يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخوتي الكرام: لقد اختلف الناس في هذا الباب إلى ثلاثة فرق:
فريق يغالي جداً، وفريق يفرط جداً ويجفو، والوسط هم أهل العدل والحق.
إن حكم من قال: إن القرآن مخلوق، وأنه كافر، فإن أصالة ما قيل عن السلف: من قال بأن الله لم يتكلم، ومن قال بأن كلام الله مخلوق، ومثله مثل الجبال والسماء والأنهار والشواطئ والإنسان مخلوق، فقد كفر فهذا هو الحكم إجمالاً.
وتفسير ذلك: أن الإنسان إذا تجاسر وأطلق كلمة الكفر على أحد فإنه إن لم يكن كافراً بحق عند الله، فإنه سيكفر بهذه الكلمة؛ لأنه نزع الإيمان من عبد وما كان له ذلك، فكان جزاءً وفاقاً وأجراً طباقاً أن تحور الكلمة وتتحول عليه، ويصبح هو المتهم بالكفر.
فالرسول عليه أن يبلغ، فمن انصاع له وقال: آمنت بالله وآمنت برسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد دخل حظيرة الإسلام، فلا يجوز لأحد أن يخرجه منها؛ لأنه حق محض لله جل في علاه.
ومن الأدلة على ذلك: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال الرجل: اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً فقال له: (حجرت واسعاً) فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليه ذلك؛ إذ أن هذا ليس حقاً له، بل هو حق لرب البرية جل في علاه، فليس له أن يحجر هذا الواسع، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (حجرت واسعاً) منكراً عليه إياه، على أن هذا حق محض لله جل وعلا.
وأيضاً ما قصه علينا النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (عن رجل من بني إسرائيل أنه كان يمر على أخ له يرتكب المعاصي، فيقول له: يا رجل! يا فلان! ارجع إلى ربك واستغفر ربك، ثم في الثانية والثالثة والرابعة يجده على هذا الذنب، فقال له: والله لا يغفر الله لك أبداً)، فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن الله أنكر عليه أشد إنكار؛ إذ إن التكفير ومغفرة الذنوب ودخول الجنة والحرمان من الجنة ودخول النار حق محض لله، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن الله قال: (من ذا الذي يتألى علي) واشتد النكير بأن قال له: (قد غفرت له وعذبتك أنت)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً لنا أن هذا حق محض لله جل في علاه.
إذاً: فالقاعدة الأولى التي يجب أن يعرفها طالب العلم قبل أن يتجاسر على التكفير هي: أن هذا التكفير حق محض لله، ومن لوازم ربوبية الله، ومن نازع الله في ربوبيته فهو على هلاك مبين، وعلى خطر عظيم، ولا يخاض في ذلك إلا بدليل أوضح من الشمس.
وهناك مثال ثالث يوضح لنا أن هذه المسألة حق محض لله، وأن الذي يتجاسر عليها منازع الله في ربوبيته، فـ أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيحين عندما أغاروا على قوم فأعملوا فيهم القتل، ففر رجل منهم، فقام أسامة يشتد عليه حتى قتله، والرجل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقتلته بعدما قالها؟) يعني: بعدما قال: لا إله إلا الله.
ومعنى ذلك: أنه إذا قال: لا إله إلا الله فقد دخل في حظيرة الإيمان، فلا يجوز أن تخرجه من حظيرة الإيمان بحال من الأحوال، وليس لك أن تكفره بحال من الأحوال، لأن هذا حق محض لله جلا وعلا.
فقال: (أقتلته بعدما قالها؟ قال: يا رسول الله ما قالها إلا متعوذاً) كأنه اجتهد في ذلك اجتهاداً، ويظهر أن هذا الرجل نافق خوفاً من القتل، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم مكرراً معاتباً منكراً إنكاراً شديداً على أسامة (أقتلته بعدما قالها؟ ثم قال له في الثالثة: ماذا تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة)وندم أسامة ندماً شديداً على ذلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يؤصل له أصلاً وهو: أن من دخل في الإيمان فلا يصح لأحد أن يكفره، ولا أن يخرجه من حظيرة الإيمان بحال من الأحوال إلا بدليل أوضح من شمس النهار، كأن يخبرنا الله ببينة واضحةٍ أن هذا كافر، مثل فرعون، وكذلك أبي لهب وأبي جهل ، قال تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:1-3].
فقد بين الله قطعاً أنه من أهل النار، وأنه كافر، وكذلك اليهود والنصارى بين الله كفرهم في كتابه، فمن لم يكفرهم بعدما علم أن الله قد كفرهم فإنه يخرج من حظيرة الإيمان.
ومن الأمثلة التي تثبت ذلك، وتثبت التأصيل الذي أصله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه جميعاً: (عندما نافق الرجل وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه قسمة ما ابتغي بها وجه الله جل في علاه، فقال خالد : دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعله يصلي، فقال خالد : كم من مصل يفعل ما لا يعتقد، أو يقول ما لا يعتقد، فأصل له النبي صلى الله عليه وسلم تأصيلاً علمياً يتعلمه طالب العلم، ويعلم -وهو أحرى بذلك- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاسر على تكفير أحد، فمن باب أولى: العلماء، ثم من باب أولى: طلبة العلم، ثم من باب أولى: أصاغر طلبة العلم، فلا يتجاسرون على هذه المسألة العظيمة التي تجعلهم يقعون في خطرٍ عظيم إذا تجرؤا عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أمرت أن أشق عن القلوب) أي: أن الحكم على القلوب ليست إلي، بل هي إلى الله وحق محض له.
إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يؤصل لنا: أن من دخل دائرة الإسلام لا يجوز أن تقول عليه: كافر إلا بدليل أوضح من شمس النهار، وهذا مثل عظيم ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لـخالد ، وقد ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه كـعمر وأسامة ، وضربه النبي صلى الله عليه وسلم لنا؛ حتى نتبين أمرنا ونعلم أنه لا يجوز لنا أن نتجاسر على مسألة التكفير.
إذاً: فما جاء مطلقاً فالقاعدة عند العلماء: أن المطلق يبقى على إطلاقه، والعموم يبقى على عمومه حتى يأتي المقيد أو الخاص، بمعنى: أنه إذا قال أحمد بن حنبل : من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، فهذا القول مطلق، فأيما شخص يقول: القرآن مخلوق، ويقول: الله لم يتكلم بالقرآن، بل القرآن كالشجر، كالحجر، كالأنهار، كالسماء ، كالأرض، فمن قال ذلك فقد كفر، ولا نكفر من قال ذلك بعينه.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه
والأدلة على التفريق بين النوع والعين كالتالي: أما السنة فمنها: حديث الرجل الذي قال لأولاده: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في البر والبحر؛ لأن الله لو بعثني لعذبني بهذه المعاصي، فهو مؤمن بقدرة الله، وهو يؤمن بأن الله يقيمه مقامه ثم يعذبه، فهو يخاف ويرجو الله جل وعلا، وقد اتفق المسلمون جميعاً: أن الذي يقول: إن الله لا يقدر على شيء، فحكمه أنه مكذب بالقرآن، قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87].
وقال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، والله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20].
فمن قال: إن الله لا يقدر على أن يبعثني مثلاً فهذه المقولة كفر باتفاق المسلمين، لكن ننظر إلى هذا الكفر هل يقع على نفس العين أم لا؟ فالرجل لما بعثه الله -كما بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم- قال له ربه: (ما الذي حملك على هذا؟ قال: مخافتك، أو قال: أرجو رحمتك، فغفر الله له وأدخله الجنة).
فوجه الدلالة هنا: أن الرجل أتى بكفر باتفاق علماء المسلمين؛ لأنه ضل في باب القدرة، لكنه كان جاهلاً، فأتى بكفر نوع لا كفر عين، فلما كان جاهلاً عذره الله بجهله، ثم أدخله الجنة، إذاً: لو قال أحد كلمة الكفر فلا نستطيع أن نقول: هو كافر، بل نقول: أتى بكلمة الكفر، لكن هو ليس بكافر إلا إذا أقيمت عليه الحجة، وأزيلت عنه الشبهة.
الدليل الثاني: أن صحابياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلقب بحمار ، رضي الله عنه وأرضاه، وكان شراباً للخمر كثيراً، ويؤتى به كثيراً فيجلد كثيراً، فقال خالد : لعنة الله عليه؛ ما أكثر ما يؤتى به، ونحن نعلم أن شارب الخمر ينزل تحت اللعن، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة منهم: شاربها، إذاً فشارب الخمر عموماً ملعون، وهذا حكم على النوع لا على العين، فلما كان يؤتى بهذا الرجل الذي يشرب الخمر فيجلد، ثم يشرب ثم يجلد قال خالد : لعنة الله عليه، فأوقع الحكم العام على عين هذا الشخص، كما في الحديث: (لعنة الله عليه؛ ما أكثر ما يؤتى به، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليه: يا
إن من قال: إن القرآن مخلوق، قد فصل حكمه تفصيلاً بديعاً إمام أهل السنة والجماعة، الإمام أحمد بن حنبل مفخرة المسلمين، وإمامهم، فكان رضي الله عنه وأرضاه يقول: من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر، ومع ذلك فتنه المأمون وغيره من حكام الدولة العباسية، وقصصه مع من قال بخلق القرآن مشهورة جداً، حيث إنهم قالوا: القرآن مخلوق، واستدلوا بقول الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف:3]، وقوله: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1].
ومعناها كما يزعمون: خلق الظلمات والنور، فقالوا: جعله قرآناً عربياً، يعني: خلقه قرآناً عربياً، فرد عليهم الإمام أحمد فقال: قال الله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5].
فقد خلقهم الله بشراً، فهل جعلهم كعصف مأكول يعني: خلقهم كعصف مأكول، بل حولهم بالحجارة إلى عصف مأكول، والغرض المقصود من ذلك أن الإمام أحمد هو القائل: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومع ذلك لما قالوا له: نخرج على المأمون، قال: لا، وإني لأصلي خلفه، وإني لأدعو له بالتسديد والتوفيق، وأرى ذلك واجباً علي، وكأنه يقول: ولي أمري وإن أخطأ وأتى بالكفر، فإني لا أكفره عيناً، مع أني أقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، وإني لا أتجسر على تكفيره، بل له علي السمع والطاعة، والدعاء بالتسديد والتوفيق، والصلاة خلفه، والغزو معه.
فهذا إمام الأئمة إمام أهل السنة والجماعة يؤصل لنا هذا الأصل: أنه حتى لو أتى الأمير أو ولي الأمر بمكفر فلا نستطيع أن نكفره بهذا أبداً، ولا يتجاسر ولا يجرؤ على ذلك إلا جريء، فهذا من أقوال الأئمة الذين فرقوا بين كفر النوع وكفر العين.
فمن قال: لا إله إلا الله دخل الإسلام، ودخل الإيمان، وله ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، فقد دخل الإسلام بيقين، ولا يمكن أن نخرجه من الإسلام إلا بيقين، فإذا قال الرجل كلمة الكفر فإني من الممكن أن أقول: هل قالها عامداً؟ وهل قالها جاهلاً؟ وهل سبق لسانه قلبه؟ وهل لم يطمئن قلبه؟ وهل كان مكرهاً؟ وكل هذه تسمى احتمالات، فتدخله في دائرة الشك، وعندي القاعدة التي أرجع إليها بالتأصيل العلمي: أن الذي ثبت إيمانه بيقين لا يزول هذا الإيمان بالشك؛ لأنه من الممكن أن يقول: إن الله لم يتكلم، فيكون قد نشأ في البادية، أو هو جاهل لا يعلم معنى القرآن، ولا معنى كلام الله، ولا معنى أن الله يتكلم، فإن كان جاهلاً فلا بد أن أعلمه، وأقيم عليه الحجة، وأزيل عنه الشبهة.
إذاً: فالتأصيل الثالث: من ثبت إيمانه بيقين فلا يمكن أن يزول بشك، وهذا يبين لنا خطأ من يتجاسر -كائناً من كان، حتى ولو كان يدافع عن حظيرة الإسلام، ويرفع رايته- على التكفير، فلا يجوز له ذلك، ولا يتجرأ على ذلك إلا بيقين وبعلم، لأن تكفير المعين جرأة على الدين، وفيه جرأة على لوازم ربوبية الله جل في علاه.
ومثال ذلك وأوضح ما يقال في هذا: المسلم الذي يقتل المسلم متعمداً، فذلك شرط في حكم الكفر، فإن الذي يقتل مؤمناً متعمداً حكمه الخلود في النار، والخلود في النار لا يكون إلا لكافر، فهنا توافر الشرط، لكن بقي علينا أن ننظر انتفاء المانع، فننظر هل الموانع موجودة أم لا؟ أرى أن الموانع جاءت مجيشة تبين أن المسلم إذا قتل مسلماً ولو متعمداً لا يخلد في نار جهنم، مع أن الله قال: خَالِدًا فِيهَا [النساء:93].
فنقول: هذا حكمه وعاقبة أمره إن جوزي به كما قال أبو هريرة : فالمقتضي للحكم هو قتل المسلم تعمداً، فإذا قتل المسلم متعمداً فهذا سبب لخلوده في النار، لكن يأتي المانع فيدفع هذا السبب، والمانع هنا: هو كلمة لا إله إلا الله، لأن من قال: لا إله إلا الله نفعته يوماً من الدهر، ودخل بها الجنة، ولا تكون لا إله إلا الله مانعة إلا إذا صلى، فنقول: لا إله إلا الله جاءت مانعةً من خلود من قتل مسلماً متعمداً في النار؛ لأن حكم من قتل مسلماً متعمداً أنه يخلد في نار جهنم، لكن جاء المانع فدفع هذا السبب، فإن توفر الشرط ووجد المانع فلا بد أن ينتفي الحكم.
فهذا هو التأصيل الرابع الذي لا بد أن يصاحب طلبة العلم، ولا بد أن يحفروا ذلك في صدورهم، ويعلموا أن من تجاسر على تكفير أحدٍ فهو إلى بوار وهلاك، وأن التكفير حق محض لله لا يجرؤ عليه إلا جريء، ولا بد أن يعلم أولاً أنه من لوازم ربوبية الله، ومن نازع الله في ربوبيته فهو على شفا هلكة.
والأمر الثاني: أن هناك فارق بين تكفير النوع والمعين.
والأمر الثالث: أن من ثبت إيمانه بيقين فلا يزول بالشك بحال من الأحوال.
الأمر الرابع: حتى نكفر أحداً لا بد من توافر شروط وانتفاء موانع.
إذاً: فيصعب ذلك جداً وتضيق دائرة التكفير جداً حتى على العلماء المجتهدين، إلا من نور الله بصيرته واجتهد اجتهاداً عالياً فأقام الحجة، وأزال الشبهة عمن قد ثبت إيمانه بيقين وأتى بمكفر ثم بعدما أقيمت عليه الحجة وأزيلت الشبهة فيكفر بذلك، فلابد لها من عالم مجتهدٍ نحرير، وليس لأحد أن يتجاسر على هذا الأمر،ولو تجرأ عليه فهو على شفير هلكة فهذا التأصيل لا بد أن يصاحب طالب العلم في حله وترحاله، وقد أكدت عليه وقررته وكررته لأن من وقع في هذا الباب فقد وقع في مذلة، ومن وقع فيه فقد وقع في خطر عظيم، إذاً فحكم من قال: إن القرآن مخلوق أنه كافر، وهذا تكفير مطلق، ولا نكفر بالعين إلا بدليل واضح بين.
فأضاف (الكلام) إلى الله، وهذا من إضافة الصفة إلى الموصوف، لأن هذا ليس عين قائمة بذاتها.
ثانياً: أنه شبه الخالق بالمخلوق، إذ المخلوق كلامه مخلوق، فمن قال: إن كلام الله مخلوق فقد شبه الله بخلقه، وقد أصل لنا نعيم بن حماد شيخ البخاري تأصيلاً عظيماً فقال: من شبه الله بخلقه فقد كفر.
ثالثاً: هو مختلف فيه أصولياً وهو: أن من قال: إن القرآن مخلوق قد خالف إجماع سلف الأمة.
كذلك وكيع التنين الذي إذا نزل مكة انفض الناس عن كل المجالس إلا مجلس وكيع ، إذْ كان جبلاً في الحفظ رضي الله عنه وأرضاه، فقد سئل وكيع عن حكم ذبائح الجهمية فقال: حرام ميتة، فهم كفار، فهو أنزل الجهمية الذين يقولون: إن القرآن مخلوق منزلة الكفار وأن ذبائحهم تكون ميتة لا يجوز الأكل منها، ووكيع ثبت ثقة حافظ جليل، وإمام من أئمة المسلمين.
وأيضاً قيل لـابن المبارك : إن النضر يقول: إن من قال: إن الله لم يكلم موسى فقد كفر، قال: صدق النظر ، وقد استدل النضر على أن الله كلم موسى بقوله تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12] .
فمن قال: إن قول: (إني أنا ربك فاخلع نعليك) مخلوق، فقد زعم بذلك أن الله أمر موسى أن يعبد مخلوقاً لا أن يعبد الخالق، وهذا أم الكفر وباب الكفر، فقال: صدق النضر .
وأيضاً الإمام مالك قال: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، يقتل بعدما يستتاب.
وقيل لـجعفر الصادق : من قال: إن القرآن مخلوق ما حكمه؟ قال: كافر، يقتل ولا يستتاب. وفي استتابته خلاف بين العلماء، والمقصود أنه: ما من إمام من الأئمة إلا وكفر من قال: إن القرآن مخلوق، وليس صفة من صفات الله جل وعلا.
وقد ناظر الشافعي حفص الفرد وبعد ما ناظره قال له حفص : إن القرآن مخلوق، فقال الشافعي : قد كفرت، يعني: بهذه المقولة، فإن من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر.
وقد بينا وجه ذلك بأنه تكذيب للقرآن، ولأنه إنزال للخالق منزلة المخلوق، ومخالفة لإجماع أئمة الدين وسلف الأمة، فالقرآن كلام الله، سمعه منه جبريل بصوت وحرف كما بينا، ثم نزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثال ذلك: الحلف بالقرآن، فإن ابن عباس صلى خلف رجل يقول: اللهم رب القرآن اغفر لفلان، فقال: تعال ماذا تقصد برب القرآن؟ لأنها تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً، فإن قوله: (رب القرآن) تحتمل أن تكون من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، أو تحتمل أنها من إضافة الخالق للمخلوق، فقال: رب القرآن، أي: القرآن كلام الله، قال: نِعْمَ ما قلت.
إذاً: فالقاعدة أن الكلام المبهم الذي يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً لا نرده ولا نقبله على الإطلاق، وقولك: لفظي بالقرآن مخلوق نتعامل معه أيضاً بهذه القاعدة فنقول: ماذا تقصد؟ فإن قصدت أن القرآن نفسه مخلوق، فهذا كفر، وإن قصدت أن لفظك أنت هو المخلوق فهذا حق، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو قول جماعة من أهل السنة من الأكارم الأماجد كـأحمد وأبي زرعة وأبي حاتم وغير هؤلاء، فهم يقولون من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فقد كفر. ووجه ذلك أنه يقصد بها القرآن.
القول الثاني: طرفان ووسط، طرف كفر، والطرف الثاني توقف، ويسمون الواقفة، فقالوا: نقف ولا نقول: كافر ولا ليس بكافر، ولا نعرف عن ذلك شيئاً، وهؤلاء هم أفراخ الجهمية، وجهلهم كما قال أحمد : جهل بسيط وليس جهلاً مركباً.
وهناك فرق بين الجهل المركب والجهل البسيط، فالجهل البسيط: أن يعلم الإنسان أنه جاهل، فيقول: لا أدري، وأما الجهل المركب: فإنك تسأله فيفتي لك أشد ما يكون، ونحن نعلم أن الذي يفتي في كل مسألة فهو جاهل، ولا يعترف هو للناس أنه جاهل، بل يفتي للأنام.
فالإمام أحمد بن حنبل ، كان يقول عن أفراخ الجهمية: إن جهلهم جهل بسيط؛ لأنهم يقولون: نقف، ونتوقف.
والإمام البخاري وإمام الأئمة ابن خزيمة يقولان: لا شيء في قولنا: لفظي بالقرآن مخلوق، وهذا القول هو الحق، ولكن نزيده تفصيلاً فنقول: إن قصد بلفظي بالقرآن أي: فعلي وكسبي وقراءتي التي أقرؤها مخلوقة فهذا حق، وإن قصد أن كلام الله وهو القرآن مخلوق فهذا كافر، وهذا يعضده الأثر والنظر.
وأما سب الله وسب رسوله فليس فيه إقامة حجة ولا إزالة شبهة، فسب الدين يختلف عن سب الله وسب رسوله؛ لأن القاعدة عند العلماء: أن لازم القول ليس بقول حتى يقر صاحب القول بذلك؛ لأن من سب الدين فلازمه سب أنزل هذا الدين. ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكفر من سب الريح لكن نهاه، وقال: (لا تسبوا الريح) لأن الذي يسب الريح فلازم ذلك سب من أرسل هذه الريح، فلازم القول ليس بقول، فلذلك لا بد أن تقيم عليه الحجة وتزيل الشبهة. وأما من سب الله بواحاً، أو سب الرسول في عرضه، أو قال: عائشة زانية أعوذ بالله من غضب الله، فهي المبرأة الصديقة، وهي زوج النبي في الدنيا وفي الآخرة، فمن رماها بالزنى فهو كافر بلا إقامة حجة ولا إزالة شبهة، لأنه مكذب للقرآن صراحة، ومتهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
وصل اللهم وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر