أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:141-159].
يذكر الله عز وجل هنا في سورة الشعراء قصة ثمود التي كذبت رسولها، وأعرضت عنه وعاندته، وطلبت منه آية من الآيات، فلما حقق الله عز وجل لهم ما طلبوا كفروا وجحدوا، فانقلبت النعمة عليهم نقمة، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، ثم ختم سبحانه القصة بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:158-159].
وثمود هم أصحاب الحجْر، وكانت مساكنهم بين الحجاز والشام، وقد كان العرب يعرفون هذا المكان جيداً، وكانوا كثيراً ما يمرون عليه في تجارتهم مع أهل الشام في رحلتهم.
فهنا يقول تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:141]. وقد ذكر قبلهم عاداً بقوله: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]. وعاد هم قوم هود، وثمود هم قوم صالح على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وقوم عاد كانوا في جنوب الجزيرة، وهؤلاء في شمال الجزيرة.
فقال هنا: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:141]، ومن قبل ذكرنا أن من كذب رسولاً واحداً فكأنما كذب كل رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه؛ لأنهم جميعاً يدعون الخلق إلى التوحيد، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:32]، فالذي يكذب هذا الرسول فقد كذب كل من دعا إلى عبادة الله الواحد سبحانه وتعالى. ولذلك استحقوا هنا أن يوصفوا بأنهم المكذبون للمرسلين جميعهم. إي: أنه لو أرسل الله عز وجل إليهم جميع الرسل لكذبوهم؛ لأنهم يكذبون بتوحيد الله سبحانه، ويعرضون عن ذكر الله.
وهذه القصة هي القصة الخامسة في هذه السورة، فقد ذكر لنا سبحانه قبل ذلك قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذكر إبراهيم، ونوحاً، وذكر قصة عاد مع نبيهم هود، ثم ذكر بعدهم قصة ثمود مع نبيهم صالح عليه السلام.
فقال: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ [الشعراء:142]، وهو أخ لهم في النسب، أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:142] أي: الله سبحانه، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:143] أي: جئتكم برسالة من عند رب العالمين، وأنا مؤتمن على هذه الرسالة، وأنا أمين أمامكم تعرفون صفاتي، وتعرفون أنني لم أكذب قبل ذلك، ولم أخن شيئاً، فكيف أخون الآن في هذه الرسالة، وأكذب على الله سبحانه وتعالى؟!
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:144] أي: اتقوا الله فيما تأتون من شرك وكفر ومعاصٍ لله سبحانه وتعالى.
فهنا يقول صالح لقومه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:144-145]، وقوله: إِنْ أَجْرِيَ [الشعراء:145] فيها قراءتان: (إن أجرِيْ)، و(إن أجريَ إلا على رب العالمين)، فأجره على الرب سبحانه، ومن صفات ربوبيته سبحانه أنه الذي يعطي، وأنه الذي يمنع سبحانه، وأنه الرازق الذي يرزق سبحانه، فهنا يقول صالح: أجري ورزقي على الرب سبحانه الذي يملك ذلك: إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:145].
وقد كرر القرآن هذه القصة في مواضع، وفي كل موضع يذكر شيئاً تستفيد منه حكماً من الأحكام وعلماً من العلوم، وتجد في كل موضع المجانسة بين القصة وبين السياق القرآني واضحاً، فتجد هنا آيات قصيرة مناسبة لسياق القرآن في هذه السورة، وتجد في سورة الأعراف القصة نفسها يذكرها الله سبحانه وتعالى بآيات طويلة، وهي مناسبة لسورة الأعراف، وكذلك في سورة هود تجد نفس الشيء، فقد تكررت هذه القصة فيها بلون آخر مناسب لسياق الآيات، وفيها أشياء زائدة، وفي الإسراء أشار إليها إشارة.
فيقول هنا: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73]، وذلك بقول: لا إله إلا الله التي هي نفي للألوهية الحقه عن غير الله سبحانه، وإثباتها لله عز وجل وحده لا شريك له، فقول: المؤمن: لا إله، أي: لا أعترف بأي إله إلا إله واحد، هو الله الرب سبحانه وتعالى، المستحق للعبادة.
وقال سبحانه في الأعراف: وَإِلَى ثَمُودَ [الأعراف:73] يعني: أرسلنا إلى ثمود. وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ [الأعراف:73].
وهنا أيضاً يذكر الله عز وجل ما قاله صالح لقومه من تذكيرهم بنعم الله عز وجل عليهم، وهذا التذكير لم يذكره سبحانه إلا في هذه السورة فقط، وقد ذكرت قصة ثمود في حوالي عشرة مواضع من كتاب الله سبحانه وتعالى، فذكرها الله عز وجل في الأعراف كما قدمنا، وفي سورة هود أيضاً، وفي سورة الإسراء إشارة، وذكرها ههنا في سورة الشعراء، وذكرها في سورة النمل، وفي سورة الذاريات، وفي سورة القمر، وفي سورة الشمس وضحاها، وقد ذكر سبحانه في كل سورة من هذه السور بعض الأشياء التي ليست في غيرها.
وقد ذكر هنا تذكير صالح لقومه بنعم الله عز وجل، فقال: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشعراء:146-147]، فقد أعطاهم الله جنات وبساتين عظيمة وعيون كما أعطى لقوم هود من قبلهم.
وقوله: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ فيها قراءتان: فيقرؤها ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي : (وعِيون)، وباقي القراء يقرءون وَعُيُونٍ بالضم فيها.
وقوله تعالى: وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ [الشعراء:148] أي: أعطاكم الحقول التي فيها الزروع والحبوب، وأعطاكم النخيل، كما قال: وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ [الشعراء:148] أي: أكثر أموالكم من هذه النخيل، فتأكلون من ثمارها، وتبيعون وتتاجرون فيها، والطلع الذي فيها ليس كمثله شيء من الطلوع التي عند الناس، فعندكم أعظم الأشياء.
فيقول: إن هذا الطلع في النخل هضيم، وهضيم فعيل بمعنى: مفعول، أي: أنه غاية في الجمال واللطافة، حتى كأنه يهضم لوحده ولا يحتاج لمن يهضمه، أي: أنه لطيف في أكله، فطعمه جميل ولا يتعب المعدة، فهو يهضم بسهولة عند أكله.
قالوا: ومن معاني الهضيم: أنه الرطب، أو أنه نوع من أنواع الرطب، أو المتهشم المتفتت. أي: أنه سهل في مضغه، وسهل في نزوله على المعدة، فهو ينزل بلطافه وبسهولة.
وأيضاً من معانيه أنه: الذي ضم بركوب بعضه بعضاً، فهو كثير، أي: متراكب بعضه على بعض. أي: أن النخلة ممتلئة بالبلح وبالرطب وبنعم الله سبحانه وتعالى.
وقالوا من معانيه: اليانع النظيف. وقالوا: إنه الرخص اللطيف، أو الرخو.
وكل هذه المعاني التي ذكرناها عبر الله عز وجل عنها بكلمة واحدة، وهي كلمة (هضيم)، وقد فسرها العلماء بأكثر من اثني عشر تفسيراً، وهذا من بلاغة القرآن الكريم، حيث إنه يعبر باللفظ الوجيز الذي يعطي المعاني الكثيرة.
فهو هنا يذكر بأنهم فارهون بذلك، أي: حاذقون لهذه المهنة في لعبهم وعبثهم، وأنهم فرهين بمعنى: بطرين أو عابثين متجبرين.
وقد جاء عن ابن عباس وغيره قال: فارهين أي: حاذقين للصناعة. وقال: فرهين بمعنى: متجبرين جبارين أيضاً. ويأتي الفره بمعنى: الشديد الشره، أو: الأشِر، أو: البطِر المغرور، يعني: أنهم مغرورون، فهم حاذقون لصناعتهم، مغترون بها.
فهو هنا يذكرهم بالله عز وجل، ويكرر عليهم قوله: اتقوا الله سبحانه وتعالى، وأطيعوني فيما جئتكم به من عند رب العالمين.
فهنا لما قال وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ [الشعراء:151] بين أنهم: الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [الشعراء:152]، فالمفسرون: يفسدون في الأرض، ولا يؤدون الصلاة، ولكن يعبثون ويلعبون ويفسدون، فلا يصلحون حالهم ولا حال غيرهم.
قال تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا [الأعراف:74] يعني: أعطاهم الله السهل والجبل، فلهم في السهول بيوت وقصور عظيمة، وأما الجبال فكانوا ينحتون فيها البيوت العظيمة. ولذلك قال لهم نبيهم: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74] أي: لا تفسدوا هذا الفساد الشديد الذي تفعلونه.
فكان جوابهم كما قال الله عز وجل في سورة هود: قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود:62]، فكان جوابهم جواباً لائقاً بهم وبسفاهتهم. قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود:62] يعني: لقد كنا نظنك عاقلاً، فإذا بك تقول هذا الكلام، قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود:62] أي: أنهم كانوا قبل ذلك يصدقونه، وكان عندهم صادقاً، حتى إذا جاء بالرسالة قالوا له: إِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ.
قال تعالى على لسان صالح عليه الصلاة والسلام مخبراً بخروج الناقة: قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155]. وقد كان عندهم بئر من الآبار يشربون منها، فقال لهم: ومن آيات الله أن يريكم آية في هذه الناقة، وهي: أنها ستشرب من هذا البئر يوماً جميع الماء ولا تقدروا أن تشربوا منه شيئاً، وتتركه لكم اليوم الثاني، فيوم لكم ويوم لها، فلها شرب، أي: لها حظ ووِرْد في البئر يوماً كاملاً، ولكم يوم آخر فلا أحد منكم يشرب معها في هذا اليوم، فكانت تشرب الماء الذي في البئر كله في يومها، وهم يأخذون من لبنها في هذا اليوم.
فاستقاموا على ذلك وإن لم يؤمنوا معه، ولم يؤمن معه إلا القلة من هؤلاء، قال تعالى مخبراً عن هذه القسمة: قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:155-156] أي: احذروا أن تؤذوا هذه الناقة؛ لأنها آية من آيات الله سبحانه، فإذا كنتم لم تؤمنوا فاحذروا من تعجيل العقوبة بسبب منكم، فلا تؤذوا هذه الناقة فيأخذكم عذاب يوم عظيم.
لكنهم اعتقدوا أنه ما دامت هذه الناقة موجودة فهي دليل على أنها آية من عند رب العالمين، ودليل على صدق هذا الرسول، فبدأ يحرض بعضهم بعضاً على عقر هذه الناقة؛ بدعوى أنها تحرمهم من الماء يوماً، فاتفقوا على قتلها، قال تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [النمل:48].
وهنا هذه القصة مذكورة في سورة النمل، وقد فصل فيها سبحانه وتعالى ما الذي حدث، فقال سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:45-46] أي: هلا استغفرتم الله سبحانه لعله يرحمكم، قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النمل:47] أي: تشاءمنا منك فأنت شؤم علينا، فكانوا ينظرون إلى أهل الدين على أنهم شؤم عليهم، ويقولون كلاماً كذباً، وهم أول من يعرف أنه كذب، ولكنهم يهرفون بما لا يعرفون، فقال لهم صالح: قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل:47] أي: كتاب أعمالكم عند الله يحصيه عليكم، وتشاؤكم هذا من عملكم، يبتليكم الله عز وجل به يوماً من الأيام، بل أنتم قوم تفتنون.
وقوله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ [النمل:48] أي: تسعة من الناس يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فكان عملهم الفساد في الأرض، وذكروا أن سبب فسادهم حنقهم على صالح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقال بعضهم لبعض: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49]، فهم إضافة على كفرهم بالله سبحانه وفعلهم المعاصي الشنيعة عقروا الناقة، وأرادوا قتل نبيهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فاتفقوا فيما بينهم على عقر الناقة، فعقرها منهم أحيمر ثمود الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشقى القوم. قال الله عز وجل: إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [الشمس:12]، فكان أشقى القوم هذا الرجل: أحيمر ثمود، فقال للقوم: إني عاقر هذه الناقة، فصوبوه على ما يقول، ومنوه بأن يزوجوه امرأة من جميلاتهم، ومنته أم الفتاة بأن تزوجه بنتها إذا عقر الناقة، فرماها بسهم فعقرها، فصرخت الناقة، وهرب طفلها، ثم رجع القاتل إلى قومه بعد أن عقر الناقة.
وقد ذكر البعض من المفسرين أنه قال لهم: الآية فيكم أن تجدوا ألوانكم تتغير، فتصغر وجوهكم في اليوم الأول، وتحمر في اليوم الثاني، وفي اليوم الثالث تسود وجوهكم، ويأتيكم العذاب من عند رب العالمين، فقالوا له: إن لم يأت ذلك لنقتلنك، فأصبحوا على ما ذكر لهم من العلامة، فأصبحوا نادمين في وقت لا ينفع فيه الندم، وقد ذكر لنا الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن الندم توبة، وأن الإنسان إذا تاب إلى الله عز وجل فإن الله يتوب عليه، وهؤلاء ندموا ولم ينفعهم ذلك؛ لأنهم رأوا آية من آيات الله سبحانه، وقد كانوا قبل ذلك يكذبون بها.
فأصابهم الرعب عندما تغيرت وجوههم، وجلسوا ينتظرون العذاب وهم في غاية الرعب من الله عز وجل، وفي اليوم الثالث جاءتهم الرجفة والصحية، وأهلك الله عز وجل الجميع، وجعلهم آية من الآيات، قال سبحانه في سورة هود: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود:66]، فجاءت الرحمة من عند رب العالمين لصالح وللمؤمنين، كما قال تعالى: بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [هود:66] أي: لم نخزهم ولكن نجيناهم، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ [هود:67-68].
فجاءتهم صيحة من السماء، ورجفت بهم الأرض، فخروا كلهم ميتين، كما قال الله سبحانه: فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود:67]، وهو مأخوذ من قولهم: جثم الطائر على الأرض، أي: سقط على الأرض.
قال تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [هود:68] من قولهم: غنى بالمكان، أي: أقام بالمكان. فكأنهم لم يقيموا بها، فأين ذهبت أعماركم الطويلة؟ وأين ذهبت أفعالكم التي ظننتم أنها عظيمة وجليلة؟ وأين الحصون والقصور؟ وأين الجبال؟ أين ذهب ذلك كله؟ فكأنهم لم يغنوا فيها ولم يعيشوا أبداً، فقد جاءتهم الصيحة من عند رب العالمين فهلكوا كلهم، قال الله سبحانه: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ [هود:68].
وهنا في سورة الشعراء يقول سبحانه: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ [الشعراء:157-158] أي: بعد ثلاثة أيام من الرعب، فقد عاملهم بالتخويف الشديد الذي لا ينفع معه الندم، ثم جاءت الصيحة والرجفة فأخذهم سبحانه، قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [الشعراء:158] أي: آية عظيمة من آيات رب العالمين يعتبر بها كل إنسان مؤمن يخاف من الله سبحانه، ويعلم عقوبته، ويعلم كيف ينتقم ممن عصاه، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:158].
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:159] أي: إن الله هو العزيز الغالب القاهر الذي لا يمانع أبداً سبحانه، ومهما استطال الإنسان وأملى له ربه فإنه آخذه أخذ عزيز مقتدر، ومع ذلك فهو الرحيم لمن تاب وأناب قبل أن يأتي العذاب.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر