسقي هو الله سبحانه تبارك وتعالى وهو الرزاق ذو القوة المتين، وإنما يأخذ الإنسان حاجته من رزق الله سبحانه تبارك وتعالى كما أنه وإن صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، فإن الصحيح أن الميت لا يعذب بكل بكاء أهله عليه فقد جاء في الحديث : (
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين توفي ابنه إبراهيم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على إبراهيم فدل على أن البكاء على الميت جائز وأن الميت لا يعذب به، وإنما يعذب الإنسان بفلتات لسانه وما يقوله تضجراً على الله سبحانه تبارك وتعالى وتبرماً بقضاء الله وقدره سبحانه.
ولذا فإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا صرخوا وندبوا، أما البكاء الذي يسيل فيه الدمع من العين ويحزن ولا يصرخ فيه الإنسان ولا يندب حظه، ولا يشق ثوبه، ولا ينتف شعره؛ فإن الميت لا يعذب به، كما يجدر التنبيه على أن الحي الذي يفعل ذلك وهو الندب والشق، إن لم يتب إلى الله عز وجل فإنه يعذب يوم القيامة قال النبي صلى الله عليه وسلم : (النائحة إذا لم تتب تأتي يوم القيامة وعليها سربال من جرب ورداء من قطران) أي أنها تعذب في نار جهنم، والعياذ بالله.
مهمة الداعية الإنذار والتبشير
الهلاك عاقبة التكذيب
آيات الله في الكون تدل على عظمته
قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [فاطر:27] أي: ألم تر بقلبك ما فعله الله سبحانه تبارك وتعالى حيث أنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات مختلفة الألوان والأشكال
فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [فاطر:27] إن الله الخالق واحد لا شريك له، وهو الذي يستحق العبادة وحده فانظر إلى آياته سبحانه، فهو واحده الذي خلق: الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، والجنة والنار، والكافر والمؤمن، والسموات والأرض، والجبال والبحار، والأشجار والأنهار، لا شريك له سبحانه يخلق ما يشاء، وينوع ما يشاء في خلقه سبحانه تبارك وتعالى، ففي قوله تعالى:
اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
أمر بالتأمل كيف أن الماء ماء واحد، ينزل من السماء يجري في هذه الأرض؛ فيخرج الله عز وجل بهذا الماء الواحد ثمرات مختلفاً ألوانها، فمنها ما هو أحمر، ومنها ما هو أخضر وغير ذلك من الألوان، فمع أن الماء ماء واحد ينزل من السماء إلا أن الله عز وجل يخلق به ثماراً مختلفة في ألوانها، وفي أصنافها وفي طعومها، وفي أشكالها وأحجامها، على أن كل نبات أخرجه الله عز وجل بهذا الماء الواحد، يكون الماء هو أكثر محتوياته.
فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [فاطر:27] فالله أنزل هذا الماء الواحد من السماء فسقاكم به، وسقى به مواشيكم وأنعامكم وزروعكم، وأخرج به ثمراتكم وحبوبكم، وهو الخلاق الواحد لا شريك له، فكيف تنكرون أن يعبد وحده لا شريك له؟ وكيف تنكرون أن يأمركم بعبادته وتتعجبون من ذلك؟ وهل من خالق غير الله يصنع ذلك ويرزقكم من السماء والأرض؟ لا إله إلا هو, ثم قال سبحانه:
وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ *
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:27-28] أي: الذين يخشون الله هم العلماء الذين يتفكرون في هذه الآيات الباهرات، والعالم ينظر ويتأمل ويصل بعلمه إلى أن هذا الشيء مستحيل أن يوجده غير الله سبحانه تبارك وتعالى، فعالم النبات يمسك ورقة النبات -عادة إذا أخذها الإنسان العادي لا يأبه بها ويلقيها في النفايات- ثم يقطعها إلى شرائح بسيطة ثم يضعها تحت الميكروسكوب ويتأمل في جوف هذه الشريحة ومحتوياتها، ويدرس تركيبها، وما تشابه فيه غيرها من النبات، وما هي الأمراض التي تبرأ بتناولها! ثم يدركون أن الله عز وجل خلقه لحكمة عظيمة ولم يخلقه هباءً أو سداً، والعلماء هم من يتأملون في هذا الخلق العظيم فيدركون عظمة الله عز وجل، ويكونون أشد خشية له، وقوله:
وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ [فاطر:27] أي: خلق هذه الجبال العالية الصعبة الوعرة، وجعل بينها طرقاً ومسالك، والجدد: الطرائق، وجدد: جمع جدة، والجدة: الطريق، فالله سبحانه برحمته جعل في الجبال العاليه الراسية الوعرة الصعبة طرقاً لمن يريد أن يسلكها، كما أن الله سبحانه تبارك وتعالى يلونها فمنها ما هو أبيض عظيم البياض، ومنها ما هو أكدر، ومنها ما هو أحمر شديد الحمرة، قد لونها ربها سبحانه تبارك وتعالى, فانظر وتأمل في بديع خلقه سبحانه تبارك وتعالى, قال سبحانه وتعالى:
وَغَرَابِيبُ سُودٌ [فاطر:27] غرابيب سود أي: جبال من حجارة سوداء، ويقال: هذا أسود غربيب، أي: أسود شديد السواد، كما تقول: هذا أحمر قاني، أي: أحمر شديد الحمرة، وتقول: هذا أصفر فاقع لونه، أي: أصفر شديد الصفرة، وكذلك تقول: أسود غربيب وقد يعكس فيقال: غربيب أسود، والمعنى: شديد السواد، فالله سبحانه يخبرنا عن هذه الجبال التي نراها ويدعونا لتأمل عظمته فيها، فالمسافر الذي يركب الطائرة وينظر إلى الجبال من الأعلى يجد مناظراً عجيبة غاية في الجمال، تأسرك بألوانها فمنها جبال سوداء وجبال حمراء وجبال بيضاء، تبدي لك الأرض متعرجةً وأخرى مستوية، فلا تملك إلا أن تقول: سبحان الخلاق العظيم، وأكثر من ينظر إلى ذلك ويتأمل ويتعجب هم أهل العلم حيث يتأملون في بديع خلق الله، فلا يملك أحدهم إلا أن يقول: سبحانك ما خلقت هذا باطلا، بل كل من ينظر إليها يدرك أن الله خلق كل ذلك ليرينا من آيات جلاله وجماله سبحانه تبارك وتعالى في هذا الكون، قال سبحانه:
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ [فاطر:28] أي: الناس ألوان مختلفة، فمنها الأحمر ومنها الأبيض ومنها الأسمر، فالناس في أوربا بلون، وفي أمريكا بلون آخر، وفي أستراليا بلون ثالث، وفي الهند بلون وفي الصين بلون والسودان بلون، فمع أن الخالق واحد سبحانه إلا أنه عدد صفات مخلوقاته ليريكم من آياته، مع أنه كان قادراً على أن يجعل الجميع بلون واحد، ولكن الله سبحانه خلق ونوع في خلقه ليرينا قدرته وآياته سبحانه، قوله:
وَالدَّوَابِّ
أي: كل ما يدب على وجه الأرض، فإنها أنواع مختلفة ينظر المتأمل فيها ويتعجب من بديع صنع الله سبحانه فهو البديع سبحانه فاطر السموات والأرض، فقد تعددت الأشياء واختلفت ألوانها، مع أن الذي خلقها هو الخالق الواحد لا شريك له ثم قال سبحانه:
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فمن تأمل في هذا الكون، وآتاه الله عز وجل العلم، فإنه سيصل في النهاية إلى معرفة الخالق سبحانه، وأنه لا أحد يستحق أن يعبد إلا هو سبحانه تبارك وتعالى, والعلماء في الآية فاعل يخشون، فإن العلماء يخشون الله سبحانه أعظم الخشية، بل كلما ازداد العلم في قلب الإنسان، إما بدين الله سبحانه تبارك وتعالى، أو بخلق الله سبحانه، فإنه يصل بعلمه إلى أن يعرف الله سبحانه تبارك وتعالى، ويزداد خشية وخوفاً من الله سبحانه، وقولنا أن العلماء يخشون الله سبحانه لا يعني أن غيرهم لا يخافون من الله، بل هم يخافون الله ويخشونه، ولكن الأشد خشية هم من يجتمع فيهم العلم بالدين مع العلم بأمور خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، ثم أردف الله آياته بنعوت جلاله فقال:
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28] أي: الله عزيز غالب قاهر لا يمانع سبحانه تبارك وتعالى، يغفر سبحانه لمن تاب وأناب إليه إن الله عزيز غفور، وقد جاء في سنن
الترمذي وهو حديث صحيح عن
أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (
ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم) عابد أي: متعبد يكثر من الصلاة والصوم، والآخر عالم, قد عرف الشريعة وتعلم العلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) فبين أن العلم رفعة قال تعالى:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] أي: أن الله يرفع المؤمنين الذين أوتوا العلم درجات فوق خلقه سبحانه تبارك وتعالى، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : (فضل العالم على العابد) بيان أن العالم أفضل من العابد، والمراد بالعالم: العالم بالله سبحانه تبارك وتعالى، وبكتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، التقي الذي يخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى، فيبين النبي أن فضله على العابد، كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى أصحابه صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
إن الله وملائكته وأهل السموات والأراضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) وهذه مزية العالم الذي يعلم الناس الخير، وصلاة الله عليه: أي أن الله يثني عليه ويرحمه سبحانه، وصلاة الملائكة عليه: أي أنها تدعو له ربها سبحانه تبارك وتعالى، وليس ذلك فحسب بل يصلي عليه من في السموات ومن في الأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت -السمك في الماء- فإنه يدعوا لمن يعلم الناس الخير، وما ذاك إلا لأن العالم يخشى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويصل بهذه الخشية إلى الإيمان بالله سبحانه وإلى اليقين به سبحانه، ونذكر هنا قصة جميلة ذكرها
وحيد الدين خان في كتاب الإسلام يتحدا فقال: [ واقعة رواها العالم الهندي الدكتور
عناية الله المشرقي -هذا الرجل وصل إلى درجة عظيمة جداً في علم الفيزياء، وكان عالماً من العلماء وله نظريات في الرياضيات والفيزياء أبهرت العالم، كان هذا الرجل العالم المسلم
عناية الله المشرقي في بريطانيا في جامعة كمبريدج يتعلم هنالك، وله أساتذته هناك في هذه الجامعة يقول: كان ذلك يوم أحد من أيام سنة 1909م وكانت السماء تمطر بغزارة يقول
عناية الله المشرقي : خرجت من بيتي لقضاء حاجة ما، فإذا بي أرى الفلكي المشهور
جيمس جنز، الأستاذ بجامعة كمبريدج ذاهب إلى الكنيسة، والإنجيل والشمسية تحت إبطه، فدنوت منه وسلمت عليه فلم يرد عليّ وهو غارق في التفكير، فسلمت عليه مرة أخرى فسألني: ماذا تريد؟ فقال: قلت أمرين: الأول هو أن شمسيتك تحت إبطك والسماء تمطر بغزارة، فكيف تأخذ شمسية تحت إبطك والسماء تمطر عليك بغزارة، فانتبه الرجل ووضع الشمسية فوق رأسه، فعرفت أنه كان في تفكير عميق أفقده الإحساس ببرد الشتاء النازل على رأسه، قال والثاني: قال: ما الذي يدفع رجل ذائع الصيت في العالم مثلك أن يتوجه إلى الكنيسة فتوقف الرجل لحظة ثم قال عليك اليوم أن تأخذ شاي المساء عندي! قال: فوافقت فلما وصلت إلى داره في المساء خرجت زوجته في تمام الساعة الرابعة بالضبط وأخبرتني أنه ينتظرني، وعندما دخلت غرفته وجدت أمامه منضدة صغيرة موضوع عليها أدوات الشاي، وكان البروفيسور منهمك في أفكاره، وعندما شعر بوجودي سألني ماذا كان سؤالك؟ ودون أن ينتظر ردي بدأ يلقي محاضرة عن تكوين الأجرام السماوية ونظامها المدهش وأبعادها وفواصلها ألا متناهية وطرقها وأنوارها المذهلة، قال
عناية الله: حتى شعرت بقلبي يهتز لهيبة الله وجلاله وأما
جيمس فوجدت شعر رأسه قائم والدموع تنهمر من عينيه ويداه ترتعدان من خشية الله، وتوقف فجأة، ثم بدأ يقول: يا
عناية الله! عندما ألقي نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الإلاهي وعندما أركع أمام الله وأقول له إنك لعظيم أجد كل جزء في كياني يؤيدني في هذا الدعاء وأشعر بسكون وسعادة عظيمتين قال: وأحس بسعادة تفوق سعادة الآخرين ألف مرة أفهمت يا
عناية الله لماذا أذهب إلى الكنيسة! قال
عناية الله: لقد أحدثت هذه المحاضرة طوفان في عقلي فقلت لهذا الرجل لقد تأثرت جداً بالتفاصيل العلمية التي رويتموها لي وتذكرت بهذه المناسبة آية من كتابي المقدس، يريد من القرآن أفأخبرك بها؟! قال: بكل سرور، فقال: قرأت عليه هذه الآية
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ *
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:27-28] قال فصرخ
جيمس فقال: ماذا قلت؟ إنما يخشى الله من عباده العلماء هذه عندكم في القرآن؟ إن هذا غريب جداً إن الأمر الذي كشفت عنه بهذه الآية استمرت دراسته لي خمسين سنة من أنبأ محمداً بهذا؟ وهو لم يطلع على الفلك ولا على علوم الكون؟ قال: هذه الآية موجودة في القرآن حقاً؟ لو كان الأمر كذلك فاكتب شهادة مني أن القرآن كتاب موحى من عند الله سبحانه تبارك وتعالى! يريد قوله تعالى:
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
، لقد وصل الرجل إلى هذه الخشية من الله بعد دراسة دامت خمسين سنة عرف فيها الكون والفلك والنجوم والشمس والقمر، وعرف الله سبحانه تبارك وتعالى، وعرف أن الذي يصل إلى هذه الدرجة من العلم يخاف الله، فإذا بالرجل يخبره ببساطة أن آية في القرآن تتحدث بهذا المعنى جاء بها محمد من عند ربه؟ فأجابه أن ذلك ليس ممكناً أن يأتي بها محمد من تلقاء نفسه فقد درست خمسين سنة حتى وصلت إليها، بل المؤكد أن محمداً رسول من عند رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه.