اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة فاطر: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [فاطر:15-18].
هنا ينادي الله سبحانه تبارك وتعالى الخلق جميعهم ويخبرهم سبحانه بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]. أي: يا أيها الناس! كلكم فقراء إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، والله وحده هو الغني وهو الحميد سبحانه تبارك وتعالى. فالناس فقراء بأصل خلقتهم. والإنسان بأصله فقير، والله هو الغني الحميد سبحانه تبارك وتعالى. وعقب بعد الغني بأنه الحميد سبحانه تبارك وتعالى؛ ليبين للناس أن من كان غنياً في الدنيا فليس بأصل خلقته وإنما أغناه الله، واغتنى بإعطاء الله له. ومع ذلك يبخل على الخلق، فلا يستحق أن يحمد في صنيعه لأنه بخيل، مع أن الله سبحانه هو الذي أعطاه المال.
والله عز وجل يستجيب الدعوات ويعطي صاحبها إحدى ثلاث: إما أن يعجل الإجابة له سبحانه، ويعطيه ما سأل، وإما أن يصرف عنه من الشر بقدر هذا الذي سأل؛ لأنه لو نال هذا العبد الخير الذي طلبه لأتته مصيبة من المصائب أو أتاه شر، فالله سبحانه من رحمته لا يعطيه ما سأل، وإنما يصرف عنه ما نزل، سبحانه تبارك وتعالى، أو أنه يدخر ذلك للعبد إلى يوم القيامة. ولو تأمل العبد هذا لوجد هذا أفضل له.
فالعباد فقراء إلى الله سبحانه، والله هو الغني وهو الذي يعطي سبحانه تبارك وتعالى من فضله ومن غناه. وهو الحميد المستحق للحمد على صفاته العظيمة، ومنها صفة الكرم، فهو الكريم سبحانه تبارك وتعالى، فإنه يعطي عباده عطاءً عظيماً، وكل عطائه عظيم سبحانه.
والناس فقراء إلى الله وإن كانوا يقولون: نحن أغنياء. فقد يكون الإنسان مليونير، ويقول: أنا غني وحقيقته أنه مفتقر إلى الله؛ لأن المال مال الله وليس مال العبد، فالعبد وإن كان معه المال الكثير فهو فقير إلى الله.
والفقير: محتاج. فلا يستغني أحد أبداً عن ربه سبحانه، وإن كان معه مال، فلعل الله يسلبه الصحة أو يبتليه بشيء، فيبقى فقيراً محتاجاً إلى الله مع أنه عنده المال والثروة وعنده كذا كذا.
إذاً: كل إنسان يستشعر الحاجة إلى الله والذل إليه سبحانه تبارك وتعالى ويدعو ربه بالليل وبالنهار، ويسأله ويطلب منه. قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [فاطر:15].
فهذا الحديث العظيم فيه بيان ما ذكرنا من افتقار العباد إلى الله وحاجتهم إليه سبحانه.
فقوله: (يا عبادي! كلكم ضال)، أي: أنتم مفتقرون إلى الهداية. (إلا من هديته)، أي: إلا من أنعمت عليه وتكرمت عليه فهديته إلى الصواب وإلى الدين الصحيح وإلى معرفة الرب سبحانه تبارك وتعالى، فنحن مفتقرون إلى هدى الله، ولذلك في كل صلاة نقرأ الفاتحة ونقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
وقوله: (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته). والذي يطعمنا هو الله سبحانه تبارك وتعالى. فقد خلق لنا رزقنا من طعام وشراب، وخلق لنا الأعضاء التي ننتفع بواسطتها بهذا الطعام والشراب. فعلى العبد أن يسأل ربه سبحانه: اللهم أطعمني. فيطعمه سبحانه تبارك وتعالى. فهو الذي خلق له هذا الرزق، وأتاه به، وهيأ له أسبابه، وجعله يأكل ويخرج، والله على كل شيء قدير.
وقوله: (كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني)، أي: اطلبوا مني ولا تطلبوا من غيري، (فاستطعموني أطعمكم).
وقوله: (يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته)، أي: لو شاء الله سبحانه لأذهب ما عندكم من كسوة، ولكنه بكرمه يعطي العباد ويكسوهم فاسألوه الكساء.
وقد قال: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، أي: اتقوا الله سبحانه، فإنه يعلمكم ويطعمكم ويسقيكم ويكسوكم ويكفيكم ويؤويكم، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي.
يقول سبحانه في الحديث: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم). والعبد محتاج إلى ربه فهو خطاء بالليل وبالنهار، والله بكرمه يغفر بالليل وبالنهار لعباده. (فاستغفروني أغفر لكم).
وقوله: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، أي: أن العبد مهما تقرب إلى الله فإن الله لا ينتفع من عمله بشيء، ومهما عصى ربه فلن يضر ربه شيئاً ولن يضر إلا نفسه. فالله غني عن خلقه وعن عبادتهم وقد ذكر الله في لحوم الأضاحي والهدايا التي يذبحونها لله سبحانه تبارك وتعالى أنه: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، أي: لن يأخذ الله اللحوم ولا الدماء لينتفع بها، ولكن الذي يريده الله سبحانه تبارك وتعالى ويصل إليه هو التقوى منكم. فاتقوا الله ليفيض عليكم بفضله وغناه، ويعطيكم من رزقه سبحانه وينصركم ويكون معكم.
وقبل أن يخلق الله البشر خلق الملائكة، وقد كانوا أقوياء أتقياء لله سبحانه، لا يعصون الله شيئاً، ولكنه سبحانه أراد إظهار أثر أسمائه الحسنى وصفاته العلى، من أنه الغفور الكريم الغني القادر القاهر فوق عباده النافع الضار المعز المذل، فخلق الخلق لتظهر آثار صفاته وأسمائه الحسنى سبحانه تبارك وتعالى. فقال هنا لعباده: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً). فلو أن العباد كلهم كانوا فجاراً لما نقص ذلك من ملك الله شيئاً، ولو أنهم كلهم كانوا أتقياء أبراراً لما زاد ذلك في ملك الله عز وجل شيئاً.
وقوله: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد)، أي: لو أن الخلق جميعهم الذين سيجمعهم الله يوم القيامة من إنس وجن ومخلوقات قاموا بين يدي الله سبحانه فسألوه وطمعوا في كرمه سبحانه وطلب كل منهم كل ما شاء وتمنى من الله عز وجل فأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عند الله إلا كما ينقص المخيط -أي: الإبرة- إذا أدخل البحر. وهذه الإبرة لو غمست في البحر ثم أخرجت فإنها لا تنقص من ماء البحر شيئاً. وكذلك لو أن الخلق كلهم سألوا الله عز وجل فأعطاهم ما سألوا لم ينقص ذلك من ملك الله عز وجل شيئاً.
يقول: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها)، أي: أعد عليكم أعمالكم ثم يوم القيامة أوفيكم إياها. (فمن وجد خيراً) وهو من الله (فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). فقد أعذر إليه ربه سبحانه ووعظه ونصحه وأنزل عليه كتابه وأرسل إليه رسوله صلوات الله وسلامه عليه. ولا حجة للناس على الله بعد إنزال الكتب وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام.
إذاً: فالإنسان فقير مهما أوتي من المال، وهو محتاج إلى ربه، فليدعوه ليل نهار، فهو الفقير بذاته إلى ربه، والله هو الغني بذاته سبحانه تبارك وتعالى.
قالت عائشة : (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس)، يعني: خرج في أول وقت الضحى صلى الله عليه وسلم إلى المصلى ليصلي بالناس صلاة الاستسقاء، ويدعو ربه سبحانه أن يسقيهم، فقعد على المنبر صلوات الله وسلامه عليه، فكبر وحمد الله عز وجل، وهذا من أدب الدعاء وأدب الطلب من الله سبحانه تبارك وتعالى، ثم قال: (إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه)، أي: عن وقت زمانه عنكم. (وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنت إله واحد لا معبود حق سواك، وأنت الغني تعطي من يحتاج إليك، وتعطي عبادك ما يسألونك، وتعطي بغير سؤال، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين، أنزل علينا الغيث). ولم يقل أنزل علينا المطر؛ لأن المطر قد ينزل رذاذاً من السماء لا ينتفع به، ولكن الغيث مطر كثير عظيم غزير وفير من الرب سبحانه تبارك وتعالى، ينقذ به عباده ويغيثهم مما هم فيه.
ولما كان الغيث قد يكون ماءً كثيراً يغرق الناس قال صلى الله عليه وسلم في دعائه: (واجعل ما أنزلت لنا قوة)، أي: اجعله يقوينا، فلا يضيعنا ولا يهلكنا.وقوله: (وبلاغاً إلى حين). أي: يبلغنا إلى حين أن يريد الله سبحانه تبارك وتعالى ويشاء.
قال: (ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه)، يعني: رفع يديه رفعاً شديداً إلى السماء، وقلب كفيه إلى السماء صلوات الله وسلامه عليه، استبشاراً بأن ينزل الله المطر، وأيضاً بتحويل الحال، وقلب رداءه الذي يلبسه فوق منكبيه ظهراً لبطن أيضاً، استبشاراً بتغير الحال. (ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين صلوات الله وسلامه عليه، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت). وقد كانت السماء صافية، فإذا بالله عز وجل ينشئ سحابة فخرجت أمام الناس، (فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله، قال: فلم يأت مسجده حتى سالت السيول)
وهذا من فضل الله واستجابته لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سرعتهم إلى الكن ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال: (أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله). ونحن نشهد أن الله على كل شيء قدير، وأنه عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا فضل الله سبحانه، وهذا دعاء نبيه الكريم يدعوه: أنت الغني ونحن الفقراء إليك.
فالقراء منهم نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب يقرءونها: ( أنتم الفقراء الى الله )، وفي قراءة أخرى: ( أنتم الفقراءُ لى الله ) بالهمزة في الأولى والتخفيف في الثانية. وباقي القراء يقرءونها بهمزتين: أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ [فاطر:15]. فعند التقاء الهمزتين كان العرب يحذفون إحدى الهمزتين تخفيفاً، ويعتبرون ذلك أجود في اللغة.
ومن ذلك قراءة حفص في قوله تعالى: ( أآعجمي وعربي )، أصلها (أأعجمي وعربي)، ولكنه سهلها؛ لأنها أخف على ألسنة البعض من العرب.
أي: إن يشأ سبحانه تبارك وتعالى يهلك ويفني هؤلاء الموجودين الذين يعصون الله ويكفرون به، ويأتي بخلق آخرين يعبدون الله ولا يعصونه ولا يكفرون به سبحانه. قال تعالى: وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فالطر:17] أي: أن الذي بدأ الخلق قادر على أن يعيده، وليس ذلك بممتنع عليه، وعزيز هنا بمعنى: ممتنع.
قال تعالى: وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:17]، أي: وما ذلك على الله بالشيء الصعب والمتعذر، ولكنه من أسهل ما يكون، فإنه إذا أراد شيئاً إنما يقول له: كن فيكون.
أي: أن أهل الإثم والمعاصي لا أحد يحمل شيئاً عن الثاني. وقد كان الكفار يقول بعضهم لبعض ذلك: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ [العنكبوت:12]، أي: نحن نحملها عنكم، فقد كانوا عجباً في الغباء. وأحدهم عندما سمع قوله تعالى عن النار: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30] وكان يكنى بـأبي الأشدين وكان من العرب الأقوياء جداً، وكان غباؤه على قدر قوته. قال: يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر. وهذا من الغرور والغباء، وإلا فهو يتكلم عن ملائكة الله ولم يراهم. ومثل هذا الكلام كان يعجب الحمقى والمغفلين من المشركين ويهون عليهم الأمر. فيصدقونه في هذا التخريف الذي يقوله. وكان بعضهم يقول لبعض: اعمل هذا الشيء وعلي ذنبه، أي: أنا سأحمل عنك الذنب، فيصدقه في هذا الأمر، ويعمل هذا العمل. وإلى الآن موجود مثل هؤلاء الحمقى والمغفلين، يقول أحدهم للآخر: اعمل هذا العمل وعلى ذنبه ولا تخف. وقد قال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، أي: أنت تحمل ذنبك ومثل ذنبه، وأما ذنبه فهو يحمله، (فمن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً). فكل واحد يحمل ذنبه فقط، ولكن هذا عليه عذاب ذنبه وعذاب مضاعف؛ لأنه سن للباقين، من غير أن يخفف عن الآخرين شيئاً. فالناس الآثمة المحملة بالذنوب عليهم ذنوبهم وأمثال ذنوب من أضلوهم في هذه الحياة الدنيا. ولذلك الضعفاء من أهل النار عندما يقولون لله سبحانه تبارك وتعالى عن الأقوياء الذين أضلوهم: رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ [الأعراف:38]، أي: هؤلاء هم السبب فآتاهم عذاباً ضعفاً. يقول الله عز وجل: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:38].
أي: هؤلاء عذابهم مضاعف، وأيضاً أنتم عذابكم مضاعف، ولكن لا تعلمون ما الذي ادخره لكم الله عز وجل عنده من عذاب نسأل الله العفو والعافية.
قال عكرمة: بلغني أن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك باراً وعليك مشفقاً وإليك محسناً؟ ألا ترى ما أنا فيه؟ فهب لي حسنة من حسناتك أو احمل عني سيئة. فيقول الأب: إن الذي سألتني يسير، ولكني أخاف مثلما تخاف. فكل إنسان خائف. فالأب يهرب من ابنه، والابن يهرب من أبيه. ويكون حال الزوج مع زوجته، والزوجة مع زوجها نفس حال الابن مع أبيه. فكل منهما يذهب للآخر ويقول: أعطني حسنة، فيقول: والله إن الأمر سهل، ولكن أخاف أنك لو أخذت الحسنة ينقص ميزاني وأدخل بسببها النار. فيهرب كل منهم من الآخر ويقول: إني أخاف مما تخاف ثم تلا عكرمة قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18].
وأما الأم فقال الفضيل بن عياض : إن المرأة تلقى ولدها فتقول: يا ولدي ألم يكن بطني لك وعاء؟ ألم يكن ثديي لك سقاء؟ ألم يكن حجري لك وطاء؟ فيقول: بلى يا أماه. فتقول: يا بني! قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنباً واحداً. فيقول: إليك عني يا أماه فإني بذنبي عنك مشغول.
وكل إنسان يوم القيامة يقول: نفسي نفسي، حتى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كلهم يقول: نفسي نفسي. إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه فيقول: (يا رب أمتي، يا رب أمتي).
فعلى كل إنسان أن يستعد لهذا اليوم الفظيع ويعمل له ويعد له. قال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا [فاطر:18]، يعني: مثقلة بالذنوب، أي: أنها تحمل أحمالاً كالجبال يوم القيامة.
قال تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ [فاطر:18]، يعني: الذين ينفعهم الإنذار والتخويف هم الذين يخافون من الله سبحانه، ويخافونه بالغيب. وأما غيرهم فلا يخافون إلا إذا جاءتهم القيامة ورأى كل منهم الجنة والنار أمامه فيخافون من أن يحرموا الجنة ويدخلوا النار.
قال الله سبحانه: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [فاطر:18]. فعبر عنهم بأنهم يخشون ربهم ويقيمون الصلاة؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فهم يخشون الله، وصلاتهم تزيدهم خشية من الله سبحانه، فيبتعدون عما حرمه سبحانه. قال تعالى: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [فاطر:18]. وتزكى بمعنى: اهتدى. وأصل التزكية: التطهر. فزكى نفسه أي: طهرها.
فقد أمرنا بالتزكية وأخبر عن الجزاء فيها فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]. فمن طهر نفسه من الشرك بالله سبحانه، ومن المعاصي والذنوب، وأقبل على الله سبحانه واتبع سبيله سبحانه تبارك وتعالى فقد أفلح.
وأما قوله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32] فالمقصود به تزكية النفس بالمدح، والتكلم عن النفس، وكأن الإنسان هو الذي هدى نفسه ورزقها، فيتكلم ويمدح نفسه ويقول أنه: أفضل من فلان وأحسن من فلان وعنده أكثر من فلان.
قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32].
وقد يقول الإنسان: إن إيمانه أكثر من إيمان فلان، وأنه يعمل كذا وهو لا يعمل هذا الشيء. وقد نهي عن هذا. قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32]، أي: لا تمدحوا أنفسكم. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يمنع الصحابة من أن يمدح بعضهم بعضاً في وجهه، ويقول لمن فعل ذلك: (قصمت ظهر أخيك)؛ لأنه إذا مدحه في وجهه فقد يعمل بعد ذلك العمل يرائي به، فكأنه بهذا قصم ظهره. وقال صلى الله عليه وسلم: (احثوا في وجوه المداحين التراب)؛ لأن المدح يغر الناس في أنفسهم ويغرهم في دينهم. والتزكية التي مدحها الله هي: التطهر من الشرك والمعاصي والذنوب، والتقرب إلى الله. هذه هي التي أمر الله عز وجل العبد بها وأخبر بأنه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10] أي: من نجسها بالكفر وبالشرك وبأدران المعاصي وما فيها من قذر.
قال الله سبحانه: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [فاطر:18]، أي: أن الإنسان الذي يفعل الصالحات فجزاؤه لنفسه. وعمله عائد إليه، ومنفعته ترجع إليه يوم القيامة. وإلى الله المرجع فيجازي العباد على ما قدموا. وقد جاء في سنن النسائي من حديث ثعلبة بن زهدم اليربوعي قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول الله! هؤلاء بنو
أي: لا تزر وازرة وزر أخرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يحمل أحد عن أحد شيئاً، ولا يحمل الإنسان ما فعله غيره إلا أن يكون هو الذي سنه له، وهو الذي علمه أن يصنعه ويفعله. فلا تجني نفس على الأخرى، فالقاتل هو الذي يقتل، فإذا لم يعف أهل القتيل فعليه القصاص الذي أخبر به الله سبحانه، أما أن يقتل غير القاتل لكونه من القبيلة نفسها فهذا من أفعال الجاهلية التي لا يقرها الإسلام ومنعها. فالجاني عقوبته وإثمه على نفسه.
والسارق تقطع يده ولا تقطع يد غيره، من قريب ونحوه. فلا أحد يحمل عن أحد شيئاً في كل الذنوب، سواء في الدنيا أو في الآخرة.
وروى أبو داود من حديث أبي رمثة قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا معك؟ قال: ابني أشهد به) كأنه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يتشكك فيه فقال: ابني أشهد به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لا تجني عليه ولا يجني عليك) .
إذاً: فالمقصد من السؤال هو البيان له ولغيره أنه لا يحمل أحد عن الآخر إثمه، ولا تجني نفس على أخرى ولكن تجني على نفسها، ويحاسب كل الإنسان بذنبه لا بذنب غيره.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر