يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ الحمد لله رب العالمين, وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين, وصحابته أجمعين.
قال القاضي أبو شجاع أحمد بن الحسن بن أحمد الأصفهاني رحمه الله تعالى: سألني بعض الأصدقاء حفظهم الله تعالى أن أعمل مختصراً في الفقه على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى, في غاية الاختصار ونهاية الإيجاز؛ ليقرب على المتعلم درسه, ويسهل على المبتدئ حفظه, وأن أكثر فيه من التقسيمات, وحصر الخصال, فأجبته إلى ذلك طالباً للثواب، راغباً إلى الله سبحانه وتعالى في التوفيق للصواب, إنه على ما يشاء قدير, وبعباده لطيف خبير ].
هذا المتن في الفقه, والفقه لغةً هو: الفهم أو دقة الفهم كما قاله المحققون.
وفي الاصطلاح هو: معرفة الأحكام المستنبطة من أدلتها التفصيلية.
والضوابط والقواعد التي يصل بها الفقيه إلى الأحكام من أدلتها التفصيلية إما أن تكون نصاً أو استنباطاً, نصاً يعني: بالآثار, أو استنباطاً يعني بالقياس وغيرها من الأدلة الأصولية.
وعلم الفقه من أفضل العلوم, وأعزها, والفقهاء قلة, فإذا تصفحت التراجم وجدت المحدثين كثرة كاثرة, وهبهم الله حفظاً بالغاً وضبطاً وإتقاناً في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم, لكن الفقهاء الذين يتفقهون ويعقلون الأحكام من هذه الأحاديث النبوية قلة, والله جل وعلا يصطفي من يشاء من عباده, ولذلك كان كثير من علمائنا يقولون: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه, فالمتن هو: رأس الأمر, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه ليس بفقيه)، وقد أخذ على كثير من المحدثين أنهم لم ينشغلوا بفقه ما يحملون, فمثلاً ابن صاعد الذي قال عن البخاري : الكبش النطاح, كان رجلاً محدثاً بارعاً حافظاً متقناً, جلس يوماً في مجلس التحديث, فدخلت عليه امرأة فسألته فقالت: عندنا بئر, وقعت فيه دجاجة فماتت فما الحكم؟ فقال لها: ويحك يا امرأة! لمَ لم تغط البئر؟! ولم يجد لها إلا هذا الجواب, وهي قد جاءت تسأل عن هذا الماء الذي وقعت فيه الدجاجة فماتت, هل هو طهور أو نجس؟
فالفقه علم عزيز, وأعلى طبقات الفقهاء هم: فقهاء المحدثين، وهذا المتن الماتع ليس معتمداً في مذهب الشافعية، لكنه متن سهل يسير يقرب لطالب العلم المذهب الشافعي ، لا سيما وأننا سنترك ذكر الخلافات حتى نتأصل على هذا المذهب.
وقد ورد فيها حديث اختلف العلماء في تحسينه وتضعيفه، ومعناه صحيح , وله شواهد كثيرة تقويه, وهو: (كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر), هذا من القول, أما من الفعل فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالرسائل ويكتب: [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى فلان ].
فالباء: حرف جر.
واسم الله مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: أستعين ببسم الله، أو أبتدئ أو أفتتح أو أصنف أو أكتب ببسم الله, وهذه البسملة للاستعانة, أي: أستعين ببسم الله، وأيضاً تكون للتبرك، وقد بدأ بذكر اسم الله؛ لأن اسم الله يتقدم ولا يتقدم عليه شيء.
واسم: مشتق من السمو وهو العلو، والعلو في حق الله حق, فالله له العلو المطلق, علو القهر وعلو الشأن وعلو الذات, وقيل: مشتق من السمة وهي العلامة, وهذا أيضاً حق، فإن كل اسم من أسماء الله هو من الأسماء الحسنى؛ لأنه علامة على ذات الله جل في علاه, ويتضمن صفة كمال.
والله هو: الاسم الأعظم كما رجح ذلك كثير من المحققين؛ لأن أكثر اسم ذكر في القرآن هو الله, فقد ذكر أكثر من ألفي مرة، وأيضاً فالله تضاف إليه كل الأسماء وهو لا يضاف للأسماء, فكل اسم أضيف إلى الله يكون صفة لاسم الله جل في علاه، وهو علم على ذات الله, وكل اسم يضاف إليه يكون صفة, تقول: الله الكريم، فالكريم صفة لله, الله الرحيم، فالرحيم صفة لله, الله الرحمن فالرحمن صفة لله جل في علاه.
والله هو الاسم الأعظم لله جل في علاه, ويتضمن صفة كمال وهي صفة الإلهية، فالله هو الذي تألهه القلوب وتحبه تذللاً وخضوعاً, وإذا ذكر اسم الله في كثير زاده بركة, وإذا ذكر في قليل كثره، وبذكره تغفر الزلات، وترفع الدرجات، وتنال الحسنات, وترفع البليات.
والرحمن: اسم من أسماء الله، وهو علم على ذات الله، ويتضمن صفة الرحمة، وهذه صفة ذات، والرحيم صفة فعل, ويمكن أن نقول: الرحمن ذو الرحمة الواسعة العامة, والرحيم ذو الرحمة الخاصة، فصفة الرحمة في الرحمن تعم الكافر والمؤمن, وأما في الرحيم فتخص المؤمن؛ لقول الله تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43].
والحمد يحبه الله, وهو من أجل العبادات, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أحب إليه المدح من الله جل في علاه)، فأفضل ما تتقدم به بين يدي خطبتك أو تصنيفك أو كلامك هو حمد الله والثناء عليه بما هو أهل له, وأفضل ما تثني على الله بما هو أهل له توحيد الله جل في علاه, كأن تقول: وأشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك, لك الملك ولك الحمد, تحيي وتميت, وأنت على كل شيء قدير, أو تقول: أشهد أن لا إله الله, وأن محمداً عبده ورسوله, وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق ... إلى آخره، فهذا من أبلغ الثناء على الله جل في علاه, وهو إفراد الله جل في علاه بالتوحيد.
(الحمد لله رب العالمين) الرب هو: الخالق الرازق المدبر سبحانه جل في علاه, يملك كل شيء, وما من شيء في الكون إلا يقول له: كن فيكون.
والصلاة على أقسام ثلاثة: الصلاة من العبد, والصلاة من الملائكة, والصلاة من الله جل في علاه, فالصلاة من العبد: الدعاء، كحديث: (كم أجعل لك من صلاتي؟ أجعل لك الثلث... الشطر, ثم قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذاً تكفى همك، ويغفر ذنبك) وفي الحديث الآخر: (من دعي إلى طعام وكان صائماً فليأكل أو ليصل) يعني: يدعو.
والصلاة من الملائكة: الاستغفار، كقوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، والجمهور يرون أن الصلاة من الله: الرحمة, والصحيح: أن الصلاة من الله ليست الرحمة، بل الصلاة تغاير الرحمة, وإنما هي الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في الملأ الأعلى, وهي تستلزم الرحمة، إذ أن الله جل في علاه لو أثنى على أحد في الملأ الأعلى فلازم هذا الثناء أن يرحمه ويجزل له العطاء , قال أبو العالية : صلاة الله على العبد هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى, وهذا قول أهل التحقيق، ودليل المغايرة بين الرحمة وبين الصلاة: قول الله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:157]، فغاير بين الصلاة وبين الرحمة، والأصل في العطف المغايرة.
إذاً: قوله: وصلى الله على سيدنا محمد أي: اللهم أثني على محمد صلى الله عليه وسلم ثناءً حسناً في الملأ الأعلى.
أيضاً: إذا أكثرت من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تكفى همك ويغفر لك ذنبك.
قال: (صلى الله على سيدنا) هل يصح أن يسيد الإنسان النبي صلى الله عليه وسلم في مصنفاته وكتاباته؟
نعم، ولم لا؟! فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه أنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فالسيادة للنبي صلى الله عليه وسلم ثابتة في الدنيا بهذا الحديث، وفي الآخرة في مقام الشفاعة عندما يذهبون إلى كل نبي ويقول: لست لها, فيأتي الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها.. أنا لها), فتظهر سيادة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة.
وهل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة أم هي سنة؟
الجواب: واجبة، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، فقال: صلوا، وهذا فعل أمر، والأصوليون يقولون: ظاهر الأمر الوجوب مالم تأت قرينة تصرفه من الوجوب إلى الاستحباب، وقد اتفق العلماء على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, لكن اختلفوا في مواضع الوجوب, وهذا الخلاف مبني على مسألة أصولية وهي: هل الأمر الذي يدل على الوجوب يدل على التكرار أم لا بد من قرينة؟
فمن قال: يدل على التكرار قال: يجب على المسلم أن يكرر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, وقيل: موضع الوجوب في الخمس الصلوات بعد التشهد الأخير، وهذا قول الشافعي وانفرد به عن الجمهور, فإنه يرى بطلان صلاة الذي لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير خلافاً للجمهور, وقول الشافعي هذا هو الأصح وهو الأحق, والقول الثالث: يجب مرة واحدة , والقول الرابع: يجب كلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف امرئ) إلى آخر الحديث, وأيضاً حديث: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل عليّ). والراجح الصحيح: أنها تكفي مرة واحدة، لكن لو ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه فهو من أبخل البخلاء، بل يكون عند ربه مذموماً, لكنه لا يأثم إذا أتى بها مرة واحدة، أما الصلاة عليه في الصلوات فالراجح: الوجوب.
ومن أسمائه الثابتة: محمد وأحمد، وهما يدلان على امتلاء الحمد, وقد ذكر في السير: أن عبد المطلب لما سماه محمداً سألوه عن ذلك فقال: أرجو أن يحمد في الأرض وأن يحمد في السماء, وقد كان ذلك، فالله جل في علاه كرم رسوله صلى الله عليه وسلم, فهو يثنى عليه في الملأ الأعلى كما يثنى عليه في الأرض, فهو كثير خصال الحمد، ويحمد من قبل الناس، فيكثرون من حمده، ويحمد من قبل الملائكة, وهو محمود عند ربه جل في علاه.
إذاً: يتفقان في الوحي, ويفترقان في التبليغ, فكل رسول نبي ولا عكس.
القول الأول: كل مؤمن تقي بار, وبعضهم قال: كل الأمة هم آل النبي صلى الله عليه وسلم, والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آل فلان ليسوا بأوليائي إنما أوليائي المتقون)، فالآل هو: الولي الذي يناصر ويظاهر وينشر سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: قال الشافعي : هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب, وهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يتفرقا في الجاهلية ولا في الإسلام) لم يفترقا بحال من الأحوال, لذلك رجح الشافعي أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم: بنو هاشم وبنو عبد المطلب.
القول الثالث: آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم عترته فقط.
والتحقيق أن نقول: آل النبي يذكرون على الانفراد ويذكرون مع غيرهم, فإذا ذكروا على الانفراد فالمقصود بهم: كل تقي بار, وإذا ذكروا على الاجتماع فالمقصود بهم: عترة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر المصنف الباعث له على تصنيف هذه الرسالة، وقد كان العلماء ليسوا مثلنا تعج الأسواق بالكتابات، فالإمام أحمد نفسه عندما سئل أن يكتب أو يصنف قال: أكتب حديث النبي صلى الله عليه وسلم. فالمصنف يبين الباعث لكتابته لهذا المتن المختصر, وهو أنه سأله بعض الأصحاب أن يكتب لهم مختصراً في فقه الإمام الشافعي ، ويقرب لهم هذا الفقه وأصول هذا المذهب الذي تبنوه, فالباعث له كان حاجة الناس لأن يكتب, وكثير من الناس شرحوا هذا المختصر، وهذا علامة ودلالة وإشارة على إخلاصه في تصنيفه، لأنه ما صنفه لنفسه ولا لذاته, ولكن صنفه من أجل حاجة الناس, ومثل ذلك البخاري في صحيحه الذي جمع فيه حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحوال النبي صلى الله عليه وسلم, وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم, وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم, فقد قال: وجدت الناس في حاجة ماسة لأن يعرفوا أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان هذا الباعث له لكتابة الصحيح، والشافعي في مرض موته قال: تمنيت من الله أن يتعلم الناس علومي ولا ينسبوا لي حرفاً واحداً, فهذه دلالة على الإخلاص, نسأل الله جل في علاه أن يجعلنا من المخلصين المخلَصين الذين يعملون لله جل في علاه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر