نهى الشارع الحكيم عن فضول الكلام وفضول النظر وحذر منهما، فعلى المؤمن أن يتجنبهما؛ لما في تجنبهما من آثار حميدة على الفرد والمجتمع، فبترك فضول الكلام تسود المودة والألفة والمحبة، وبترك فضول النظر تحفظ الأعراض وتصان.
آثار فضول الكلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فقد تكلمنا بحمد الله تعالى في الموعظة السابقة عن علامات صحة القلب، ونحن نحذر في هذه الموعظة من آفتين خطيرتين وهما: فضول الكلام، وفضول النظر.
وهذا كلام جامع من النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، فإن الكلام إذا كان خيراً يكون مأموراً بالنطق به، وإذا كان غير ذلك يكون مأموراً بالصمت عنه.
وقال عقبة بن عامر للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك)، فينبغي للعبد أن يضبط لسانه، كما قال بعضهم: يقولون: إن قلب المؤمن أمام لسانه، فإذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره بقلبه ثم أمضاه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا أراد أن يتكلم بكلام تكلم به ولم يتدبره بقلبه.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: والذي لا إله إلا هو ليس شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.
قال العز بن عبد السلام : هي الكلمة عند السلطان الجائر، أي: التي يقر بها سلطاناً جائراً على جوره وظلمه.
فإن قلت: ما هذا التحذير من آفات اللسان؟
فالجواب: بأن الكلام أربعة أقسام: منه ما هو خير محض، ومنه ما هو شر محض، ومنه ما هو فيه خير وفيه شر، ومنه ما ليس فيه خير ولا شر.
فإذا كان الكلام شراً محضاً فيجب الصمت عنه، وإذا كان فيه خير وفيه شر فيجب أيضاً الصمت عنه؛ لأن درء المفاسد أولى من جلب المنافع.
وإذا كان الكلام ليس فيه خير وليس فيه شر فالذي يتعين أيضاً الصمت عنه؛ لأن التكلم به نوع فضول وهذا من آفات اللسان.
فيبقى ربع الكلام -فقد سقط ثلاثة أرباعه- وهو ما فيه خير محض، والعبد كذلك في خطر من الرياء ومن تزكية النفس ومن العجب وغير ذلك.
فإذا كان ثلاثة أرباع الكلام ينبغي على العبد أن يصمت عنه، والربع الرابع فيه خطر، فهذا يدل على خطر اللسان.
وأخف آفات اللسان: الكلام فيما لا يعني وفضول الكلام هو: الزيادة على قدر الحاجة، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، أي: من حسن إسلامه ترك ما لا يعود عليه بالخير في الدنيا والآخرة، فلا يحسن إسلام المرء حتى يترك ما لا يعنيه بحكم الشرع لا بحكم الهوى، مع أن ذلك من أخف آفات اللسان.
ولذلك قال بعض السلف: إن من علامة إعراض الله عن العبد وخذلانه له أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، يعني: تجده مشغولاً بالحكايات والقصص، ورواية أخبار الناس وأصحاب المال وأصحاب الجاه، وكلام لا يعود عليه بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة.
فهذه أخف آفات اللسان وهي الكلام فيما لا يعني، ومع ذلك من علامة إعراض الله عز وجل عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه.
أيضاً من آفات فضول النظر: أن العبد إذا أطلق بصره فإنه يسمح للسهم المسموم أن يدخل إلى قلبه، كما ورد في المسند: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه)، وإذا دخل هذا السهم المسموم فإن الشيطان يدخل خلف السهم أسرع من دخول الهواء إلى المكان الخالي؛ من أجل أن يزين صورة المنظور إليه، ومن أجل أن يجعله صنماً يعكف عليه القلب، ثم يوقد نار الشهوة، ثم يحرك الجوارح بعد ذلك إلى المعصية:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على خطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر
كذلك الناظر يرمي بسهام غرضها قلبه:
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له توقّه إنه يأتيك بالعطب
وإطلاق البصر يورث الحسرات والزفرات، فيرى ما لا يقدر عليه ولا يصبر عليه، كما قال بعضهم:
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
والنظرة تجرح القلب جرحاً، وتستلزم أن يعيد النظرة، ولا يمنع هذا الجرح القلب من أن يعيد النظرة مرة ثانية فيزداد القلب جرحاً على جرح، كما قال بعضهم:
ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء جرحك وهو في التحقيق تجريح على تجريح
فقتلت قلبك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح
وغض البصر يورث الفراسة وإطلاق نور البصيرة، وإطلاق البصر يفقد الفراسة كما قال شاه بن شجاع الكرماني : من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره، واجتنب الحرام، لا تخطئ له فراسة، وكان شاه بن شجاع هذا لا تخطئ له فراسة.
فإطلاق البصر يفقد العبد الفراسة، وغض البصر يجعل للعبد الفراسة.
أيضاً: إطلاق البصر يوقع العبد في الداء الذي هو بلا عوض، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : العشق داء بلا عوض.
فهو الكأس الذي من شرب منه أصيب بهذا الداء الذي لا يؤجر في الصبر عليه، ويعيش أشقى الناس، كما قال بعضهم:
وما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل حال مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا حذر الفراق