دل الكتاب والسنة والإجماع على فضل العلم وأهله، ومن ذلك أن الله سبحانه يرفع الذين أوتوا العلم درجات، وأن الله تعالى يسهل الطريق إلى الجنة لطالب العلم، وأن العلماء ورثة الأنبياء، والشهداء لله بتوحيده، فنسأل الله أن يسلك بنا سبيل العلماء العاملين.
بيان فضل العلماء وشرفهم
أدلة فضل العلم والعلماء من الكتاب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
فقد بلغت بظاهر علمك عند الناس منزلة وشرفاً فابتغ بباطن علمك عند الله منزلة وزلفاً.
أي: أن العبد بظاهر العلم من المحاضرات والدروس والخطب والكتب وغير ذلك يرتفع في قلوب الناس؛ لمحبة الناس لدين الله عز وجل، ولمحبتهم لله عز وجل، ولكن المنزلة عند الله عز وجل لا تكون إلا بالخشية والإخلاص ومحبته عز وجل.
قال سفيان الثوري : إن هذا الحديث عز، فمن أراد به الدنيا وجدها، ومن أراد به الآخرة وجدها.
فطالب علم الحديث لابد أن يرتفع، فمن أراد بذلك الدنيا وجد الرفعة في الدنيا، ومن أراد الآخرة وجد الرفعة في الدنيا والآخرة.
وقال سفيان بن عيينة : أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء.
فأشرف الناس وأرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده، الذين يعرفون الناس بربهم عز وجل وبدين الله عز وجل، ويحببون الناس في الله عز وجل وفي دين الله، فهؤلاء أرفع الناس منزلة، وهم الأنبياء والعلماء.
فلشرف العلم جعل الله عز وجل صيد الكلب المعلم والمدرب حلالاً؛ لأنه يمسك لصاحبه، أما الكلب الجاهل فصيده لا يجوز أكله؛ لأنه ميتة؛ ولأنه يمسك لنفسه لا لصاحبه.
فالحسد هنا يراد به الحسد الشرعي وهو الغبطة، أما كون المسلم يتمنى زوال النعمة عن أخيه المسلم فهذا حسد مذموم وهو من المعاصي، بل من الكبائر، أما أن يتمنى المسلم ما عند أخيه المسلم دون تمني زوال ما عند أخيه فهذا من الغبطة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا حسد)، من أراد أن يحسد إنساناً يحصل له به خير فليحسد أحد هذين الرجلين: من عنده مال وسلط على إنفاقه في سبيل الله عز وجل، ومن عنده علم فهو يقضي به ويعمل به ويعلمه؛ لأن هذين الصنفين أجورهما متزايدة، ونفعهما متعد إلى غيرهما، فلا يحسد الصوام القوام؛ لأن نفعه لا يتعدى إلى غيره، ولكن يحسد من ينفع الناس، إما بعلمه وإما بماله.
كذلك ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فالحديث بمنطوقه من أراد الله عز وجل به خيراً فقهه في دينه، فإذا وجدنا إنساناً فقه دين الله فنحن نجزم بأن الله عز وجل أراد به خيراً.
فنحن نجد عند الكفار والعلمانيين والذين يصدون عن سبيل رب العالمين من زينة الدنيا ومن زهرتها أكثر مما عند أهل الإيمان؛ لأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء. يقول النبي صلى الله عليه وسلم كذلك.
وأكثر الناس من الصنف الأخير، ليس عنده علم ولا مال، ولكنه يتمنى أنه لو كان عنده مال لعصى بهذا المال، كما يفعل من عنده مال وليس عنده علم.
إذاً: الشرف بجملته للعلم وأهله، وهذا مما يدل على شرف العلم وفضله.
جاء في السنة: (أن نافع بن عبد الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان -مكان بين مكة والمدينة وهو أقرب إلى مكة- وكان عمر قد استخلفه على مكة فقال له: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى . قال: ومن ابن أبزى ؟ قال: رجل من موالينا) والمولى يطلق على من كان عبداً وأعتق، ويطلق على المعتق أحياناً. قال: (من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى . قال: ومن ابن أبزى ؟ قال: رجل من موالينا، قال: استخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض. قال: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: إن الله ليرفع بهذا العلم أقواماً ويضع به آخرين).
فالعلم يرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك، كما ذكر ذلك إبراهيم الحربي قال: ذهب سليمان بن عبد الملك وابناه إلى عطاء بن أبي رباح ، وكان عبداً أسود لامرأة في مكة، وكانت أنفه باقلاء، وذهبوا يسألونه عن مناسك الحج، وكان يصلي، فلما انفتل -أي: انتهى من صلاته- ظل يرد عليهم من خلف قفاه -أي: لا يقبل على الخليفة وابنيه- فقال سليمان بن عبد الملك لابنيه: قوما ولا تنيا في طلب العلم، فلا أنسى ذلنا بين يدي ذلك العبد الأسود.
وروى الحربي كذلك، قال: كان عنق محمد بن عبد الرحمن الأوقص داخلاً في بدنه، وكان منكباه -أي: كتفاه- خارجين كأنهما زجان، فقالت له أمه: إنك لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوك منهم والمستهزأ به، فعليك بالعلم فإنه يرفعك، قال: فولي قضاء مكة عشرين سنة، أي: أنه طلب العلم حتى صار قاضي مكة عشرين سنة. قال: وكان الخصم إذا جلس أمامه بين يديه يظل يرعد حتى يقوم؛ لما ألقى الله عز وجل عليه من مهابة العلم.
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أذلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فالجزاء من جنس العلم، فمن سلك طريقاً يتعلم فيه علماً، إما أن يلتمس مجلساً من مجالس العلم أو عالماً يتعلم منه، أو داراً يتعلم فيها أو كليةً شرعية يتعلم فيها، سهل الله له طريقاً إلى الجنة، هذه كلها طرق حسية أو يلتمس طريقاً معنوياً كأن ينوي مدارسة العلم ويسلك طرق العلم المعنوية؛ فهو بذلك سلك طريقاً يلتمس به حياة نفسه، والله عز وجل يسهل له الحياة الأبدية السرمدية في جنته.
فالملائكة تحف طالب العلم ويركب بعضها بعضاً حتى تبلغ السماء الدنيا من حبهم لما يطلب، وفي الحديث الآخر: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم) أي: تواضعاً، فوضع الأجنحة تواضع وتوقير واحترام لطلاب العلم، والحف بالأجنحة حفظ وكلاءة ورعاية وعناية، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن عبد البر .
فالملائكة تحتفل بطلبة العلم فمنها من تضع الأجنحة تواضعاً وتوقيراً واحتراماً، ومنها من تظل طالب العلم بالأجنحة حتى تبلغ السماء الدنيا من حبهم لما يطلب.
فهذه بعض الأدلة من الكتاب والسنة على شرف العلم وأهله.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً متقبلاً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.