قال الله عز وجل في سورة الدخان: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الدخان:1-8].
هذه هي السورة الرابعة والأربعون من كتاب الله عز وجل وهي سورة الدخان، وهي من السور المكية، وإحدى الحواميم السبع التي تبدأ بغافر وتنتهي بسورة الأحقاف، وترتيب نزول هذه السور على ترتيب وجودها في القرآن العظيم: سورة غافر، ثم سورة فصلت، ثم سورة الشورى، ثم سورة الزخرف، ثم سورة الجاثية، ثم سورة الدخان، ثم سورة الأحقاف.
وهذه السور مكية تميزت بأن الله عز وجل افتتح جميعها بهذين الحرفين: الحاء والميم، وهذه السورة فيها خصائص السور المكية، والعهد المكي كان عهد إقرار العقيدة في قلوب الناس، وتعليمهم توحيد الله سبحانه، وتذكيرهم بالجنة والنار، وإخبارهم بما حل بالأمم السابقة وما صنع الله عز وجل بهم، كما عرف الله سبحانه الناس في هذا العهد بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
هذه السورة آياتها تسع وخمسون آية على خلاف بين العلماء، فالبعض عدها ستاً وخمسين آية، وهم الحجازيون والشاميون، والبعض عدها سبعاً وخمسين آية وهم البصريون، والبعض عدها تسعة وخمسين آية وهم الكوفيون، والخلاف كما ذكرنا قبل ذلك ليس في كلمات كتاب الله عز وجل، وإنما في موضع الوقف الذي بعد رأس الآية، فمن وقف على حم [الدخان:1]عدها آية، ومن لم يقف عليها عدها وما بعدها آية، وعلى ذلك فالخلاف في كلمة حم [الدخان:1]، فالبعض يعدونها آية ويقفون عندها ثم الآية التي تليها وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:2]، وهؤلاء هم الكوفيون والبعض وهم باقي القراء يعدون حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:1-2] آية واحدة.
وكذلك قول الله عز وجل: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:43-44]، فالبعض وقف عند إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ [الدخان:43] وعدها آية، وطَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:44] عدها آية أخرى، والبعض وصل إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:43-44] وعدها آية واحدة.
والبعض وقف عند آية كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ [الدخان:45] وعدها آية، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:46] وعدها آية أخرى، والبعض وصل كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:45-46].
فلم يقبلوا هذا التحدي من ربهم سبحانه كما ذكر ذلك في سورة الإسراء، فتحداهم بعشر سور مثله مفتريات كما في سورة هود فلم يقدروا، ثم تحداهم بسورة من مثله كما في سورة يونس، وأخبرهم أن َادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وفي البقرة وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة:23] فلم يقدروا على ذلك، والذين أرادوا أن يقبلوا التحدي قالوا كلاماً فارغاً سخر منهم الناس بسببه، فقال أحد الذين أسلموا بعد ذلك لأحد هؤلاء الكذابين: والله إنك لتعلم إني لأعلم أنك كاذب، أي: أنت تعرف أني مكذبك فيما تقول، ولكنهم كانوا يتبعونه كنوع من العصبية على ما اعتادوه في الجاهلية.
حم [الدخان:1] هما حرفان: الحاء والميم، وقراءة أبي جعفر توضح أن هذين الحرفين ليسا كلمة، فيقرأ حم [الدخان:1] ويقف: حا، ميم، وكذلك في كل فواتح السور حين يقرأها يبين أنها حروف، كقوله تعالى: الم [البقرة:1] يقرؤها: ألف، لام، ميم، طه [طه:1]، طا، ها يس [يس:1]، يا، سين، فهذه حروف مقطعة يفتتح الله عز وجل بها هذه السور، ويتحدى الكفار بمثلها أن يجمعوا منها كلمات ويصيغوا منها قرآناً مثل هذا القرآن إن استطاعوا هم وشركاؤهم من الجن والإنس، فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.
وقوله تعالى: حم [الدخان:1] فيها ثلاث قراءات: (حم) بالفتح، وهي قراءة قالون وأبي جعفر وابن كثير وحفص عن عاصم وهشام عن ابن عامر، والأزرق عن ورش يقرأ بالتقليل، ويقرأ أبو عمرو أيضاً بالفتح والتقليل للحاء أي: لا يفتحها ولا يكسرها، وباقي القراء وهم: ابن ذكوان عن ابن عامر وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف يقرؤونها بالإمالة، والكل يمد الميم مداً طويلاً ست حركات، وأما الحاء فتمد مداً طبيعياً بحركتين فقط.
قال الله تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:1-2]، وكأنه يقول: هذا القرآن من جنس هذين الحرفين وغيرها من الحروف، فأتوا بمثل هذا القرآن، والغالب أنه إذا ذكرت الحروف المقطعة فإنه يأتي بعدها إشارة إلى القرآن، كقوله تعالى هنا بعد أن افتتح السورة بهذين الحرفين: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:2]، والكتاب: هو القرآن، وهو الكتاب المعهود الذي عرفتموه وجاء من عند رب العالمين، المبين: من أبان بمعنى أظهر ووضح وجلى، فكأن المعنى: إن هذا الكتاب يوضح ويبين لكم ما كان غائباً عنكم وما لم تعرفوه، كما وضح لكم ربكم فيه ما أشكل وما اشتبه عليكم وما وقعتكم في شك فيه، وبين لكم ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم وأخراكم.
والليلة المباركة هي الليلة العظيمة البركة، وهي ليلة القدر كما بين الله سبحانه في سورة القدر بقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، وبهذا يتبين أن القول بأن هذه الليلة هي ليلة النصف من شعبان ليس صحيحاً وإن ذكره كثير من المفسرين، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها كذلك، فالليلة المذكورة هنا هي الليلة المذكورة في سورة القدر، قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3]، وقال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] ، وهي ليلة من ليالي العشر الأخيرة من رمضان.
ومن بركتها أنه أنزل فيها القرآن ليكون لها شرف عظيم بذلك، وفيها يقضي الله ما يكون خلال هذه السنة، فيفعل ما يشاء ويحكم بما يشاء ويعلم الملائكة ما يشاء من أقداره سبحانه.
ثم إن عظمته سبحانه وحكمته تأبى إلا أن ينذر قبل أن يحاسب ويعاقب ويعذب، فقال: إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]، فقد أنذر الله سبحانه وتعالى وبشر في كتابه، فإذا أنذر فقد بين لهذا الإنسان ما يبعده عن النار ويهديه إلى الجنة، ففي القرآن العظيم نذارة من الله عز وجل لعباده، قال تعالى: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41]، وقال: وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] ، فأنذرهم الله سبحانه وقال: إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]، وبهذا يكون قد أعذرهم حتى لا يكون لهم على الله حجة يوم القيامة، وأصل النذارة: الإخبار بالشيء الذي سيكون فيه إخافة للناس، كأن يقول: إن تفعل كذا أو إذا لم تفعل كذا تدخل النار فهذا هو الإنذار من الله سبحانه.
وهذه الليلة المباركة قال الله عنها: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، يفرق ويفرق بمعنى يفصل، فالقرآن هو الفرقان الذي فرق بين الحق والباطل، والذي فصل الله عز وجل فيه الأحكام.
فالله عز وجل يحكم بما يريد سبحانه، ويخبر أنه سيقع كذا وسيكون كذا، فيخبر الملائكة بما يقع في خلال هذه السنة من أمور، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، والأمر الحكيم أمر الله وقضاؤه وقدره المحكم المبرم الذي لا بد وأن يكون على وفق ما قضاه الله سبحانه، وهو كل أمر يكون فيه حكمه.
فيقضي الله في هذه الليلة ما يكون خلال العام من الأحداث، ومن يموت فيها ومن سيولد وغير ذلك مما يشاءه الله، فيفصل من عند الله عز وجل إلى ما في أيدي الملائكة من صحف، فيعلمون ما يكون خلال هذا العام من الوظائف والأعمال التي كلفهم الله بها.
ولذلك فإن المؤمن يقوم هذه الليلة لشرفها وفضلها، ولما يحدثه الله عز وجل فيها من أمور ينزلها على الملائكة وعلى عباده.
جاء عن الحسن البصري أن رجلاً سأله فقال: يا أبا سعيد ! أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو إنها في كل رمضان، إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثل هذا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج يقال: يحج فلان ويحج فلان.
أي: يفصل من اللوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي كتب فيه مقادير الخلائق، وقدر فيه مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، إلى ما في أيدي الملائكة من صحف، وعلم الله لا يغير ولا يبدل، ولكن ما يكون في أيدي الملائكة من صحف فيها: فلان يفعل كذا، فإذا فعل كذا افعلوا به كذا، أو فلان يموت في اليوم الفلاني، وإذا وصل رحمه مد في عمره ويكون كذا، أو فلان يحدث له كذا ويولد له كذا فإذا كان منه كذا يكون كذا، وعلم الله أن هذا لن يحسن ولن يبر والديه ولن يصل رحمه فسيموت في الوقت الذي قدره الله سبحانه وتعالى، فيطلع الملائكة بما يفصله له من اللوح المحفوظ إلى كتبهم التي في أيديهم فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4].
يقول ابن عباس في هذه الآية: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق واسمه في الموتى. أي: يمشي في السوق ويضحك ويعمل وقد كتب في هذه الليلة في صحف الملائكة أنه سيقبض في هذا الوقت.
وقوله سبحانه: كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] أي: كل أمر فيه حكمة من الله سبحانه.
قال سبحانه: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:5] أي: أن الأمر الذي يفرق ويفصل أمر عظيم يليق بعظمته سبحانه، وإنما قال: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:5] لإنه إذا كان من عند الله فلا تغيير له ولا تبديل، فالله عز وجل فرق وفصل وأمر وأحكم وأبرم سبحانه، ولا بد أن يكون ما أبرمه وما قضاه سبحانه، ولذلك عظم هذا الأمر بنسبته إليه فقال: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:5] أي: أمراً عظيماً من عندنا.
إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الدخان:6]، فأرسل رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ملائكة من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله رحمة من عنده بعباده، ولذلك فإن البعض ينصبون رحمة؛ لأن اسم الفاعل في قوله: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:5] ينصب ما بعده على أنه مفعول به، أي: نرسل رحمتنا لعبادنا، فأنزلنا هذا القرآن، وأرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزلنا الملائكة كل ذلك رحمة من عندنا، وأرسلنا الرياح لواقح رحمة من عندنا، أو أن المعنى: قضينا بأن نرسل ما نشاء من رسل الله سبحانه وتعالى، وهذا الإرسال رحمة، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: رحمناكم رحمة.
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الدخان:6] فرحمة الله عظيمة واسعة تليق به سبحانه، إنه هو السميع: يسمع ما يقوله خلقه، العليم: يعلم ما في قلوبهم وما يفعلونه.
قراءة الكوفيين رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الدخان:7] بالكسر على أنه بدل مما قبله، أي: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الدخان:6] وربك هذا رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الدخان:7] فيكون بدلاً من رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الدخان:6]، وقراءة الجمهور: المدنيين والحجازيين والبصريين: رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الدخان:7]، برفع رب، أي: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الدخان:6] رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الدخان:7].
والرب هو الخالق سبحانه، وهذا لم يشك فيه الكفار فهم مقرون أن الله هو خالق السماوات والأرض، وإنما كان شكهم وإعراضهم عن توحيده في العبادة والألوهية، ولذلك قال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، فما اختلفوا فيه؛ لأنه هو الرب وهذه صفته سبحانه، وهو الفعال لما يريد، وأما الألوهية والعبادة فقد عبدوا من دونه آلهة كثيرة.
وقوله: رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الدخان:7] أي أنه الخالق والمالك لما في السماوات والأرض وما بينهما.
وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الدخان:7] في الحال أو في الاستقبال، والمعنى: إن كنتم تريدون أن توقنوا فتعلموا من كتاب الله عز وجل ما يدفعكم إلى اليقين وما يمنع عنكم الشك، أو إن كنتم موقنين أنه الرب فاعبدوه، وإن علمتم أن الله هو الذي يملك ويخلق ويرزق فكيف تعبدون ما لا ينفعكم ولا يضركم؟ وهذا مثل أن يقول الإنسان لآخر: يا فلان! أعطني، وهو يعلم أنه لا يعطي، فإذا كان الإنسان موقناً أن الله هو الرب فليعبده وليسأله وحده.
إذاً: فتقدير خبر (لا) النافية للجنس هو: حق، وإذا قيل: موجود فلا بد أن يوصف بأنه موجود حق، فيكون المعنى: لا إله حق إلا الله وحده وما سواه آلهة باطلة، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الدخان:8].
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر