قال الله عز وجل في سورة القصص: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص:13-14].
في هذه الآيات من سورة القصص يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكيف أن الله سبحانه حفظه، وكيف أنه منع فرعون من قتله، وكيف أنه أنشأه سبحانه وتعالى على وعده الذي وعد أمه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7] فنشأ في بيت فرعون على ما أراد الله عز وجل له، فكان عزيزاً نبياً من أنبياء الله على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رباه الله سبحانه قال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] فالله سبحانه رباه تربية عظيمة في بيت عدو الله، ولم يكن موسى قد صار نبياً إلا في علم الله سبحانه، ولم تكن نبوته إلا بعد أن رجع من مدين إلى مصر، ثم رأى النار في الطريق، على ما ذكر الله عز وجل في سورة الشعراء وفي سورة النمل، وهنا يذكر أيضاً في سورة القصص، فالله سبحانه وتعالى يعلم المؤمنين بأنهم إذا صبروا أنجاهم الله عز وجل وإذا اتقوا ربهم سبحانه جعل لهم مخرجاً، ويضرب لنا الأمثلة في ذلك في القرآن العظيم، كيف نجى موسى وكيف نجى يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام من كيد من كادوا له ومكروا به، وكيف نجى أنبياءه ورسله وأهلك أعداءه سبحانه وتعالى، فلذلك فإن الإنسان المؤمن يقرأ كتاب الله سبحانه ويتدبر الآيات ليعي هذا الأمر، فإذا أردت الخروج من ضيق ما أنت فيه فعليك بتقوى الله سبحانه، فهذا موسى عليه الصلاة والسلام قد رده الله إلى أمه لترضعه، ولينشأ في خدرها، وما زال هو في بيت فرعون، ولكن أخذته أمه تحتضنه وترضعه.
قال تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص:14] في الآيتين ذكر أنه يجزي المحسنين، أي كذلك الجزاء الذي ترونه، وعبر باسم الإشارة للبعيد لبيان عظيم الجزاء، أنه من الله يناسب فضله ويناسب كرمه سبحانه.
فيوسف عليه الصلاة والسلام ذكر الله أنه بعد ما بلغ أشده آتاه سبحانه الحكم وآتاه العلم، قال تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:23] وهنا ناسب السياق، ولم يذكر أشده واستوى، لكن هنا ذكر: وَاسْتَوَى والاستواء بمعنى: القوة، فالقوة هنا مناسبة لما سيذكر من وكز موسى لقبطي وقضائه عليه، فكان موسى قوياً جداً، إذاً: الاستواء: القوة البدنية.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه: أن استوى، أي: بلغ أربعين سنة، وهذا قد يكون صحيحاً، ولكن المعنى الذي يناسب أن الاستواء هو القوة، قال تعالى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ [الفتح:29] فالزرع يخلقه الله سبحانه وتعالى فيكبر ويشتد ويستوي في النهاية، كأن موسى بلغ مبلغ الكمال سواء في بدنه أو في سنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فآتاه الله الحكم والحكمة، وآتاه من لدنه حكمته، وآتاه علماً سبحانه وتعالى قبل النبوة وعلماً آخر بعد النبوة، فموسى عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل من أولاد يعقوب النبي فهو من أحفاده عليه الصلاة والسلام، فعلى ذلك فإن موسى عنده العلم الذي ورثه من آبائه، وهو علم يعقوب وعلم إسحاق وعلم يوسف عليهم الصلاة والسلام.
فالله عز وجل آتاه هذا العلم بإلهام منه سبحانه، وبالتعلم ممن معه، ثم بعد ذلك من عليه بالنبوة وآتاه علم النبوة وأنزل عليه التوراة، فكان موسى على علم من الله وعلى حكمة، فكان حكيماً عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: بما جزينا به موسى وغيره عليهم الصلاة والسلام.
وشب موسى عليه السلام على قوة في قصر فرعون، وهو مع بني إسرائيل رءوف رحيم بهم، ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها في يوم من الأيام، وهذا يدل على أنه كان خارج المدينة، فقد يكون بينه وبين فرعون شيء قبل ذلك جعله يخرج خارج المدينة؛ لذلك عبر الله سبحانه وتعالى بأنه دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15].
إذاً: عرف موسى عليه الصلاة والسلام أن بني إسرائيل هم شيعته، وكان بنو إسرائيل يعرفون ذلك، لذلك استنصره هذا الإسرائيلي على القبطي من أهل مصر، قال تعالى: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15] أي: استصرخه في الحال.
وذكر المفسرون أن الرجل القبطي كان خبازاً لفرعون، فأراد من الإسرائيلي أن يحمل له حزمة حطب كعادتهم في تشغيل الإسرائيليين فرفض الإسرائيلي وتعزز بـموسى عليه الصلاة والسلام وكان القبطي أقوى منه فضربه، فجاء موسى ووجد الأمر على ذلك والإسرائيلي يستغيث بموسى عليه الصلاة والسلام، فما كان منه إلا أن وكز القبطي بكوع اليد وكزة في صدره، فكانت الوكزة قوية فقضى عليه، ولم يقصد ذلك عليه الصلاة والسلام؛ لأنه تاب إلى الله عز وجل من ذلك، وإنما قصد المعاقبة وتخليص الاثنين، فضرب هذا العدو فكانت الضربة شديدة تدل على قوة موسى.
ولما رأى الرجل مات قال: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [القصص:15] أي: أنا لا أقصد أن أقتله، فهو لم يوح إليه بعد أنه رسول عليه الصلاة والسلام وكان هذا قبل الوحي إليه عليه الصلاة والسلام، فهذا من موسى كان خطأً؛ ولذلك قال فرعون: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشعراء:18] أي: ربيناك فقتلت نفساً بغير حق قبل ذلك، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الشعراء:19] وفرعون هو الكافر.
فالمقصود هنا: أنت من الكافرين بنعمتي عليك فقد ربيتك وعلمتك، ثم بعد ذلك كفرت هذه النعمة، فقال موسى عليه الصلاة والسلام معترفاً أنه فعل ذلك: فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء:20] أي: ولكني فعلتها وأنا من الضالين، ضل أي: أخطأ في الطريق الصحيح، فليس معنى كلامه: إني كنت من الضالين عن عبادة الله سبحانه، لكنه يقصد: إني أخطأت في هذا الشيء الذي فعلته؛ ولذلك قال إخوة يوسف لأبيهم: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف:95] فلو قصدوا أنت في كفرك وبعدك عن الله لكفروا، ولكن لم يقصدوا ذلك، وإنما قصدوا أنه ما زال في الوهم من أجل يوسف، وهذا مقصود كلامهم بالضلال القديم، يعني: في توهمك وأنت مخطئ، وكانوا كاذبين في قولهم ذلك له.
فالغرض أن موسى عليه الصلاة والسلام لما وكز هذا القبطي قال: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص:15] فالشيطان عدو، إذا دعا دعا إلى الضلال، فهو مضل وضلاله بين واضح، ولكن عذر موسى عليه الصلاة والسلام أنه لم يقصد القتل، وإنما كان يقصد نصرة الحق.
قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [القصص:16] فيه تعليم كيف تتوب إلى الله عز وجل إذا وقعت في الذنب، تقول: رب إني ظلمت نفسي، فتعترف بالذنب وترجع إلى الله سبحانه وتطلب منه المغفرة. قال تعالى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16] الله هو الغفور الرحيم فإن لم يغفر هو فمن يغفر، قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لذلك غفر سبحانه لـموسى وتاب عليه سبحانه وتعالى وستر ذنبه الذي وقع فيه.
ومعنى: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ أي: الذي يمحو الذنوب، والرحيم بعباده المؤمنين سبحانه.
ربِّ بما أنعمت علي من نعم وغفرت لي سأكون مع الحق دائماً أنصره ولا أكون ظهيراً، والمظاهر للشيء بمعنى: القوي، ومنه: ظاهر بين درعين، أي: يلبس درعاً وفوقه درع آخر حتى يتقي سيوف الأعداء، فقولك: لن أكون ظهيراً يعني: معيناً للمجرمين.
يقول سبحانه: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ [القصص:18] يعني: يصرخ عليه ويناديه.
قال تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ غوى الإنسان بمعنى: ضلَّ، إنسان يغوي: يعني بعيد عن الهدى، ومنه قوله سبحانه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2] فغواية الإنسان أن يتبع هواه، ويمشي حسب مزاجه، والمعنى في هذه الآية: إنك كثير الغواية والتعارك مع الآخرين وأنت ضعيف لا تستطيع أن تدافع عن نفسك، ولما قال له ذلك: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [القصص:18] لم يترك موسى عليه الصلاة والسلام نصر المظلوم، فهذا مجرم من آل فرعون أراد أن يظلم الرجل، فموسى عليه الصلاة والسلام سينتصر له.
قال المفسرون: قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ الغوي: الإنسان الخائن الذي يتبع هواه، وفسروها: إنك تشاد إنساناً لا أطيقه، مع ذلك توجه موسى لنصرة الإسرائيلي، ولكن لما شدد على هذا الإسرائيلي إذا به يظن أن موسى يريد ضربه هو الآخر، فإذا به يقول لـموسى: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس، فطار القبطي بهذا الخبر إلى فرعون بأن قاتل القبطي بالأمس هو موسى عليه الصلاة والسلام.
يقول الله سبحانه وتعالى هنا: فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ [القصص:19] هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر : (أن يبطش بالذي هو عدو له قال يا موسى أتريد أن تقتلني).
قال تعالى: قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ [القصص:19] والجبار: الذي يخرج إلى الناس فيقتل ويظلم من غير أن ينظر فيهم، فهو شديد القوة لا يتحرى المخطئ من المصيب، فقال: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [القصص:19] أي: أنت لا تريد أن تصلح، بل تريد أن تكون قتالاً في الأرض تقتل النفس بغير حق.
وقالوا: إن هذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم لفرعون وكان مؤمناً يكتم إيمانه، فنصح موسى، فخرج موسى من المدينة خائفاً يترقب كما ذكر الله سبحانه داعياً ربه: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:21].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر