اسم بمعنى من مبين نكره ينصب تمييزاً بما قد فسره
كشبر ارضاً وقفيز براً ومنوين عسلاً وتمرا
وبعد ذي وشبهها اجرره إذا أضفتها كمد حنطة غذا
والنصب بعدما أضيف وجبا إن كان مثل ملء الأرض ذهباً
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلاً كأنت أعلى منزلا
وبعد كل ما اقتضى تعجبا ميز كأكرم بأبي بكر أبا
واجرر بمن إن شئت غير ذي العدد والفاعل المعنى كطب نفسا تفد
وعامل التمييز قد مطلقا والفعل ذو التصريف نزراً سبقا ]
التمييز معناه الفصل بين شيئين، يقال: ميز هذا عن هذا، أي: فصل بعضهما من بعض، ويطلق أيضاً على التبيين، يقال ميز، أي بين ووضح.
أما تعريفه عند النحويين فهو أولاً: اسم. فلا يقع فعلاً ولا يقع جملة، وقد تقدم أن الحال تأتي جملة.
ثانياً: بمعنى من، يعني متضمناً لمعنى (من)، وسبق أن الحال متضمنة لمعنى (في) وأيضاً التمييز مبين للذات أو للنسبة، والحال مبينة للهيئة، تقول: جاء الرجل راكباً. فراكباً بينت هيئة الرجل كيف جاء، أما هذا فهو مبين للنسبة أو مبين للذات.
وقولك: عندي عشرون رجلاً، هذا مبين للذات؛ لأن (عشرون) عدد مبهم، و(رجلاً) بين هذا المبهم وهذا هو تمييز الذات.
وتمييز النسبة هو المحول عن الفاعل أو المفعول ونحوه، مثل: تصبب زيد عرقاً، (عرقاً) هذه تمييز مبين للنسبة، أي: نسبة التصبب إلى العرق، وأصل (تصبب زيدٌ عرقاً): تصبب عرقُ زيدٍ.
وكذلك : فجرنا الأرض عيوناً، (عيوناً) هذه تمييز، وأصله: فجرنا عيون الأرض.
فالأول محول عن فاعل، والثاني عن مفعول.
قوله: (بمعنى من) صفة لاسم.
(مبين) صفة ثانية.
(نكرة) صفة ثالثة.
(ينصب) الجملة خبر (اسم).
(تمييزاً): حال، أي: ينصب حال كونه تمييزاً.
( بما قد فسره)، أي أن عامله نفس المفسَّر الذي فسره هذا التمييز، فمثل: عندي عشرون رجلاً، الناصب للرجل هو (عشرون).
عندي صاع براً، الذي نصب (براً) هو صاع.
عندي كيلو أرضاً. الذي نصب (أرضاً) هو كيلو.
ولهذا قال: (ينصب تمييزاً بما قد فسره)، ثم ضرب له أمثلة فقال: (كشبرٍ ارضاً)، يعني تقول: لي شبرٌ أرضاً.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع شبراً من الأرض) فأتى بـ(من)، ولو حذف (من) لكانت تمييزاً، أي من اقتطع شبراً أرضاً.
عندي شبرٌ أرضاً:
عندي: ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم.
شبرٌ: مبتدأ مؤخر.
أرضاً: تمييز لشبر منصوب به وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة في آخره. وهذا في المسافة.
قوله: (وقفيزٍ براً) القفيز ستة عشر صاعاً.
اشتريت قفيزاً براً:
اشتريت: فعل وفاعل.
قفيزاً: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.
براً: تمييز لقفيز منصوب به وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة في آخره.
قوله: (ومنوين عسلاً)، يعني: وكمنوين عسلاً وتمراً، أي: منوين من العسل والتمر.
المن مقدار بالوزن، والقفيز بالكيل، والشبر بالمساحة.
عسلاً: تمييز بمنوين. وتمراً معطوف عليه.
مثاله: اشتريت منَّاً تمراً:
اشتريت: فعل وفاعل.
ومنَّاً: مفعول به منصوب.
تمراً: تمييز بمنٍّ منصوب به وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره.
(وبعد ذي وشبهها اجرره إذا أضفتها كمد حنطة غذا)
(بعد ذي) يعني: والتمييز الواقع بعد هذه، أي: آخر مثال، (وشبهها) كالمثالين قبله (اجرره) إذا أضفتها إليه، ثم مثل بقوله: (مد حنطة).
ومثال ذلك أن تقول أيضاً: اشتريت منَّ تمرٍ، اشتريت قفيز برٍ، ملكت شبرَ أرضٍ، فصار الآن ما وقع بعد مساحة أو كيل أو وزن لنا في إعرابه وجهان: الوجه الأول: أن ننون المساحة أو المكيال أو المثقال، وإذا نوناها نصبنا ما بعدها على التمييز.
الوجه الثاني: أن نضيفها، فإذا أضفناه جررناه بالإضافة، فمثلاً تقول: اشتريت شبرَ أرضٍ، ويجوز: شبراً أرضاً.
طحنت قفيز برٍ، ويجوز: قفيزاً براً.
اشتريت منَّ عسلٍ، ويجوز: مناً عسلاً.
قوله: (والنصب بعدما أضيف وجبا)
يتعين نصب التمييز إذا أضيف المميز لتعذر الإضافة حينئذ.
تقول: اشتريت مثقال درهمٍ عسلاً، ولا يجوز أن أقول: اشتريت مثقال درهمٍ عسلٍ!
ومثاله أيضاً من القرآن: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [آل عمران:91].
ملء: مقدار بالكيل، وعلى هذا نقول: ملءُ الأرض ذهباً، يتعين فيها النصب لتعذر الإضافة.
الفاعل المعنى: مفعول لانصبن مقدم. يعني: الفاعل في المعنى.
انصبن: فعل أمر مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة.
وقوله: (انصبن بأفعلا مفضلاً) يعني: قاصداً التفضيل؛ إما تفضيل زيد على زيد، أو تفضيل حاله على حاله وما أشبه ذلك.
والمعنى أنه إذا وقع التمييز بعد اسم التفضيل وهو فاعل في المعنى فانصبن.
فقوله: (أنت أعلى منزلا) أصله: أنت علا منزلك، فتجد أن (أعلى) يقوم مقامه (علا)، و(منزلاً) يقوم مقامه الفاعل، فمنزل إذاً فاعل في المعنى.
أما نحو: زيد أفضل رجل، فلا نقول إن (رجل) هذا ينصب على التمييز؛ لأنه ليس فاعلاً في المعنى.
والحاصل أن كل اسم يقع بعد أفعل التفضيل فإن كان فاعلاً في المعنى نصب تمييزاً، وإلا وجب جره بالإضافة.
تقول مثلاً: أنا أكثر منك مالاً، أي: كثر مالي على مالك. وأعز نفراً: عز نفري على نفرك.
إذا قلت: فلان أكرم رجل، فليس رجل فاعلاً في المعنى، لأنه لا يصلح أن نقول: فلان كرُم رجل، إذاً يجب جره بالإضافة فتقول: أكرمُ رجلٍ.
وتقول: المؤذنون أطول الناس أعناقاً، أعناقاً: تمييز؛ لأن أصله: طالت أعناقهم، فإذاً هو فاعل في المعنى.
تقول مثلاً: فلان أسلمُ قلباً، قلباً: تمييز، والمعنى: سلم قلبه، وتقول: قلب فلانٌ أسلم قلبٍ، ولا يصلح أن نقول: قلب فلانٌ أسلمُ قلباً؛ لأن القلب هو القلب، إذاً: فيجب جره بالإضافة.
والحاصل من هذا البيت أنه إذا وقع بعد اسم التفضيل اسم محول عن الفاعل في المعنى وجب نصبه على التمييز، وإن لم يكن فاعلاً في المعنى وجب جره بالإضافة، والله أعلم.
أي: أنه يأتي التمييز بعد كل عامل اقتضى التعجب.
والتعجب له صيغتان اصطلاحيتان، وله صيغ متعددة من حيث المعنى، أي أن التعجب يراد به التعجب اللفظي الذي يقع بصيغته المعينة، ويراد به التعجب المعنوي الذي دل عليه السياق.
فالصيغتان الاصطلاحيتان للتعجب هما: ما أفعله، وأفعل به. تقول: ما أحسن السماء، يقولون: إن ابنة أبي الأسود الدؤلي قالت ذات ليلة : يا أبت! ما أحسنُ السماءِ، قال: يا بنية! نجومها.
والجواب صحيح؛ لأنها الآن تستفهم عن أحسن شيء في السماء؟ فقال: نجومها.
فقالت: يا أبت! لست أريد هذا، أريد أن السماء حسنة وجميلة، فقال لها: يا بنية! ألا فتحت فاكِ وقلت: ما أحسنَ السماءَ!
