إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً.
أما بعد:
فقد تكلمنا بحمد لله تعالى فيما سبق عن علامات مرض القلب، ونتكلم اليوم إن شاء الله تعالى عن علامات صحة القلب.
وعلامات صحة القلب هي كذلك علامات محبة الرب عز وجل، كما قال ابن مسعود لرجل: داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم. أي: مطلوبه منهم صلاح قلوبهم.
وصلاح القلوب بأن تمتلئ بحب علام الغيوب وغفار الذنوب عز وجل، فلا تصلح القلوب إلا بذلك، كما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فكذلك قلوب العباد لو كان فيها آلهة إلا الله عز وجل لفسدت بذلك فساداً لا يرجى له صلاح حتى تعرف ربها عز وجل وتوحده.
فالقلب لا يصلح إلا بحب الله وعبادة الله عز وجل.
فما هي علامات صحة القلب ومحبة الرب عز وجل؟
كثرة ذكر الله عز وجل
من علامات صحة القلب: كثرة ذكر الله عز وجل؛ لأن القلوب -كما قيل- كالقدور وألسنتها مغارفها، فالقلب كالقِدر واللسان كالمغرفة، فإذا امتلأ القلب بحب الله عز وجل تحرك اللسان بالذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس وغير ذلك.
وإذا امتلأ القلب بغير ذلك تحرك اللسان بما يناسبه، فالقلوب كالقدور وألسنتها مغارفها.
قال بعض السلف: المحب طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى الله عز وجل بكل سبيل من الوسائل والنوافل دأباً وشوقاً.
وقالوا: المحب لا يجد لدنيا لذة، ولا يفتر لسانه عن ذكر الله عز وجل.
فالله تعالى لم يرخص في ترك الذكر في حال من الأحوال حتى عند لقاء العدو، فقد رخص الله الإفطار في رمضان، والقصر الصلاة، ولكنه لم يرخص الله عز وجل في ترك الذكر، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
[الأنفال:45]؛ لأن الذكر عند الشدة علامة المحبة.
قال عنترة :
ولقد ذكرتك والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم
فهو يشير إلى شدة حبه بأنه ذكر محبوبته والرماح في صدر الأدهم -أي: في صدر- فرسه، كالحبال التي تتدلى في البئر.
تعلق القلب بالله تعلق المحب المضطر
من علامات صحة القلب: أنه لا يزال يضرب -يعني على صاحبه- حتى يتعلق القلب بالله عز وجل تعلق المحب المضطر؛ فيأنس بالله ويسعد به، ويستغني بحبه عن حب ما سواه، وذكره عن ذكر ما سواه، وخدمته عن خدمة ما سواه.
إتعاب الجسد في عبادة الله وعدم الملل
من علامات صحة القلب: أن يتعب الجسد في الخدمة ولا يمل القلب من ذلك، كما قال بعضهم:
وكن لربك ذا حب لتخدمه إن المحبين للأحباب خدام
وقال بعضهم:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، أي: تشقق قدماه، فيقال له: أتفعل ذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول: (أفلا أكون عبداً شكورا؟!).
بل هو -بأبي وأمي- سيد الشاكرين والصابرين.
فمن علامات صحة القلب: أن يتضرر البدن ولا يمل القلب من ذلك، كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل الصيام وينهى عن الوصال، وكان الصحابة أصحاب همة عالية في الطاعة والعبادة، فكانوا يسابقون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويواصلون صيامهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم نهي شفقة، فقالوا له: (إنك تواصل، فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني).
أي: أن ارتفاع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم الإيمانية، وما يفيض على قلبه من المعارف والأحوال والبركات يجعله يستغني عن كثير من الطعام والشراب.
كما قال بعضهم:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
حنين العبد إلى خدمة الله أكثر من حنين الجائع إلى الطعام والشراب
من علامات صحة القلب: أن يحن العبد إلى الخدمة أكثر من حنين الجائع إلى الطعام والشراب، فمن تعامل مع الله عز وجل، ومن سر بخدمة الله عز وجل وأكثر من طاعته استوحش من ترك الطاعة والخدمة، فهو يود أنه بالليل والنهار في طاعة العزيز الغفار عز وجل، فهو لا يستوحش من المعصية وحدها، بل يستوحش من المعصية ومن المباح.
نصحت إحدى الصالحات من السلف بنيها، فقالت لهم: تعودوا حب الله وطاعته، فإن المتقين ألفت جوارحهم الطاعة؛ فاستوحشت من غيرها -أي: من المعصية ومن المباح- فإذا أمرهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة، فهم لها منكرون.
بخل العبد بأوقاته وأنفاسه أن تنفق في غير طاعة الله
تحسر العبد على فوات الطاعة وتندمه عليها
من علامات صحة القلب كذلك: إذا فاته ورده أو طاعة من الطاعات يجد لذلك حسرة أكثر مما يجد الحريص إذا فقد أهله وماله؛ لأن فقدان الأهل والمال خسارة في الدنيا، أما خسارة الآخرة فلا شك أنها أعظم من خسارة الدنيا، فنسبة خسارة الدنيا إلى الآخرة لا شيء، فمن كانت مهنته البيع والشراء وفاتته تجارة الدرهم تجده يعض أصابعه ندماً وحسرة على ما فاته من الربح، فكيف بمن تفوته الجماعة ولا يتألم قلبه، وهو يعلم أن صلاة الرجل في الجماعة تفضل صلاته في بيته وفي سوقه سبعاً وعشرين درجة.
فمن علامات صحة القلب: إذا فاته ورده أو طاعة من الطاعات يجد لذلك حسرة أكثر مما يجد الحريص إذا فقد أهله وماله.
جعل العبد همه كله في الله عز وجل
محبة العبد الخلوة بالله والوحشة من غيره
من علامات صحة القلب كذلك: أن يستوحش العبد من الناس إلا ممن يدله على الله عز وجل ويذكره به، فالإنسان يحب الخلوة؛ لأنه يخلو بالله عز وجل، وإذا أحب أحد أحداً أحب أن يخلو به.
قيل لأحد العباد: ألا تستوحش وحدك؟ قال كيف ذلك وهو يقول: أنا جليس من ذكرني.
ويقولون: الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس، فمن علامات صحة القلب: أن يستوحش من الناس إلا ممن يدله على الله عز وجل ويذكره به، فيكون كلام الله عز وجل والكلام عنه سبحانه أحب شيء إلى قلبه.
راحة العبد في صلاته
مقت العبد الناس في الله ويخص من ذلك مقته لنفسه
من علامات صحة القلب كذلك: أن يمقت الناس في جنب الله، وأن يعود إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً، كما قال أبو الدرداء : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يعود إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً.
أي: يرى الناس جميعهم مقصرين في حق الله عز وجل، ثم يرى نفسه أشدهم تقصيراً، فيمقت الناس في جنب الله، ثم يعود إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً.
اهتمام العبد بصحة العمل أكثر من اهتمامه بكثرته