قال الله عز وجل في سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ [الشعراء:192-204].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة قصص السابقين ممن أرسل إليهم رسله، وهداهم بدعوته سبحانه إلى الحق، فأبى أكثرهم إلا الإعراض عن رسل الله، والتكذيب بدعوتهم، فإذا به سبحانه يرينا فيهم الآيات، ويختم كل قصة من هذه القصص بقوله سبحانه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:8].
فأرانا الله سبحانه كيف أهلك المتكبرين، وكيف مكن للمستضعفين، فهذا موسى وبنو إسرائيل يتصدى لهم فرعون وملؤه وجنوده، وإذا بالله سبحانه ينصر الحق ويحقه ويخذل الباطل ويبطله، ويرينا فيهم آياته، ويقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9].
وقد ذكر الله قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام باختصار، وفصل في غير هذه السورة ما اختصره هنا، وختم هنا بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9].
فلما أصروا على ما هم فيه، واستهانوا بعذاب الله، واستهزئوا برسول الله، جاءهم العذاب من حيث لا يشعرون.
فقد كانوا يسخرون من نبيهم كيف يصنع سفينة في الصحراء، ومن أين يأتيها الماء، فإذا بالله يفجر الأرض عيوناً، وينزل من السماء ماءً فيغرق جميع من على الأرض، وينجي المؤمنين مع نبيهم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويختم بالختام الجميل: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9].
فأبوا وأصروا على ما هم فيه حتى جاءهم العذاب من عند رب العالمين.
ويختم ربنا بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9].
ثم ذكر من بعدهم ثمود الذين جاءوا وصنعوا صنيعهم، فعذبهم الله عز وجل بعذاب كعذابهم، وقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9].
ثم ذكر قوم شعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهم أهل مدين الذين طلبوا من نبيهم أن يرسل عليهم كسفاً من السماء، أي: قطعاً من السماء، فإذا بالله ينزل عليهم عذابه من حيث لا يحتسبون ولا يشعرون، فجاءتهم ظلة من فوقهم أظلتهم فظنوا أن فيها الرياح الطيبة والبرودة، وقد قاسوا من الحر سبعة أيام، فاستظلوا بهذا الظل جميعهم، فلما تتاموا تحته إذا بصيحة من السماء ورجفة من الأرض، وإذا بالظلة تمطر عليهم عذاباً وناراً وسموماً، فأهلكهم الله سبحانه، وختم في المرة الأخيرة بقوله سبحانه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9].
وقد كرر الله عز وجل وراء كل آية من آيات هذه السورة قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9]، فكان مجموع تكرارها ثمان مرات، والمعنى: أن الله عزيز غالب، وعزته وجبروته سبحانه وتعالى على الكافرين، حيث دمرهم أجمعين، ورحمته ورأفته وحنانه على المؤمنين، فجمع سبحانه بين الصفتين: عزيز وبهذه العزة أهلك الكافرين، ورحيم وبهذه الرحمة أنجى المؤمنين، وقد جمع لنا هذا كله في هذا الكتاب العزيز المنزل من عنده.
وقد عرف أهل الكتاب ذلك؛ لأن هذه القصص ما كان يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم من قبل، وقد كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعون منه بعض هذه القصص فيتعجبون؛ بسبب إحاطته بتفاصيلها على الرغم من أنه لم يخرج خارج مكة صلى الله عليه وسلم ليتعلم علماً، ولم يجالس أحداً من أهل الكتاب، وقد يذكر تفصيلات دقيقة لا يعرفها الكثيرون من أهل الكتاب، فيقول الله عز وجل لهؤلاء ليسكتهم: لا تعجبوا: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:192] أي: إن هذا القرآن جاء من عند رب العالمين سبحانه، فقد نزله تنزيلاً، ولم يأت من عند أحد غيره.
قال الله عز وجل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193] أي: أن هذا القرآن نزله ربنا سبحانه على نبينا صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل الروح الأمين، ووصفه الله عز وجل بهذه الصفة؛ لأنه روح خلقها الله سبحانه وتعالى، وهو أمين كما أن الرسل من أهل الأرض أمناء، فكل رسول منهم يقول لقومه: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:107]، فكذلك هذا الروح الأمين رسول من رب العالمين إلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وهو أمين بشهادة رب العالمين سبحانه هذه.
وهذا القرآن نزله الله تنزيلاً، وتنزيلاً: مصدر من نزل، فهو تنزيل من عند رب العالمين، وهذا فيه إثبات لعلو الله تعالى.
وفي هذه الآية قراءات: قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم وهم يقرءونها: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193]، وباقي القراء يقرءونها بالتضعيف: ( نَزَّلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ) أي: نزل الله عز وجل بهذا القرآن من السماء، أما نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193] على القراءة الأولى فهو جبريل عليه السلام.
وقد أنزل الله القرآن كله إلى بيت العزة في السماء في ليلة القدر، ثم نزل من بيت العزة إلى الأرض بأمر الله سبحانه لجبريل أن ينزل بآية كذا في الوقت الفلاني، وسورة كذا في الوقت الفلاني، وبكلمة من سورة كذا في الوقت الفلاني، فينزل القرآن بحسب ما يحتاج إليه الناس، فهم يحتاجون إلى أحكام ومواعظ، فينزل الله سبحانه جبريل بما يحتاجونه.
قال الله تعالى: عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:194] أي: نزل هذا القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وليس على أحد سواه، فوعاه قلبه صلوات الله وسلامه عليه وحفظه، فلما كان صلى الله عليه وسلم يطلب من جبريل أن يزوره أكثر مما يزوره، وينزل عليه بالقرآن أكثر مما ينزل عليه من قبل أخبره الله سبحانه وتعالى في القرآن عن ضابط نزول جبريل عليه فقال: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64] أي: أن ربك لم ينسك، ومَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، ولكن ينزل بقدر، وكل شيء عنده بمقدار، فيعلم سبحانه متى ينزل هذه السورة، ومتى ينزل هذا الحكم، ومتى ينزل هذه الآية، فكل شيء بقدر عند رب العالمين سبحانه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ مع جبريل عندما يأتيه بالقرآن؛ حتى لا ينسى، فإذا بالله يعلمه أدب السماع، وذلك بأن ينصت ولا يتكلم، قال سبحانه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة:16-17] أي: نحن الذين نحفِّظك، ونحن الذين ننسيك ما نريد من ذلك، قال الله عز وجل: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]، فالله هو الذي يحفظ نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاج إلى معالجة الحفظ، بل يستمع لما يقوله جبريل ولا يحرك به لسانه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:15-18] أي: إذا قرأه جبريل عليه السلام عليك، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:19] أي: نحن نبين لك هذا العلم العظيم، وما عليك إلا أن تصغي وتعطينا قلبك وأذنك، ونحن نملؤهما من علمنا.
قال الله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:193-194] فهو منذر، وهو بشير أيضاً، كما قال سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [فاطر:24]، والنذارة والبشارة إخبار، ولكن البشارة إخبار بما يسر، وقد يكون فيها ما يسوء، ولكن الغالب أنها إخبار بما يسر. والنذارة: الإخبار بما يخيف، وهو التوعد والوعيد، فهنا جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالاثنين: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]، فأرسلناك بهذا الحق الذي نزل من السماء بشيراً لمن آمن أن له الجنة، ونذيراً لمن كفر بالله أن عليه العذاب يوم القيامة.
قوله: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:194] أي: تخوف وتتوعد هؤلاء المشركين الكفار الذين أبوا إلا العصيان تتوعدهم بالنار في الآخرة، وبالقتل في الدنيا، ولذلك لما كان أهل مكة يؤذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويسخروا منه كان يقف لهم عند الكعبة صلوات الله وسلامه عليه ويقول: (ألا تسمعون: والله لقد جئتكم بالذبح)، فيقومون من أماكنهم خوفاً من النبي صلى الله عليه وسلم، فبعد أن استهانوا واستهزءوا به وهو يطوف بالبيت إذا بهم يلينون له، ومنه يخافون، ويقولون: (انصرف أبا القاسم فلست بالسفيه).
فجاء صلى الله عليه وسلم ليبشر المؤمنين، وينذر العصاة والمشركين بهذا القرآن العظيم بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195].
وقوله: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:192] أي: هذا الكتاب من عند رب العالمين: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193] أي: جاء به جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، فألقاه عليه فحفظه النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخله الله قلبه عليه الصلاة والسلام.
والزبر: جمع زبور، وهي الكتب، والمزبور بمعنى المكتوب، والزبْر الكتابة والتنقيش، فزبر الأولين: هي كتب الأولين السابقة كالتوراة والإنجيل، وقد أخبر الله عز وجل فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الكتاب الذي يأتي به.
وقد عرف أهل الكتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه عبد الله ورسوله، وأنه سماه المتوكل، وأنه ليس بفظ ولا غليظ، فقول الله عز وجل لرسوله في كتابه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45-46] قد ورد مثله عند أهل التوراة، كما قال ابن سلام وكعب الأحبار : نجد ذلك عندنا في التوراة: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. أرسلناك لنهدي بك قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صماً)، فهذا كله عند أهل التوراة، وقد أخبر بذلك من أسلم منهم بعد ذلك كـعبد الله بن سلام وكعب الأحبار رضي الله عنهما.
فهنا ربنا يخبرنا أن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم موجود عند أهل التوراة وعند أهل الإنجيل: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ [الشعراء:196].
كما أخبر الله عز وجل أنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فقال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:157]، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، ولكن أهل التوراة والإنجيل يأتون بالتوراة والإنجيل ويقولون: لا يوجد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن التوراة والإنجيل لم تكن بلسان العرب، فقد نزلت باللغة القديمة التي كانت شائعة عندهم وهي اللغة السريانية، ثم ترجموها بعد ذلك وحرفوها فألغوا منها ما أرادوا، فألغوا ذكر محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك من يطلع على الكتب القديمة بلغتها يجد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
وقد أخبرني أحد إخواننا الدكاترة الذين كانوا يحضرون رسالة الدكتوراة في اللغات القديمة أنه ذهب إلى الفاتيكان لإتمام دراسة الدكتوراة، وهنالك اطلع على مخطوطة للتوراة، فوجد فيها ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه بلغتهم، ولكن المترجم منها إلى الإنجليزية أو العربية أو الإسبانية أو الفرنسية ليس فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
ونحن لا يعنينا أن نجد هذا في كتبهم أو لا نجده؛ لأننا نصدق كلام رب العالمين، فربنا يقول: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:157]، فأخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وأنه يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ [الأعراف:157].
وقرأ ابن عامر : ( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي: هذه آية، وهي ما يعلمه علماء بني إسرائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن هذا القرآن العظيم، وقد عرفوا ذلك، فأرسل أهل مكة إلى اليهود في المدينة يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، فقال اليهود: هذا هو زمن النبي، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته.
فعرفت يهود أن زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد أظلهم، وكان اليهود مستذلين من الأوس والخزرج من أهل المدينة، وكانوا موالين للأوس أو للخزرج، وذلك حتى لا يكونوا وحدهم في المدينة، فإما أن يتولوا الأوس أو يتولوا الخزرج، بحيث إن هؤلاء يدافعون عنهم أو هؤلاء يدافعون عنهم، وكان إذا اشتد أهل الشرك بالمدينة من الأوس والخزرج أو غيرهم من كفار أهل المدينة، على اليهود فإنهم آنافهم ويذلونهم، فكان اليهود يقولون لهم: لقد أظلكم زمان يبعث فيه نبي، ونحن سنتبع هذا النبي ونقاتلكم معه، فمن كثرة ما قال ذلك اليهود في المدينة أصبح أهل المدينة ينتظرون ذلك النبي، وكلٌ منهم يريد السباق إليه صلوات الله وسلامه عليه، والعجب أن اليهود الذين كانوا يهددون الأوس والخزرج بهذا النبي لم يدخلوا في دينه صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمن به إلا القليل منهم كـعبد الله بن سلام، ثم بعد ذلك كعب الأحبار.
فأحب سلمان الفارسي أن يتوجه إلى المدينة، فانتظر إلى أن جاءت سفينة وفيها بعض العرب، وكان العرب في جاهليتهم أشراراً ليس عندهم وفاء ولا عهد إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فأخذوا منه أجرة من أجل يوصلوه إلى المدينة، وبعد أن ركب معهم صيروه عبداً عندهم، وهذا من نذالتهم وخيانتهم للوعود، ولذلك مقتهم الله عز وجل، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فمقتهم جميعهم إلا بقايا من أهل الكتاب).
أي: إن الله مقت العرب والعجم من أهل الأرض، وقعت كفار أهل الكتاب الذين ثلثوا وعبدوا غير الله سبحانه وتعالى، وزعموا أنهم يعرفون الله، قال الله سبحانه: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30].
وقد كان العرب في جاهليتهم شر خلق على وجه الأرض، فكان يأكل بعضهم بعضاً، ويغتصب بعضهم بعضاً، ويخون بعضهم بعضاً، وليس فيهم أمن ولا أمان، وتغير القبيلة على القبيلة الأخرى والثانية عليها، فمقت الله أهل الأرض جميعهم قبل مجيء نبينا صلى الله عليه وسلم إلا بقايا من أهل الكتاب، فذهب سلمان معهم إلى المدينة وباعوه لليهود وأخذوا ثمنه، وهو في كل ذلك صابر ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عرف من هؤلاء الرهبان صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً فـسلمان كان من المجوس ولم يكن من النصارى، ثم تنصر بعد ذلك مع هؤلاء الذين كانوا على التوحيد، وانتظر النبي صلى الله عليه وسلم فمكث في المدينة ولم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً؛ لأنه كان ما زال عبداً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إذا بـسلمان يتشوق إليه، فسمع اليهودي مع قريبه يقول: لقد جاء محمد، فسمع ذلك وهو فوق النخلة، فكاد يسقط منها لما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ من شدة فرحه، وذهب يسأل اليهودي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا باليهودي يلطمه ويقول: مالك وله، اذهب إلى عملك. فرجع إلى عمله رضي الله عنه، وذهب ذات مرة إليه عليه الصلاة والسلام وقد ادخر من طعامه شيئاً، فأعطاه إياه وقال مختبراً له: هذه صدقة، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها لأصحابه، فأكلها أصحابه ولم يأكل منها، فتبين لـسلمان أنه نبي؛ لأن النبي لا يأكل الصدقة، وقد عرف من أهل الكتاب أن النبي يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، فجاءه مرة أخرى بتمر وقال: هذه هدية، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم وأكله، ثم جاء سلمان يدور حول النبي صلى الله عليه وسلم، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم للذي يريده سلمان ، وأنه يريد أن يرى خاتم النبوة كالبيضة على كتف النبي صلى الله عليه وسلم، فألقى النبي صلى الله عليه وسلم ما عليه من رداء، فنظر إلى خاتم النبوة، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم وصدق وآمن رضي الله تعالى عنه.
فهذا واحد ممن كان من أهل الكتاب، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم بعلامته.
وكأنه كان مع بعض اليهود لما قال ذلك، وكأن الكثيرين لم يكونوا يعرفون أنه أسلم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اكتم إسلامي عن هؤلاء حتى يأتوا وسلهم عني، فسألهم عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فكان جوابهم: أنه سيدنا وابن سيدنا، وأنه حبرنا وابن حبرنا، ومدحوه وأباه مدحاً عظيماً.
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أسلم؟ قالوا: معاذ الله)، أي: حاشا لله لا يمكن أن يسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم إن أسلم؟ فكرروا)، فخرج ابن سلام يأمرهم أن يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم يعرفون أنه على الحق، فقالوا: (شرنا وابن شرنا)، ورجعوا عن كلامهم الذي قالوا.
وهذا من إفكهم وكذبهم على الله سبحانه، فقارئهم يضع يده على آية في كتاب الله وهو من كبرائهم، فإذا كان قارئ التوراة يفعل ذلك فكيف بباقي هؤلاء أولاد القردة والخنازير لعنة الله عليهم؟!
فالله عز وجل يخبرنا أن علماءهم يعرفون ذلك تماماً فيقول: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:197] أي: أن يعلموا أن هذا القرآن كلام رب العالمين، وأن هذا النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من عند الله.
قال سبحانه: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ [الشعراء:198] أي: هذا الوحي وهذا القرآن العظيم، عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ [الشعراء:198] كما يدعون، فقد كانوا يدعون أن غلاماً أعجمياً هو الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقولون: إن رجلاً اسمه رحمن موجود في اليمامة هو الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنهم كذابون في ذلك، وأن ما ادعوه غير موجود، فيقول الله سبحانه -يخاطب عقولهم لو كانوا يفهمون-: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:198-199] أي: إذا كان بالغة العربية فلا يريدون أن يؤمنوا، أو باللغة الأعجمية فسيقولون: نحن لا نفهم ماذا يقول، فلا يؤمنون به.
قال الله تعالى: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [الشعراء:201] أي: لا يؤمنون ولا يصدقون إلا أن يروا عذاباً كعذاب الأمم السابقة، وفي هذه الحالة يندمون حين لا ينفع الندم، ويطلبون الاستدراك في وقت العدم، فلا ينفعهم شيء إذا آمنوا حين يأتيهم العذاب.
قال سبحانه: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الشعراء:202] أي: فإذا جاءهم العذاب فإنه يأتيهم فجأة فينزل عليهم وهم لا يشعرون، فإذا جاء العذاب يقولون: هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ [الشعراء:203] أي: يطلبون النظرة، وطالما أنهم يطلبون الانتظار فلماذا لم يسلموا ويتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم؟!
ومن دعائهم كذلك قولهم -كما حكى الله عنهم-: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، فيدعون بدعاء لا يقوله إلا إنسان غافل غبي لا يفهم ما يقول، فبدلاً من أن يقولوا: أرشدنا إلى الحق واهدنا إليه، يقولون: إذا كان هذا حق فأنزل علينا عذاباً من عندك.
قال الله سبحانه عن هؤلاء: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ [الشعراء:204-206] أي: لو تركناهم يتمتعون ويأكلون ويشربون ويلبسون ويتزوجون سنين طويلة، وفي النهاية جاءهم الموت: ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ [الشعراء:206]، فهل أغنى عنهم هذا المتاع الذي تمتعوه؟ وهل أغنى عنهم طعامهم وشرابهم وقصورهم وبيوتهم؟ فلو كانت تغني لأغنت عن السابقين، ولكن: مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:207].
فإن يؤمنوا فهو خيرٌ لهم، وإن يكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر