إسلام ويب

تفسير سورة العنكبوت [1 - 3]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة العنكبوت سورة مكية، ذكر الله عز وجل فيها الابتلاء، وأنه سنة من سنن الله عز وجل، حتى يتميز الصادق من الكاذب، وقد ذكر الله عز وجل في هذه السورة العظيمة عدداً من الدروس والمفاهيم العظيمة، التي كان حرياً بالمسلم أن يقف عندها متدبراً متفهماً لها، حتى يستفيد منها في سيره إلى الله عز وجل.

    1.   

    بين يدي سورة العنكبوت

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: بسم الله الرحمن الرحيم: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].

    سورة العنكبوت مكية وأقوال العلماء في ذلك

    سورة العنكبوت هي السورة التاسعة والعشرون من كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، وهي سورة مكية أو أغلبها مكية، وقيل: مدنية، وقيل: بعضها مكي وبعضها مدني، هذه السورة من أواخر السور التي نزلت في مكة وبعضها نزل بالمدينة، ولذلك اعتبرها البعض مدنية أو مكية بناء على ذلك، ونزلت قبلها سورة الروم، وسورة الروم مكية، ونزلت بعدها سورة المطففين، وسورة المطففين مكية، فكأن سورة العنكبوت نزل بعضها بمكة، ثم نزلت سورة المطففين كاملة، ثم أُكملت هذه السورة بعد ذلك في مكة والمدينة، فإذا قيل: سورة المطففين آخر ما نزل بمكة، فمراده: آخر سورة كاملة نزلت في مكة، وكانت هذه السورة قد نزل بعضها قبلها وبعضها بعدها.

    وسورة العنكبوت آياتها تسع وستون آية على عد أكثر أهل العد من القراء، وحسب المصحف الحمصي عددها سبعون آية، والخلاف في الفاصلة، فبعضهم يعتبر (الم) آية مستقلة، وبعضهم يعدها والتي تليها آية واحدة، والآيات هي الآيات، وإنما بحسب العد، وحسب ما وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الخلاف في العد في كل القرآن إذا اختلف أهل العد.

    والسورة فيها خصائص السور المكية، من ذكر التحدي بهذا القرآن، ومن ذكر الأقوام السابقين، والأنبياء الذين ابتلاهم الله سبحانه تبارك وتعالى، ومن ذكر القصص وعاقبة هؤلاء المكذبين، وما الذي صنعه الله عز وجل بهم.

    معنى الحروف المقطعة في أوائل السور

    بدأ الله سبحانه هذه السورة بـ: الم [العنكبوت:1] ، وهذه الحروف هي التي تسمى بفواتح السور، وهي من الإعجاز في القرآن الكريم، وكأن الله يقول للعرب: إن هذا القرآن من جنس الحروف التي تنطقونها وتتكلمون بها، وقد جئناكم بهذا القرآن بلغتكم ومن حروفكم، فائتوا بسورة من مثل هذا القرآن.

    وقد ذكرنا قبل ذلك فقلنا: إن بعض أهل العد الذين يعدون حروف القرآن أو حروف السور يقولون: إنه إذا ابتدأت سورة بحروف مقطعة فغالباً ما تكون هذه الحروف أكثر الحروف المكررة في هذه السور، وغالباً ما يكون ترتيبها في التكرار أو في العدد: الحرف الأول أكثر ما يكون، ثم الثاني، ثم الثالث، وهكذا، وقد توجد حروف أخرى أكثر منها، ولكن الغالب ذلك، وستجد أن أكثر ما يعد في هذه السورة: حرف الألف، سواء ألفاً بهمزة، مفتوحة أو مكسورة، أو ألفاً من غير همزة، أو بهمزة مد، أو بهمزة على نبرة تكون ياء أو واواً، فيكون عدد الألف في هذه السورة تقريباً ثمانمائة وثمانية وخمسين مرة، ثم يليه اللام، فقد تكرر في هذه السورة تقريباً خمسمائة وخمسين مرة، ثم يليه حرف الميم، فقد تكرر في هذه السورة حوالي ثلاثمائة وواحداً وأربعين مرة، وكأن الترتيب في هذه السورة ترتيب تنازلي، الألف ثم اللام ثم الميم، وكأن الإشارة إلى أن هذه الحروف من جنس ما تتكلمون بها على هذا الترتيب، فائتوا بمثل ما جئناكم به.

    والحروف هذه كما ذكرنا قبل ذلك أنها سر من أسرار القرآن، أي: مهما قال المفسرون فيها باجتهاداتهم فإن حقيقة علمها عند الله تبارك وتعالى، فهم يطلعون على بعض الأشياء منها، فلماذا هذه السورة بدأت بـ الم [العنكبوت:1] ؟ ولماذا هذه بـ كهيعص [مريم:1] ؟ ولماذا هذه بـ (حم) عسق [الشورى:2] ؟ ولماذا هذه بـ (طسم)؟ الله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك، ولكن كل ما يقوله المفسرون في ذلك ما هو إلا شيء من عند أنفسهم، ليس توقيفاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو فهم يؤتيه الله عز وجل من يشاء، ولذلك ستجد من يقول: إن هذه الحروف فيها تعجيز للناس، وسيقول: ما ذكرت أبداً هذه الحروف إلا ويليها الإشارة إلى هذا القرآن العظيم، ومن ذلك قوله عز وجل: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1-2] .

    الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:1-3] .

    فهنا يذكر الحروف ويذكر بعدها الإشارة إلى القرآن، إلا في ثلاث سور من القرآن لم يذكر بعدها الكتاب مباشرة، وإنما ذكر ذلك في ثنايا السورة، منها هذه السورة التي معنا، فذكر الإشارة إلى القرآن بعد آيات من أول السورة، وليس في أول السورة عقب: الم.

    وكذلك نفس الأمر في سورة الروم ومريم.

    ففي هذه السورة الكريمة ذكر العلماء أن الله سبحانه تبارك وتعالى افتتحها بـ الم [العنكبوت:1] تعجيزاً للكفار كما ذكرنا، وقيل: إن الم [العنكبوت:1] اسم للسورة أو اسم للقرآن، أو أنها حروف من أسماء الله عز وجل بدأ بها هذه السور، والله أعلم بذلك.

    مواضيع سورة العنكبوت

    في هذه السورة تثبيت للمؤمنين، وأنه مهما أصابتهم الفتن، ومهما أصابهم البلاء، فإن لهم الجنة جزاء صبرهم، لذا فإن كل سورة من سور القرآن لها أغراض يذكرها ربنا تبارك وتعالى في ثنايا هذه السور، فالإنسان الناظر نظرة عامة لهذه السورة يجد فيها أن الله عز وجل يثبت المؤمنين المستضعفين الذين يبتلون، فيقول لهم: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] ثم يسوق لهم كيف ابتلى الأنبياء، ومنهم إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام حينما ألقي في النار: قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ [العنكبوت:24] .

    وفيها أيضاً: الأمر بمنافاة المشركين والبعد عنهم، والتبرؤ من هؤلاء المشركين حتى ولو كانوا أولي قربى، ولذلك وصى الله عز وجل بالوالدين إحساناً وقال: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، فالإنسان يصاحب الوالدين بالمعروف، ويحسن إليهما، ويطيع الوالدين في المعروف، أما في الكفر بالله عز وجل، وفي معصية الله فلا طاعة لأحد في ذلك.

    وفي هذه السورة أيضاً وجوب صبر المؤمنين على أذى المشركين، وأن لهم سعة في الأرض فيذهبون ويتوجهون حيث شاءوا، قال الله عز وجل فيها: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56] ، فذكر أن أرض الله عز وجل واسعة، وذكر في السورة الأخرى فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97] ، وهنا ذكر الله عز وجل فقال: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]، أي: ما الذي جعلكم تقيمون في مكة حتى هذا الحين، وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة؟ ولماذا تقولون: نحن مستضعفون وأنتم لا زلتم في مكة؟ وإنما اخرجوا وهاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحاول ذلك المستضعفون في مكة فخرج منهم من استطاع أن يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ورد منهم من غلب على أمره وأرجعوه إلى مكة.

    أيضاً في هذه السورة الأمر بترك الجدل إلا بالحسنى، قال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46] .

    كذلك فيها الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على إبلاغ هذا القرآن العظيم، وشرائع هذا الإسلام العظيم، والتأسي بالأنبياء السابقين وبأحوالهم.

    كذلك فيها الإخبار عن أمية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي أمي عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]، فذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أمياً، وذكر أيضاً الحكمة من ذلك، وهي: أنك يا محمد! إن كنت تتلو كتاباً من قبل القرآن، أو كنت تخط كتاباً بيمينك إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]، أي: لارتاب أهل الباطل في القرآن، ولقالوا: إن هذا الكلام الذي يقوله قد قرأه من كتب السابقين، وترجمه لنا بالعربية حين يزعم أنه من كلام الله عز وجل، لذلك أغلق الله عز وجل عنهم هذا الباب فقال: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:48-49]، أي: أن القرآن محفوظ في الصدور والسطور، بخلاف الكتب السابقة، فقد كان أهل الكتاب يكتبونها فإذا مات من حفظوا ذلك يقوم الذين كتبوا فيحرفون هذا الكتاب، وما يجدون أحداً يراجع عليهم ويقولون: ما حفظنا غير هذا الذي كتبتموه، فيحرفون ولا يعرفه غيرهم.

    أما القرآن فالأصل أنه محفوظ في الصدور: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] .

    كذلك في هذه السورة الإلزام بإثبات وحدانية الله سبحانه تبارك وتعالى، فقد ألزم المشركين بأن يعبدوا الله وحده، فهم يقرون بأنه الخالق وحده سبحانه، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت:61] أي: فكيف يصرفون عن توحيده؟ وكيف ينصرفون عن عبادته سبحانه وقد أقروا أنه الخالق سبحانه، خلق السموات والأرض بغير عمد ترونها؟

    كذلك فيها إثبات جزاء الأعمال، فقد توعد الله المشركين بالعذاب الذي يأتيهم بغتة وهم منهمكون في باطلهم، وغير ذلك من أغراض هذه السورة العظيمة.

    سنة الابتلاء

    سورة العنكبوت بدأها ربنا سبحانه بقوله: الم [العنكبوت:1] ثم قال: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2].

    قوله: أَحَسِبَ [العنكبوت:2]، أي: أفيظن الناس عندما يقولون: آمنا. أنه لا يتعرض أحدهم للبلاء؟ ليست هذه سنة الله سبحانه في خلقه، إنما سنة الله في الخلق أن يبتلي المؤمن، فكلما ازداد الإيمان واليقين كلما ازداد البلاء من الله تبارك وتعالى عليه، ولذلك كان (أشد الناس ابتلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل) كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    يقول لنا ربنا سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [العنكبوت:2] قال ابن عباس وغيره: أراد بـ(الناس) قوماً من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام كـسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ، وعمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمه، وعدة من بني مخزوم، وغيرهم ممن كان يعذب في مكة، وكانت صدورهم تضيق لذلك، وربما استنكروا كيف أن الله عز وجل يمكن الكفار منهم، والإنسان في وقت الضيق يمكن أن يحصل في صدره شيء من ذلك، فيأتيه الشيطان فيوسوس في نفسه، ويقول: هل هذا جزاء إيماني؟ هل هذا جزاء أنني أصلي؟ هل هذا لأنني ملتزم بالدين؟ وهكذا، فيوسوس له الشيطان في الابتعاد عن الالتزام، وعن دين رب العالمين، لكن ربنا يطمئن المؤمنين ويثبتهم، وكأنه يقول لهم: أنتم تريدون أن تقولوا: نحن مؤمنون، وتأخذون الجنة العظيمة من غير بلاء؟ لا، لابد من الابتلاء والتمحيص.

    وقالوا في سبب نزولها: إنها نزلت في يوم بدر لما قتل مهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عبداً عند عمر ، فأعتقه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، أو كان أبوه عبداً وأعتقه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان له الولاء عليه، وكان الرجل أول قتيل من المسلمين في يوم بدر، رماه رجل من الكفار اسمه: عامر بن الحضرمي فقتله، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الشهداء، ولكن أبوه وامرأته جزعا عليه جزعاً شديداً، فنزلت الآية تطمئنهم وتقول: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2].

    كذلك ذكروا في سبب نزولها: أن ناساً من المؤمنين كانوا في مكة، وعندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في السنة السادسة راسل هؤلاء المؤمنين، وأمرهم أن يخرجوا، فخرج بعضهم فإذا بالمشركين يردونهم ويقتلون بعضهم، فنزلت الآية تثبتهم وتطمئنهم، وأنه لا بد من البلاء، فيبتلي الله الإنسان المؤمن حتى يثبت إيمانه، يقول الله سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] إذاً: سنة الله أن المؤمن مبتلى، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت:3]، أي: لقد ابتلينا الذين من قبلهم، والفتنة بالتشديد بمعنى: الابتلاء والاختبار، وأصلها: من فتن الحديد، وفتن الذهب، وفتن الفضة، بمعنى: أدخلها النار حتى ينقيها من الشوائب، فقال الله عز وجل: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت:3]، فالذين من قبلهم فتنوا وحرقوا وأوذوا في سبيل الله عز وجل، ومنهم إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

    روى الإمام البخاري عن خباب بن الأرت قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين) فانظروا إلى هذا البلاء الشديد الذي كان في السابقين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك للمؤمنين ليثبتهم وليطمئنهم، فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ وأنت ترى ما نحن فيه من النكال والعذاب من الكفار، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنكم لستم بأول من ابتلي، بل إن بلاءكم أخف ممن كان قبلكم فقد كان يؤتى بالرجل من الذين من قبلكم فينشر بالمناشير، ويمشط بأمشاط الحديد، بمعنى: يؤتى بمشط من حديد قد وضع على النار، وينزعوا به لحمه من جسده (ما دون عظمه ولحمه) يقول صلى الله عليه وسلم: (فما يصرفه ذلك عن دينه، ثم يقسم فيقول: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، أي: أنتم تستعجلون، ولكن إن صبرتم فإن الدين سينشر، والإيمان سيستقر، والأمان سينتشر بين الناس، حتى يخرج المسافر من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف أحداً، لا قطاع طريق ولا غيره، فلا يخاف أحداً في الطريق إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، وإن خاف من شيء ما فسيخاف من الذئب، لأنه يأكل غنمه مثلاً، ولكن لا يخاف من البشر (ولكنكم قوم تستعجلون).

    أيضاً مما جاء من الأحاديث في هذا المعنى ما رواه ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك)، أي: مريض مرضاً شديداً، (قال: فوضعت يدي عليه -عليه الصلاة والسلام- فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف) يعني: أنه حط يده فوق اللحاف الذي على النبي صلى الله عليه وسلم فشعر بحرارة شديدة جداً، قال: (فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك) أي: أن هذه حرارة شديدة جداً، فهو لم ير مثلها قط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر. قال أبو سعيد : قلت: يا رسول الله! من أشد الناس بلاء؟ قال: الأنبياء) .

    إذاً: مهما ابتلي إنسان فلن يبتلى بمثل ما ابتلي به الأنبياء، (قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها أو يجوبها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء) .

    قوله: (إن كان أحدكم ليفرح بالبلاء) أي: أن الصالحين يبتليهم الله عز وجل فيصبرون على البلاء، بل ويفرحون بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء، وهذا حديث صحيح.

    حديث آخر صحيح رواه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت: (يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً) أي: قوة في الإيمان (اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة) .

    لذلك إذا ابتلي العبد فليتذكر أن الله يكفر عنه سيئاته بهذا البلاء، ويرفع له درجاته بهذا البلاء، ويجعله كالأنبياء، فليتأس بالأنبياء والصالحين، وليصبر على ذلك وينتظر الفرج من الله.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765793963