فهذه صيغة من الصيغ، ومثالها قوله تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175].
تقول مثلاً: ما أحسن زيداً أدباً!
أدباً: تمييز؛ لأنها أتت بعد التعجب، وكذلك أيضاً تقول: ما أجمله وجهاً، نقول أيضاً: وجهاً: تمييز لأنها أتت بعدما اقتضى التعجب.
وتقول مثلاً: أكرِم بزيدٍ ضيافة، ضيافة: تمييز؛ لأنها أتت بعد فعل التعجب.
ومن مثال المؤلف: (أكرِم بأبي بكر أباً)، يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وإعرابها: أكرم: فعل تعجب مبني على السكون وفاعله مستتر وجوباً تقديره أنت.
بأبي بكر: جار ومجرور متعلق بأكرم.
وأباً: تمييز منصوب وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره.
كذلك تقول: ما أحسن زيداً أدباً:
ما: تعجبية مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ.
وأحسن: فعل ماض مبني على الفتح، وفاعله مستتر وجوباً تقديره هو.
زيداً: مفعول به منصوب، وعامله أحسن.
أدباً: تمييز منصوب وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره.
فهذا الذي يأتي بعد التعجب بصيغتين اصطلاحيتين. كذلك الذي يأتي بعد التعجب بدون الصيغ المعروفة كقولهم: لله درُّه فارساً؛ لله: جار ومجرور خبر مقدم.
دره: در: مبتدأ مؤخر وهو مضاف إلى الهاء.
وفارساً: تمييز منصوب.
وليس بلازم أن يأتي تمييز كلما جاء للتعجب، لكن ما أتى بعد التعجب منصوباً فهو تمييز.
وصيغة (أفعل به) فيها ما ذكرنا من الإعراب، وفيها رأي آخر يقول: (أفعل) وإن كان بصيغة الأمر لكن معناه الخبر، وعلى هذا يكون (به) هو الفاعل، ويقولون: إن الباء زائدة كزيادتها في قوله تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:79]، ويقولون: إن الجملة هنا ليست إنشائية ولكنها خبرية: وإن (أكرم به)، معناها: ما أكرمه!
قال المؤلف: (واجرر بمن إن شئت غير ذي العدد).
اجرر: فعل أمر.
بمن: جار ومجرور متعلق به.
إن شئت: إن: شرطية، وشئت: فعل الشرط، والتاء فاعله.
غير: مفعول اجرر.
ذي: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء.
العدد: مضاف إليه مجرور.
وجواب الشرط فيه رأيان: رأي أنه محذوف دل عليه ما قبله والتقدير: واجرر بمن إن شئت فاجرره.
والرأي الثاني: أنه لا يحتاج في مثل هذا التركيب إلى جواب، والرأي الأخير أصح، لأنه أوضح في المعنى وأسلم في التقدير.
وقوله: (غير ذي العدد) أي: غير تمييز ذي العدد، أي التمييز الذي ليس تمييز عدد يجوز جره بمن، وتمييز العدد لا يجر بمن.
ومعنى البيت: واجرر غير الفاعل في المعنى من التمييز إن شئت، لا إن كان تمييز عدد.
والتمييز الفاعل في المعنى هو ما تقدم في قوله: (والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلاً) فالفاعل المعنى لا يجر بمن، فلا تقول: أنا أكثر منك من مالٍ، بل تقول: أنا أكثر منك مالاً، وتقول: أنا أقوى منك جسداً، ولا تقول: أنا أقوى منك من جسد. وبقية التمييزات يجوز جرها بمن.
إذاً: القاعدة: كل تمييز فإنه يجوز جره بمن إلا اثنين، وهما: تمييز العدد، والفاعل المعنى.
ومثل المؤلف للتمييز الفاعل في المعنى بقوله: (طب نفساً)، فطب: فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت. ونفساً: تمييز محول عن الفاعل، وأصله: طابت نفسك، ولا يجوز أن تقول: طب من نفس!
وقوله: (تُفد)، أي: تعط الفائدة.
أمثلة: اشتريت شبراً أرضاً.
ويجوز: شبراً من أرض،
ويجوز وجه ثالث: شبر أرض، كما سبق في قوله: (وبعد ذي وشبهها اجرره إذا ... إلخ).
وتقول: لله درُّه فارساً.
ويجوز: لله درُّه من فارس!
وتقول: عندي عشرون كتاباً.
ولا يجوز: عندي عشرون من كتابٍ!
لكن يجوز أن تقول: عندي عشرون من الكتب، وحينئذ لا يكون تمييزاً؛ لأن تمييز العدد يكون مفرداً.
وتقول مثلاً: أكل الرجل منوين تمراً.
ويجوز: منوي تمرٍ، بالإضافة؛ لأن ذلك ليس بعدد.
(وعامل التمييز قدم مطلقاً).
عامل: مفعول مقدم. وقدِّم: هو العامل فيه.
وعامل مضاف، والتمييز: مضاف إليه.
مطلقاً: صفة لمحذوف والتقدير: تقديماً مطلقاً.
يقولون: (مطلقاً) بمعنى أنه في كل الأحوال، وإن الإطلاق يعود إلى شيء سابق أو إلى شيء لاحق، بمعنى أنه يعود إلى قيد سابق أو لاحق، فما هو القيد اللاحق؟
قال: (والفعل ذو التصريف نزراً سُبقا)
الفعل: مبتدأ.
ذو: صفة مرفوعة، وهي مضاف، والتصريف: مضاف إليه.
نزراً: ظرف منصوب، ونزراً أي: قليلاً.
سبقا: فعل ماض، والألف للإطلاق، والجملة في محل رفع خبر.
يقول المؤلف رحمه الله: إنه لا يجوز أن يتقدم التمييز على عامله، فالواجب أن يتقدم العامل عليه، فلا يجوز أن تقول: عندي رجلاً عشرونَ، أو: عندي أرضاً شبرٌ.
ويجوز أن يتقدم التمييز على عامله إذا كان العامل فعلاً متصرفاً، وذلك قليل، ولهذا قال: (نزراً سُبقا) مثاله: إذا قلت: أكرم بأبي بكر أباً، يصلح أن تقول: أباً أكرم بأبي بكر!
وقال بعض النحويين: إنه ممتنع وإن ما ورد من ذلك في اللغة العربية يحفظ ولا يقاس عليه.
قوله: (حروف الجر).
من باب إضافة الشيء إلى نوعه؛ لأنها حروف تجر، كما أن هناك حروفاً ترفع وحروفاً تنصب وحروفاً تجزم.
فمثلاً: إن وأخواتها حروف ترفع الخبر وتنصب المبتدأ.
وحروف الجر جميعها تشترك في العمل، بمعنى: أنها كلها تجر، وليس فيها حرف لا يجر، لكنها تختلف في مدخولها وفي معناها، كما سيتبين إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله:
[ هاك حروف الجر وهي من إلى حتى خلا حاشا عدا في عن على ].
قال المؤلف: (هاك حروف الجر)، هاك: اسم فعل بمعنى: خذ، وهل اسم الفعل هو (ها) والكاف حرف خطاب أو هو الجميع؟ فيه خلاف.
حروف الجر: حروف: مفعول به بهاك؛ لأن هاك اسم فعل يعمل عمل الفعل.
هاك حروف الجر، يعني: خذ الحروف التي تجر.
واستفدنا من قوله: (حروف) أنها ليست أسماء ولا أفعالاً، لكن بعضها قد يكون أسماء وقد يكون أفعالاً، وفي هذه الحال يخرج عن حروف الجر، فإن (على) تستعمل اسماً والكاف تستعمل اسماً، ومذ ومنذ يستعملان اسمين، وخلا وحاشا وعدا تستعمل أفعالاً، فهي في خروجها إلى ذلك لا تعتبر من حروف الجر.
وقوله: (وهي من إلى):
أي: من وإلى، لكنه أسقط حرف العطف لضرورة الوزن واختصاراً.
قوله: (حتى ...): أي: وحتى، وخلا، وحاشا وعدا وفي وعن وعلى، فذكر في بيت واحد تسعة حروف.
وفي هذا البيت هبة وحكم وأدوات، وهذا يدلك على أن هذه الألفية جامعة، وهي من أجمع كتب النحو.
يقول: [مذ منذ ورُبّ اللام كي واو وتا والكاف والبا ولعل ومتى].
وبهذا تكون عشرين حرفا.
وقد ذكرنا أنها كلها تجر، وأنها تختلف في المعنى، وتختلف في الاختصاص، أي ما يختص به واحد دون الآخر.
وقد بدأ المؤلف رحمه الله بذكر ما يختص به كل حرف، فقال:
[بالظاهر اخصص منذ مذ وحتى
والكاف والواو ورب والتا]
بالظاهر: جار ومجرور متعلق باخصص.
اخصص: فعل أمر؛ يقال: اخصص بفك الإدغام، ويقال: خُصَّ بالإدغام.
قال: (بالظاهر اخصص منذ، مذ، وحتى، والكاف، والواو، ورُبَّ، والتاء) فهذه سبع أدوات من العشرين تختص بالظاهر، أي فلا تجر الضمائر، وإنما تجر الأسماء الظاهرة فقط.
فمثلاً تقول: حضرت مذ يومين، ولا يجوز أن تقول: حضرت مذهما، وتقول: منذ يومين، ولا تقول: منذهما.
وتقول: سأنتظر حتى مجيء زيد، وقال الله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:5].
ولا يجوز: سرت حتاك!
لكن يجوز: سرت إليك؛ لأن (إلى) غير مختصة بالظاهر، مع أن (حتى وإلى) كليهما للغاية.
أيضاً: الكاف مختصة بالظاهر، تقول مثلاً: فلان كالأسد.
ويجوز أن يقول: فلان كزيد، وهو يخاطب زيداً، ولا يجوز أن يضع بدل زيد المخاطب ضمير الخطاب فيقول: فلان كك! لأن الكاف لا تدخل إلا على الاسم الظاهر، وسيأتي في كلام المؤلف أنها قد تدخل على الاسم المضمر لكن نادراً، مثل: كها!
كذلك الواو مختصة بالظاهر، وهي كما علمنا فيما سبق من حروف القسم، تقول: واللهِ، وربِّ العالمين، وخالقِ الأرض والسماء.. وما أشبه ذلك، ولا تقول: وك يا ربِ!
فلا يجوز دخولها على الضمير حتى ضمير الغيبة، فلو قلت مثلاً: وهو! تحلف وتريد بالضمير الله لم يجز.
لكن الباء تجوز: وبه أحلف.
كذلك أيضاً: رُبَّ، لا تدخل إلا على الاسم الظاهر، وأضيق من هذا أيضاً أنها لا تدخل إلا على النكرة، تقول مثلاً: رُبَّ رجل لقيته، لكن لا يمكن أن تقول: رُبَّ الرجل لقيته، ولا تقول: رُبَّ زيدٍ لقيته، تريد زيداً معيناً، أما: رُبَّ زيدٍ لقيته، تريد: رُبَّ مسمى بهذا الاسم، فهذا جائز؛ لأنه ليس علماً.
ويجوز بقلة: ربه رجل قائم، كما قال: [وما رووا من نحو ربه فتى نزر] كما سيأتي.
قوله: (والتا) التاء أيضاً مما يختص بالظاهر، وهي من حروف القسم.
فعندنا الآن من حروف القسم اثنان هما: الواو والتاء؛ لكن التاء كما لا تجر إلا المقسم به، لا تكون إلا متصلة بالله أو برب، كما قال المؤلف: (والتاء لله ورَبْ)، إذا قلت: تالرحمن، فلا يجوز، ولا: تالعزيز، ولا: تالسلام.
إذاً التاء خصصت بعدة تخصيصات: الاسم الظاهر، القسم، الله ورب، تقول: تالله لأفعلن، وتقول: ترب الكعبة لأفعلن كذا.
ولو قلت مثلاً: ربي الله، ته أحلف، مثل: به أحلف، فلا يجوز.
قوله: [واخصص بمذ ومنذ وقتاً]:
أي: مذ ومنذ إذا كانا حرفي جر فاخصص بهما الوقت، تقول مثلاً: ما رأيته مذ يومين، ما رأيته منذ يومين، واليوم وقت.
ولا تقول: ما سرت مذ المسجد ولا منذ المسجد، لأن المسجد مكان وليس وقتاً.
وتصلح (منذ ومذ) للمعرفة والنكرة، فتقول: ما رأيته منذ اليوم، وما رأيته منذ يومين، وما رأيته منذ سنة، وما رأيته منذ شهر، وما رأيته منذ أسبوع.
قوله: [وبرب منكراً].
يعني: واخصص برب منكراً، فهي لا تدخل على المعارف، فلا تقول: رب الرجل لقيته، ولا رب زيد لقيته؛ إلا على تقدير: رب مسمى بهذا الاسم، كما تقدم، أما زيد الذي هو زيد بن فلان فلا.
قال المؤلف:
[ وما رووا من نحو ربه فتى
نزر كذا كها ونحوه أتى ]
الذين رووا هم النحاة، والعرب مروي عنهم.
نزر: خبر ما؛ لأن (ما) اسم موصول مبني على السكون في محل رفع متبدأ.
و(رووا) صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: وما رووه، أي: من نحو ربه فتى نزر قليل.
والذي خرج عن القاعدة في هذا المثال أن (رُبَّ) دخلت على الضمير، وهي لا تدخل إلا على ظاهر.
وأيضاً: الضمير معرفة وهي مختصة بالنكرة، أي أنها خالفت القياس من وجهين.
قوله: (كذا كها) أي أن (كها) أيضاً نزر قليل في كلام العرب.
كها: الكاف حرف جر، وها: ضمير مبني على السكون في محل جر، فهنا دخلت الكاف على ضمير، وقد سبق أن الكاف لا تدخل إلا على الاسم الظاهر؛ ولكنه كما قال ابن مالك: نزر.
قوله: (ونحوه) أي: مثله، أي: نحو كها، وذلك مثل: (كهو) يعني: ضمير الغائب، وأما ضمير المخاطب (كك) فلا أظنه يروى، ولهذا قال: (ونحوه) أي من ضمائر الغيب كهن.
الآن نذكر القواعد:
أولاً: حروف الجر هي الأدوات التي تعمل الجر، وهي عشرون أداة، تشترك جميعاً في عمل الجر، وتختلف في الاختصاص والمعاني.
البيتان الأولان عدد فيهما هذه الأدوات.
البيت الثالث: القاعدة فيه: يختص بالأسماء الظاهرة هذه الأدوات، وهي: مذ ومنذ وحتى والكاف والواو ورب والتاء. وهي سبع.
والبيت الرابع القاعدة فيه: تختص مذ ومنذ بالوقت، فلا تجر إلا ما دل على زمن، وتختص رب بالنكرات فلا تجر الضمائر ولا المعارف، وتختص التاء باسمين فقط وهما: الله ورَبّ.
البيت الخامس: ما روي عن العرب من دخول رُبَّ على الضمير والكاف على الضمير فهو نزر قليل وخارج عن القياس. والله أعلم.
[ بعض وبين وابتدئ في الأمكنة بمن وقد تأتي لبدء الأزمنة
وزيد في نفي وشبهه فجر نكرة كما لباغ من مفر ]
بدأ المؤلف بذكر معاني حروف الجر، واختصاص كل واحد بمعنى، فقال:
(بعض وبين وابتدئ) فهذه ثلاثة معان:
بعض: التبعيض.
بيِّن: التبيين.
ابتدئ: الابتداء.
(في الأمكنة بمن) من: حرف جر.
فقوله: (بعِّض) معناه أنها تأتي للتبعيض، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا [البقرة:165] أي: بعض الناس.
قوله: (بيِّن) معناه أنها تأتي للبيان، مثل أن تقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:6] فإن قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لبيان الجنس؛ أي: لتمييز هؤلاء من هؤلاء، وليست للتبعيض؛ لأن كل أهل الكتاب كفار بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، أما قبل ذلك، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر.
أما قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2] فهي للتبعيض.
وكذلك قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:105] للتبعيض، يعني: فبعضهم شقي، وبعضهم سعيد.
والغالب أن (مِنْ) البيانية تأتي بياناً لاسم موصول، أو لأداة شرط، أو استفهام، أي: تأتي بعد الأسماء المبهمة، فكلما دخلت (من) على أسماء مبهمة فهي للتبيين، سواء كان هذا الإبهام في الشرط أو في الاستفهام أو في الموصول.
قوله: (وابتدئ في الأمكنة): يعني: وتأتي (من) أيضاً للابتداء في الأماكن، كقوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، والمسجد الحرام مكان.
وتقول: هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، أي أن ابتداء هجرته كان من مكة.
وتقول: سرت من البيت إلى المسجد، ورجعت من المسجد إلى البيت.
قوله: (وقد تأتي لبدء الأزمنة) يعني: قد تأتي أيضاً للابتداء في الزمان، وقوله: (قد) هذه للتقليل، إذاً: فالأكثر في (من) إذا كانت للابتداء أن تكون في الأمكنة.
ومثال مجيء (من) للابتداء في الزمان: جلست عندك من يوم الأحد إلى يوم الأربعاء.
فالقاعدة التي في البيت الأول: أن (مِنْ) تأتي لثلاث معان: للتبعيض والتبيين والابتداء، والابتداء في الأمكنة أكثر منها للابتداء في الأزمنة.
إعراب البيت:
بعض: فعل أمر.
وبيَّن: الواو حرف عطف، وبيَّن فعل أمر أيضاً.
وابتدئ: فعل أمر، والأصل في الأمر الوجوب.
في الأمكنة: جار ومجرور متعلق بابتدئ.
بمن: جار ومجرور متنازع فيه بين الأفعال الثلاثة: (بعض وبين وابتدئ)، فهو متعلق بابتدئ عند أهل البصرة، لأنه أقرب، واختار عكساً غيرهم ذا أسرة.
وما لم يعمل في المتنازع فيه عمل في مضمر مقدر، كما قال ابن مالك :
وأعمل المهمل في ضمير ما تنازعاه والتزم ما التزما
ولا تجي مع أول قد أهملا بمضمر لغير رفع أوهلا
وعلى هذا نقول: المعمل هو الأخير في هذا البيت، وهو قوله (ابتدئ)؛ لأننا لو أعملنا الأول لوجب أن نضمر في الثاني والثالث، وهنا لم نضمر فيكون الإعمال للأخير.
ثم قال: (وزيد في نفي وشبهه).
وهذا هو المعنى الرابع لـ (مِنْ) وهو أن تكون زائدة، وهي تزيد في اللفظ، وتزيد أيضاً في المعنى؛ لأنها تعطيه قوة. ولعل هذا التعبير غريب؛ لأن المعروف أننا نقول: زائدة لفظاً لا زائدة معنى، وقصدهم (لا زائدة معنى)، أي: ليست خالية من المعنى؛ لكن الذي قالوا: إنها زائدة لفظاً زائدة معنى فقصدهم أنها تزيد المعنى قوة.
يقول: (وزيد في نفي وشبهه)، النفي واضح، ويكون بما، ولا، وليس.. وما أشبهها.
وشبه النفي هو النهي والاستفهام الذي بمعنى النفي.
وأنا عندي شك في كلام ابن مالك من جهة اللفظ: (زِيد) لأنه قال عنها: (وقد تأتي) بالتأنيث؛ فكيف يجعلها مؤنثة، ثم يقول: (زيد) فيجعلها مذكرة؟
نقول: إذا اعتبرنا اللفظ فهي مذكرة، وإذا اعتبرنا أنها أداة جر فهي مؤنثة.
وعليه فقوله: (وقد تأتي) أي هذه الأداة، وهي باعتبار اللفظ مذكرة، يعني: زيد حرف مِنْ، والمعنى: أتى زائداً في نفي وشبهه.
قوله: (فجر نكرة)، جر: فعل ماض فاعله مستتر، ونكرة: مفعول جر.
مثاله: (كما لباغٍ من مفر) من زائدة؛ لأن الكلام يستقيم لو قلت: ما لباغٍ مفر، بحذف مِنْ.
والإعراب:
ما: نافية.
لباغٍ: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم.
من: زائدة.
مفر: مبتدأ مؤخر مرفوع بضمة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
و(ما) هنا ملغاة لا تعمل عمل ليس؛ لتقدم الخبر، كما قال ابن مالك :
إعمال ليس أعملت ما دون إن مع بقا النفي وترتيب زكن
إذاً: هذه ملغاة؛ وذلك لأن خبرها متقدم، ومن شرطها أن يتقدم الاسم.
فالقاعدة من البيت: أن (من) تزاد بشرطين:
أولاً: أن يتقدمها نفي أو شبهه.
والثاني: أن يكون مدخولها نكرة.
ومثالها: ما لباغ من مفر.
نأخذ أمثلة أيضاً:
قال الله تعالى: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة:19]، (من) هنا زائدة لسبقها بما ودخولها على نكرة (بشير).
وعلى هذا فنقول:
جاء: فعل ماض ونا: مفعول به مبني على السكون في محل نصب.
من: حرف جر صلة، ولا نقول (زائد) لئلا يظن أحد أن في القرآن لغواً.
بشير: فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
ومثال الاستفهام: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ [مريم:98]، وتكررت (من) هنا مرتين، لكن الزائدة هي الثانية، لأن الثانية داخلة على نكرة، والأولى على معرفة.
هل: حرف للاستفهام.
تحس: فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره أنت.
منهم: جار ومجرور.
من: زائدة.
أحد: مفعول به منصوب بالفتحة المقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
ومثال النهي: لا تضرب من أحد من الطلبة.
الشاهد في قوله: (من أحد)، من: حرف جر زائد، وأحد: مفعول به منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
أما قوله تعالى: ِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [إبراهيم:10] فهي تبعيضية.
وحملها بعض النحويين على قوله: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، فجعل (من) زائدة، وقال: يجوز دخولها زائدة على معرفة، واستدل بالآية.
ونحن نقول: لا نوافقك على هذا الشيء؛ لأنك إذا تأملت: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، وجدت الخطاب موجهاً إلى هذه الأمة : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف:10-12].
إذاً: فهي للعموم، وكل ذنوبنا مغفورة بهذا الوعد من الله سبحانه وتعالى، وإذا تأملت: مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الأحقاف:31] وجدتها إما من كلام الجن: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31]، ولم يجزموا بغفران الذنوب جميعاً؛ لأنهم إنما يرجون ذلك رجاء.
ووجدت أيضاً أن يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ جاءت في كلام نوح، في قوله: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [نوح:4]، وهذا إما أن يقال: إن هذه الأمة فضلت على قوم نوح بمغفرة جميع ذنوبها، أو يقال: إن نوحاً عليه الصلاة والسلام قال لقومه هذا لأجل أن يرجيهم.
المهم أنه لا يمكن أن نحمل هذه على هذه مع اختلاف المعنى، فالصحيح إذاً كما قال ابن مالك إن (من) تزاد بشرطين كما تقدم.
[ للانتها حتى ولام وإلى ].
معناه: أن (حتى واللام وإلى) تأتي للانتهاء.
مثال (حتى) قوله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:5].
ومنه أيضاً: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ [البقرة:187].
البصريون يقولون: حتى: حرف جر والفعل منصوب بأن مضمرة بعد حتى، وعلى هذا فيكون المعنى: وكلوا واشربوا حتى تبيُّن، فيؤول بمصدر.
أما الكوفيون فيرون أن (حتى) نفسها تنصب الفعل، وهي على كل حال للانتهاء.
كذلك اللام تكون للانتهاء، مثل أن تقول: سرت من عنيزة لمكة، بمعنى: إلى مكة، ومثل قوله تعالى: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد:2]، أي: إلى أجل، كما في آية أخرى.
فاللام تأتي للغاية.
و(إلى) كذلك، وهي الأصل، قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1].
والغاية غير داخلة إلا بقرينة، فلو قلت مثلاً: سرت إلى مجرى السيل، فالمعنى أنك لم تدخل فيه.
وقال تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] ولا يدخل الليل في الصيام، فابتداء الغاية ليس بداخل.
وإذا قلنا مثلاً: لك هذه الأرض إلى الجبل، فالجبل لا يدخل.
أما إذا وجدت قرينة فإنه يدخل، ومنه قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، فإن المرفق داخلة لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ومن وباء يفهمان بدلاً):
يعني: يأتيان للبدلية، أي: بمعنى بدل.
إذا: (من) تأتي للتبعيض وللبيان وللابتداء وتأتي زائدة، وتأتي بمعنى بدل، قال الله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف:60] أي: بدلكم.
وقال: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ [التوبة:38]، أي بدل الآخرة، وليس المعنى أن الدنيا من الآخرة.
وتقول: اقتنعت بالدرهم من الدينار، أي: بدل الدينار.
والباء أيضاً تأتي بدلية بمعنى بدل، مثل قولك: ما أحب أن لي بها حمر النعم. أي: ما أحب أن لي بدلها حمر النعم.
ومثلها قول كعب بن مالك : ما أحب أن لي بها بدراً، يعني: بدلاً عنها بدراً.
ومنه قول الشاعر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحساناً
فهو يقول: قومي وإن كانوا ذوي حسب وشرف لا يحبون الشر ولو كان هيناً، وإذا ظلمهم أحد يجازون الظلم بالمغفرة، وإذا أساء إليهم يجازون الإساءة بالإحسان، أي أنهم جبناء لا ينصرونه، ولهذا قال:
فليت لي بهمُ قوماً إذا ركبوا شنوا الإغارة فرساناً وركبانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
طيب، الشاهد قوله: (فليت لي بهم قوماً) أي: بدلهم.
إذاً: الباء تأتي بمعنى: بدل، وكذلك (من) تأتي بمعنى: بدل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر