إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن الله جل ذكره شرف أهل العلم الشرعي على غيرهم، فقال سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، وقال سبحانه وتعالى مبيناً أنه يرفعهم درجات: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، ولم يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله الزيادة في شيء إلا في العلم؛ لأن العلم فيه زيادة درجاته صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].
وبين الله عز وجل أن أشد الناس له خشية هم العلماء، فقال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى لا يعني في أمثال هذه الآيات علماء الدنيا، كعلماء الحساب أو الهندسة أو الطب أو الصناعة أو الزراعة، أو غير ذلك؛ لأن أكثر هؤلاء لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى فضلاً عن أن يخافه أو يتقيه.
وهؤلاء الذين فرحوا بما عندهم من العلم بظاهر الحياة الدنيا جعل الله علمهم كالجهل في قوله تبارك وتعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:6] * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7]، فأبدل من قوله: (لا يعلمون) قوله: (يعلمون)، فدل على أن هذا العلم ما دام متوقفاً على ظاهر الحياة الدنيا دون أن ينفذ إلى باطن ذلك مما في هذا العلم من آيات ودلائل توحيد الله عز وجل فهو جهل.
والله تبارك وتعالى واصف أهل الكفر وأهل الشرك بالضلال وبالجهل، حتى ولو كانوا على علم بعلوم الدنيا، فقال تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118]، وقال أيضاً: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [البقرة:113] بذلك إلى المشركين، وقال الله تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187]، فوصف أكثر أهل الأرض بالجهل على ما كانوا عليه من العلم وعمارة الدنيا ومهارة في الصناعة والزراعة، ونحو ذلك.
إن العلم الذي ينبغي أن ينصرف إليه الفهم عندما تطلق كلمة العلم أو العلماء في القرآن أو السنة هو العلم الذي هو أشرف علم في الوجود وهو العلم بالله وبدين الله تبارك وتعالى وبحقوق هذا الدين.
هذا العلم هو الذي جاءت به الرسل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهو الذي حواه كتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
فعلم الدين هو أشرف العلوم على الإطلاق، ولما كان شرف العلم بشرف المعلوم، يعني: أن العلم يأخذ مرتبته في الشرف بحسب المعلوم الذي يتعلم عن طريق هذا العلم، ولا شك أن علم الطب -مثلاً- أشرف من علم الحشرات، مع أن هذا علم وهذا علم، لكن حتى علوم الدنيا تتفاضل؛ لأن موضوع هذا الحشرات، أما هذا فموضوعه رأس مال الإنسان في هذه الحياة وهو الصحة، وهكذا تتفاوت العلوم بحسب شرف موضوعها.
فعلوم الدين بلا شك هي أشرف من علوم الدنيا، ثم إن علوم الدين نفسها تتفاوت في الشرف: فمنها علوم خادمة، ومنها علوم مخدومة، فالعلوم الخادمة التي هي علوم الوسائل: كعلوم النحو، والصرف، واللغة، ونحو ذلك من العلوم التي هي آلات في فهم الكتاب والسنة، أما العلوم المخدومة فهي الأشرف: كعلم الفقه، وعلم الحديث، وعلم التفسير، ونحو ذلك من علوم الشرع الكريم، لكن أعظم علم فيه على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأنه إذا كان شرف العلم بشرف المعلوم، فإن علم التوحيد موضوعه هو معرفة الله سبحانه وتعالى؛ فيه نعرف الله عز وجل؛ ولأجل ذلك فإن العلم بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله عز وجل وبتوحيده هو أشرف العلوم على الإطلاق في هذا الوجود، فأشرف العلوم الشرعية هو العلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ لتعلقها بأشرف معلوم وهو الله سبحانه وتعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة. يعني: أن الآيات التي فيها صفات الله عز وجل وأسماؤه الحسنى أكثر بكثير جداً من الآيات التي فيها نعيم الجنة من الأكل والشرب والنكاح وغير ذلك، والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدراً من آيات المعاد، فأعظم آية في القرآن الكريم هي آية الكرسي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بن كعب : (أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.. [البقرة:255]، إلى آخر آية الكرسي، فضرب بيده في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر !)، وهذا الحديث رواه مسلم ، وهو دليل على أن أشرف آية في القرآن الكريم كله هي آية الكرسي، وإذا تأملنا آية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن الكريم نجد أنه ليس فيها أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام، وليس فيها إلا الإخبار عن صفة الله، وما الذي يليق به فنثبته له، وما الذي لا يليق فننفيه عنه عز وجل، فقوله: (الله لا إله إلا هو) (لا إله) هذا هو الكفر بالطاغوت، (إلا هو) إثبات التوحيد لله عز وجل، وهكذا بقيتها في صفة الله عز وجل، قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255].
وكذلك أفضل سورة في القرآن الكريم هي سورة أم القرآن؛ سورة الفاتحة، كما ثبت ذلك في حديث أبي سعيد بن المعلى في الصحيح حين قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها -أي: مثل سورة الفاتحة- ، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) ، وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظم مما فيها من ذكر المعاد، كما هو معلوم.
وقد ثبت في الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، تعدل ثلث القرآن، وليس في: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) التي لها هذه المنزلة العظيمة أو العظمى سوى الإخبار عن صفة الله سبحانه وتعالى، وكيف نعرف الله. وكما نلاحظ أن المعرفة بالله سبحانه وتعالى منصبة على أسلوب التلقين؛ لأن الله لا نعرفه بالعقل، كما يشيع على ألسنة بعض عوام الناس؛ حيث تسمع منهم من يقول: ربنا عرفناه بالعقل، فنتدبر بالعقل في آيات الله وفي صفات الله، وصفات الله سبحانه وتعالى قد تعرف عن طريق التأمل في آياته التي تدل على توحيده، لكن معرفة الله أساساً إنما تكون عن طريق الوحي الذي أوحاه إلى أنبيائه، فبه يتعرف العباد على ربهم، فيتعرفون أن له تسعة وتسعين اسماً من الأسماء الحسنى، وأنه على العرش استوى، وأن له كذا، وأنه يحب كذا، وأنه يبغض كذا، وهكذا، فهذا يأتي عن طريق التلقين، وليس عن طريق الاجتهاد العقلي؛ لأن العقل لا يمكن أبداً أن يدرك صفات الله سبحانه وتعالى، ولا ما هي أسماء الله، ولا غير ذلك، بدليل: أن أسماء الله عز وجل كثيرة لا تختص بتسعة وتسعين، لكن الذي أخبرنا به هو التسعة والتسعين، قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة)، وقال عليه الصلاة السلام في الدعاء: (أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فهذا يدل على أن لله أسماء لم نطلع عليها، ولا سبيل إلى الاطلاع عليها؛ لأن السبيل الوحيد هو الوحي، وقد انقطع الوحي، وهي غير موجودة فيما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر الصحابي الذي كان يختم القراءة في الصلاة في كل ركعة بـ (قل هو الله أحد)، فأخبر قومه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فسأله عن سبب ذلك؟ فقال: إني أحبها؛ لأنها صفة الرحمن، فأخبره عليه الصلاة والسلام: بأن الله سبحانه وتعالى يحبه) والحديث متفق عليه، فبين أن الله يحب من يحب الثناء عليه بذكر صفاته وأسمائه عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يذكر بهذه الصفات العظيمة والأسماء الحسنى.
والعلم بأسماء الله جل ثناؤه وصفاته ومعرفة معانيها يحدث خشية ورهبة في قلب العبد، فمن عرف أن الله بكل شيء عليم، وأنه لا تخفى عليه خافية من أعمال العباد، ويؤمن بذلك فإنه يكون أشد خوفاً ممن لا يعلم ذلك، سبق أن تكلمنا في تفسير قوله تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [النحل:105] وقلنا: إن: (إنما) تفيد الحصر، فكأن صفة الكذب لا توجد إلا فيمن لا يؤمن بآيات الله، ولذلك المؤمن لا يكون كذاباً، كما جاء في الحديث؛ لذلك فإن من أخلاق من يؤمن بآيات الله أنه يتنزه عن الكذب، فهذه لفتة إلى أثر الإيمان بصفات الله سبحانه تعالى وبآيات الله في سلوك الإنسان.
ومن يعلم أن الله لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير أتقى ممن لا يعلم، وهكذا في سائر الأسماء والصفات، ولهذا قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى في الآية: إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته العلماء بقدرته على ما يشاء من شيء، وأنه يفعل ما يريد؛ لأن من علم ذلك وأيقن بعقابه على معصيته فخافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه.
إذاً: العلم بالله سبحانه وتعالى يدعو إلى محبته وخشيته ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه، وفي هذا فوز العبد وسعادته في الدارين، ولا يمكن معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلى وفهم معانيها، والعلم بالله عز وجل هو أحد أركان الإيمان، بل هو أصل الإيمان كله، وما بعده تبع له، وليس الإيمان مجرد أن تقول: آمنت بالله من غير علم ومعرفة بالله، بل إن حقيقة الإيمان أن يعرف الرب الذي يؤمن به، ولذلك جاء في الحديث أنه لما أرسل عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فإذا لقيتهم فليكن أول ما تدعوه إليه أن يوحدوا الله، ثم قال: فإذا هم عرفوا الله فأخبرهم: أن الله افترض عليهم خمس صلوات)، فجعل أول واجب هو معرفة الله سبحانه وتعالى، وفي بعض الروايات: (فإذا هم وحدوا الله).
يجب على الإنسان أن يبذل جهده في معرفة أسماء الله وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب علم العبد بربه تكون درجة إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه أزداد إيمانه، والطريق الشرعي للعلم بالله وبأسمائه وصفاته هو تدبر القرآن والسنة وما جاء فيهما.
ثم إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] أي: ليعبدوني وحدي، ولا يمكن أن يعبدوه دون أن يعرفوه، فلابد من معرفتهم له سبحانه ليحققوا الغاية المطلوبة منهم والحكمة من خلقهم، والعبادة لا تصح من الكافر؛ لأن الكافر لا تصح نيته، والمؤمن تصح منه العبادة؛ لأنه ينوي التقرب بها إلى الله، والكافر لا يعرف الله، فكيف تصح منه العبادة لو أتاها دون أن يدخل في الإسلام؟! فالنصراني -مثلاً- إذا صلى أو حج أو فعل أي شيء من أفعال القرب يتقرب إلى المسيح فقد أخطأ وضل الطريق، كما وصفهم الله بالضالين، فلا يمكن أن تصح عبادته وهو لا يعرف الله، ولا يعرف ما الذي يليق به، وما الذي ينبغي أن ينزه الله سبحانه وتعالى عنه، فالاشتغال بمعرفة الله عز وجل هو اشتغال بما خلق العبد من أجله، فالوظيفة التي خلقت من أجلها أيها الإنسان! أن تعرف الله؛ لأنه لا يمكن أن تعبده وأنت لا تعرفه، وترك هذا العلم وتضييعه إهمال لما خلقت له، وقبيح بعبد لم تزل نعم الله عليه متواترة وفضله عليه عظيماً متوالياً من كل وجه أن يكون جاهلاً بربه معرضاً عن معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته، والعالم بالله تعالى حقيقة يستدل بما علم من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام؛ لأن الله لا يفعل إلا ما هو من مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل والفضل، وكذلك لا يشرع ما يشرعه من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه عدل وحكمة، وهذا العلم أعظم وأشهر من أن ينبه عليه، كما قال الشاعر:
وكيف يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل؟!
قال أبو القاسم التيمي الأصبهاني في بيان أهمية معرفة الأسماء الحسنى: قال بعض العلماء: أول فرض فرض الله على خلقه معرفته؛ فإذا عرفه الناس عبدوه. يعني: أن معرفة الله هي أول فرض أوجبه الله على عباده، فإذا عرفه الناس عبدوه، قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، وبدأ القرآن بالبسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، يعني: أن أول شيء في القرآن هو البسملة، وفيها البداءة بأسماء الله: الله، الرحمن، الرحيم، ونزل الوحي أول ما نزل آمراً النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتدبر آيات الله كلها من خلال النظر في أسمائه الحسنى، قال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، فليس من علم ولا فهم إلا ويوصل إليه من خلال أسماء الله عز وجل الحسنى، والعلم بالأسماء الحسنى هو أساس قبول الدعاء؛ فإنك إذا لم تعرف من تدعوه فكيف تتوجه إليه، وإذا لم تعرف صفاته فكيف تتوجه إليه بالدعاء، ولذلك مما يدل على توجه العبد بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى معرفته بأسماء الله وصفاته.
والدعاء يرادف في القرآن العبادة ويعتوران، يعني: يتبادلان المواقع، فأحياناً تعبر العبادة بالدعاء والعكس؛ لأن الدعاء من أظهر أنواع العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة، وقرأ قوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]) ، فمجرد توجهك في الدعاء إلى الله يعني أشياء كثيرة جداً: يعني: إثبات وجود الله؛ لأن العدم لا يدعى، ويعني: إثبات رحمة الله؛ لأن القاسي لا يدعى، ويعني: إثبات كرم الله وجوده؛ لأن البخيل لا يدعى، ويعني إثبات كذا وكذا وكذا من الصفات التي يعبر أو يعكس إيمانك بها دعاؤك الله عز وجل.
كذلك العلم بأسماء الله الحسنى ينشئ حب الله تبارك وتعالى ويقويه في قلب المؤمن لما فيها من كمال وجلال وجمال.
قال بعض أهل العلم: لو أراد رجل أن يتزوج إلى رجل أو يزوجه أو يعامله طلب أن يعرف اسمه وكنيته واسم أبيه وجده، وسأل عن صغير أمره وكبيره، فالله الذي خلقنا ورزقنا ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطته أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها. والله تعالى أعلم.
إن العلم بأسماء الله عز وجل ومعرفة معانيها ودلالتها، وآثار الإيمان بها من أعظم المقاصد، بل هو أصل للعلم بكل المعلومات.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم، فإن المعلومات سوى الله سبحانه وتعالى إما أن تكون خلقاً له تعالى، أو أمراً. إما خلق وإما أمر، إما علم بما كونه -يعني: بما خلقه- أو علم بما شرعه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، فالأمور التكوينية، والأمور الشرعية كلاهما يصدران عن أسماء الله سبحانه وتعالى الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه، فالأمر كله مصدره الأسماء الحسنى، وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد، والرأفة والرحمة بهم، والإحسان إليهم بتكليفهم بما أمرهم به، ونهاهم عنه.
فأمره سبحانه وتعالى كله مصلحة وحكمة ورحمة، ولطف وإحسان؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، فلا تفاوت في خلقه، ولا عبث، ولم يخلق خلقه باطلاً ولا سدى ولا عبثاً، وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده -يعني: لا يمكن أنه يكون موجوداً إلا أن يوجده الله سبحانه وتعالى- فوجود من سواه تابع لوجوده عز وجل، تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم بها أصل للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي أحصى جميع العلوم؛ إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها، ومرتبطة بها.
فنضيف بعض التنبيهات والفوائد المتعلقة بقواعد الاعتقاد في أسماء الله عز وجل الحسنى: أما التنبيه الأول فهو: أن ما يوصف به الرب سبحانه وتعالى أو يخبر عنه أقسام:
أولاً: ما يرجع إلى نفس الذات، كقولك: ذات، وموجود، وشيء.
ثانياً: ما يرجع إلى صفات معنوية، كالعليم والقدير والسميع والبصير، وهذه تسمى صفات ذاتية.
ثالثاً: ما يرجع إلى أفعال الله سبحانه وتعالى، كالخالق والرازق، وهذه تسمى صفات فعلية، ومنها ما يرجع إلى التنزيه المحض، فما يوصف به الله سبحانه وتعالى منه ما يرجع إلى التنزيه المحض، ولابد من تضمنه ثبوتاً؛ إذ لا كمال في العدم المحض.
والتنزيه هو: نفي ما لا يليق بالله عز وجل من الصفات أو الأسماء، والنفي المحض لا يعتبر كمالاً إلا إذا تضمن ثبوتاً، فمثلاً: إذا أتيت إلى الملك وأردت أن تمدحه -ولله المثل الأعلى- فطفقت تقول له: أنت لست جاهلاً، ولست جباناً، ولست بخيلاً، ولست فاسقاً، ولست زبالاً، ولست خادماً، ولست.. إلى آخر هذه الصفات كلها، فهل هذا يتضمن مدحاً؟
الجواب: لا؛ لأن النفي المحض هو صفة العدم؛ فالعدم هو الذي يوصف بأنه لا كذا ولا كذا ولا كذا.
أما النفي في صفات الله سبحانه وتعالى فإنه لا يحصل تنزيه لله عما لا يليق عن طريق هذه الصفات إلا إذا تضمنت إثبات الكمال، فلا كمال في العدم المحض.
ومن أسماء الله سبحانه وتعالى الذي تضمنت هذا التنزيه: القدوس والسلام، فهذه الأسماء من الأسماء التي تضمنت تنزيهاً يثبت به كمال يتضمن أمراً ثبوتياً، وليس نفياً محضاً.
ومن أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته ما يدل على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفات معينة، فالعزيز دل على معاني العزة، يعني: أن الاسم نفسه يدل على معانٍ كثيرة جداً، نحو: اسم المجيد، والعظيم، والصمد؛ فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا؛ لأن المجيد لغة هو: موضوع للسعة والكثرة والزيادة وتعدد الأوصاف وشمولها وكمالها، ولذلك قال تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15]، لسعة العرش وعظمته، والعظيم أيضاً من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال، وكذلك الصمد.
وأيضاً مما يوصف به الله سبحانه وتعالى صفة تحصل من اقتران أحد الوصفين مع الآخر، هذه صفة تحصل من اقترانهما معاً؛ وذلك قدر زائد على مفرديهما، يعني: كل اسم على حدة له معنى، لكن إذا اجتمعا واقترنا فإنه يدل على صفة مزيدة تحصل من اقترانهما معاً.
كقولك: الغني الحميد، العفو القدير، الحميد المجيد.. ونحو ذلك، فإن الغنى من صفات الكمال والحمد كذلك، أما اجتماع الغنى مع الحمد فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك نظائرهما، فالغني وحده له معنى، والحميد وحده له معنى أيضاً، لكن اجتماع الغني والحميد يأتي بمعنى زائد على أحد الاثنين حينما يأتي منفرداً.
وأيضاً مما ينبغي أن نعلمه: أن باب الإخبار عن الله سبحانه وتعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، فهناك ألفاظ وعبارات يخبر بها عن الله هي أوسع من حدود الأسماء والصفات، كالموجود والقائم بنفسه والشارع، فهذا مما يخبر به عن الله عز وجل ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فيقال: الشارع الحكيم كذا وكذا.
وهذا ليس من أسماء الله وصفاته، وإنما من باب الإخبار عن الله الذي هو أوسع من باب الأسماء والصفات، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في درء تعارض العقل: ثم أنت تسميه قديماً وواجب الوجود وذاتاً ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع، والشارع يفرق بين ما يدعى به من الأسماء، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، وبين ما يخبر بمضمونه عنه، فالدعاء لا يكون ولا يحصل إلا بالأسماء الحسنى، كما أمر الله سبحانه وتعالى: (( فَادْعُوهُ بِهَا ))، (( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا )).
فكل ما لا يليق أن يدعى الله به فهو قطعاً ليس من الأسماء الحسنى. هذا أمر.
الأمر الثاني: ما يُخبر بمضمونه عنه من الأسماء لإثبات معنى يستحقه نفاه عنه ناف. كما أنه من نازعك في قدمه أو وجوب وجوده قلت مخبراً عنه بما يستحقه: إنه قديم وواجب الوجود، وإن كانت هذه ألفاظ كلامية، والأولى استعمال الاسم الشرعي الذي هو الأول.
وقال شيخ الإسلام : الفرق بين مقام المخاطبة ومقام الإخبار فرق ثابت في الشرع والعقل، مقام المخاطبة هو دعاء الله سبحانه وتعالى، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، لكن مقام الإخبار عن الله عز وجل أوسع من مقام التقيد بالأسماء الحسنى، وبه يظهر الفرق بين ما يدعى الله به من الأسماء الحسنى، وبما يخبر به عنه عز وجل مما هو حق ثابت، لإثبات ما يستحقه سبحانه من صفات الكمال، ونفي ما تنزه عنه عز وجل من العيوب والنقائص؛ فإنه الملك القدوس السلام سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، مع أنه قال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]، فأطلق عليه هنا وأخبر عنه بأنه شيء سبحانه وتعالى، لكن هل يقال في الدعاء: يا شيء؟ لا يقال في الدعاء: يا شيء؛ لأنه ليس من أسمائه الحسنى، لكن هذا من باب الإخبار عن الله عز جل، أما باب مخاطبة الله ودعاء الله فلا يكون إلا بما هو ثابت من الأسماء الحسنى.
وقد وضح هذه الجملة الدكتور عمر الأشقر حفظه الله تعالى في كتابه في الأسماء والصفات، حيث يقول: ليس كل ما أخبرت به النصوص فهو من أسمائه تبارك وتعالى. أي: أن النصوص حينما تخبر عن الله تخبر بعبارات أوسع من مجرد حدود الأسماء الحسنى. يقول: فليس كل ما تخبر به النصوص عن الله يعد من أسمائه الحسنى؛ والسر في ذلك: أن الأخبار يتوسع فيها ما لا يتوسع في الأسماء، خاصة إذا كانت الأسماء تستعمل للمخاطبة. أي: مخاطبة الله، ودعاء الله، وسؤال الله، فالقاعدة: أنه لا يسأل العبد ربه إلا بالأسماء الحسنى، لكن يخبر عنه بأشياء أوسع من الأسماء الحسنى.
فالله أخبر عن نفسه تبارك وتعالى أنه كثير العفو.. قابل التوب.. فالق الإصباح.. فالق الحب والنوى.. محب المؤمنين.. مبغض الكافرين.. فعال لما يريد.. عدو الكافرين.. منعم.. متفضل.. مكرم.. مقلب القلوب.. ونحو ذلك، فجعلها بعض أهل العلم من أسمائه، والعلماء يتوسعون في الأخبار، فيجيزون إطلاق اسم الموجود والشيء والثابت على الله من باب الأخبار، وإن لم ترد في الكتاب والسنة، كما يقول المفسرون -مثلاً- في تفسير لفظ اسم الحق سبحانه وتعالى: يقول: الثابت الدائم.
يقول ابن القيم : ما يدخل في باب الإخبار عنه تبارك وتعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كالشيء والموجود والقائم بنفسه؛ فإنه يخبر به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وكثير مما عده أهل العلم من أسمائه الحسنى مما ورد في الكتاب والسنة ومما لم يرد فيهما هو من باب الإخبار لا من باب الأسماء، وهذا أمر مهم نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد أفاد أنه لا يجوز الإخبار عن الله تعالى باسم سيء.
يقول رحمه الله: يفرق بين دعائه والإخبار عنه، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، وأما الإخبار عنه فلا يكون باسم سيء، لكن قد يكون باسم حسن أو باسم ليس بسيئ، وإن لم يحكم بحسنه، مثل: اسم شيء وذات وموجود.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر