نحن -بلا شك- نعيش في وقت ارتفعت فيه مثل هذه النعرات: نعرات القشر واللب، والظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة، وغير ذلك من تلك الشعارات التي سنبينها إن شاء الله تبارك وتعالى.
وهم يريدون بذلك تزهيد الناس في التمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وصل الأمر إلى أن صوّرت لهم شياطينهم، وطوّعت لهم أنفسهم أن يسمّوا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تطرفاً! والله سبحانه يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، ويقول تبارك وتعالى: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، وقال عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
وحينما نردد بين الحين والآخر -بل في عامة مجالسنا- ذلك الشعار المقدس: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) ينبغي لكل مسلم حينما يسمع هذه الكلمة أو حينما يقولها أن يستحضر معناها؛ فهو ليس شعاراً يُرفع بدون تطبيق، بل في كل موقف وفي كل محفل وفي كل أمر من الأمور، لابد أن تزن هذا الأمر بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فنحن نعلمها ونعتقدها حينما نقولها، وكلما رفعنا أصواتنا بهذا الشعار فإننا نستحضر أنها تعني الاعتزاز بهذا الهدي، والاستعلاء به على كل طريقة تخالفه أو تنحرف عنه، انظر إلى العسكريين حينما يقفون الوقفة المعروفة احتراماً للعَلَم، مع أنه قطعة قماش، فنحن أشدّ احتراماً لهذا الشعار الذي يرفع فوق رءوسنا في كل حين: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم).
فالتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -سواء في الظاهر أو في الباطن- ما هو إلا عبارة عن مرآة تعكس ما يغمر قلوب مُحبيه صلى الله عليه وآله وسلم من حُب وتعزير وتوقير؛ لأن المحبة تدفع إلى المشابهة وإلى الاتباع.
فالمحبة موافقة وتجانس ومشاكلة، وهذا نلمسه في كثير من الشباب الذين أولعوا حباً بالممثلين وبالرياضيين وغيرهم ممن يهوونهم ويعظمونهم! فتجدهم يقتدون بأحد هؤلاء في طريقة تسريح شعره أو في ملابسه، وربما أرادت بعض الشركات أن تروج لبعض الملابس أو الموضات، فتظهر منتجاتها مع صورة لبعض هؤلاء الممثلين أو الرياضيين أو غير ذلك ممن يسمونهم: (نجوم المجتمع!!) لتروج لها؛ لأن الناس سوف يقتدون بهم.
فهل يستكثرون علينا أن نهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
ولو كانت الموضة هي تقصير الثياب وتقصير السراويل لقالوا: سمعنا وأطعنا، وحباً وكرامة، وعلى العين والرأس، أما إذا فعلت هذا من منطلق الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنك تصير -حسب زعمهم- متطرفاً ورجعياً ومهووساً ومتخلفاً! فهل هذا من الإنصاف؟!
إن ما يتمادى به هؤلاء من زعمهم أن الدين قشر ولب، وحقيقة وشريعة، ونحو ذلك ..، لا يعدو أن يكون إما جهلاً بالشرع -فقد يصدر هذا عن إنسان بحسن نية لكنه جاهل بالشريعة- أو ضرباً من العبث والتحلي من إنسان عابث سفيه لا يتمسك بدينه ولا يعظمه، أو أن يكون عن سوء نية وخبث طوية من البعض الآخر من أعداء الإسلام، فنحن نحاول الردّ إن شاء الله على الفريقين، ونبين أن هذا المصطلح -وبالذات مصطلح: القشر واللب- مصطلح ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب.
ولما كان ظاهره قد يكون فيه الرحمة -عند بعض الناس- وباطنه من قبله العذاب، انقاد له الطيبين السذّج الذين اتبعوا هذا الطُّعم فاستحسنوه، وصاروا يروجون له دون أن يدركوا أنه قناع نفاقي قبيح، وأنه من أقوال العلمانيين الذين يتخذون شعار (القشر واللباب) قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشرائع الإسلام دون أن يخدش في انتمائهم إلى الإسلام.
صحيح أن هذه القضية تتوقف عند حسن النية من بعض المسلمين الطيبين المخلصين، ويقولون: دعونا من القشور؛ لكي نهتم باللب، فهذا أقصى ما وصل إليه الطيبون المخلصون قليلوا العلم من المسلمين أو ممن ينتسبون إلى الدعوة أحياناً! فمقصودهم: إهمال القشر لكي نهتم بالقضية الكلّية للأمة، والتي تتعلق بمصيرها ونحو ذلك، فهم ينظرون قبل هذا التقسيم من أجل تركيز الاهتمام فقط على القضايا الكلية أو على اللب.
لكن هذه القضية عند المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها لا تقف عند هذا الحد، بل هذا مجرد مدخل وسُلّم إلى نبذ القشر واللب معاً، وهدم الدين كلّه تماماً! كما يفعلون حينما ينشرون شعار: (الاهتمام بروح النصوص، وعدم الجمود عند ظواهرها!)، ويقول لك قائلهم: روح الشريعة! روح الشريعة! تمسكوا بالنصوص! ولا تقفوا عند النصوص!
لو أن هذه القاعدة -أي: الاهتمام بروح الشريعة- تقف عند هذا الحد فلا بأس؛ لأن ما يُستقى من القواعد الكلية للشرائع الإسلامية ومراعاة المصالح الكلية لها، فلا شك أنه يراعى، لكن هذا إذا تناوله وتعاطاه أناس أسوياء أو علماء مخلصون لهذا الدين، لكنه خطير جداً إذا رفعه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية، والمشوهون عقدياً؛ لأن مقصودهم من التركيز على روح النصوص: هو أن يذهبوا بروح النصوص، وليس ذلك حفاظاً أو حرصاً على الشريعة ولا تمسكاً بها، ولا أنهم يريدون التمسك بروح النص كي يظهروا روح هذا النص، بل لكي يطرحوا ويرفضوا منطوقه ومفهومه، أو أن يوظفوا هذا النص بعد أن يحرفوه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة.
فالقوم الذين يوافقونهم لا يفطنون إلى أنهم يقفون معهم في خندق واحد في دعوتهم إلى تقسيم الدين إلى قشر ولب، وغير ذلك من التقاسيم، فهم لا يفطنون إلى هذا الأمر، وبالتالي يقفون -دون أن يشعروا- في خندق واحد مع أعداء الدين الذين يريدون لنا ديناً ممسوخاً، ويريدونه ديناً كدين الكنيسة المعزول عن الحياة، والذي يسمح لأتباعه بكل شيء، ويبيح لهم كل شيء بلا حدود، حتى وصل الأمر إلى إباحة الفواحش التي تتصادم مع الفطرة، كما هو معلوم من أحوالهم، فالكنيسة تنازلت عن كل شيء في دينها، حتى أباحت للقوم كل شيء مقابل أن يسمحوا لها بالبقاء حية، ولو على هامش الحياة!
فكذلك هم يريدون من الإسلام نفس الشيء، أي: أن يصل الأمر بالمسلمين إلى أن يُعزل الدين عن الحياة، وأن يبيح كل شيء مقابل أن يسمحوا له أن يبقى حياً على هامش الحياة محبوساً في الأقفاص الشمعية، ولا يتركوا له أي بصمة على واقع الناس ولا على مجتمعاتهم!
باختصار: حالهم كما بين الله عز وجل: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32] * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا [الطارق:15] * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:16] * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:17].
أول دليل نستدل به بصورة واضحة تامة، بحيث ينقشع غبار هذه الفرية أو هذه البدعة أو هذه الضلالة هو قول الله عز وجل في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].
قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله صلى الله عليه وسلم، أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك.
فاستدل على كلمة جميع بقوله: (كافة) ، والمقصود ب(السَّلْم): الإسلام.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ادخلوا في السلم) أي: الإسلام، (كافة) أي: جميعاً.
وقال مجاهد : أي اعملوا بجميع الأعمال، والزموا الذكر.
وقال الألوسي رحمه الله تعالى: والمعنى: (ادخلوا في السلم كافة) أي: ادخلوا في الإسلام بكّل نيتكم، ولا تدعوا شيئاً من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه، بحيث لا يبقى مكاناً لهجره.
وقال أيضاً: وقيل: الخطاب للمسلمين الخُلَّص، والمراد من (السلم): شُعَب الإسلام، و(كافة): حال منهم، والمعنى: ادخلوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في شعب الإيمان كلها، ولا تخلوا بشيء من أحكامه.
وقد ظهر في هذا العصر أقوام تلقوا هدي الإسلام من واقع حياتهم، لا ينشئون نشأة طبيعية، وكان الأصل أن يتعلم الإنسان أولاً الإسلام، ثم يطبق هذا الإسلام ويحكم على الواقع من خلال الإسلام، لكن هؤلاء يقفزون فوق هذه الخطوات الأولى ويتلقون هدي الإسلام من واقعهم، ويعتقدون أن ما هم عليه من الواقع هو الإسلام، ويتصورون مفاهيم الإسلام من الواقع المحيط بهم؛ لأنهم لم ينشأوا في جو علمي يتأثرون به في حكمهم على الأمة.
وبالتالي نراهم كثيراً ما يتخبطون ويحتجون أحياناً ببعض النصوص لإثبات عكس ما وضعت له هذه النصوص، ويسمون الأشياء بغير اسمها، وهذا أوضح وأجلى ما يكون في هؤلاء الذين يقسمون الشريعة إلى شكليات -أو قشور- ولُبّ.
وصارت هذه المقولة المغرضة شعاراً له أنصار ودعاة وأقلام وصحف ومناهج وعقول، وبالرغم من الحشد الذي التف حول هذا الشعار فحتى الآن لا نجد ترجمة واضحة، ما هو القشر بالضبط؟ وما هو اللب بالضبط؟ ولم نجد تحديداً واضحاً للقشر واللب أو معناه.
رغم كثرة من ينادون بقضية القشر واللب، وإلحاحهم عليها، وتأكيدهم على هذه القسمة، وإكثارهم من الحديث عنها، لكنهم لم يضعوا تعريفاً أو حدّاً لما أسموه: قشراً أو لُباباً، بحيث ينتهي إليه الحد ويفهمه من أراد أن يعمل باللب ويهجر القشر، فلو جاء أحد وسألهم: ما هو القشر حتى أهجره وأستفيد من كلامكم؟ وما هو اللب حتى أعلمه وأتمسك به؟ فلن يجد عندهم جواباً ولا تحديداً ولا تعريفاً؛ وما ذاك إلا لأنها بدعة محدثة لم يعرفها السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم ولا من تبعهم بإحسان، وإنما هي نتاج أفكار المنهزمين المستعبدين للشرق أو للغرب، ونحن نحاول أن نضع حداً تقريبياً أو تعريفاً تقريبياً لهذين القسمين، فنقول: أولاً: تعريف القشر واللباب في جانب المأمورات الشرعية: فاللباب: هو كل ما تحت حكم الواجب.
والقشر: ما خرج عن الحكم الواجب.
ثانياً: تعريف اللباب والقشر في جانب المنهيات الشرعية: اللباب: هو ما يدخل تحت الحرام.
والقشر: ما لم يتناوله الحرام الصريح في المعاصي.
وعلى ذلك إذا قبلنا هذا التعريف التقريبي أو حاولنا أن نجتهد ونخترع له تعريفاً تقريباً، فيكون اللب في الأوامر: ما يدخل تحت الواجب، واللب في النواهي: ما يدخل تحت الحرام، والقشر في الأوامر: ما يدخل تحت المندوب والمباح، والقشر في النواهي: ما يدخل تحت المكروه.
وبناء عليه: يجتمع لدينا من القشور ما يزيد على نصف الدين، فيصبح نصف ديننا قشوراً، وهو المكروه والمستحب والمباح، ويبقى من لبابه أقل من النصف، فهل يعقل أن ندع أكثر من نصف الدين بحجة أنه قشور ونأخذ أقل من نصفه بحجة أنه لباب؟! ثم هناك مسائل مختلف فيها: هل هي من الواجبات أو من المستحبات؟
فمثلاً: صلاة الوتر فيها خلاف بين العلماء -بغضّ النظر عن تحقيق الكلام في هذه القضية- لكن هناك مسائل كثيرة جداً مختلف عليها هل تدخل في اللب أم تدخل في القشر؟
وأيضاً: ليس هناك شيء من اللباب أو من القشور إلا وهو داخل تحت حكم الله وتحت خطاب الله عز وجل المتعلق بأفعال المكلفين، وهو الخطاب التكليفي، سواء على سبيل التخيير أو الطلب، والطلب: إما طلب فعل أو طلب كف، وطلب الفعل: إما طلب فعل لازم أو غير لازم، وطلب الكف: إما طلب كف لازم وإما غير لازم.
فهذا كله يدخل تحت الحكم التكليفي الذي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، وبالتالي لا يصح تسميته قشراً على سبيل الاصطلاح الذي افترضناه، لا على سبيل التهوين من شأنه، فلو قلبت الأمر من هذه الجهة أو تلك الجهة، وحتى لو أردت التهوين من أمره فإنه يبقى تحت حكم الله المتعلق بأفعال المكلفين.
كذلك إذا أردت أن تقول: المقصود باللب: هو الواجب والحرام، وما عدا ذلك فهو قشر. فهذا أيضاً لا يستقيم مع تعريفنا للأحكام الشرعية التكليفية التي هي: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الطلب أو التخيير تركاً أو فعلاً.
كذلك أيضاً: استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت -صَلَحتْ أو صَلُحتْ، يصح بضم اللام وفتحه- صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب).
نقول: الفهم الصحيح لهذا الحديث: أن فيه إشارة إلى أن صلاح جوارح العبد واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات يكون بحسب صلاح حركة القلب، فالقلب هو الموجّه للجوارح، وهو القائد لها، فإن كان سليماً ليس فيه إلا محبة الله عز وجل ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه الله، فهذا قلب تصلح معه حركات الجوارح كلها، وينشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات.
وإن كان القلب فاسداً قد استولى عليه اتباع الهوى، فسدت حركات الجوارح كلها، واندفعت إلى المعاصي والشبهات بحسب اتباع هوى القلب، ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنودٌ له طائعون منقادون لطاعته وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء، كما هو مفهوم من الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله: ألا وهي القلب) ، فالقلب هو الملك الذي يصدر الأوامر، والجوارح جنود منقادة له، هذا هو مفهوم الحديث والمقصود منه.
فبالتالي يمكن أن يستدل الإنسان على صلاح القلب بصلاح الظاهر، حيث أنه إذا كانت الجنود في حالة سليمة صالحة فهذا يدل على أن القلب سليم، ولو رأينا مثلاً من يحلق لحيته ويقول: قلبي سليم! نقول له: لا، بل هناك فساد في قلبك يستوجب أن تعصي أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام بحلق لحيتك، ولو رأينا آخر يتشبه بالنساء ويقول: قلبي سليم. نقول: لا، بل هناك مرض في القلب، ويدل عليه تشبهك بالنساء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن المتشبهين من الرجال بالنساء) وكذلك الحال في المتشبهات بالرجال.
فلو كان القلب سليماً يحب ما يحبه الله ويرضاه، ويكره ما يكرهه الله لظهر ذلك على الجوارح حتى تصلح صورتها وتتوافق مع سلامة القلب، لكن أي انحراف في الظاهر وفي أعمال الجوارح يعكس وجود الفساد في الملك الذي يأمر ويوجه ويقود هذه الجوارح.
فيمكن الاستدلال على صلاح القلب أو فساده بقدر ما تظهره جنوده من الانقياد لشرائع الإسلام، فالظاهر عنوان الباطن ودليل صلاحه وفساده، مثال اللحية، وقد تقرر عندنا سابقاً أنه لا يستدل مُبطل بآية أو حديث يؤيد الباطل الذي ذهب إليه إلا وكان فيه ما يدل على نقيض ما ذهب إليه، فنحن نهدم هذه البدعة بنفس الأدلة التي يستدلون بها، كما بيّناها من قبل في استدلالهم بحديث النيات، وكذلك الحال في هذا الحديث (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فهل اللحية من الجسد أم ليست من الجسد؟
الجواب: هي من الجسد، فإذا حلق الإنسان لحيته بدون عذر معاندة للشرع، فإن هذا دليل على فساد في القلب؛ لأنه لو صلح قلبه لصلح جسده ووافق الشريعة، فمن استأصلها بغير عذر محتجاً بصلاح قلبه فهذه كذبة ظاهرة، ومن امتثل أوامر الشرع بإعفائها كانت هذه قرينة ظاهرة على امتثال هذا الرجل لشرع الله في الظاهر، أما الباطن والنية فحسابه على الله في الآخرة بحسب نيته، هل يقصد ترويج تجارته حتى يثق الناس به ويقولون: هذا الرجل طيب؟ فهذا في الحقيقة منافق كذاب مخادع، أم أنه يريد وجه الله فيثاب في الآخرة؟
أيضاً: استدلالهم بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
وهذا أيضاً حق يراد به باطل، فهو في الحقيقة حجة على هؤلاء القوم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقتصر على ذكر القلوب فقط، بل قال: (ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فالقلوب لا سبيل لنا للاطلاع عليها، لكن الأعمال نستطيع أن نحكم عليها في الظاهر، فلذلك عطف الأعمال على القلوب.
فالعمل شيء ظاهر، والله سبحانه ينظر إلى الباطن -وهو القلوب- وإلى الظاهر -وهو الأعمال-.
فالمقصود بقوله: (ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) أي: وينظر إلى الأعمال التي تنبثق عن تلك القلوب، والتي لابد أن تكون صالحة موافقة لمرضاة الله، ويكون المراد بها وجه الله عز وجل.
فلماذا نحاول أن نضرب الأدلة بعضها ببعض؟! ولماذا لا نفهم النصوص في تناسق وتعاضد؟!
فهذا الحديث يؤخذ منه أن المعتبر عند الله سبحانه وتعالى هي التقوى، كما يأتي في باقي الحديث: (التقوى هاهنا .. التقوى هاهنا .. التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ثلاث مرات) ، عليه الصلاة والسلام فمحل التقوى هو القلب، والمعتبر عند الله هو تقوى القلوب وليس الظاهر، تماماً كما قال عز وجل: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم [الحج:37]، أي: هذا لا يصل إلى الله، وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم [الحج:37] ، وقال عز وجل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
ومن هذا نفهم أن الإسلام لا يضع اعتباراً -على الإطلاق- للمظاهر والأمور الشكلية الجوفاء، وهذه هي القشور في الحقيقة، والتي ينبغي أن نحاربها، قشور في المآتم .. قشور في الأفراح .. قشور في الحكم على الناس بالمظاهر وبالملابس وبالزينة وبالأموال التي يلبسونها، والإسلام يقضي على هذه القشور ويحاربها، وهذه هي القشور التي ينبغي أن نسميها قشوراً، وندعو إلى هجرها وإحلال القيم والأخلاق الإسلامية مكانها.
فلا ينبغي أن تحكم على الناس بالمظهر أو بالزينة أو بالنعيم أو بالترف والجمال، أو غير ذلك من الأمور التي لا يد للإنسان فيها، كما هو لفظ الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم) فهذه ليس لها اعتبار عند الله بل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
فليس في الإسلام اعتبار للمظاهر الجوفاء والصور الجميلة، وليس لها ثقل عند الله عز وجل، فمثلاً: يوسف عليه السلام -وهو الذي أوتي شطر الحسن- لما رشح نفسه لإنقاذ الناس من المجاعة قال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، ولم يقل: إني قد أوتيت شطر الحسن. بل اعتدّ بمدى علمه وأمانته وتقواه لله تبارك وتعالى.
في حين قال سبحانه وتعالى في المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4]، فقد يملكون القوة والعضلات والبهاء والمنظر، ولكنهم منافقون، ولذلك قال عز وجل: كََأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]، وقد جاء تفسيرها في صحيح مسلم : كانوا رجالاً أجمل شيء. شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون؛ لأنهم أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام.
وقد رسخ الشرع هذا المعنى في نصوص كثيرة كما سنبين إن شاء الله فيما بعد بالتفصيل، ولكن سنذكر الآن هذه القصة التي رواها أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً من البادية كان اسمه زاهر بن حرام ، وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم من البادية، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يجهزه إذا أراد أن يخرج؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مقيماً في الحضر، وكان زاهر هذا يعيش في البادية، فكان زاهر إذا أتى من البادية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء من طعام أو غيره من الأشياء التي يهديها البدو حسب بيئتهم، كذلك إذا أراد أن ينتقل من الحضر إلى البادية كان يزوده النبي عليه الصلاة والسلام بشيء من متاع الحضر، وكان يقول: (إن
نفهم من الحديث: عدم الالتفات إلى الصور والمظاهر والأشكال؛ فالعبرة بالقلوب والأعمال، فهذا هو المقصود من قوله: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم)؛ لأنه الغنى والمظهر والبهاء -كل هذا- لا وزن له عند الله سبحانه وتعالى.
يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3] * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4].
لم يقل: ذوي الحسب، ولم يقل: ذوي الأموال والمظاهر والجمال! إنما الصفات التي تعتبر عند الله هي الإيمان والتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
هذا الأسلوب في فهم النصوص التي ذكرناها آنفاً هو الأسلوب الوحيد الكفيل بأن يسد الباب في وجه الزنادقة والملاحدة الذين يتحصنون وراء دعوى حسن نية، ويرتكبون المخالفات الشرعية، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] *أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12].
ويضربون بالأحكام الظاهرة التي هي شعار الإسلام وأعظم أركانه -كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها- عرض الحائط، ويريدون ألا ينكر عليهم مُنِكر، وألا يخدش انتمائهم إلى الإسلام، حتى وإن هجروا هذه الشعائر !
إن لم نفهم هذه النصوص بهذا الفهم الذي ذكرناه، فسوف يُنسب إلى الشريعة التناقض الذي تنزه عنه؛ لأن الشرع بنى أحكامه على ما يظهره الناس في دار الدنيا، فإذا أهدرنا كل هذه الشرائع الظاهرة بدعوى أنها من القشر، وزعمنا أن المهم هو النية وصلاح القلب، فهذا -بلا شك- سيقضي تماماً على أحكام الشريعة الإسلامية.
ومثل هذا الخبث لن يفعله حتى المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وآله، فالمنافقون لم يصلوا إلى أن يبتكروا مثل هذه القسمة الخبيثة كما يفعل الملاحدة والعلمانيون اليوم في هذا الزمان؛ لأن المنافقين ما احتجوا لهدم الأصول بهذه الطريقة، وإنما كانوا يُصلّون مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا يحجون معه، وكانوا يجاهدون معه، وكانوا يتناكحون مع المسلمين، وكان المسلمون يصلون عليهم ويدفنونهم معهم أخذاً بما يظهرونه.
ثم نقول: أليس الذي نطق بحديث: (إنما الأعمال بالنيات ...) وحديث: (... ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم؟) هو الذي نطق بالنصوص التي تدل على اعتبار الظاهر، كقوله مثلاً : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)، والله عز وجل يقول: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3] * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، لم يقل: وما ينطق بالهوى، وإنما نزّه المصدر، أي: كل ما يصدر في الدين على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى (إن هو إلا وحي يوحى)، والله عز وجل يقول: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
الذين قسموا الدين إلى قشر ولُبّ، ومظهر وجوهر، هؤلاء ركبوا مطايا الخير كي يصلوا بها إلى الشر، فاستدلوا على هذه البدعة ببعض النصوص الشرعية التي أوّلوها وحرفوا معانيها، منها: حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهذا مشهور عند عموم الناس، فكثير من الناس إذا خالفته في شيء قال لك: الإيمان في القلب، وأنا قلبي سليم! وقلبي أبيض! وما أريد شراً بأحد! فيرفعون هذا الحديث في وجه من يخالفهم.
ومن النصوص التي استدل بها هؤلاء: ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).
فالحديث دليل على عظم شأن النية وخطرها، ولا يمكن الاستدلال به بحال من الأحوال على إسقاط شعائر الإسلام الظاهرة والاكتفاء بالنوايا الحسنة، بل هذا كلام الزنادقة والملاحدة كما سنبين إن شاء الله.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأعمال بالنيات) تقديره الأعمال الواقعة بالنيات، أو الأعمال حاصرة بالنيات، فمعناها: أن الأعمال الاختيارية لا تقع إلا عن قصد من العامل الذي هو سبب وجودها وعملها، وهذه إشارة إلى أنه من الصعب جداً أن يعمل الإنسان عملاً بدون نية، حتى إن من العلماء من قال: لو فُرض أن العبد كُلَّف بأن يعمل عملاً بدون نية لكان هذا من التكليف بما لا يستطاع، وأنه لا يوجد عمل إلا ويكون معه نية.
وقوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) إخبار عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله يكون بقدر نيته، فإن كانت صالحة فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد وعليه وزره .
وفي بعض الروايات: (إنما العمل بالنية) ف(ال) هنا للعهد، وإذا قلنا: إن (ال) للاستغراق، فسيكون معناه: إنما كل الأعمال أو إنما كل عمل بالنية، وسيكون المقصود: إنما كل عمل بالنية، حتى لو كان العمل مخالفاً للشريعة، لكن المقصود هنا ب(ال) أنها للعهد الذهني، يعني إنما العمل الصالح بالنية.
ومثل ذلك قوله تعالى: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:16]، (ال) هنا للعهد، والمقصود بالرسول هنا هو موسى عليه السلام، كذلك: (إنما العمل بالنية) الحديث يقتصر على الكلام على ما يتم به صحة العمل الصالح، يعني: إنما ينفع العمل الصالح صاحبه إذا انضم صلاح النية إلى صلاح العمل، وهذا هو الصواب، أما إذا قلنا: إن (ال) هنا للاستغراق، فهذا يعني: أن أي عمل -حتى لو كان مخالفاً للشريعة- إذا رافقته النية الصالحة فإنه يكون مقبولاً! وهذا غير صحيح؛ لأنه ليس كل عمل يصلح بصلاح النية، إنما العمل الذي تتوقف صحته على صلاح النية: هو العمل الصالح.
يقول الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: إنما الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، والنية الحسنة لا تجعل الباطل حسناً؛ لأن النية وحدها لا تكفي لتصحيح الفعل، فلابد أن ينضمّ إليها التقيد بالشرع.
وقد روى البخاري في كتاب الشهادات عن عمر بن الخطاب -وهو الذي روى حديث (إنما الأعمال بالنيات) - أنه قال: إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي: كما حصل مثلاً مع المنافقين أو بعض المسلمين الذين أخطئوا، حيث كان ينزل الوحي ويؤاخذهم؛ لأن الوحي من الله الذي يعلم ضمائرهم وسرائرهم، فكانوا يؤاخذون أحياناً بالوحي- وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً صدّقناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لن نأمنه ولن نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة.
فهذا راوي حديث النيات، وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث يوضح لنا هذا المعنى بجلاء.
أيضاً: في نفس الحديث ما يدل على خطورة النية، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله رسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، إذاً: هذا مَثَل للأعمال التي تكون في الظاهر واحدة، فكل المسلمون هاجروا من مكة إلى المدينة، وهذا فعل اشترك فيه المؤمنون والمنافقون، وكذلك عند الخروج إلى الجهاد، فقد يخرج الإنسان يريد وجه الله وقد يريد شيئاً آخر، لكن العمل في الظاهر واحد، فيختلف صلاحه وفساده بحسب صلاح النية أو فسادها.
فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه..) إلى آخر الحديث، فهل يمكن أن يأتي أحد ويستنبط من الحديث: التنفير عن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ويقول: أنا أترك الهجرة ونيتي طيبة، ونيتي حسنة؟! الجواب: لا؛ لأن تخاذله في الظاهر عن الهجرة دليل على فساد قلبه وسوء نيته، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب)؟
فالنية المزعومة لا تصلح العمل الفاسد، والنية إذا كانت صالحة ولم ينبثق عنها متابعة للشرع وامتثال للأوامر واجتناب للنواهي فلا قيمة لهذه النية.
وهناك نصوص كثيرة جداً تعلق الانتفاع بالعمل على صلاح النية وصلاح العمل، يقول مطرف بن عبد الله رحمه الله تعالى: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية.
ونجد أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى).
فلماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله)؟! الجواب: لأنه لا يملك إلا الظاهر، فالحكم يكون على الظاهر فقط، أما السرائر والبواطن والنيات فهذه علمها عند الله، فلذلك قَبِل النبي صلى الله عليه وسلم منهم الظاهر، وقال: (عصموا مني دمائهم وأموالهم) ، ثم قال: (وحسابهم على الله) فإن كانوا صادقين فسيثيبهم الله في الآخرة على قدر نياتهم، فالشهادتين وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أعمال ظاهرة تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا، إلا إذا أتى بما يبيح دمه، وهذا هو معنى قوله: (إلا بحق الإسلام) ، وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل، إن كان صادقاً أدخله بذلك الجنة، وإن كان كاذباً فهو من المنافقين في الدرك الأسفل من النار!
وفي بعض الروايات -والرواية لمسلم - بعدما قال عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله، ثم تلا: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22] * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ [الغاشية:23] * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ [الغاشية:24] * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ [الغاشية:25] * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:26])، يعني: كأن قوله: (فحسابهم على الله) منتزع من هذه الآيات التي في سورة الغاشية.
ومن ذلك أيضاً ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن
فالله سبحانه وتعالى هو الذي ينظر إلى القلوب، كما يقولون: ربنا رب القلوب، نعم، الله هو رب القلوب، لكنه شرع لنا في الجملة ما يناسبها وما يقع في مكنتها، والذي نملكه هو أن نتعامل بالظاهر، حتى أنك تجد أن تعاملات الناس فيما بينهم تكون بما يظهرونه.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث: (إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة)، فكم نرى من الناس من إذا حُكِم له بقضية فرح جداً؛ لأنه كسب القضية، وقد يكون هو في الحقيقة ظَلَم خصمه، وأخذ بحكم القاضي ما ليس من حقه، فالقاضي إنما يحكم بما يظهر له، وقد يكون هذا الرجل بليغاً فصيحاً يستطيع أن يُلبّس على سامعه، فيفرح جداً؛ لأنه كسب القضية حسب زعمه، وهو لم يكسب في الحقيقة هذا عين الخسران وعين الظلم.
فحكم الحاكم لا يغير الحقيقة في نفس الشيء، فإذا كنت تعلم أن هذا ليس حق لك فلا يجوز لك أن تأخذه حتى ولو حكم لك القاضي؛ لأن القاضي يحكم بما ظهر له فقط.
من ذلك أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالاً فله ما نوى)، وقوله: عليه الصلاة والسلام: (من طلب علما ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار).
فهذه كلها نصوص تنبّه على خطورة الإخلاص وأهميته، وأنه شرط في الأعمال الصالحة.
فلا يكون معنى الحديث: إذا كانت نيتك صالحة فافعل ما شئت؛ لأن ذلك سيؤدي إلى استباحة محرمات مقطوع بحرمتها، وترك ما فرض الله كالصلاة، ثم يقول لك أحدهم: هذه شكليات! وربما أسعفه الهوى بأن يستدل بقوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].
كذلك يقول بعضهم: الالتزام بطلوع الفجر لبداية الصيام من الشكليات!
كذلك مثلاً: انتظار مغيب الشمس للصائم، هذه أيضاً من الأمور الشكلية التي يكون المهم فيها هو النية!
كذلك أيضاً: القول بأن شعائر الحج: من إحرام، ولبس المخيط من الثياب، والطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات، ورمي الجمرات ... ونحو ذلك، كلها من الشكليات التي يسع الإنسان تركها!! فهل يمكن أن يقول بهذا مسلم؟!
إذاً: خطورة هذه البدعة تكمن في أنها ليس لها حد تقف عنده، إذ ليس هناك تعريف للقشر ولا تعريف للّبّ، وبالتالي فإن هذا يفتح باباً للشر لا يُدرك مداه ولا ينتهي، وسوف يقع الخلاف، وكلٌّ يحكم حسب هواه، فيرى البعض أن المسألة الفلانية من القشور، والبعض الآخر يعتبرها من اللب، أو العكس، وبالتالي ينهار الدين كله ولا يبقى منه شيء.
إذا كانت النصوص السابقة قد أسست فكرة الربط بين الظاهر والباطن وردّ مسألة الاعتماد على الباطن وحده أو النية وحدها، فإن هناك جملة أخرى من النصوص قد فصلت العلاقة بين الظاهر والباطن، وأثبتت أن هناك تأثيراً متبادلاً بينهما، كحديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بنا القداح}، والقداح: هي خشب السهام حين تنحت وتُبرى، واحدها: قِدح، فكان يبالغ في تسوية الصفوف حتى تصير كأنما تقوم بها السهام، لشدة استوائها واعتدالها.
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يهتم جداً بتسوية الصفوف في الصلاة، ونجد من الناس الآن في هذا الزمان من يسخر من حرص الإمام على تسوية الصفوف! ولعلكم سمعتم من أحد دعاة العقلانية الحديثة للأسف الشديد أنه سئل في إحدى المرات -وهو شيخ معمم-: ما هي آخر نكتة سمعتها؟ فقال: رأيت نكتة في إحدى المجلات: الناس يقفون في صفوفاً للصلاة، والإمام يلبس القفازات التي يلبسها الملاكم، ويُسأل الإمام: ماذا تفعل؟ يعني: ماذا تنوي أن تفعل؟ هل ستلعب الملاكمة؟! قال: لا، أنا سأسوي الصفوف!!
يقصد بذلك السخرية من الأئمة الذين يهتمون بتسوية الصفوف، هل يوجد أحد يسوي الصفوف بقفاز الملاكمة ويضرب الناس؟! هذا من الكذب والافتراء على عباد الله.
وهؤلاء الناس الذين يسخرون ممن يهتمون بتسوية الصفوف ويقولون: هذه قشور، هم الذين يفعلون معسكرات ترفيهية أو إنشادية، ويقولون: لابد أن يكون فيها نظام، حيث يكون القصير في الإمام، والطويل في الخلف، وغير ذلك من قواعد النظام في دقائق الأمور، فإذا قيل لهم: هذه قشور، كيف تهتمون بالطوابير وتهتمون بالنظام وغير ذلك.
عندها يقول: ديننا دين انضباط ونظام. فهل يكون مهماً في مثل هذه الأمور بينما في أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين يُعتبر الترتيب قشوراً! وهذا من أوضح التناقض.
نرجع إلى الحديث: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوّي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بنا القداح، حتى رأى أنّا قد عقلنا عنه -أي: تعودنا على تسوية الصفوف وحافظنا على ذلك- ثم خرج يوماً فقام حتى كاد يُكبّر، فرأى رجلاً بادياً صدره من الصف، -أي: صدره خارج عن الصف- فقال: عباد الله! لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم}، وفي رواية: {أو ليخالفن الله بين قلوبكم}.
وهذه إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى أن الاختلاف في الظاهر سينعكس على الباطن، إذاً: الظاهر يؤثر في الباطن كما أن الباطن يؤثر في الظاهر، فالاختلاف في الظاهر -مثل تسوية الصف- يوصل إلى اختلاف القلوب، فدلّ هذا على أن للظاهر تأثيراً في الباطن، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التفرق حتى في جلوس الجماعة، فيأمرهم أن ينظم بعضهم إلى بعض.
كما جاء عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: {خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآنا حلقاً فقال: ما لي أراكم عزين؟!} يعني: متفرقين، وعن أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه قال: {كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلك من الشيطان. فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمّهم}.
ومما يقوي اعتبار الظاهر أيضاً: ما تقرر في الشريعة من لزوم مخالفة الكفار وتحريم التشبه بهم، والأدلة على ذلك كثيرة معروفة.
وكذلك ما تقرر أيضاً من تحريم تشبه الرجال بالنساء، حيث جاء في الحديث: {لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل}، وهذا اللعن معناه أن هذا الفعل من الكبائر، وهذا ظاهر، مثلاً: لو لبس أحدهم فستاناً وقال: ربنا رب قلوب، وأنا نيتي سليمة! وكذلك المرأة تلبس ملابس الرجال وتقول: المهم هو النية؟
فالشرع يهتم بالمظاهر حتى لو وافقنا على تسميتها بالقشور، والمخالفة في ذلك قد تُدخل صاحبها في الكبائر المتوعد عليها بالنار.
والمقصود بالتشبه بالكفار هو التشبه بهم فيما هو من خصائصهم، لكن لو قال قائل: هم يأكلون ونحن نأكل، فهل هذا تشبه؟ نقول: ليس هذا تشبهاً، بل التشبه يكون فيما هو من خصائصهم، كالاحتفال بأعيادهم، ومشاركتهم فيها، وكارتداء الملابس الخاصة بهم والتي يتميزون بها، وهذا مما حرص السلف الصالح على تجنبه، وهو واضح تماماً في سلوك الصحابة والفاتحين مع أهل البلاد التي فتحوها، حتى كانوا يشترطون في عقد الذمة أن لا يتزيّ المشركون بزي المسلمين.
فطريق الهدى والصلاح: أن نصلح الظاهر والباطن معاً، نصلح ظاهرنا باتباع السنة، وباطننا بدوام مراقبة الله عز وجل، ولا ندع العمل الصالح حذر الرياء ولا نفعله رئاء الناس.
فقضية المظهر أو القشور -كما يسميها بعضهم- هذه قضية مبدأ وليست مجرد قشر أو ظاهر لا معنى وراءه، إذ إن هذه القشرة تحمي اللب، وتحمي الهوية الإسلامية المتميزة، والعلماء لم يستعملوا لفظة: القشر ولا المظهر، وإنما استعملوا لفظة: الهدي النبوي الظاهر، وأفاض العلماء في بيان خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها، فما يشيع على ألسنة الناس من أن العبرة بالجوهر لا بالمظهر هذا فيه مغالطة جسمية وخداع كاذب؛ لأن كلاً من المظهر والجوهر لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.
فالمظاهر -أو الظواهر- معبرة عن المضامين، ويمكننا أن نستدل هنا بقول القائل: كل إناء بما فيه ينضح، والإناء لو ملأته بالزيت فسوف ينضح زيتاً، ولو ملأته بالماء فسينضح ماءً، ولو ملأته بالعسل فسينضح عسلاً..، فالعبرة بالجوهر لا بالمظهر، والقضية قضية مبدأ وليست مجرد شكل ومظهر، والأمثلة على ذلك كثيرة وإن شاء الله نرجو أن نفصلها فيما بعد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر