قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15].
ذكر الله هذه الآية من سورة الأحقاف بعدما ذكر سبحانه وتعالى الإيمان والاستقامة فقال: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [الأحقاف:13]، فذكر هنا الوصية بالوالدين، والوصية بالوالدين تكررت في كتاب الله عز وجل في مواضع كثيرة، كقوله سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [النساء:36]، وقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14].
وقوله: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8].
فهذه وصية وأمر من الله عز وجل واجب التنفيذ، فقد أوصاكم بذلك وعهد إليكم عهداً أن تعبدوه سبحانه وتعالى، وأن تراعوا الوالدين وتحسنوا إليهما.
قوله: (إحساناً) مصدر، أي: أن يحسن إليهما إحساناً هو أعظم الإحسان وأفضله وأتمه وأكمله.
وقراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف (إحساناً)، وباقي القراء يقرءون: (ووصينا الإنسان بوالديه حسناً) يعني: أن يحسن إلى الوالدين وأن يعاملهم بالحسنة، أي: بأحسن ما يكون، فكأن الإنسان يتعامل بالحسن ويتعامل بالأحسن، والحسنى: جمع الأحسن، ومن ذلك قوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180] والأسماء منها حسن ومنها ما هو أحسن، من باب أفعل التفضيل.
إذاً: وصى الله عز وجل الإنسان بأن يحسن إلى والديه، وأن يعاملهما المعاملة التي هي أحسن ما يكون.
ثم قال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا .
يعني: حملته بمشقة، والحمل مكروه وإن كان محبوباً، أي: أن الكره في مشقته وتعبه وآلامه، وفيما تعانيه المرأة من تعب شديد، ومع ذلك هي تحب من في بطنها، ولكن تكره التعب والمشقة، وتحب جنينها وطفلها، فتتحمل من أجل ذلك، فهذا تذكير من الله عز وجل للعباد حتى يحسنوا إلى والديهم، وأنه ينبغي أن يراعي ذلك، فقد أحسن إليك الوالدان، فهذه الأم حملتك هذا الحمل الطويل الذي تعبت فيه من أجلك، وهذا الأب الذي أنفق عليك وتعب من أجلك، فأحسن إليهما الإحسان العظيم.
قال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا هذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلفه: (كَرهاً) يعني: كأنها كرهت هذا كرهاً وكرهته كُرهاً، كأنه من المشقة وكأنه من الكراهية، فالكراهية للتعب الذي هي فيه، وأما الحمل فهي تتمناه وهي تحبه، لكن هي تكره هذا التعب وهذه الآلام التي هي فيها.
ثم قال: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا .
يعني: حملته وأرضعته ثلاثين شهراً، ففي قراءة الجمهور: (وفصاله)، وقراءة يعقوب : (وحمله وفصله) أي: فطمه، والفطم يعني: الإبعاد عنها، فهي أبعدته عن صدرها؛ حتى لا يشرب اللبن منها، فهذا الفصل وهو الفصال.
الحمل والفصال ثلاثون شهراً، وهذه دقة عظيمة معهودة من كتاب الله سبحانه، قال تعالى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14].
والطفل قد يرضع عامين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، قال تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233].
وقد كان الصيام من العشاء إلى المغرب من اليوم الثاني، فلم يطق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فجعل لهم التخيير بين أن يصوموا هذا الصوم الشاق وبين أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكيناً، فقوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [البقرة:220] أي: لو شاء لتركه هكذا، ولكن الله نسخه، وهذا فضل منه ورحمة.
وهذا قيس بن صرمة لما صام وجاء وقت غروب الشمس نام وقت الغروب قبل أن يفطر، وليس لهم أن يفطروا إذا ناموا وقت الإفطار، بل يواصل من نام الصيام إلى وقت الإفطار من اليوم الثاني، فحصلت لـقيس مشقة شديدة، فنسخ الله عز وجل ذلك بفضله وبرحمته، ويسر على العباد، فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، فجعل الصيام بالنهار من الفجر إلى غروب الشمس، ومن غروب الشمس إلى الفجر وقت أكل وشرب وجماع للزوجات.
فهذه الأحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى في البداية حتى لا يعترض الإنسان على أمره سبحانه، بل يسلم وينقاد، فقد فرض الله علينا خمسين صلاة في اليوم والليلة، ثم نسخ ذلك قبل الفعل وهو في السماء، فنسخ الخمسين صلاة إلى خمس صلوات، وقال الله عز وجل: (أتممت فريضتي وخففت على عبادي ذلك، هن خمس صلوات في العمل وخمسون في الأجر).
وأمرهم سبحانه بالحج: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (أكل عام يا رسول الله؟! فسكت، ثم سألوا فقال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم) فهذا من الحرج الذي رفع عنهم، ولو أنه أوجب عليهم الحج في كل عام لما وسع الإنسان المؤمن إلا أن يفعل ما أمر الله عز وجل به، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [البقرة:220]، ولكنه بكرمه سبحانه وتعالى قال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] ، فخفف عن العباد بفضله وكرمه ورحمته تبارك وتعالى.
فهنا في هذه الآية يذكر الله سبحانه أن الأم حملت ابنها كرهاً ووضعته كرهاً، وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ، وقال: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، وقال: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، وقال: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233]، فجعل على الأم واجبات تؤديها لطفلها، وجعل لها حقوقاً تأخذها.
والأب أو الوارث لهذا الغلام عليه واجبات يؤديها لهذه الأم، قال تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233] أي: على الأب من الإنفاق والكسوة لهذه المرأة مثل ما هو متعارف عليه.
فإذا قلنا: إن الرضاع إذا أكمل فإنه يكون حولين كاملين، أي: أربعة وعشرين شهراً، فيبقى من تكملة الثلاثين ستة أشهر، فأخذ منها العلماء كـعلي بن أبي طالب وغيره رضي الله عن الجميع أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر، وأما أقل من ذلك فلا، فإنه ينزل ميتاً ولا يعيش لو نزل في أقل من ذلك، فهذه أقل مدة، فانظروا إلى تعبيرات القرآن فإنها عظيمة ودقيقة وجميلة، فالمرأة قد تحمل في ستة أشهر ويعيش، أو سبعة أشهر أو ثمانية أشهر أو تسعة أشهر وقد يزيد على ذلك، لكنه نادر، فالغالب أنها تحمل في تسعة أشهر، والنادر أن يكون عشرة أشهر أو عشرين شهراً، ولم يذكر هذا النادر وإنما ذكر الغالب من الأحوال.
قوله: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا جيء في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه بامرأة حملت ووضعت بعد ستة أشهر، فكأنه لم يستحضر الحكم الذي في الآية، وأمر بأن يقام عليها الحد؛ لأن هذه امرأة متزوجة وولدت بعد ستة أشهر من زوجها، فحكم بأنها ترجم، فجاء علي بن أبي طالب قبل رجم المرأة وقال: ليس لك عليها سبيل؛ لأن ربنا يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا وقال: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، فيكون الحمل ستة أشهر والإرضاع عامين، فتركها عثمان، وحمد الله سبحانه وتعالى على التوفيق بـعلي في ذلك، فرضي الله عن الجميع.
ثم قال: (( وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ )) أي: وفقني لأن أعمل أي عمل صالح دل عليه الكتاب والسنة، بحيث يكون العمل خالصاً وصواباً، وهذا هو العمل الذي يرضاه الله عز وجل.
فالإنسان ينبغي عليه أن يدعو لنفسه ولوالديه وأن يدعو لأولاده، والإنسان حين يشكر نعمة الله فإنه يزيده، قال عز وجل: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، فكأنك حين تقول: يا رب أوزعني أن أشكر نعمتك، كأنك تقول: حمدتك وشكرتك وأنت وعدت بالزيادة على الشكر فأعطني المزيد، وأنا أتقرب إليك في العبادة لأجل أن تعطيني المزيد من فضلك، ولا تحمل هم الرزق فالله سبحانه وتعالى يرزقك، ولكن احمل هم الدعاء، واطلب من ربك أن يعينك على الدعاء، وأن يعينك على العبادة التي بها تستجلب رضاه، وتستجلب رزقه سبحانه وتعالى.
فقوله: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي: أصلح الذرية من الأبناء والأحفاد الذين يكونون مني إلى قيام الساعة، وأصلح لي في ذريتي؛ لأني أنتفع بذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الولد من كسب أبيه) ، فإذا كان أولادك يحفظون كتاب الله عز وجل فإنك تحلى يوم القيامة عند الله سبحانه وتعالى بتاج الوقار، وتكسى حلة؛ بسبب حفظ ولدك للقرآن، فكيف إذا كان مجموعة من الأولاد والأحفاد يحفظون القرآن وكنت أنت السبب في هذا الشيء؟!
وأيضاً قوله: أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي: اجعلهم صالحين، واجعلهم أئمة للمؤمنين، واجعلهم من عبادك المخلصين، فإذا كانوا كذلك انتفعت أنت بصلاح أولادك، ولعلهم يكونون أرفع منك منزلة في الجنة، فالله عز وجل يرفعك مع هؤلاء، ولعل الإنسان يستوجب شيئاً من عقوبة رب العباد سبحانه وتعالى، فبشفاعة هؤلاء الأولاد ينجيه الله سبحانه وتعالى.
إذاً: فعلى الإنسان أن يتفكر في هذا الدعاء؛ فإنه أعظم الدعاء، وكل ما في كتاب الله عز وجل من دعاء فهو أعظم دعاء، فعلى الإنسان أن يحرص بأن يدعو بما في كتاب الله عز وجل من دعاء، وبما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم من دعاء.
ثم قال: (( وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) يعني: تبت إليك وأسلمت نفسي إليك، وإني من المخلصين لك.
وقيل: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الوحيد من المهاجرين والأنصار الذي أسلم، وأسلم أبواه، وأسلم أولاده، وأما الباقون فبعضهم أبوه كافر، وبعضهم أمه كافرة، والذي اجتمع له ذلك هو أبا بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولما جيء بأبيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في عام الفتح قال: (لو كنتم تركتم الشيخ حتى آتيه) صلوات الله وسلامه عليه؛ وذلك لأنه كان شيخاً كبيراً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وأما سعد بن أبي وقاص فقد كانت أمه كافرة، وكانت تحب سعداً جداً، فلما أسلم امتنعت عن الطعام والشراب، وقالت: أليس دينك يوصيك بالوالدين؟ فأنا لن آكل ولن أشرب حتى أموت، فيقال عنك: يا قاتل أمك! ومكثت على ذلك أياماً وليالي لا تأكل ولا تشرب حتى كانوا يفتحون فمها بالقوة ويجعلون فيه الشراب حتى تعيش، فلما فعلت ذلك أثر هذا في نفس سعد رضي الله تبارك وتعالى عنه، واحتار ما الذي يصنع؟ فهو يذكر قول الله سبحانه وتعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ، ثم يذكر قوله تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15]، فلذلك سعد قال لأمه: يا أمي! كلي أو لا تأكلي، أما أنا فلن أترك الدين، فعلمت أنه يستحيل أن يرجع، فرجعت إلى طعامها وشرابها. ذكر هذه القصة أو شيئاً منها الإمام مسلم.
وذكر سعد رضي الله عنه: أنه نزلت فيه آيات من القرآن منها هذه الآية، قال: (حلفت أم
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر