اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: بسم الله الرحمن الرحيم وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:1-10].
هذه هي السورة السابعة والثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة الصافات، وهي سورة من السور المكية في كتاب الله عز وجل، وفيها خصائص السور المكية كما سيأتي فيها.
وسورة الصافات آياتها مائة وإحدى وثمانون آية على العد البصري وعد أبي جعفر ، ومائة واثنان وثمانون آية على عد باقي القراء، وكما ذكرنا في غيرها من السور أن اختلاف القراء في عدد الآيات هو بحسب الوقف، أي: هل هذه رأس آية أم هي جزء من الآية، فبناء على ذلك يختلف العد، وليس المعنى أنه يوجد آية زائدة عن الآيات في العد الآخر، وإنما العد بحسب الوقف نفسه، ولذلك سيختلف القرَّاء هنا في الوقوف كما في الآية: مِنْ كُلِّ جَانِبٍ [الصافات:8]، يقف غير البصري على دُحُورًا [الصافات:9]، فوقف على كلمة دُحُورًا [الصافات:9].
كذلك في قوله سبحانه: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ [الصافات:22]، يقف عليها على أنها رأس آية غير البصري وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات:22-23].
كذلك قوله: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ [الصافات:167] غير أبي جعفر يقف عليها، وأما أبو جعفر فيصلها بما بعدها.
إذاً: الخلاف في عد الآي هو بسبب أين يقف، هل على رأس هذه الآية فيعتبر هذه رأس آية أم على جزء من الآية التي تليها ويعتبر ذلك الجزء آية؟
هذا باعتبار نزول السورة في ترتيب النزول، وأما في ترتيب نزولها من بين السور فهي السادسة والخمسون في ترتيب النزول، أما في ترتيب العد المصحفي فترتيبها في المصحف السابعة والثلاثون في العد، ولكنها السادسة والخمسون في النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نزلت هذه السورة بعد سورة الأنعام، وسورة الأنعام سورة مكية وهذه بعدها، وقبل سورة لقمان التي قدمنا ذكرها قبل ذلك.
إذاً: هذه السورة الغرض منها إثبات وحدانية الله سبحانه تبارك وتعالى، وسوق الدلائل على تلك الآيات التي تدل على أنه وحده هو الذي يستحق العبادة، وأنه وحده المنفرد بالخلق وبتدبير الكون في العالم العلوي والعالم السفلي، بل في كل شيء قد انفرد بالخلق سبحانه، فله الخلق وله الأمر، فهو الذي يعبد وحده سبحانه تبارك وتعالى.
وفيها أيضاً الإشارة إلى البعث والنشور وإثبات الحشر والجزاء يوم القيامة، وفيها وصف حال المشركين يوم الجزاء وكيف يفعلون وكيف يندمون على ما قصروا وما فرطوا في هذه الحياة الدنيا، وكيف يقع بعضهم في بعض، ويدعو بعضهم على بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وفيها وصف أحوال المؤمنين بأن الله سبحانه ينجيهم وأنه يدخلهم جنته سبحانه تبارك وتعالى.
كذلك يذكر في هذه السورة حال المؤمنين وفرحهم بدخولهم الجنة، وكيف أنهم كما قال تعالى: أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:27]، وكيف ذكر أحدهم إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات:51-52]، وأنهم تكلموا وهم في الجنة، وأخبرنا الله عز وجل عن فرحهم وسرورهم وكلام بعضهم لبعض فيها، وكيف أن الله ثبتهم في هذه الدنيا وثبتهم يوم القيامة حتى أدخلهم الجنة.
ثم انتقل إلى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، وأن الذي دعا إليه هو الذي دعت إليه الأنبياء والرسل قبله صلوات الله وسلامه عليه وأن الدعوة واحدة، والله عز وجل كما جعل لهؤلاء السابقين أعداء ونصرهم عليهم سبحانه تبارك وتعالى، وحقت كلمة الله سبحانه أن رسله هم المنصورون وأنهم هم الغالبون، كذلك يذكر لنبيه صلوات الله وسلامه عليه أنه سينصره سبحانه كما نصر هؤلاء السابقين.
وكذلك ذكر الله هنا شيئاً من مناقب الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام، الذين دعوا إلى الله سبحانه تبارك وتعالى وخاصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو إمام الأنبياء، فذكر الله كيف أن إبراهيم هاجر إلى ربه سبحانه، وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:99-101]، وذُكر في السورة قصة الذبيح؛ حتى نعلم كيف أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام استحق أن يكون خليل الرحمن بصبره على ابتلاء الله عز وجل له، وبتنفيذه جميع أوامر الله سبحانه، وبتقديمه ما يحب الله على ما يحبه هو عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ثم ذكر الله المشركين وكيف أن اعتقاداتهم اعتقادات فاسدة، وأنهم كذبوا ربهم وتعجبوا مما لا يتعجب من مثله، كقولهم: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، فيعجبون من غير أن يستدعي الأمر عجباً!
وذكر الله أنهم كانوا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم وهذا القرآن العظيم، والله عز وجل يجيب ويرد عن نبيه صلى الله عليه وسلم ويعده بالنصر على هؤلاء الكافرين.
وقد بدأ هذه السورة بقوله سبحانه تبارك وتعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات:1]، فذكر ملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى وختم هذه السورة بقوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ [الصافات:171-174]، وقوله تعالى: وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات:179-181] .. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، فبدأ بذكر الملائكة، وانتهى بذكر رسل الله سبحانه، ونصر الله سبحانه لأنبيائه على الكفار.
أي: الملائكة التي تصف أجنحتها وتقف صفوفاً بين يدي ربها سبحانه تبارك وتعالى، والملائكة خلق عظيم خلقهم الله عز وجل من نور، وجعل لهم قوة عظيمة جداً، فهم ملائكة الله الذين قال فيهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ومنهم جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هيئته التي خلق عليها مرتين فقط، وخلقه يسد ما بين السماء والأرض وله ستمائة جناح، نزل على قرية واحدة فقلب هذه القرية على أهلها كما قال تعالى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى [النجم:53-55].
ومن الملائكة خازن النار مالك الذي يناديه أهل النار يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، ومنهم ميكائيل الذي يأتي بالقطر ويسوق السحاب ويأتي بالمطر من السماء، والناس يسمعون صوت الرعد ويرون البرق فيصيبهم الفزع والهلع والخوف وما ذلك إلا من ملائكة الله الذين يجعل الله عز وجل في أيديهم ما يدبر به أمر خلقه سبحانه تبارك وتعالى.
وأما إسرافيل فهو الذي ينفخ في الصور، فيميت الله عز وجل جميع الخلق بهذه النفخة، ثم يأمره أن ينفخ نفخة الإحياء فينفخ فيقوم الناس من قبورهم فزعين.
والملائكة يسمعون ويطيعون ويعبدون الله سبحانه، مع قوتهم الهائلة فهم الصافون بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، أي: يقفون صفوفاً بين يديه خائفين وجلين، فإذا سمع الملائكة الأمر من عند الله سبحانه خروا وضربوا بأجنحتهم خضعاناً لأمر الله سبحانه تبارك وتعالى، والملائكة هم الذين ذكرهم الله سبحانه تبارك وتعالى في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1].
فهؤلاء الملائكة الذين خلقهم الله سبحانه تبارك وتعالى، وصفهم هنا مقسماً بهم، والله يقسم بما يشاء، فهو يقسم بنفسه، وبصفاته سبحانه، ويقسم بالملائكة، ويقسم برسوله صلى الله عليه وسلم، فله أن يقسم بما يشاء، أما العبد فلا يجوز له أن يقسم إلا بالله سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فلا تحلف بغير الله.
وقد ناسب ذكر الملائكة في أول هذه السورة وذلك لعظمتها، وذكر أنها تصف صفوفاً بين يدي الله عز وجل خاشعة قائمة بين يدي الله عز وجل، فمنهم القائم ومنهم الراكع ومنهم الساجد الذي يكون على هذه الهيئة حتى تقوم القيامة، فإذا قامت القيامة قاموا بين يدي الله عز وجل، وقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
إذاً: ينبغي عند قيام المؤمنين في صلاتهم أن يتشبهوا بالملائكة في قيامهم بين يدي الله عز وجل، فلا ينبغي للمسلم إذا وجد فرجة في الصف أن يتركها، فتصبح مجموعة في الصف الأول ومجموعة في الصف الثاني، وهؤلاء في أول الجامع وهؤلاء يمينه وهؤلاء شماله! بل عليهم أن يقتدوا ويتشبهوا بملائكة الله عز وجل، فيصفون صفوفاً ويكملون الصف الأول، ثم الثاني، ثم الثالث .. وهكذا، قال صلى الله عليه وسلم عن الملائكة: (يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف).
وتواضع الملائكة للمؤمنين ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما صنع) أي: أن طالب العلم الشرعي الذي يذهب ليتعلم القرآن، ويتعلم السنة، ويتعلم الفقه، ويتعلم دين الله عز وجل وأحكامه، فهذا الإنسان في خروجه من بيته إلى بيت الله عز وجل الملائكة تتواضع له وتفرح به، وتفرش له أجنحتها وتضع أجنحتها رضاً بما صنع طالب العلم.
وأيضاً ملائكة الله سبحانه تبارك وتعالى إذا سمعوا أمر الله يحصل أنهم يعملون شيئاً، وهو ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان ينفذهم ذلك)، والحديث في صحيح البخاري وفيه: (أن الملائكة إذا سمعت أمر الله تضرب بأجنحتها من الفزع) أي: من الخوف أن تقوم القيامة، أو أن يغضب الله، يخافون ذلك مع أن الله سبحانه جعلهم لا يعصون أبداً، ولكن الخوف من الله عز وجل، ومنزلتهم العالية عند ربهم سبحانه جعلتهم يخافون أن تضيع هذه المنزلة، فإذا سمعوا أمر الله ضربوا بأجنحتهم خضعاناً لأمره سبحانه تبارك وتعالى.
إذاً بدأت هذه السورة بالقسم بملائكة الله: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا [الصافات:1-3]، والراجح من أقوال أهل التفسير: أن هذه الأقسام كلها بالملائكة فهي مناسبة بعضها لبعض.
فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا [الصافات:2-3]، فالملائكة تزجر عن المعاصي، وقد يرسلها الله لتهلك أقواماً بسبب معاصيهم، وهذا زجر عن المعصية وعن قبائح الأمور.
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا [الصافات:3] أي: أن الملائكة تتلو ذكر الله سبحانه، فهم يسبحون الله سبحانه، ومنهم من ينزل على الأنبياء بكتب الله يقرءون عليهم ويعلمونهم، كما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليه ويعلمه، فيحفظ منه ويتعلم منه عليه الصلاة والسلام.
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا [الصافات:1-3]، وقد قرأ أبو عمرو هذه الآيات الثلاث بالإدغام، وأدغم التاء في الصاد في الآية الأولى، والتاء في الذال في الآية الثانية، والتاء في الذال في الآية الثالثة يعقوب بخلفه، وكذلك حمزة فهو يدغم، فإذا أدغم حمزة فيمد فيها، وإذا أدغم غيره جاز له أن يمد حركتين وأربع وست حركات، والقراءة بالإدغام: هي أن يلغي التاء ويقرأ الصاد مكانها، والقسم في الثلاث الآيات جوابه: إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [الصافات:4]، وهذا هو المقصود من إرسال الرسل، ومن إنزال الكتب، وهو بيان توحيد الله سبحانه، وأنه الذي يستحق العبادة وحده.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر