قال الله عز وجل في سورة الشعراء: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:69-104].
ذكر الله عز وجل في سورة الشعراء قصص الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، ومنها قصة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ [الشعراء:69] .
أي: اتل على الذين تدعوهم إلى الله عز وجل، وهم يعرفون جيداً من إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو الذي بنى الكعبة التي هي شرف لهم، فيحج الناس إليها من كل مكان، ويطوفون بهذا البيت، ويعرفون أن الذي بناه هو إبراهيم ورفعه معه إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان إمام الموحدين، فقد دعا الناس إلى توحيد الله سبحانه، فليتعظوا بذلك، وليتبعوا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام الذي دعا الخلق إلى توحيد الله، ودعاهم إلى أن يحجوا هذا البيت.
يعني: هؤلاء أعداء لي، فكل ما عبد من دون الله فأنا أتبرأ منه، وأعاديه وأظهر العداوة له، إلا الله وحده لا شريك له الذي أعبده ولا أشرك به شيئاً، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78] أي: الذي يملك الخلق هو الذي يملك الأمر، فيأمر ويهدي سبحانه، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:79-82].
فهذا الرب هو الذي يملك الدنيا والآخرة، رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77] أي: العالم العلوي والعالم السفلي، فرب كل شيء هو الله سبحانه وهو الذي أعبده ولا أشرك به شيئاً.
قوله تعالى: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء:83] يعني: اجعلني في درجة السابقين من الأنبياء وكذلك من يلي الأنبياء والمرسلين، فاجعلني معهم يوم القيامة في درجتهم العالية.
قال ابن عباس: أي: اجعلني في أهل الجنة.
ثم قال: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85] يعني: اجعلني مع ورثة الجنة الذين يدخلونها.
وَاغْفِرْ لِأَبِي [الشعراء:86] هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو : وَاغْفِرْ لِأَبِيَ بفتح الياء؛ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ أي: من التائهين المتحيرين الذين تاهوا عن الهدى وذهبوا إلى الضلال.
فوعد إبراهيم أباه أن يستغفر له، قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:47]، فبناء على هذا الوعد قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ [التوبة:114] أي: عن وعده إياه، فلما بين له ربه أن أباه عدو لله، تبرأ من أبيه ومن المشركين، وعبد الله وحده لا شريك له، فاستحق أن يكون خليل الله سبحانه.
قال تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].
ثم دعا ربه فقال: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89].
فقوله تعالى: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشعراء:87]، فالخزي العظيم هو خزي يوم القيامة، وقد يصيب الإنسان في الدنيا شيء من الإهانة أو الإذلال لكن ليس هو الذل ولا الخزي العظيم، فالخزي العظيم ما يكون يوم القيامة، فتكون فضيحة أمام الخلائق جميعهم ثم المصير إلى نار جهنم -والعياذ بالله- فإبراهيم عليه الصلاة والسلام سأل ربه ألا يخزيه في هذا اليوم العظيم، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن إبراهيم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- يرى أباه يوم القيامة وعليه الغبرة والقترة) أي: يرى أباه يوم القيامة وعليه الذل، ووجهه منكدر مخسوف من شدة حيائه مما فعل في الدنيا من عبادته غير الله سبحانه.
وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يلقى إبراهيم أباه يوم القيامة فيقول: يا رب إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله عز وجل: إني حرمت الجنة على الكافرين)، فإبراهيم يذكر لربه: أنت وعدتني أنك لا تخزني، وأي خزي أشد من أبي الأبعد وهو يدخل النار، ولذلك رحم الله عز وجل إبراهيم يوم القيامة ولم يخزه، فلما نظر إلى أبيه في صورته حن لأبيه، فقال الله عز وجل: (يا إبراهيم! انظر ما وراءك، فنظر إبراهيم وراءه فلما التفت إذا بأبيه يتحول إلى صورة ضبع -أي: هيئة هذا الحيوان الذي على هذه الصورة -فإبراهيم لا يخطر بباله أن هذا أبوه ملطخ بطين ودم- ثم يؤخذ بقوائمه ويلقى في النار).
فالذي أشرك بالله سبحانه لا ينفعه أن ابنه كان أباً للأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد حذره الله سبحانه وتعالى وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ، فأبى الرجل إلا الكفر، وقال لإبراهيم: إما أن تكون معي فيما أنا فيه وإلا اعتزلني، وإلا لأرجمنك، أي: أسبك أو أخذفك بالحجارة، فهذا كان جوابه في الدنيا، فلم يستحق يوم القيامة إلا النار، يقول الله عز وجل: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ [الشعراء:88] أي: لا ينتفع الإنسان بالمال ولا بالبنين يوم القيامة، إلا أن يكون هذا المال أنفقه في الدنيا في طاعة الله، أو أن يكون ربى الأبناء تربية صالحة على عبادة الله، فينفع الأبناء آباءهم يوم القيامة بشفاعة ونحوها، ولكن في البداية في الموقف العظيم الكل يفر بعضهم من بعض، وكل إنسان يقول: نفسي نفسي، وحتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقولون: نفسي نفسي نفسي.
ويوم القيامة لا ينفع المال، وقدِّم المال على البنين في الذكر؛ لأن نفع المال في الدنيا للإنسان لعله أكثر من نفع البنين، وكل الناس يكون معهم المال، وليس كل الناس معهم البنون، فعلى ذلك فإن الإنسان بماله يفعل ما يريد فيأكل ويشرب، ولكن ليس كل إنسان له أولاد وبنون.
فيقول هنا: هذا المال الذي كنت تتمتع به في الدنيا لا ينفعك يوم القيامة، فليس هناك رشوة، أو أخذ مال، وإنما ينفع في هذا اليوم مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89].
وأما قلب الكافر أو المنافق فإنه مريض؛ لأنه لا يعرف الحق، ولا يعرف الله سبحانه وتعالى، ولا يعبده حق العبادة، فعلى ذلك فإن المؤمن قلبه مطمئن بذكر الله، فهو قلب سليم وصحيح.
وجاء في الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)، فالطير يخدع سريعاً، فإذا وضعت الشبكة فإنه يقع فيها، لأنه ليست له خبرة كبيرة، فكأن هؤلاء الذين أفئدتهم مثل أفئدة الطير لا خبرة لهم في الحياة، ولا يهمهم أن يأخذوا خبرة في الحياة، فهم يتعاملون مع الناس بسلامة الصدور، ويستغل الناس منهم ذلك فيخدعونهم ويضحكون عليهم، ويغبنونهم ويدلسون عليهم، وهم يتعاملون مع الله، فيعفون عمن ظلمهم، ويجعلون أمرهم لله سبحانه وتعالى، فالمؤمن غر كريم، والكافر خب لئيم.
فالمؤمن غر بمعنى: أنه قد يُضحَك عليه، ولا يحاول أنه في كل حاجة يقوم يبحث وراءها ويدقق فيها، فوقته أغلى وزمنه أغلى، فهو خائف أن الموت يدركه وهو على غير عبادة، فلا يذهب وراء الناس ووراء كل عمل يعملونه، وقد يشتمه إنسان فيقول: ما يقصدني، وكانوا يعتبرون ذلك في الجاهلية من مكارم الأخلاق، ولعل بعضهم يقول:
ولقد أمر على اللئيم يسبني فأمر ثم أقول لا يعنيني
أي: ولقد أمر على إنسان لئيم فيشتمني، فأتجاوز هذا اللئيم وأقول لنفسي: ما يقصدني، مع أنه يراه وهو يشتمه، فهو لا يريد أن يضيع وقتاً في عراك مع هذا الإنسان.
وكذلك الإنسان المؤمن، فهو يعلم أن الدنيا زمنها محدود، فهو من ساعة ما ولد وعمره محدود، وهو آخذ في النقصان، فهو ينقص ولا يزيد، وإذا كان الإنسان مقدر له أن يعيش ستين سنة فإنه كلما مر عام نقص من عمره، فلا يزال في التناقص لغاية النهاية.
وانظروا إلى سيرة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فإنه كان يحب أن يعتق العبيد، فالعبد الذي يجده صالحاً مصلياً فإنه يعتقه، فكان العبيد فيهم لؤم فعندما يرون عبد الله بن عمر فإنهم يذهبون إلى المسجد للصلاة ويخشعون في الصلاة، فيعتقهم ابن عمر ويقول لمن يفعل ذلك: أنت حر لوجه الله، فلما تكرر منه ذلك قال له الناس: إنهم يخدعونك، فهم ما كانوا يعملون هذا من ورائك بل أمامك فقط، فقال ابن عمر قولته الجميلة: من خدعنا بالله انخدعنا.
ومعنى مقالة ابن عمر : إذا كان قد خدعني فإني أحب عبادته وربنا لا يخدعني، فربنا يعاملني على ما في قلبي وعلى سلامة صدري، فإذا كان هذا العبد قد خدعني فهو لم يخدع الله، فالله يعطيني أجري، وهو عليه إثمه.
فالمؤمن غر كريم يعطي، والإنسان الكريم هو الذي يسامح ويعفو ويتعامل مع الناس بكرم الخلق، وكذلك المؤمن.
وطبيعة الإنسان تنضح على عينه، فيرى كل إنسان بما في قلبه هو، فالإنسان الذي عنده إساءة الظن في الناس، وأنهم مخيفون، فهذا لأنه هو في نفسه مخيف وليس قلبه مطمئناً، فنظرته نضحت على عينه هذا الشيء فيرى الناس أمامه كلهم على هذه الهيئة، وفي هذا خطر على الإنسان، ولذلك جاء في حديث النبي صلى أنه قال: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم)، أي: أنه ينظر أن كل الناس قبيحون، وأنهم هلكى، فهو أشدهم هلاكاً؛ لأنه اغتر وظن أنه هو الناجي الوحيد.
والإنسان المؤمن يحب الخير لنفسه ولجيرانه وللناس أيضاً، ويحب لهم أن يكونوا مؤمنين، وأن يكونوا مصلين، وأن يكونوا من أهل الطاعات، ولذلك فإن إبراهيم دعا أباه ودعا قومه إلى الخير، ودعاهم إلى الله عز وجل وتلطف في دعوتهم إلى ذلك، فدعا أباه فقال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:43-45].
فانظر الكلام الطيب من إبراهيم لأبيه صانع الأصنام وعابد الأوثان، فيجيب أبوه بقوله: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ [مريم:46] أي: ألا تعجبك الآلهة التي أعبدها، أراغب عنها؟ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم:46] أي: لأرجمنك بالحجارة وأشتمك أمام الناس، وامش بعيداً عني، فهذا الجواب السفيه يصدر من أهل السفاهة، وذلك لائق بهم، وأما إبراهيم فالذي يليق به أنه حليم أواب منيب عليه الصلاة والسلام، فيحلم عن أبيه، فقال: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:47] أي: مهما عملت فأنا سأستغفر لك ربي؛ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47] أيْ: إنه كريم ورءوف بي عطوف علي، وحنانه عظيم بي.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) يعني: قلوبهم طيبة ونقية، فلا غل فيها، وفيها التوكل على الله وتوحيد الله سبحانه كقلوب الطير.
يقول العلماء: هذه الأفئدة مثل قلوب الطير في كونها خالية من كل ذنب، سليمة من كل عيب، لا خبرة لها بأمور الدنيا، فصاحب هذا القلب لا يفتش عن أحوال الناس، فهو يتعامل مع الناس بكرم ورأفة ورحمة، فصاحب هذا القلب السليم من أهل الجنة، كما قال الله عز وجل:يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
وكلام إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فيه جمال في السياق وحسن انصراف وتخلص من شيء والدخول في شيء ثانيٍ، ألا وهو الكلام عن الجنة وعن النار، فالكلام هنا ليس كلام إبراهيم، إنما هو كلام رب العالمين سبحانه.
ففي هذه الآيات انتقل الله تعالى من كلامه لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ [الشعراء:69-70] وذكر مقالته، ثم أخبرهم عن رب العالمين، وانتقل لبيان من هو رب العالمين، فدعا إبراهيم قومه إلى ربه سبحانه، ثم دعا لأبيه، ثم جاء بعد ذلك ذكر النار والجنة، فالله عز وجل الآن يخاطبنا نحن، فهنا حصل التفات وخروج من خطاب إلى خطاب آخر، ومع ذلك تقرأ كل هذه الآيات في سياق واحد ولا تلاحظ الالتفات والخروج من موضوع إلى آخر، وفي هذا دلالة على عظمة القرآن كلام رب العالمين سبحانه.
فأهل التقوى هم الذين اتقوا المعاصي، واتقوا غضب الله سبحانه، واتقوا الذنوب والشرك بالله فصاروا من أهل الجنة، فهم أتقياء أنقياء أثرياء، قلوبهم مصابيح الدجى، نجاهم الله في الدنيا من كل غبراء مظلمة، ونجاهم يوم القيامة يوم الموقف العظيم من أن يكونوا من أهل النار، فقربهم من الجنة وقربها لهم، وأدنيت وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء:90].
وانظر إلى التعبير الجميل في تقريب الجنة من المتقين، فما قال: إنهم قربوا منها، فالإكرام العظيم لأهل التقوى أن الجنة تقرّب منهم، فقد جاءت إليكم فادخلوها، قال تعالى: وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:90-91].
وأما الكفار فقبل أن يدخلوا النار فإن الله يريهم النار؛ من أجل أن يخافوا منها، وبعد ذلك يلقون في نار جهنم والعياذ بالله.
وقوله تعالى: وَبُرِّزَتِ [الشعراء:91] أيْ: أُبرزت لهم، فجعلت بارزة يراها كل من ظهرت له، وسميت الجحيم؛ لأنها متقدة مستعرة وفيها اشتعال، يقال لعين الأسد: إنها جحمة؛ لأنها عين براقة مشتعلة، وعين الأسد فيها احمرار، فهي تخوف فسميت جحمة، وكذلك هذه النار -والعياذ بالله- فإنها مشتعلة.
إذاً فالجحيم هي: النار المستعرة المشتعلة.
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:91]، غوى الإنسان أي: ضل واتبع العوى، وإنسان غاوٍ أي: إنسان ضال ترك طريق الهدى وانحاز إلى الضلال، فهو إنسان غاوٍ.
إذاً فالكفار والغاوون من أهل الكبائر وأهل المعاصي أظهرت لهم جهنم قبل أن يدخلوها، هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [يس:63]، فينظرون إلى النار فيخافون ويفزعون من منظرها، وبعد ذلك يدخلونها، وانظروا إلى السياق القرآني يقول الله عز وجل: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ [الشعراء:91-93]، أين الأصنام؟ وأين الأوثان؟ وأين كبراؤكم؟ وأين الجان؟ وأين من كنتم تعبدونه من دون الله؟ والسؤال هنا ليس سؤال استفهام، وإنما هو سؤال توبيخ وتبكيت لهؤلاء، أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ [الشعراء:92-93] الآن أَوْ يَنْتَصِرُونَ [الشعراء:93] أي: إن كانوا لا يستطيعون أن ينصروكم، فلينصروا أنفسهم هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [الشعراء:93] أي: عندما رأوا النار ورأوا عذاب رب العالمين سبحانه.
فقد قلنا: إن الله عز وجل أراهم النار -والعياذ بالله- كي يخافوا ويذعروا منها، وإذا بهم يؤخذون ويكبكبون، وهذا التعبير غليظ وفيه شدة.
وتفسير كبكبوا: أي جمعوا على بعض ودحروا في نار جهنم، فوقعوا فيها، يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور:13]، ويضربون على أقفائهم؛ من أجل أن يكبوا في نار جهنم بعضهم فوق بعض، فكل إنسان غاوٍ، أو ضال، أو بعيد عن الله سبحانه، أو استكبر عن عبادة الله، وترك طاعة الله فإنهم ينطبق عليهم، فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ [الشعراء:94]، ومعهم وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [الشعراء:95]، وجنود إبليس في الدنيا كانوا لا يرون إبليس ولا جنوده، وفي يوم القيامة يرونهم على أبشع الصور، فالإنسان يخاف من المناظر القبيحة التي أمامه، فكيف بمن سيكون صاحبه في النار من مثل هذه المناظر؟! فيجعلون جميعاً في نار جهنم: هؤلاء الغاوون وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [الشعراء:95]، فلما دخلوا النار قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ [الشعراء:96] أي: يتخاصمون ويتشاجرون مع بعض في النار، فيكون هناك نار وعذاب وعراك وخصام.
وقوله تعالى: تَاللَّهِ [الشعراء:97] هذا قسم بالتاء، ولا يكون إلا في لفظ الجلالة فقط ولا يجيء لغير لفظ الله.
وقوله تعالى: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الشعراء:97] أي: يا خسارة! فنحن كنا في ضلال مبين واضح في أيام الدنيا، فكيف عمينا عن الحق؟ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الشعراء:97] أي: لقد كنا في ضلال مبين.
فقد دخل أناس من الموحدين النار، ونفعهم من شفع فيهم كالنبي صلى الله عليه وسلم، وأهل الدين، ومن أحبهم من المؤمنين، فأخرجهم الله عز وجل من النار، فلما رأى الكفار ذلك قالوا: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ [الشعراء:100] أي: نحن ما لنا أحد يشفع لنا.
فإذا مت فهو الذي يشيعك إلى قبرك، ويقف على قبرك يدعو لك، ويصلي عليك، فتنتفع به وأنت في قبرك.
وإذا مت فهو يبحث عن حال عيالك وأهلك هل هم محتاجون لشيء، ففي الدنيا كانت صداقة حقيقية فنفعت، وأنت في قبرك فهو يبحث عن دينك ليقضي عنك دينك؛ حتى لا تعذب عند الله سبحانه.
فإذا كنت يوم القيامة وأدخلت النار فإن هذا الصديق الحميم الذي كان من الأتقياء ينفعك عند رب العالمين، ولا يزال يدعو ربه حتى يخرجك الله عز وجل من النار بفضله وبكرمه سبحانه، وبدعاء هذا الصديق الحميم.
ولعل هذا الأخ في الله يكون أخوه في منزلة دنيا في الجنة، وهو في منزلة عليا، فيشفع عند رب العالمين فيرفع أخاه في منزلته، وانظر لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (المرء مع من أحب) ، فهذا الصديق الحميم وهذا الأخ في الله ينفع أخاه في الدنيا وفي الآخرة، فلذلك فالكفار عندما يرون ذلك إذا بهم يتحسرون في وقت قد فاتهم ذلك، فلا ينفعهم البكاء، ولا تنفعهم الحسرة، ولا ينفعهم الندم، ولا ينفعهم إيمانهم فقد رأوا ما كان غيباً رأوه شهادة، فقالوا: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100-101].
أي: إن في هذا الذي تلوناه عليكم، والذي ذكرناه لكم في هذه الآيات وغيرها موعظة وعبرة لمن كان مؤمناً، ولكن أكثر الناس ليسوا مؤمنين، فلا ينتفعون بهذه المواعظ.
نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا، وأن يجعلنا من عباده المرحومين.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر