أما بعد:
فإن من يتتبع تاريخ البشرية يجد أن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم وجود البشر على وجه الأرض، فهو صراع لا ينتهي أبداً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولد مع الإنسان في أول خلقه، كما قال عز وجل: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ[طه:123]، وهذا هو الصراع بين الإيمان والإلحاد، وبين الإسلام والكفر، وتبقى معه فرقة ناجية حتى تأتي آخر لحظة من لحظات الحياة الدنيا وهي تكافح المنكرات، وتقدم النفس والمال في سبيل الله عز وجل، لا تتوانى أبداً ولو أظلم الجو أو اكفهر، فلابد من أن تبقى هذه الفرقة تصارع الباطل، ولربما تكون في بعض الأحيان الغلبة للباطل، لكنها ليست غلبة، وإنما هي زبد، وإنما هي الفتنة التي يقول الله عز وجل عنها: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ[الفرقان:20] يعني: أتتحملون هذه الفتنة؟ وهي الفتنة التي تُعِّرف بالرجال، وتميز المؤمن الصابر من غير الصابر، وطريق الجنة تعترض على كثير من العقبات، كما قال الله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ[البقرة:214] أي: الأمم السابقة، فلستم أنتم أول من ابتلي في طريق الجنة، مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ[البقرة:214].
فقوله: (زلزلوا) يعني: كأن الأرض تهتز، وكأن كل الأرض أصيبت بالزلزال من تحت أقدامهم، مع أن الأرض ما تزلزلت، وإنما هو الخوف الشديد الذي أصاب المؤمنين على أيدي أعدائهم الكافرين والمنافقين والمفسدين في الأرض، فأصبح أمراً شديداً حتى كأن الأرض أصحبت تهتز من تحت أقدامهم، وزلزلت إلى أي حد؟ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ[البقرة:214].
تصور الرسول الذي يوحي الله عز وجل إليه مباشرة، والذي يأخذ من عند الله الوحي غضا طرياً، والذي تنزل عليه الكتب السماوية يقول: (متى نصر الله)؟
وتصورا كلمة (متى)، فإن أصلها في اللغة اسم استفهام، لكن هنا تحمل معنىً آخر غير الاستفهام، وهو الاستبطاء، أي: أبطأ نصر الله إلى أن يصل الشك إلى بعض ضعاف الإيمان الذين يعيشون مع المرسلين.
وفي مثل هذه الظروف يأتي نصر الله، وتأتي قبله البشرى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة:214].
في طريق الجنة زلزلة، وبأساء، وضراء، وأمور مخيفة، وإزعاج، وأذىً للمؤمنين، وتقييد لحرية الدعاة وغير ذلك، إلى أن يصل الأمر إلى شيء من اليأس في نفوس بعض المؤمنين، وشيء من الاستبطاء في نفوس الصادقين من المؤمنين والأنبياء فيقولوا: (متى نصر الله)؟ وفي مثل هذه اللحظات يأتي نصر الله، ولكن بشرط أن لا يرجع المسلمون من منتصف الطريق، وهذا هو أخوف ما نخاف على المسلمين، لا سيما الذين ولدوا في حياة آمنة مطمئنة، ولا يعرفون في طريق الجنة هذه العقبات، ثم يفاجئون بهذه العقبات، ثم يصابون بشيء من الفتن، ثم يرجع بعضهم من منتصف الطريق، ويقول: أنا هربت من العذاب، فكيف أقع في العذاب؟ وهذه فكرة ناس من ضعاف الإيمان، ولذلك يقولون هذا.
ولذلك الله تعالى ذكر عن هؤلاء القوم أن منهم من يقول: (آمنا بالله) بلسانه، ثم يبتليه الله عز وجل بشيء من هذه العقبات التي تعترض سبيل المؤمن في طريقه إلى الله عز وجل والجنة والدار الآخرة، ثم لا يتحمل؛ لأن إيمانه ضعيف، ثم بعد ذلك يرجع من منتصف الطريق، وهؤلاء هم الذين يقول الله تعالى عنهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ [العنكبوت:10] يعني: أصابته فتنة من فتن الحياة الدنيا جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ [العنكبوت:10] أي: أذى الناس (كَعَذَابِ اللَّهِ) أي: كأن يقول: أنا هربت من عذاب ووقعت في عذاب محقق أمامي أرآه بعيني وأعيشه ويؤذيني، فهل أتحمله من أجل خوف وهروب من عذاب منتظر ما رأيته حتى الآن؟ يقول بنفسه كذا؛ لأن الإيمان ضعيف، فيرجع وينكص على عقبيه، وهذا معنى قوله تعالى: (فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) أي: في دين الله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي: أذى الناس (كَعَذَابِ اللَّهِ). لكن إذا جاء النصر وجاء المال وجاءت النعمة والخيرات مع هذا الدين يأخذ هذا الدين؛ لأنه ليس فيه مشقة، فإذا ما أصابه الفضل من الله عز وجل أخذ بهذا الدين، ولذا قال: وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ [العنكبوت:10] يعني: أصبح المسلمون في عزة لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ [العنكبوت:10] أي: في هذه الغنيمة أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:10]، فالذي يكابد هذه الشدائد والذي يريد أن يأخذ من هذا الإسلام ما لان عليه أن يعلم أن الله تعالى أعلم بما في صدور العالمين.
هذه هي الفتنة التي نسمع أخبارها في القرآن، وهذا هو الابتلاء الذي يقص الله تعالى علينا أخباره، وأن هناك من الناس من لا يتحمل هذه الشدائد لأنه يعبد الله على حرف، أي: على طرف بين الإيمان والكفر، بمعنى أنه لم يتمكن الإيمان من قلبه فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج:11]، والعياذ بالله!
ولذلك لا تعجب في أيام الفتن من أن ترى من الناس من يضطرب إيمانه، ومن يهتز يقينه بالله عز وجل وخشيته من الله عز وجل، فيرجع دون أن يكمل المشوار إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة؛ لأنه كان يعبد الله على حرف، وعلى طرف بين الجاهلية والإسلام، فهذا لا يمكن أن يثبت على دينه إلا حينما يكون هناك خير وتكون سعادة ويكون رخاء وتكون غنائم ويكون المسلمون في راحة، وهذا هو الذي يتطلبه كثير من المسلمين في أيامنا الحاضرة، يريدون إسلاماً ليست فيه فتنة، وليس فيه ابتلاء، وليست فيه محن، فأحدهم يصوم ويصلي ويؤدي الزكاة إن كان عنده مال إلى آخر ذلك، لكن الجهاد ثقيل على النفوس، سواء أكان جهاداً بالحجة التي ربما تضع بعض العراقيل في طريق المسلم في سيره إلى الله سبحانه وتعالى، أم بالمال الذي هو غالٍ عليه ونفيس، أم بالنفس التي يراق فيه الدم وتسلب فيه الروح.
ولذلك الله تعالى أثبت لنا في القرآن بيعة، هذه البيعة توافرت فيها كل أركان البيع الأربعة المعروفة عند الفقهاء، وهي: بائع، ومشتر، وثمن، وسلعة، ولكن الثمن لما كان كبيراً كانت السلعة غالية على هذا الإنسان، فالثمن هو الجنة، والسلعة هي النفس والمال، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] يقدمون النفس والمال من أجل الله عز وجل وأجل دينه بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] هذا هو الثمن يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التوبة:111].
إذاً البائع هو المسلم المؤمن، والمشتري هو الله عز وجل، ومن العجيب أن الله يشتري هذه السلعة وهي ملك له سبحانه وتعالى، فالنفس والمال ملك لله عز وجل، لكن من أجل أن يرفع من قيمة هذا الإنسان.
ولما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ومن معه من المسلمين: (يا رسول الله! ما لنا إن قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة. فقال
فخرج المسلمون عن بكرة أبيهم للجهاد في سبيل الله، حتى لامهم الله عز وجل وقال: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].
إذاً طريق الجنة طريق مفروش بالتعب والمشقة لا بالورود والرياحين، وطريق النار هو الذي حف بالشهوات، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لما خلق الجنة قال لجبرائيل عليه الصلاة والسلام: (اذهب إليها فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها) فذهب جبريل فرأى هذا النعيم المقيم الخالد، والأنهار الجارية، والأشجار الباسقة، والذي لا يخطر على قلب بشر من الناس، فرجع إلى الله عز وجل، وقال: (وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها)، فأمر الله عز وجل بالجنة فحفت بالمكاره: جهاد في سبيل الله، وصلاة الفجر في وقت النوم والراحة واللذة، وترك ما حرم الله من الشهوات، والنفوس تميل بطبيعتها إلى ما حرم الله وإلى هذه الشهوات وغير ذلك من الأمور، فلما رآها جبريل جاء إلى الله عز وجل وقال: (وعزتك وجلالك خشيت أن لا يدخلها أحد)، فخلق الله تعالى النار، ولما خلق النار قال لجبريل عليه الصلاة والسلام: (اذهب وانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها)، فلما جاءها جبرائيل عليه الصلاة والسلام وجدها يأكل بعضها بعضاً، فرجع وقال: (وعزتك وجلالك لا يدخلها أحد سمع بها) ، فأمر الله عز وجل بها فحفت بالشهوات، أي: الشهوات المحرمة التي تجذب هذا الإنسان جذاباً مغناطيسياً إليها، والتي تميل إليها نفوس ضعيفة بفطرتها وبشهوتها، فلما رآها جبريل قال: (وعزتك وجلالك! خشيت أن لا ينجو منها أحد) أي: لما في طريقها من الشهوات.
ومن هنا نقول: لا تعجب حينما ترى هذه العقبات في طريق الجنة، فإن الجنة لا يدخلها إلا من يستحق الجنة، والذي يقتحم هذه العقبات -وهي صعبة شديدة على النفوس- هو الذي يستحق هذه الجنة.
فتصور -يا أخي- واحداً له أجر خمسين من مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وسائر الصحابة الذين قدموا أنفسهم وأموالهم وكل ما يملكون في سبيل الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (للعامل منهم أجر خمسين)، وهم الذين يأتون في آخر الزمان لا يجدون على الحق أعواناً، وربما تقف الدنيا كلها في وجوه هؤلاء، وربما يكذبهم أقرب الناس منهم، وربما تتحرك العواطف والمشاعر في نفوس أهلهم ثم يتغلبون على هذه العواطف، فلهم أجر خمسين، قالوا: (يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: أجر خمسين منكم).
فلابد من أن يكون في طريق هذا الأجر -كأجر خمسين من أصحاب رسول الله- عقبات وأمور خطيرة، ولا يستطيع أن يقتحم هذه العقبات إلا المؤمن الصادق، قال عز وجل: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد:11- 14] وهذا من العقبة أيضاً.
ولكن هذه العقبات بمقدار ما تزيد في فترة من فترات التاريخ يقتحمها المسلمون ويزيد إيمانهم ويقينهم بالله عز وجل، ولذلك الله تعالى يقول لنا في القرآن: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ [الأحزاب:22] أي: الأحزاب التي تجمعت من جميع بلاد الكفر لتحيط بالمدينة. وهي كالأحزاب الموجودة عندنا الآن، فكان هناك أحزاب من الداخل في المدينة، وكان المشركون والوثنيون ونصارى العرب يطوقون المدينة من الخارج، وكان المنافقون واليهود يهزون الأمور من الداخل، كما يوجد في أيامنا الحاضرة سواء بسواء، قال عز وجل: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22]، وما قالوا: سوف ننسحب من المعركة، فأعداء بالداخل وأعداء بالخارج كيف نستطيع لهم جميعاً؟ وهل سنتغلب على عدو يأتينا من الخارج وعدو من الداخل لا ندري أيهما نقدم وأيهما نحارب؟
بل الذي حصل أن المؤمنين لما رأوا هذه الواقعة قالوا: هذا ما كنا ننتظره، كنا ننتظر هذا اليوم، وجاء هذا اليوم، ولذلك فلا خيار لنا في هذا اليوم، قال عز وجل عنهم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22]، ما الذي حدث؟ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22] أي: إيماناً بوعد الله عز وجل، وتسليماً لقضاء الله عز وجل وقدره.
ثم بعد ذلك انقسموا إلى قسمين: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ [الأحزاب:23] يعني: منهم من قتل في هذه المعركة ومنهم من ينتظر دوره في الشهادة في سبيل الله؛ لأن تواجد الأحزاب في الداخل والخارج -كما يوجد في أيامنا الحاضرة- هو الذي حرك همة المؤمنين إلى أن يقولوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22] ثم أيضاً هو الذي حرك المؤمنين لأن يستميتوا في الجهاد في سبيل الله.
واليوم يعيد التاريخ نفسه، ويأتي يوم يشبه يوم الأحزاب إن لم يكن أشد، فهناك عدو من الخارج يطوق الجزيرة العربية، وهناك أعداء من الداخل يريدون أن يهزوا المسلمين داخل الجزيرة العربية ويستغلوا الفرص، وهذا هو منهجهم وديدنهم، فإذا رأوا العدو الخارجي تحرك فإنهم يتحركون، كما كان يتحرك المنافقون واليهود داخل المدينة يوم غزوة الأحزاب من أجل أن يهزوا المسلمين، حتى يتغلب العدو الخارجي، وهذا هو منهجهم.
ولذلك لا تعجب حينما ترى البلاد التي يطوقها العدو من الخارج يتحرك فيها الجرذان والمفسدون في الأرض من الداخل؛ لأن الله تعالى يقول: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الجاثية:19]، فالذين في الداخل أولياء الذين في الخارج، والكفر ملة واحدة، والردة عن الإسلام منهج واحد، وليس هناك طريق للجنة إلا طريق واحدة، ومن بحث عن طريق أخرى فإنه لن يجد ذلك، كما قال عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
إذاً هناك عقبات، وهذه العقبات تزيد في مثل أيامنا الحاضرة وربما نتعرض لذكر شيء منها حسب ما يتسع له المقام، ونسأل الله التوفيق.
فدعاة الضلال ينشطون على المنابر -وأقصد بالمنابر الوسائل الإعلامية في العالم الإسلامي- حينما نام العلماء ولم يستيقظ منهم إلا العدد القليل، حتى أصبح الحمل ثقيلاً والعبء شاقاً على هذا العدد القليل، فصار أولئك يستضعفونهم ويسبونهم من منطلق القوة أو من منطلق القيادة أو من منطلق المسئولية.
وهذا الذي يحدث خطير جداً، لكن أخطر من هذا أن يكون هؤلاء الدعاة يشغلون من الداخل بفعل كفعل المنافقين يوم طوق الأحزاب المدينة، وأخطر من ذلك كله أن يكونوا من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وأخطر من ذلك كله أن يدبجوا ويزخرفوا أقوالهم بآيات من كتاب الله وأحاديث من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الخطر الذي يخفي الرؤية الصحيحة حتى لا يكاد كثير من المسلمين أن يتبين الحق من الباطل ولذلك نقول: إن تواجد هؤلاء -وهم من أبناء جلدتنا لا شك- بطريقة كأنهم فيها مخلصون للدولة وللأمة وللدين، ولربما يستشهدون بآيات من كتاب الله ذلك هو الخطر، ويصبح الأمر ملتبساً والواقع مختلطاً حابله بنابله، ولا يتميز ذلك إلا حينما يتميز الحق من الباطل.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من مثل هذه الفترة، وأخبر أنها آخر فترة من فترات تاريخ البشرية، وأنه إذا وجد هذا النوع من البشر الذين هم من أبناء المسلمين ويحسبون على الإسلام ويحملون في جيوبهم الهوية الإسلامية والاسم الإسلامي فذلك يعتبر بداية النهاية، وهذا أشد أنواع الخطر في حياة أي أمة من الأمم، كما في حديث حذيفة المعروف، ففي آخره قال حذيفة : (فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: قوم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).
فهذه مصيبة أنهم من أبناء جلدتنا، ففي الجاهلية كان أبو لهب وأبو جهل والأسماء المكشوفة هم الذين يحاربون الإسلام، وكان الخطر أقل منه اليوم، لكن اليوم أصبح أحمد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن وعز الدين وما أشبه ذلك هم الذين يحاربون الإسلام في أيامنا الحاضرة، وفي بلاد الإسلام، ويدبجون أقوالهم بكلمات رنانة إسلامية، كما قال الله تعالى: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112] من أجل أن يغروا الناس.
ومن هنا يبرز الخطر، وهذه نعتبرها من أكبر العقبات، أن يكون دعاة الباطل من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، ولهم منابر مهمة جداً، وربما يكون لهم قيم وأوزان عند الناس، وربما تكون لهم سوابق خدمة قد أدهشت كثيراً من الناس وشعاعها ما زال يبهر عيون كثير من الناس، فلا يظنون بهم إلا خيراً.
إذاً المصيبة تأتي من هذه الناحية، ولذلك نقول: إن دعاة الباطل ونشاط دعاة الباطل وتواجدهم في بلاد المسلمين وكونهم من أبناء المسلمين يعتبر من أعظم أنواع الأخطار، فلننتبه لهذا الخطر، ولنعلم أن هؤلاء الدعاة لا يتحركون إلا حينما يسكت دعاة الحق، وأن دعاة الحق بمقدار ما يسكتون عن هذا الحق يتحرك دعاة الباطل، وبهذا يتحملون هذه المسئولية أمام الله عز وجل حينما يقف الجميع بين يدي الله سبحانه وتعالى.
ولذلك الله عز وجل بين في القرآن أن خيرية هذه الأمة تبقى بمقدار ما يبقى لها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، ليس لأنهم أبناء سام بن نوح ، كما يعتز الجاهليون بأنهم من أبناء سام بن نوح ، ولا لأنهم يعيشون في بلاد العرب أو بلاد القبلة أو بلاد الحرمين، ولا لأنهم من أمجاد وآباء لهم أنساب ضاربة في أعماق التاريخ، فهذه كلها لا وزن لها عند الله عز وجل، كما قال عز وجل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] ولكن: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
ومن هنا نقول تكون الخيرية إذا قام جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلد ما، ولذلك الله تعالى قال: (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). حتى لا يظن المسلم أنه أخرج لنفسه ليخلص نفسه من النار، وإنما أخرج لغيره -أيضاً- حتى يخلص الناس من نار الله عز وجل، وهذه الخيرية تكون في جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذلك الذين يريدون أن يعود الظلام إلى الأرض تجدهم يضعون العراقيل الكثيرة في طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا عضو يُضرب، وهذا محل من محلات هيئة الأمر بالمعروف يُكسر، وهذا رجل يُتهم .. إلى آخره، حتى يلصقوا هذه التهم بهؤلاء فيزهد الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تتلوث هذه البيئة، وإذا تلوثت البيئة بعد ذلك يبيضون ويفرخون في المجتمع الإسلامي، فلا بارك الله فيهم.
فلابد من أن نقيم جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن خير أمة أخرجت للناس إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، وإلا فسوف نكون شر أمة أخرجت للناس؛ لأن الرسالة التي نزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الرسالات، ومعنى ذلك أن الخير يتعطل في الأجيال اللاحقة إلى يوم القيامة حينما يتوانى أهل هذا الجيل وأهل هذا العصر عن حمل هذه الرسالة إلى من بعدهم، قال عز وجل: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [الحج:78].
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تظن أن معناه الدعوة فقط، فهناك فرق بين الدعوة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالدعوة كلمة لينة، كأن نقول للإنسان: اتق الله. لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوة تملكها الدولة، وتُملِّكها لمن يكون كفئاً لذلك.
فالمهم أنه لابد من أن يقوم جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواءٌ أكان من قبل الدولة أم من قبل المسلمين، ولذلك الله تعالى لما ذكر الموعظة والكتب السماوية والعدل في الأرض ذكر الحديد بعد ذلك مباشرة فقال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد:25]، فذكر الحديد بجوار الكتب السماوية؛ لأن الحق بطبيعته قد يضيع بين الناس، ولأنه ليس كل الناس يتعظون بالموعظة.
إذاً لابد من أن تكون للمسلمين قوة، وهذه القوة تحمي جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن العقبات التي تعترض سبيل الداعية اليوم وسبيل المسلم تلوث البيئة، وفساد المجتمع، وانتشار المعاصي بسبب تعطيل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالإعلام لا نستطيع أن نقول عنه أكثر مما قاله كثير من إخواننا، فمن كان يتصور أن بيوت المسلمين بهذه السرعة الهائلة التي لا تتجاوز عشرين سنة تتحول من أعلى القمة إلى ما وصلت إليه اليوم؟ لقد كنا إذا وقفنا عند بيوت الصالحين والعلماء وأهل الخير لا نسمع إلا دوياً كدوي النحل في كتاب الله عز وجل، ولا تسمع في جوف الليل إلا نحيباً في صدور الصالحين الخاشعين بين يدي الله، لكن قف الآن عند أبواب كثير من الناس حتى العلماء وحتى الصالحين -إلا من شاء الله- فلن تسمع إلا اللهو والموسيقى والمسرحيات والمصائب والبلاء الذي ما ترك أمراً، بل إنه يقع بين السماء والأرض، ونعجب كثيراً حينما نركب طائرة ما ثم نرى الأفلام التي تزعج المسلم، ونقول: سبحان الله! المشركون الأولون الذين كانوا يعبدون الأصنام يخافون الله أكثر من هؤلاء الناس، فأولئك كانوا إذا ركبوا في الفلك وهم على سطح الماء دعوا الله مخلصين له الدين، وهؤلاء في الهواء على متن الطائرة وعلى بعد عشرات آلاف الأمتار من الأرض وتنشر فيهم الأفلام والمحرمات.
إنه أمر عجيب يحار فيه المسلم، ولكن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم! إنا نشهدك أن هذا منكر فلا تؤاخذنا بهؤلاء، ونخاف -والله!- أن تتحطم الطائرات بين السماء والأرض لولا أن الله عز وجل يمسكها برحمته وكرمه، قال عز وجل: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر:45].
فالإعلام لابد من أن يصلح من قبل الدولة، وإذا لم يصلح من قبل دولة إسلامية فلابد من أن تصلحه الشعوب، وأقصد بإصلاح الشعوب أن تبذل الجهد في سبيل مناصحة هؤلاء المسئولين، وإذا عجزوا فعليهم أن يحيطوا بيوتهم بسياج منيعة حتى لا تصل إليها هذه الأفلام، فإنهم يشوهون تاريخ الإسلام في كثير من الأحيان. فمثلاً: يأتون برجل صالح من سلفنا الصالح وبجواره زوجته سافرة، وكأنه يقول لك: هذا هو الإسلام. فهذه المرأة سافرة أمام هذا الرجل الصالح من سلفنا، وهذا هو الاختلاط.
إنها مصيبة وبلاء، فلابد من أن نصحح هذا المفهوم، وأنا أخشى أن تنشأ ناشئة في البيوت تظن أن هذا هو الإسلام وأن هذه هي حياة سلفنا الصالح رضي الله عنهم الذين سبقونا بالإيمان.
لكن المصيبة الكبرى أن الإسلام أصبح لا يستفيد إلا نادراً من هذه الأموال، بينما نجد أنه في يوم واحد دعت الكنسية إلى البذل، فجمع في يوم واحد مليار دولار، وقد يتساءل شخص: لماذا خصصوا ملياراً؟ ولماذا ما قالوا: نريد أكثر من مليار أو نريد أقل منه؟
الجواب: لأن عدد المسلمين مليار، فقالوا: نريد كل دولار ينصر ويكفر واحداً من المسلمين. فهذا هدفهم، وجُمع مليار دولار في يوم واحد.
ولنعلم أن كثيراً من المسلمين يرتدون عن الإسلام بسبب الفقر والمجاعة، فإذا كان الواحد منهم سيموت جوعاً ويأتيه رجل كافر يريد أن يقدم له الغذاء ويقدم له اللباس فإنه سيستجيب له، وقد يأخذه طفلاً فيربيه، وإن كانت الفطرة التي فطر الله الناس عليها موجودة في الأصل، لكن لربما يؤثرون أو يشوشون على هذه الفطرة.
وهناك مراكز إسلامية تفتقر إلى أموال المسلمين، وهناك من يصلي في العراء لا يجد مسجداً، وهناك من المسلمين من لا يجد لقمة العيش، فبخل المسلمين بالمال ثم بخلهم بعد ذلك بالجهد كان عقبة في طريق هذا الدين، وفي طريق المسلم وسيره إلى ربه سبحانه وتعالى.
ولذلك حينما نذهب إلى مناطق يضعف فيها المسلمون ويحتاجون إلى توجيه وتربية لا نجد إلا أبناء النصارى هم الذين يتكاثرون في تلك البلاد وفي تلك المواقع، ووالله لقد رأيت شابات وشباناً في سن العشرين أو ما يقرب من ذلك في مجاهل أفريقيا في مناطق يصعب على واحد من المسلمين أن يصل إليها، رأيتهم يربون أبناء المسلمين الفقراء، فقلت: كيف جاء هؤلاء من تلك البلاد المترفة المنعمة الباردة الجميلة الخضراء إلى هذه الصحاري وإلى هذه الغابات الموحشة؟!
ثم قلت أيضاً: أين المسلمون؟! لماذا لا يربون هؤلاء الأبناء حتى لا ينشأ هؤلاء نشأة كافرة؟!
فالمهم أنها بلية، وهذه تعتبر أيضاً عقبة من العقبات التي تعترض سبيل المؤمن في سيره إلى ربه سبحانه وتعالى، ولو أن علماء المسلمين وطلبة العلم ساحوا في أرض الله عز وجل ينشرون هذا الدين الذي سوف يسألهم الله عز وجل قبل أن يسأل المرسلين عنه كما قال سبحانه: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، لو أنهم ساحوا في هذه الأرض ينشرون دين الله عز وجل لما كان هذا التكفير والتنصير الذي أصبح يقض على العقلاء مضاجعهم، ثم يخاف على هذه الأمة أن تترك دينها لولا أن الله عز وجل تكفل بحفظ هذا الدين.
ثم هذه الأموال لماذا لا تصل إلى أولئك المسلمين إلا نادراً؟! أليس المال مال الله؟ والله تعالى يقول: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، فهذا أمر لابد أن ينتبه له المسلمون، ولابد أن تصل كثير من أموال المسلمين إلى هناك لترد الحق إلى نصابه.
وفي حياة بعض المسلمين الصالحين الذين لم يفهموا هذا الإسلام فهماً كاملاً أصبحنا أيضاً نشاهد في حياتهم هذه الازدواجية، بل أصبحنا نشاهد هذه الازدواجية في وسائل الأعلام التي تنشر داخل البيوت، حيث يأتي القرآن، ثم تأتي بعده أغنية، ويأتي بعده موسيقى، ويأتي بعده حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحصل اختلاط بين الخير والشر، وهذه الازدواجية تقع كثيراً، سواءٌ أكانت في الإعلام أم في حياة الناس الذين ربما نراهم مصلين ثم نراهم بعد ذلك يطعنون في الإسلام من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وهذه الازدواجية أيضاً لها آثار سيئة في نفوس الناشئة، فلربما تنشأ ناشئة من هذا الجيل لا تعرف الفرق بين الحلال والحرام، وبين النافع والضار، وبين الإسلام والجاهلية.
إذاً معنى ذلك أنه أجل محدد من عند الله عز وجل، فهل يتغلب الخوف من الموت على العمل من أجل دين الله عز وجل، هذا هو الذي يوجد في بعض الأحيان، بل في كثير من الأحيان، ففلان من الناس يخاف أن يتقدم أجله قبل أن يأتي الموعد؛ لأن يقينه بالله عز وجل قد ضعف، ولأن إيمانه بقول الله عز وجل: كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145] فيه شيء من اللين والضعف، فإذا به يهرب من الموت كما يزعم، ولو أدى ذلك إلى أن يترك الساحة التي يجب أن يعمل فيها العاملون ويتنافس فيها المتنافسون.
وهذا الخوف من الموت هو الذي أدى بكثير من الناس إلى أن يرجع من منتصف الطريق، فلماذا الخوف من الموت؟ لأن اليقين بالله عز وجل ضعيف، ولذلك فإن الخوف من الموت هو الذي علم الناس الجبن، وهو الذي عطل جانب الجهاد في سبيل الله، وهو الذي أخرس ألسنة كثير من الناس أن يقولوا كلمة الحق، فلا يقولوا للظالم: أنت ظالم فاتق الله. وهو الذي جعل كثيراً من الناس يضعف يقينه بربه سبحانه وتعالى، فيحابي في دين الله، ونسي أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وأن أفضل الشهداء بعد حمزة رضي الله عنه رجل جاء إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله، فهذا أفضل الشهداء بعد حمزة رضي الله عنه.
إذاً لا تترك كلمة الحق خوفاً من الموت، فإن الإنسان الذي يخاف من الموت هل لا يصدق وعد الله عز وجل حينما قال: كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145]، وقال: فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49]؟ فلابد من أن يعرف الإنسان أن له أجلاً عند الله عز وجل، وأن هؤلاء الناس الذين يخاف من سطوتهم حينما يقول كلمة الحق لا يملكون لأنفسهم -فضلاً أن يملكوا لغيرهم- نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأن كل شيء بيد الله عز وجل، وأنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف , وأن الناس لو اجتمعوا جميعاً على أن ينفعوا أحداً بشيء لم يكتبه الله له لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
هذه هي عقيدة المسلم التي يجب أن يولد عليها ويعيش عليها ويحيا ويشب ويشيب ويلقى الله عز وجل وهو يعتقد هذه العقيدة، ولكنه لو غير في نفسه هذه العقيدة فإنه سوف يصبح جباناً أمام أعداء الله عز وجل، ولذلك نقول: هذه العقبة تعتبر من أكبر العقبات.
ونقول عن هذا المسلم: له أن يبحث عن المركز في هذه الحياة، لكن ليس له أن يقدم هذا المركز على الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد يفتن هذا الإنسان في يوم من الأيام، فإما هذا المركز وتنازل عن كذا وكذا وإما أن تحفظ دينك، فلربما تضعف نفسه فيختار المادة والمركز وحب الشرف والمنصب.
وأمام هذه الشهوات الثلاث تحضرني قصة لرجل عظيم الشخصية، هذا الرجل عرضت عليه هذه الشهوات الثلاث في وقت هو أحوج ما يكون إليها، لكنه رفضها خشية من الله عز وجل وبحثاً عن سعادة أفضل وحياة أطول وأبقى.
يروي لنا المؤرخون عن إحدى الغزوات في بلاد الروم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عدداً من المسلمين وقع في أسر الرومان، وكان من بينهم الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، فوقع في الأسر، ووصلت الأخبار إلى قيصر الروم أن في سجن الرومان رجلاً شهماً عجيباً في خلقه ورجولته وشجاعته وحميته.
ففكر قيصر الروم في أن يسلب منه دينه بثمن بخس، فقال: علي به. فجيء بـعبد الله بن حذافة رضي الله عنه، ووقف أمام ملك الروم وهو مكبل بالأغلال، والفرق بعيد بين واقعه وبين ما يعرض عليه، فقال له قيصر الروم: يا عبد الله ! لو تنصرت لشاطرتك ملكي.
فانظروا إلى هذه الفتنة. إنها فتنة المركز، فيصير ثاني اثنين في ملك بلاد الروم، فتنة يسيل لها لعاب أكثر الناس بطبيعتهم وفطرتهم البشرية، ولا يحمي النفس من هذا الموقف إلا الإيمان، فقال: والله لو كانت الدنيا لي بأسرها ما تركت شيئاً من ديني. فهذه فتنة وعقبة اجتازها عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، وما كان أحد يظن -إلا المؤمنون- أن عبد الله بن حذافة سوف يرفض ملك بلاد الروم وهو رجل مكبل بالأغلال مسكين جيء به من بعد سجن طويل ليتحول دفعة واحدة إلى أن يكون مشاطراً لقيصر الروم في ملكه، لكن الإيمان أقوى من ذلك، فانتظار الجنة والسعادة الآخرة فوق هذا المستوى كله.
فقال: ردوه إلى السجن، وزيدوا في عقوبته. فأعيد رضي الله عنه إلى السجن، وزادوا في عقوبته. ثم فكر أخرى فوصل إلى محاولة إسقاطه عن طريق الجنس، الذي يعرض على الناس اليوم بشكل مرعب ومخيف، وحينما يعرض الجنس لا يراد به فقط مجرد زنا -نعوذ بالله- أو مجرد انحراف خلقي، بل المقصود انحراف العقيدة؛ لأن الإنسان إذا سقط فيما حرم الله اضطربت عقيدته، وبعد عن الله عز وجل؛ ولذلك فإن من مخططات الكفار أن يَدَّعوا حقوق المرأة وحرية المرأة، وهم يهدفون من وراء ذلك أن يسقط الناس فيما حرم الله من الزنا، ثم يسقطون من عين الله، ثم تنهار دولتهم وينهار ملكهم وينهار سلطانهم في هذه الأرض.
فقال قيصر الروم: ائتوا لي بأجمل فتاة في بلادي. فاختاروا أجمل فتاة، وقالوا: هذه أجمل فتاة في بلادك. فقام وأغراها قاتله الله، وقال لها: إذا فتنت هذا الشاب فسوف أعطيك ما تريدين.
وهذه كلها مؤامرات ضد رجل مسلم، لكنه مسلم عظيم الإسلام، فجيء بهذه الفتاة أمام هذا الشاب الذي قضى أشهراً طويلة بعيداً عن أهله، وكانوا يظنون أنه في الحال سوف يقع في الفاحشة، ثم بعد ذلك تسهل قيادته إلى ملك الروم، فتعرت هذه الفتاة ودخلت على عبد الله بن حذافة وهو منكب يقرأ القرآن، فلما رآها عرف أنها فتنة، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! هذه هي الفتنة. ولكن قال: معاذ الله!
إنه مؤمن يريد سعادة في غير هذا المتاع، فهو يعرف أن هذا متاع ينتهي به إلى عذاب الله عز وجل، فأكب بوجهه على رجليه، وانصرف عنها إلى جهة أخرى، فصارت تتابعه، وكلما اتجه إلى جهة اتجهت معه إلى نفس الجهة، ثم ينصرف عنها هنا وهناك، حتى أيست منه، ورأت أن هذا الرجل ليس من النوع الذي من السهل فتنته، فقالت: أخرجوني. فلما أخرجوها قالت: والله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر؟ والله لا يدري أأنثى أنا أم ذكر. وبهذا فشلت المؤامرة الثانية.
إنه مسلم صعب المنال، لا يمكن تطويعه بسهولة أبداً؛ لأنه مسلم جاء من بلده يبحث عن الجنة، ويبحث عن الشهادة في سبيل الله، رجل باع حياة الدنيا بحياة الآخرة، ولا يمكن أن يتغلب عليه شيء ولو كان أقوى من قوة الحديد والنار، ثم فكر قيصر في حيلة أخرى فهدده بالموت، فقال: ائتوني بقدر يقول المؤرخون: فجيء بقدر عظيمة وملئت زيتاً، وأشعلت تحتها النار ساعات من الزمن حتى صار الزيت يغلي، ثم قال: ائتوني بـعبد الله بن حذافة . فجيء بـعبد الله وبرجلين من المسلمين رضي الله عنهم وعن المسلمين السابقين جميعاً، وأمر قيصر الروم بالأسيرين فألقيا في الزيت فخرجا عظاماً، وكان قيصر الروم يراقب عبد الله ، فسالت دمعة صغيرة من عين عبد الله رضي الله عنه، فظن المجرم أن عبد الله بن حذافة سوف يرجع عن طريقه، فقال: يا عبد الله ! خفت الموت؟ فقال: والله ما بكيت حينما رأيتني بكيت خوفاً من الموت، وإنما بكيت لأن لي نفساً واحدة تموت في سبيل الله، ولوددت لو أن لي بكل شعرة في جسمي نفساً تدخل هذا القدر وتموت في سبيل الله.
فقال: يا عبد الله! أريد منك أن تقبل رأسي وأطلق سراحك. فقال: بل وأسرى المسلمين جميعاً. فقال: نعم. وانطلق عبد الله إلى المدينة بمن معه من المسلمين، فلما قص على عمر رضي الله عنه قال: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله. وبدأ عمر فقبل رأسه. إنه رجل مؤمن تربى على مائدة الإسلام، فأصبح أقوى من قوة الحديد والنار، فماذا يفعل بهذا الرجل وهو الذي يريد الجنة ويريد الشهادة في سبيل الله؟ وماذا يريد هؤلاء؟ إنهم لا يستطيعون التغلب على هؤلاء المؤمنين، فهم أقوى من قوة الحديد والنار، وإذا أردنا دليلاً على ذلك فالسر في أرض أفغانستان، فأفغانستان ابتليت منذ سنين بعدو ملحد مجرم جاء ليفتن الناس عن دينهم، وجاء بكل قوى البشر، وبكل قوى الحديد والنار التي وصلت إليها التقنيات الحديثة، والمبيدات والأشياء التي منعت دولياً استعملت في أفغانستان، ومع ذلك رجع العدو خاسئاً؛ لأن قوة المسلمين أقوى من قوة الحديد والنار مهما كانت قوة الحديد والنار مرعبة ومخيفة.
وإما أن يكون ضعيفاً هزيل الإيمان، لا يقف إيمانه على قدميه، فيرجع من منتصف الطريق، فيخسر الدنيا والآخرة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى.
فمن ظن أن طريق الجنة طريق سهلة معبدة فعليه أن يراجع إيمانه، وعليه أن يقرأ القرآن بتفكير وتؤدة، قال عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، وقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [التوبة:16]، ونحو ذلك من الآيات.
ويقول خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار في مفرق رأسه، فيقسم إلى قسمين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، وكانت هذه جرعة قوية أعطت المسلمين قوة. ولقد أتي بـخبيب رضي الله عنه فرفع ليصلب، فقيل له: أتحب أن محمد مكانك وأنت في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن تصيب محمداً شوكة وأنا على هذه الحال.
ويؤتى بـبلال الحبشي رضي الله عنه ويبطح على حجارة مكة الحارة، وتزال ثيابه، وتوضع عليه الحجارة الحارة، ويعرضون عليه الكفر فيقول: أحد أحد. ويؤتى بـعمار بن ياسر وأمه وأبيه تحت العذاب، ويمر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
ونحن الآن ربما ندرك شيئاً من هذه الفتن، وهؤلاء الذين أصبحوا يحاربون المسلمين في دينهم من العلمانيين والمنحرفين هؤلاء هم نوع من الفتنة، فهل سنتحمل هذه الفتنة أو نضعف أمام هؤلاء؟ نسأل الله العافية والسلامة، فنحن لا نتمنى لقاء العدو، ولكن بعد أن رأينا العدو الآن له صولة وجولة فعلينا أن نستعين بالله، وأن نصبر، قال عز وجل: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127].
الجواب: هذا السؤال محرج، لكن لابد منه، وأرجو الله أن يعيننا على تحمل هذه المسئولية.
فأقول: إن جزيرة العرب أرض مقدسة طاهرة، يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان) ويقول: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، وهذه أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما كنا نتصور أن جزيرة العرب يجتمع فيها أكثر من دين، لكن حصلت ظروف قاسية وأمور لا يعلمها إلا الله عز وجل، فكان لها أثر في تواجد ملل، حتى أصبحت جميع ملل العالم تجتمع في جزيرة العرب، حتى البوذيين وحتى اليهود وعباد الصليب، نسأل الله العافية والسلامة.
وعلى كل فهؤلاء الكافرون ليس غريباً أن يقيموا أعيادهم؛ لأن هذه ملتهم، ولكن الغريب أن يقيموها في جزيرة العرب، وأغرب من هذا أن يشاركهم بعض المسلمين، كما سمعنا أن في بعض المستشفيات وبعض المراكز التي يختلط فيها المسلمون بغير المسلمين يجتمع بعض المسلمين مع هؤلاء الكافرين في أعيادهم، وهذا هو أخطر شيء في ذوبان الشخصية الإسلامية مع الشخصية الكافرة.
ولذلك نقول: ليس غريباً أن يسكر هؤلاء أو يزنوا؛ لأن الكفر فوق ذلك، وليس بعد الكفر ذنب، لكن نقول: لماذا يكون ذلك في بلاد المسلمين؟! وأنا سمعت أن الدولة أصدرت أوامر أنه لا يسمح لهؤلاء أن يقيموها في بلادنا أبداً، لكن نطالب المسئولين بحماية هذه القرارات، فهل هناك من يحمي هذه القرارات، أم أنها حبر على ورق؟ لا ندري. ولكن ربما يوجد في الهيئات من يقوم بمثل هذا الدور، ونسأل الله أن يعينهم، وإن كانت الهيئات قد فقدت كثيراً من تأثيرها في أيامنا الحاضرة.
أما بالنسبة لمشاركة المسلمين لهؤلاء الكافرين في أعيادهم فهذا خطر، وأخاف أن يكون ردة عن الإسلام؛ لأن الله تعالى يقول: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وقال: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113]، ولما فكر الرسول صلى الله عليه وسلم مرة من المرات أن يلين مع الكافرين ليناً بسيطاً من أجل الدعوة ومصلحة الدعوة قال الله تعالى له: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ[الإسراء:74- 75]، يعني: ضاعفنا لك العذاب في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة لو ملت شيئاً قليلاً.
وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يميل قليلاً من أجل مصلحة الدعوة، ولو فعل شيئاً من ذلك يذيقه الله تعالى ضعف الحياة وضعف الممات، فكيف بمصير واحد من المسلمين يريد أن يميل مع هؤلاء الكافرين لا لمصلحة الدعوة، وإنما لمصلحة الشهوة والحرام، ومع ذلك يميل ميلاً عظيماً كما يوجد في أيامنا الحاضرة؟!
فأنا أحذر المسلمين من أن يشاركوا هؤلاء الكافرين في أعيادهم أو في مناسباتهم، وقد أفتى كثير من العلماء البارزين في أيامنا الحاضرة بأن مشاركتهم خطر على دين هذا الإنسان.
وأنا أحذر كل الناس، وأخص بالذكر الذين يعملون في المستشفيات؛ لأن المستشفيات -مع الأسف- أصبح الآن فيها مئات الكافرات والكافرين من الممرضات والأطباء، فأنا أخاف على هؤلاء أن يذوبوا معهم، وأن يمتزجوا معهم في مثل هذه المناسبات.
فأقول لهم: اتقوا الله؛ لأنه يصاب دينكم بخلل، والله تعالى يقول: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113]، ويقول: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، ويقول: لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة:13]، ويقول: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ [المجادلة:14].
إن هذه أمور عظيمة تتعلق بالعقيدة، ولا تدخل في باب المعاصي، فالولاء والبراء من أصول العقيدة التي يؤدي تركها والمخالفة فيها إلى النار، وتؤدي إلى الخلود في النار في بعض الأحيان.
إذاً نحن نعتبر موالاة هؤلاء الكافرين ليست من باب المعاصي التي هي تحت مشيئة الله وإرادته، وإنما هي من باب العقيدة التي يقول الله عز وجل عنها: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] وباب الولاء والبراء يدخل في عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك، نسأل الله العافية والسلامة. ونسأل الله أن يعين الدولة ويهديها ويوفقها حتى لا يبقى في جزيرة العرب إلا دين الإسلام مرفوع الرأس، ولو سافرنا إلى بلادهم ما استطعنا أن نؤدي جزءاً بسيطاً مما يؤدونه، حتى الأذان يمنع في بلاد الكافرين، ونحن الآن في بلاد المسلمين نجدهم يعيشون مرفوعي الرءوس.
الجواب: لقد سمعت هذا الكلام أكثر من مرة، ولعله لم تكن هناك مخالفات، لكن لا أظن أن المخالفات تتوقف في أي وقت من الأوقات؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر:6]، فالعدو موجود ومستمر، لكن الشيء الذي نسأل عنه: أين حد الردة؟ ولماذا لم نسمع عنه؟ فمنذ سنين طويلة ما أقيم حد الردة في هذه الأرض، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدل دينه فاقتلوه)، فكم من الناس من بدل دينه؟! وكم من الناس من قال كلمات كفرية كبيرة؟! فلماذا لا يقام حكم الردة في الأرض؟ والحدود كلها يجب أن تقام على حد سواء، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولحد يقام في الأرض خير لهم من أن يمطروا أربعين خريفاً)، فالذين يهاجمون الإسلام ويطعنون في الدين، ويقول بعضهم: أنا لا أقول: إن تعدد الزوجات سنة، بل أقول: إنه فتنة. ونحو ذلك، فمثل هذا يريد أن يطعن في دين الله عز وجل، وينكر آيات من كتاب الله، فلماذا لا يسمى مرتداً في نظر المسلمين؟ ومن هو المرتد؟ المرتد هو الذي يبدل دينه، ونحن نرى الذين ربما يعترفون على أنفسهم أنهم لا يصلون، وكثيراً ما نفقد كثيراً من المسلمين في المسجد، ولا نراهم يصلون، وربما يعتذر بعضهم، فهؤلاء الذين يطعنون في دين الله مرتدون، وحكم الردة لا بد من أن يقام في الأرض، والمسلمون عليهم أن يطالبوا إقامة حد الردة كما يطالبون بحد شارب الخمر والقاذف والزاني إلى غير ذلك.
فحد الردة لم نسمع عنه في هذه الأرض منذ زمن طويل، وأما تعطيل بقية الحدود فلا علم لي به، لكن أطالب بإقامة حد الردة؛ والمرتدون الآن ربما كشفوا النقاب عن أنفسهم، فنحن نطالب المسئولين أن يقيموا حد الردة على مثل هؤلاء، وأن يسألوهم: هل هم مسلمون أو مرتدون؟ فإذا كانوا مرتدين فإن الله عز وجل قد أمر بقتل الذين يطعنون في هذا الدين، وسماهم الله عز وجل أئمة الكفر، وما قال: هم كافرون فقط. بل قال: هم أئمة الكفر، وذلك في قوله عز وجل: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ [التوبة:12]، وفي قراءة سبعية: (إنهم لا إيمان لهم).
فالردة موجودة في كثير من بلاد المسلمين، والذين يطعنون في دين الإسلام كثيرون ومنكشفون في هذه الأيام، فنحن نطالب بكل هذه الحدود بما في ذلك حد الردة، وهذه الدولة هي الوحيدة في الأرض التي تقيم هذه الحدود، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقها أن تكمل هذا المشوار وترينا ما تفعل بهؤلاء المرتدين كما تفعل بشارب الخمر وغيره، والله المستعان.
الجواب: الشورى أصل من أصول هذا الدين، كما قال تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، وقال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، ولكن لا نصل إلى ما يسمونه في العصر الحديثة بالديمقراطية؛ فإنها هي الفوضى الضاربة في الأرض الآن، وهي ما يسمونه (حكم الشعب للشعب)، وهذه الشورى يجب أن تكون للعقلاء في كل أمة، والعاقل في نظرنا وفي نظر الإسلام هو الرجل المؤمن العالم الذي ينطلق من منطلق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان هناك مجلس للشورى فلا أظن أنه لا يكون لأهل الحل والعقد من العلماء والصالحين، ولكن لو كان لغير هؤلاء فإن المصيبة والبلية تكمن وراء ذلك، ولكن -إن شاء الله- لنا أمل في هذه الدولة أن لا يكون في مجلس الشورى هذا إلا أصحاب الحل والعقد من العلماء والصالحين والذين لهم سابقة إصلاح في هذه الأمة، والذين شهد لهم القرآن وشهدت لهم السنة وشهد لهم التاريخ أنهم هم الذين يقودون سفينة حياة الناس إلى ساحل النجاة.
أما لو كانت الشورى -نرجوا الله العافية والسلامة- وكان الذين سيتولون قيادة مجلس الشورى من غير هؤلاء الصالحين فالأمر خطير جداً، وأرجو أن لا يكون هؤلاء الذين بدءوا يبرزون الآن في أيامنا الحاضرة يؤهلون أنفسهم ليكونوا أعضاء لمجلس الشورى، فهم يلمعون أنفسهم الآن، ولا تمر صحيفة ولا أي وسيلة من الوسائل إلا ولهم مقال، فأخشى أن يكون مثل هؤلاء يؤهلون أنفسهم، ويريدون أن يلقوا الأضواء على أنفسهم ليكونوا أعضاء.
فنحن نرفض هؤلاء، ونرفض كل مجرم ونرفض كل إنسان ليس من أصحاب العقل والدين أن يكون في مجلس الشورى، ونثق بالله عز وجل، ثم بحكومتنا التي فكرت في تأسيس مجلس الشورى أنها لا تضع فيه -إن شاء الله- إلا هذا النوع من الصالحين، ولن تضع فيه أحداً من هؤلاء الفسقة؛ لأن هؤلاء سوف يجرون سفينة الحياة إلى أن تتحطم، نسأل الله العافية والسلامة.
الجواب: إذا كان الأمر أمر دفاع فالمسلم عليه أن يدافع عن بلد الإسلام، وعن دينه وعقيدته ومقدساته مع من كان، لكن يا حبذا لو كان هذا الجيش صافي العقيدة، مؤمناً بالله عز وجل، ولكن:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها
فنقول لأي واحد من المسلمين: عليك أن تدافع عن هذا الدين وعن هذا الوطن الذي هو وطن الإسلام، وتدافع عن هذه المقدسات ضد من كان من هؤلاء الناس، ولا تتوقف، ولا تقل: سأتوقف لأن فلاناً كافر أو لأن هناك قيادة بأيدي غير المسلمين. فإن توقفك سوف يفتح ثغرة إلى أن تضيع بلاد المسلمين، نسأل الله العافية والسلامة.
وهذا شيء مشاهد في تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لما هاجر إلى المدينة عقد صلحاً وحلفاً مع اليهود، مع أن اليهود أعداء ألداء للإسلام، وأنا لا أقول هذا الكلام مبرراً الموقف الذي حصل، وإنما أريد أن أعلم الناس كيف يدافعون عن هذه البلاد، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم اتفق مع اليهود أن يدافع اليهود والمسلمون في آنٍ واحد عن أي اعتداء على المدينة، حتى قويت شوكة المسلمين فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود، وأصبح الأمر كله بيد الله تعالى ثم بأيدي المسلمين.
فأقول: لو هجم عدو على هذه البلاد فيلزم المسلمين جميعاً أن ينفروا خفافاً وثقالاً ليجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ليحموا هذا البلد الطاهر وهذه المقدسات، ولا يهمهم أن يكون هناك من الكافرين أو من شذاذ العالم من يشاركهم في هذه المهمة.
الجواب: التطوع مسموح به منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، فلا تنظر إلى أي عراقيل تقف في طريقه، قال عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، فهل تريد أوامر أعظم من هذه الأوامر؟! ليس هناك أوامر أعظم من هذه الأوامر، وهل تريد البشر أن يقولوا: مروا أو لا تأمروا؟! هذه أشياء لا تتوقف من أجلها، فمعك أوامر من الله عز وجل، فامض في هذا السبيل بناءً على أوامر الله عز وجل.
لكن لابد من أن يكون لهذا الأمر تنظيم، وأنا أوافق على وضع التنظيم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا أقصد بالتنظيم أن ننتظر حتى يقال لنا: مروا أو توقفوا. وإنما أقصد بالتنظيم أن لا يدخل في هذا الميدان إلا الذين يضبطون توازنهم والذين عندهم غيرة وعندهم علم يستطيعون من خلاله أن يعرفوا بأن هذا منكر وأن هذا معروف، وأن إنكار هذا المنكر لا يجر إلى منكر أكبر من ذلك، فهناك علم، وهناك حكمة، وأنا -أيضاً- لا أقصد بالحكمة اللين، وإنما أقصد بالحكمة وضع الأمور في مواضعها.
فإذا توافرت هذه الشروط فلا تنتظر -يا أخي- من البشر أن يقولوا لك: مر أو لا تأمر. أو: انه ولا تنه. وإنما عليك أن تأخذ أمر الله عز وجل (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ)، فاللام هنا لام الأمر، وهي التي تحول الفعل المضارع إلى الأمر، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، وقال عز وجل: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [الحج:78]، كل هذه أوامر لابد من أن تُنفذ وأن تطبق في حياة البشر.
الجواب: أما عن كلمة (لماذا) فالجواب بأمور:
الأمر الأول: أن كثيراً من المسلمين تأخر عن العمل في هذا الميدان، ومنهم من كره العمل فيه، وحق له أن يكره بعدما تبين الرشد من الغي، ولكن أقول: لو استطعت -يا أخي- أن تقدم فكرة أو كلمة صالحة لعل الله سبحانه وتعالى أن يشل بها حركة المفسدين فإنك مطالب بذلك.
الأمر الثاني: أن هؤلاء العلمانيين سبقونا إلى هذه الأمور، فسيطروا على جزء منها أو على كثير منها، فأصبح الأمر ليس بأيدينا، ولو كان لنا الخيار ما كنا نسمح لهؤلاء أو نقبل بأن يعيثوا في هذه الأرض فساداً، ولكن نقول لهؤلاء الناس: احذروا هذه الوسائل بمقدار ما تشاهدون فيها من فتن وبلاء ومصائب، وردوا عليها، وإذا كان هؤلاء العلمانيون يسيطرون على كثير من وسائل الأعلام فعندنا منبر أعلى من هذه كلها، وهو منبر المسجد الجامع، فالحمد لله إذ المسلمون بخير الآن، ولا يتخلف عن صلاة الجمعة منهم إلا النزر القليل من الذين لا نصيب لهم في هذا الدين.
فعلينا أن نستغل هذه المنابر من أجل أن نبطل مفعول هذه الدعايات المضللة التي ترد في وسائل الأعلام، ومن أجل أن نقول كلمة الحق.
لكن لا تظن أني أدعو إلى تفجير الأمور تفجيراً، وإنما أدعو إلى الحكمة، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها.
وأقول: عندنا كلمة الحق، ولا يمكن أن نسكت أبداً، فإذا حرمنا من الصحافة أو حرمنا من الإذاعة أو من التلفاز فإننا نكون على الأقل قد استفدنا فائدة وهي أننا نزهنا كلام الله أن نضعه بجوار الأغاني والمسرحيات، وعندنا المنبر الذي يجب أن نقول من خلاله كلمة الحق، وأن نقول للناس: هذا حق وهذا باطل. وعندنا مراسلة المسئولين وكبار المسئولين في الدولة أو زيارتهم إن أمكن، ونقول لهم: اتقوا الله. ونقول لهم بلسان المقال: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29]، فإن قبلوا هذه الكلمة فهم في خير، وإن ردوا هذه الكلمة وقالوا: السجون السجون -كما يحدث في بعض الأحيان- فنقول: إن الله عز وجل يقول: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ [البقرة:206].
ولكن -يا أخي- إذا كنت تخاف من السجون ولا تخاف من الأذى في ذات الله فاعلم أن خير خلق الله عاشوا مدة من الزمن في السجون، فيوسف عليه الصلاة والسلام لبث في السجن بضع سنين، وموسى يقول له عدو الله: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، ونحن لا نتمنى لقاء العدو، ولا نرغب في الإهانة، لكن نرحب بها إذا كانت في ذات الله، وإذا لم يكن لنا سبيل إلا هذه العقبة التي تقف بيننا وبين كلمة الحق فنحن نرحب بها ولا نخاف منها أبداً، ونعتبرها خلوة مع الله عز وجل، حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين.
الجواب: والله إن هذا يحز في النفس، وعجيب أن يُقدم القرض لدولة تحارب الإسلام في أفغانستان والشعب يقدم المساعدات للشعب الأفغاني الذي يجاهد في سبيل الله بأفغانستان! فهذا يُعتبر عدم تنسيق في الأمر، لكن ربما -إن شاء الله- يكون هذا القرض لإسكات فتنة أو لمصلحة أخرى، ولا أستطيع أن أذكر سبب هذا القرض؛ لأني أجهل هذا الأمر.
فالمهم أنه لا يجوز أن يستفيد الكافرون من أموال المسلمين، فالمسلمون يذبحون في بلاد الهند بأموال المسلمين، سواء أكانت قروضاً أم كانت أجور عمال ممن نأتي بهم من البوذيين والسيخ والكفرة ونعطيهم الأموال، ونقول: هؤلاء خير من المسلمين. ثم يذبحون بها المسلمين في بلاد الهند وغيرها.
فلابد من أن ينفق هذا المال فيما يرضي الله عز وجل، وإذا أنفق في غير ما يرضي الله فالأمر خطير، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قوماً يتخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة)، فإذا أنفقت مالك -يا أخي- فعليك أن تنظر كيف تنفق هذا المال، سواء أكان على مستوى الدولة أم على مستوى الأفراد، قال صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره: فيما أفناه، وعن شبابه: فيما أبلاه، وعن ماله: من أين أكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به؟).
فلعل الدولة -إن شاء الله- لها هدف طيب، لكن نقول: إن أعداء الإسلام يحاربوننا بأموالنا، فاتقوا الله ولا توصلوا إليهم هذه الأموال، واحذروا من سخط الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى يغار على دينه، أسأل الله تعالى أن يوفق القادة إلى أن ينتبهوا لهذا الأمر، لكن هم في الحقيقة ما أخذوا لنا رأياً في هذا، ولربما تكون لهم وجهة نظر، ووجهة النظر هذه لا ندري أهي مصيبة أم مخطئة، وربما تكون وجهة النظر في مثل هذه الأيام أن العالم كله قد تكهرب، فهم يريدون أن يهدءوا فتنة، فنحن لا ندري ما الهدف من وراء ذلك.
الجواب: العلماء ما أظن أنه أخذ لهم رأي، بل أنا متأكد، ولا طلب من هيئة كبار العلماء ولا من هيئة الاستفتاء ولا من عامة العلماء أن يفتوا في جواز هذا أو عدم جوازه، وربما يقول المسئولون: إن هذا الشيء إجباري لا نستطيع أن نسيطر عليه؛ لأنه من خلال الأقمار الصناعية. ولكن نقول: تستطيعون أن تشوشوا عليه كما يُشوش على أي إذاعة تريد أن تمسنا بسوء، فما يمس أخلاقنا أهم مما يمسنا في أي شيء آخر.
فنقول: لابد أن يوضع سياج وأجهزة تحول بيننا وبين هذه الأشياء المحرمة، لكني لا أدري هل سيحدث أكثر مما يوجد الآن، فما دام أنَّه الآن يوجد رقص وأغانٍ ومسرحيات في التلفاز الموجود في دول الخليج فأنا لا أتوقع أنه سوف يوجد شيء جديد أو أكثر مما يوجد، اللهم إلا شيء نادر، فلعل المسئولين -إن شاء الله- يضعوا بيننا وبينها السياج المنيع، لكن الحل الذي تملكه أنت وأملكه أنا ويملكه كل مسلم أننا لسنا مجبرين على هذه الوسائل الموجودة داخل البيوت، فلماذا -يا أخي- يوجد التلفاز في بيتك؟! أنت لست مجبراً، بل أنت حينما تفعل ذلك تخاطر بأسرتك بمجموعها أمام هذه الفتن.
فهل تدخلها في بيتك وتقول: لماذا يأتي هذا الشيء بهذا الشكل؟ أنت تملك بيتك وتسيطر على بيتك، ولا أحد يجبرك على التصرف داخل بيتك، فإذا لم تستطع أن تطوق المنطقة كلها فطوق بيتك بحماية منيعة، وعسى الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً.
الجواب: لا أريد أن أتشاءم، فالأحوال سيئة هناك، فهناك الفقر والمجاعة والفتن والتنصير، ففي دولة إسلامية يوجد أكثر من ألف مركز للتنصير، وفي دولة إسلامية أخرى ليست في أفريقيا تنصر فيها في السنوات الأخيرة اثنا عشر مليون مسلم بسبب الفقر والمجاعة والدعايات المضللة، وهناك دولة من الدول الإسلامية فيها أكثر من ثمانين مطاراً للتنصير وأكثر من مائة طائرة للتنصير، فماذا قدم المسلمون لهداية المسلمين؟! لم يقدموا إلا الشيء القليل، ونحن لا نجردهم من ذلك.
أما بالنسبة لأفريقيا فهي بلاد فيها أكثر من مائتين وخمسين مليون إنسان تهددهم المجاعة، وأكثرهم من المسلمين، والتنصير استغل هذه الفرصة فجاء بالأطعمة وبالخيام وبالخيرات، والمسلمون نيام، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ هذا الدين، بل إن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين، لكني أخاف على المسلمين ولا أخاف على الدين؛ فإن هذا الدين محفوظ، فأخاف على هؤلاء المسلمين أن يبخلوا بهذا المال وبالجهد وبالدعوة، ولكن يقول الله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
الجواب: هذا شيء طيب، لكن أفضل من ذلك لو أن الصحافة كلها صارت بأيدي أناس صالحين وبأيد أمينة، وتصير -على الأقل- تفتح مجال الصراع بين الحق والباطل، وتنشر كلمة الحق كما تُنشَر كلمة الباطل، وأذكر أنه في مرة من المرات كتب أستاذ في الجامعة في إحدى صحفنا البارزة هنا، وقال: النصارى إخواننا، ومن جهلنا أن نكفر النصارى .. إلى آخر ذلك الكلام الذي لا يقوله أجهل خلق الله، فحاولت أن أرد على هذا الكاتب، ولا أقول: (الأخ) لأني أشك في إيمانه ما دام أنه يقول هذا الكلام؛ لأن هذه ردة، فهو بهذا أنكر القرآن الذي يقول: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة:51]، وأنكر القرآن الذي يقول: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:72]، وهو يقول: هم إخواننا؛ لأنهم أصحاب كتاب سماوي.
فقال لي رئيس التحرير: أنا لا أستطيع أن أنال من أستاذ في الجامعة. فقلت: سبحان الله! تستطيع أن تنال من دين الله عز وجل، وتشكك الناس في دين النصارى الذي هو كفر بالله عز وجل، ولا تستطيع أن تنال من أستاذ في الجامعة!
فمثل هذا قد سقطت قيمته؛ لأنه أصبح يجهل، وهذا من الأمثلة ومن الدروس التي تمر بنا.
وعلى كل يجب أن نزاحم هؤلاء إن استطعنا، وإذا لم نستطع فعلينا أن نستغل المنبر؛ لأن المنبر نملكه، وهو وسيلة إعلامية -والحمد لله- من أفضل الوسائل، لكن أقول أيضاً: باتزان وبانضباط، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف كيف يتكلم، فكان يقول: (ما بال أقوام؟) والناس يفهمون حينما يتحدث عن صفات الرجال، ويعرفون أولئك الرجال، لكن حينما لا يكون هناك بد من أن نرد على شخص من الأشخاص الذين اشتهرت أسماؤهم في الأرض فلابد من أن نقول كلمة الحق، وأن نذكر هذا الإنسان باسمه عند الضرورة.
الجواب: هذا صحيح، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: (ما بال رجال؟)، ويجب أن نقول: ما بال رجال؟ لكن الله سبحانه وتعالى قال: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]، فلما انكشف المنافقون في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يقوم فلان، ويقوم فلان- ويسميهم بأسمائهم- من المجلس؛ لأن الله تعالى قد وصفهم، واتضح له الأمر.
فحينما لا يكون بد من التصريح باسم رجل اشتهر بالإفساد في الأرض، الذي يقول: العلماء نرجوا بركتهم ودعاءهم ولا نستفيد منهم!
فهؤلاء العلمانيون حقيقة هم لا يرجون حتى بركتهم، وأظنهم لا يرجون بركة أبداً، ولا يفكرون في هذه البركة.
فأقول: إذا انكشف الأمر ووصل إلى هذا الحد فلابد من أن تكون للمسلمين قوة، ولابد من أن يكون للمؤمنين كيان، فنناشد الدولة بالله -وهي دولة إسلامية تنطلق من منطلق إسلامي- ونقول: هناك زحف من الشباب الذي أصبحنا أمامه كوابح، وهم يأتوننا بكرة وعشية، ويقولون: أعطونا فتوى نفعل ونفعل. ونقول لهم: اتقوا الله وحافظوا على الأمن، فالملك عبد العزيز رحمه الله ظل خمسين سنة يرسي القواعد الأمنية، فلا تفسدوا علينا أمننا في لحظات، واضبطوا توازنكم.
فنقول: إذا لم توقفوا مثل هؤلاء الذين ينالون من دين الله جهاراً نهاراً فلن نستطيع أن نوقف هذه القوة التي أصبحنا الآن كوابح أمامها حتى لا تفسد الحرث والنسل.
فنقول للمسئولين: اتقوا الله، أنتم في عافية، فبأي شيء تعتذرون بين يدي الله عز وجل لو وقفتم بين يديه وسألكم: لماذا أعطيتم فلاناً الأهلية ووليتموه السلطة؟ أتوالون أعداء الله؟ فاتقوا الله سبحانه وتعالى، واعلموا أنكم حينما تولون فلاناً وفلاناً في مناصب الدولة وفي الأمور المهمة وهو يحارب الله عز وجل فإنكم ساعدتموه في حرب الله عز وجل حينما تولونه منصباً، أو حينما تعطونه أهلية، أو حينا تفتحون له صفحات الصحف والمجلات، نقول ذلك لهؤلاء المسئولين، وأظنهم -إن شاء الله- لن يتأخروا؛ لأنهم يبحثون عن الحق، وسوف يغيرون إن شاء الله، أما إذا لم يغيروا فالأمر كما قيل:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها
فربما تنطلق المجموعات من الشباب الثائر الغاضب لدين الله عز وجل، فيحدث خلل في هذا الأمن الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظه لنا، فالعالم كله يعيش في خلل واضطراب إلا بلادنا والحمد لله، فقد حماها الله سبحانه وتعالى بتطبيق شرع الله، فأصبحت تعيش آمنة مطمئنة، وجعل الله لها حرماً آمناً، ويتخطف الناس من حولها.
وأنا أقول للمسئولين: اتقوا الله وأوقفوا هؤلاء المفسدين في الأرض عند حدودهم، وإلا فأخاف أن يحدث أمر لا نملكه نحن ولا أنتم، والشاعر يقول:
أرى خلل الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام
وإن لم يحمهـا عقلاء قومي يكون وقودها جثث وهام
فأنا أخشى أن تنطلق هذه المسيرة كما انطلقت في بلاد مجاورة، فلا يستطيع أحد أن يضبطها؛ لأنها تغضب لله عز وجل، والإنسان إذا غضب لله عز وجل لا أحد يستطيع أن يقف في وجهه أبداً في أي من الأحوال.
فنقول: إن لم تسكتوا أولئك فأخاف أن لا نستطيع نحن أن نضبط الأمور، فالشباب من ورائنا يطلبون منا الفتوى ليشيعوا الفوضى في الأرض، وأنتم لا تستطيعون ضبطهم؛ لأنهم أناس تحركوا لدين الله عز وجل، وكل إنسان نستطيع أن نجبره أو نوقفه عند حده إلا إنساناً غضب لدين الله، فأخشى أن لا نستطيع إيقافه عند حده، أقول هذا وأنا واثق كل الثقة بأن الدولة تبحث عن الحق إن شاء الله، ففيها خير كثير.
الجواب: العلماء ما سكتوا، بل هم ينكرون بمقدار ما يستطيعون، والحمد لله، فالمنابر الآن تهز الأرض، والعلماء بمقدار ما يعطون من الضوء الأخضر يقولون، لكن حينما يسرج النور الأحمر فأكثر الناس يخاف منه؛ لأنه علامة الخطر، ونحن نقول للأخ السائل: أعطنا الضوء الأخضر ونستطيع أن نقول كلمة الحق أكثر من ذلك، وحكامنا -والحمد لله- هم أول من يقبل كلمة الحق، فهم فتحوا أبوابهم، ونحن نزورهم بين فترة وأخرى ونذكر لهم الحلول، ونذكر لهم تاريخ البشرية، وماذا حدث في تاريخ البشرية من الخلل بسبب وجود مفسدين في الأرض، وسوف نذكر لهم هذه الأشياء، وهم -إن شاء الله- لا يتركون هذا الأمر يستمر أكثر مما هو عليه الآن.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر