أما بعد:
فإن الحديث في هذه الليلة عن عظمة هذا القرآن العظيم الذي أنزله الله تعالى حجة لهذه الأمة أو حجة عليها، والله تعالى يقول: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:43-44].
أما قوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ) فإنه يختلف عن قوله تعالى: فأمسك؛ لأن الإمساك أقل من الاستمساك، والاستمساك معناه: العض عليه بالنواجذ، وأخذه بقوة، كما قال تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12].
والله عز وجل أمر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وأمر هذه الأمة عامة أن تستمسك بهذا القرآن، وأن تعض عليه بالنواجذ، وأن تحمله حملاً يختلف عن حمل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل؛ ذلك أن هذا القرآن العظيم هو خاتم الكتب السماوية، وأن حامله محمداً صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء وخاتم الأنبياء، وأن أمة القرآن هي آخر الأمم، فهي مسئولة عن حمل هذا القرآن وتبليغه للعالم أجمع في أرجاء الدنيا، وذلك جيلاً بعد جيل.
إذاً: هي مسئولية عظيمة، فيلزم هذه الأمة أن تستمسك به استمساكاً قوياً متيناً؛ حتى لا ينفلت منها.
والصراط المستقيم في قوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الطريق الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج، فدين الإسلام صراط مستقيم يبدأ في الدنيا، وينتهي في الجنة، كما قال سبحانه وتعالى عنه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
وأنت يا أخي المسلم! في كل ركعة من صلواتك الخمس ونوافلك تسأل الله عز وجل أن يهديك هذا الصراط المستقيم الذي هو طريق الإسلام، وهو الطريق الذي يوصل إلى الجنة، فتقول في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] وهم المسلمون، أي: ليس بصراط اليهود المغضوب عليهم، ولا النصارى الضالين.
إذاً: من استمسك بهذا القرآن فهو على صراط مستقيم.
والمراد (بالذكر) هنا: الشرف على أصح أقوال المفسرين، فهذا القرآن شرف لهذه الأمة.
هنا يتخطف المسلمون من أرضهم ليكونوا قادة العالم، وليقف عقبة بن نافع رحمة الله عليه وهو في بلاد شمال أفريقيا ينشر الإسلام، ويفتح البلاد، فوقف على حافة غابة القيروان -وهي غابة موحشة وأرض مسبعة- حين أراد أن يبني مدينة القيروان الحالية في تونس لتكون مركزاً للمسلمين في تلك البلاد، فقال له أهل البلاد: يرحمك الله يا عقبة ! كل الفاتحين يرجعون دون هذه الغابة؛ لأنها أرض مسبعة، فقال: والله لا أرجع حتى أبني فيها مدينة تكون مقراً للمسلمين هنا، ثم وقف رحمة الله عليه على حافة الغابة وخاطب سباعها ووحوشها قائلاً: أيتها السباع! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا هنا لنشر الإسلام، فقال شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها من الغابة تخليها لـعقبة بن نافع ليبني فيها مدينة القيروان. ثم يواصل السير إلى أن يصل إلى بلاد المغرب، ثم إلى المحيط الأطلسي ليغرز قوائم فرسه في ماء المحيط ويقول: والله الذي لا إله غيره! لو أعلم أن وراء هذا الماء -أي: ماء المحيط الأطلسي- أقواماً لخضته على فرسي هذه إليهم.
هكذا حصل المسلمون على الشرف، والذين اعتنقوا هذا الدين أدركوا هذا الشرف الذي يقول الله عز وجل عنه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44] أي: شرف، ولذلك فإن الله عز وجل أكرم من أكرم من صناديد العرب وغيرهم بهذا الدين، ونقلهم نقلة عظيمة من عالم إلى عالم أعظم، فأصبح أهل مكة وأهل المدينة وأصبح العرب بصفة عامة هم قادة العالم، وهذا من الشرف الذي أكرم الله عز وجل به هذه الأمة حينما أخذت بهذا الدين، ثم ما زال هذا الشرف تتوارثه أجيال إثر أجيال في هذا العالم وعلى هذا الكوكب، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولا تزال أمة إثر أمة تملك زمام الأمور، وتستقر لها الأوضاع، وتسود العالم، وتثبت عروشها بمقدار ما تأخذ من هذا الدين، وبمقدار ما تتمسك به، وبمقدار ما تستنير به من نهج كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هذا الشرف وهذا الذكر الذي أشار الله عز وجل إليه في هذه الآية ليس لجيل من الأجيال، ولا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فحسب؛ بل هو شرف وذكر لكل من رفع راية الإسلام، واستنار بنور القرآن.
ولربما تسأل الأمم قبل الأنبياء، بل لابد من ذلك؛ لأن الله تعالى قدم سؤال الأمم على سؤال الأنبياء فقال سبحانه وتعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي: الأمم وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، فكما أن المرسلين تحملوا مسئولية، فإن الأمم أيضاً تتحمل مسئولية لاسيما في أمة الإسلام التي يقول الله عز وجل عنها: أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، فهي لم تخرج لنفسها وإنما أخرجت للناس.
وأيضاً: فإن أمة الإسلام قد أعطيت من الميزات ما لم تعطه أمة من الأمم، فهي آخر الأمم، ونبيها محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، وهو عليه الصلاة والسلام أول من يأخذ بحلقة الجنة، وأمته أكثر الأمم دخولاً الجنة، وهو عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين؛ فلا نبي بعده، وأعطي خمساً لم تعطها أمة من الأمم، كما أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم في قوله: (أعطيت خمساً لم تعطها أمة قبلي..).
وعلى هذا فإن مسئولية هذه الأمة عظيمة، وكما أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن أنها أمة مشرفة، وأمة مكرمة؛ أخبر كذلك أنها أمة ذات مسئولية كبيرة، وذات عبء ثقيل، وهذه المسئولية سوف يسأل عنها كل واحد حسب موقعه في هذه الحياة: الملوك والقادة والرؤساء عليهم مسئولية؛ لأن الله تعالى يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، ومن دونهم ممن يتحملون مسئولية الأمم هم أيضاً يتحملون هذه المسئولية، وهم داخلون في قوله تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ) بمقدار ما لهم من السلطة، وأنا وأنت يا أخي! وكل واحد من المسلمين أيضاً على ثغر من ثغور الإسلام؛ لأن أي أحد منا يؤمن إيماناً لا يخالطه شك أنه لن يبعث في هذه الأمة نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولن ينزل عليها كتاب بعد القرآن، ولن تنزل عليها ملائكة من السماء تدعو إلى الله عز وجل، ولكنها المسئولية التي أحيطت بعنق كل واحد منا: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [الحج:78]، وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44].
إن الذين يموتون على الكفر في أيامنا الحاضرة سوف نسأل عنهم بين يدي الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، ولن يبعث رسول بعده صلى الله عليه وسلم، ولكن أمته هي التي تحمل هذه الرسالة، فهؤلاء سلفنا الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ عددهم مئات الآلاف، وكان عدد الذين حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مائة ألف وأربعة عشر ألفاً، ومع ذلك لا نجد قبورهم في مكة والمدينة إلا قليلاً، فأين قبورهم؟ لقد تفرقت قبورهم في الأرض؛ لأنهم خرجوا يرفعون راية الإسلام وينشرون هذا الدين، ويبينون للناس طريق الجنة، ولذلك فإن قبورهم في كل مكان من الأرض، ثم بعد ذلك ارتفعت راية الإسلام بفضل الله عز وجل، ثم بسبب جهود سلفنا الصالح رضي الله عنهم الذين حثوا الخطى، وضربوا آباط الإبل حتى نشروا الإسلام في هذه الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
هذه مسئولية يجب أن يفهمها كل الناس حتى يكون هناك شعور بالواجب.
والمسلمون في غفلة عما يحدث في هذا العالم، وبلدنا هذه -والحمد لله- أرض التوحيد والعقيدة، وأرض الوحي، والأرض التي عاش فيها خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم، قد حفظها الله عز وجل من هذه الأمور، ولكن أين المسئولية التي يقول الله عز وجل عنها: وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]؟ ولو انطلق أهل هذه البلاد -أرض التوحيد والعقيدة والإيمان والنور- إلى أرجاء العالم يبلغون دعوة الله تعالى، وينشرون دين التوحيد مرة أخرى من جديد؛ لما كان يوجد في العالم عشرون ألف ضريح تعبد من دون الله تعالى.. (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ).
أما أعداء الإسلام فعلى الرغم من أنهم لم يتحملوا هذه المسئولية، إلا أنهم يحثون الخطى في أرض المسلمين لينصروا المسلمين، حتى لقد رأينا في دولة إندونيسيا وحدها -وهي الدولة المسلمة التي يوجد فيها أكثر عدد من المسلمين- أكثر من مائة مطار للتنصير، وما يزيد عن مائة وخمسين طائرة مجهزة بكل الوسائل؛ وذلك لدعوة المسلمين إلى النصرانية.
إذاً: لا تعجب من أن يتنصر فيها ما يزيد عن اثني عشر مليوناً من المسلمين، ويتركوا دينهم. فالمسئولية كبيرة، وحمل هذا القرآن في مجاهل أفريقيا وفي العالم كله هي مسئولية العلماء والدول الإسلامية، وكل من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
إذاً: يا أخي المسلم! كما أن القرآن شرف لي ولك وللعالم كله، وبصفة خاصة للذين أنزله الله عز وجل بلغتهم فقال سبحانه وتعالى بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195]، وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4] أي: بلغة قومه ليبين لهم، فشرفنا الله عز وجل نحن العرب بصفة عامة، وأهل الجزيرة بصفة خاصة، بأن أنزل القرآن بلغتنا، فأصبحنا نفهمه فهماً جيداً دون كلفة أو مشقة، فهو أيضاً مسئولية حملنا الله أمر تبليغها؛ حتى يفهم العالم كله هذا الدين.
واعلم أن ما يحدث من عداء لهذا الدين من قِبَل أعداء الإسلام إنما هو بسبب تفريط هذه الأمة، وضعفها في تبليغ هذه الرسالة.
أيها الإخوة الكرام! إن هذا القرآن العظيم قد أعجز الله فيه أرباب البلاغة والفصاحة، ولو ترجمناه -أي: نقلناه- بلغات هذا العالم، وفهم الآخرون حقيقته؛ لما وجدنا من يعادي هذا الدين؛ لأنه دين يوافق الفطرة، ودين لا يقبل الله عز وجل يوم القيامة سواه، ولو أفهمنا هذا العالم حقيقة هذا الدين، وعلمناهم هذا الكتاب العظيم الذي أنزل علينا وعليهم، ومنهج الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وعلم العالمون كلهم أن محمداً عليه الصلاة والسلام إنما هو رحمة لكل العالم كما قال الله عز وجل عنه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]؛ لأنه ينقذهم من النار ويدخلهم الجنة، لو علم العالم هذه الحقيقة لما انتفخ الكفر في أيامنا الحاضرة، ولما شعر المسلمون في كثير من أرجاء هذا العالم بالضعف والذلة.
ولا أزال أتذكر كلمة لأخٍ لنا في الإسلام، وهو أمريكي، كان يتحدث في أحد المساجد ذات يوم، فكان يخاطب الحاضرين ويقول لهم: السلام عليكم أيها الظالمون! أنتم ظلمة أيها المسلمون. ويقول: نحن الأمريكان صنعنا الطيارة والسيارة، وصنعنا الثلاجة والغسالة وجميع وسائل الراحة، وأرسلناها لكم؛ لأنها كل ما نملك، وهي ثروتنا، ولربما تتمتعون بها أكثر مما نتمتع بها نحن، أما أنتم أيها المسلمون! فلديكم الإسلام منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، وفيكم بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وما بلغتمونا دعوة الإسلام في أمريكا، ولقد مات أبي وجدي وأمي وجدتي وكثير من الناس على غير الملة، إذاً أنتم ظلمتمونا حينما لم تبلغونا دعوة الإسلام. ثم يستطرد هذا الأخ الكريم ويقول: بلغونا دعوة الإسلام، فليس الإسلام ملكاً لكم أيها العرب -أو أيها المسلمون- ولكنه للعالم كله، فبلغوا دعوة الإسلام في بلادنا، ثم قال بعد ذلك: قفوا! نحن لا نحتاج إلى تبليغكم، فإن الإسلام ينتشر عندنا في أمريكا أكثر مما ينتشر في البلاد الأخرى؛ لأن الأمريكان يقول: بدءوا يتعقلون ويفكرون في الأمور، فصاروا يدخلون في دين الله، حتى بلغ عدد المسلمين في أمريكا أكثر من عشرين مليوناً في أيامنا الحاضرة، ثم قال: نريد منكم شيئاً واحداً فقط، وهو ألا تكون هناك ازدواجية في بلادنا بسببكم، فنحن بدأنا ننشر الإسلام في أمريكا ونقول: إن الإسلام يحرم الخمر والزنا والخنزير وكل المحرمات، فيرون بعض أبنائكم الذين جاءوا من بلاد العرب يفعلون هذه الأشياء، فلا يصدقوننا في أن الإسلام يحرم هذه الأشياء، فامنعوا عنا أبناءكم؛ فإن ذلك أفضل دعوة تقدمونها لنا. هكذا يتحدث هذا الأخ الكريم، نسأل الله لنا وله الثبات ولأمة الإسلام كلها.
فهي يا أخي الكريم! مسئولية عظيمة تنتهي بأن تقدم نفسك ومالك ودمك من أجل هذا الدين، وفاء بالبيعة التي أبرمتها مع الله عز وجل في التوراة والإنجيل والقرآن، أي: في كل الكتب السماوية صُدِّقت هذه البيعة، فأصبحت أمراً لا بد منه، لا سيما في مثل هذه الظروف التي نعيشها، والتي لا أعتقد أنه مرّ في تاريخ البشرية أقسى منها على الأمة الإسلامية عبر التاريخ الطويل، وسوف أذكر لكم بعض الأمثلة:
هل تصدق يا أخي! أن بعض الأيام تمر -بل أكثر الأيام- ويقتل في بلاد إسلامية صغيرة كطاجاكستان أكثر من عشرة آلاف مسلم! ويفعل مثل هذا العمل أو أكثر منه -مع انتهاك الأعراض وامتهان الأمة الإسلامية- في البوسنة والهرسك!
وهل تصدق يا أخي! أن المسلمين في جنوب الفلبين يزيدون على ثلاثة عشر مليوناً، ورغم ذلك فلا أعتقد أن أحداً -إلا الندرة القليلة- يعرف شيئاً من أوضاعهم، أو فكر في زيارتهم ومواساتهم، علماً بأنهم يطبقون تعاليم الإسلام كاملة غير منقوصة في كثير من أحيانهم، ومع ذلك فإنهم مطوقون في تلك المنطقة بأكثر من مائة ألف صليبي حاقد على الإسلام.
وتعال معي إلى ما يحدث في كشمير وفي الحبشة وفي إريتريا وفي فلسطين وفي كل مكان من الأرض، والمسلمون في غفلة، والله تعالى يقول: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ [النساء:75]، فالقتال في سبيل المستضعفين من المسلمين أمر كالقتال في سبيل الله؛ لأن الله عز وجل أمرنا بأن ندافع عن المستضعفين والمستذلين في الأرض من أبناء هذه الأمة، فهو أمر مطلوب كالجهاد في سبيل الله، فكما أنك مطالب بأن تفتح الطريق، وتزيل العقبات من طريق هذه الأمة إلى الله عز وجل وإلى دينها، وتقدم النفس والمال والروح من أجل أن ينتشر وينتصر هذا الدين؛ فأنت أيضاً مطالب بالدفاع عن الأمة المسلمة المستضعفة التي استرخص الآخرون دمها في أيامنا الحاضرة، بينما لو اعتدى إنسان على يهودي أو نصراني في أي مكان من الأرض لقامت الدنيا ولم تقعد، ولعلكم تعرفون سبب دخول الاستعمار الإنجليزي حينما دخل إلى مصر، فقد كان سببه: أن رجلاً إنجليزياً كان يصطاد، فلحقه الفلاحون دفاعاً عن مزارعهم، فهرب وهلك في الصحراء، فكان ذلك سبباً في دخول الاستعمار الإنجليزي الذي أهلك مصر إهلاكاً لمدة طويلة من الزمن؛ لأن رجلاً إنجليزياً واحداً مات من حر الشمس حينما هرب من الفلاحين الذين طاردوه دفاعاً عن مزارعهم.
ومكث الاستعمار الإنجليزي مدة طويلة أذل فيها مصر المسلمة، وغير فيها كثيراً من مجرى تاريخها، من أجل رجل واحد! فمن للملايين من المسلمين الذين يموتون اليوم؟! فقد مات ملايين المسلمين على أيدي الشيوعيين الحاقدين في روسيا أيام الحكم الشيوعي للبلاد الإسلامية فيما يسمى بآسيا الوسطى، وما زالت المجازر بعشرات الآلاف يومياً في بلاد المسلمين على أيدي الجيش الروسي الحاقد إلى يومنا هذا!
وفي إريتريا قتل في يوم واحد عشرة آلاف من المسلمين، ولو قتل في ذلك اليوم عشرة آلاف كلب، أو عشرة آلاف قط لقامت جمعية الرفق بالحيوان تحتج على ذلك؛ بل لو قتل يهودي واحد أو نصراني واحد لكان ما كان.
إذاً: فالمسئولية عظيمة، وهي تبدأ من التربية والدعوة إلى الله، وتنتهي بالجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
فإذا وصل الأمر إلى هذا الحد جاء نصر الله، قال الله عز وجل: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، حتى لا ييأس المؤمنون من نصر الله سبحانه وتعالى.
ولذلك نرى في وقتٍ تكالب فيه الأعداء على الأمة الإسلامية من كل جانب، وأحيطت الأمة الإسلامية بكل عدو، بل وتحرك الأعداء من الداخل كما تحرك الأعداء من الخارج، وتحرك الأعداء من أبناء الأمة ممن مرق من الدين وهو يحسب على الإسلام، ويحمل الهوية الإسلامية، وينطق باللغة العربية! فبدءوا ينخرون في هذا الدين، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين! وبالرغم من ذلك كله، وبالرغم من اتحاد العالم كله حول راية واحدة لمحاربة هذا الدين؛ يظهر هذا الدين بقدرة قادر سبحانه وتعالى! مما يدل على أصالة هذا الدين، ومما يدل على أن هذا الدين سوف يظهر ويؤكده قول الله عز وجل: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33].
فنرى الصحوة الإسلامية قد انتشرت، وليس الأمر كما يقول أعداء الإسلام: إنها جاءت في غير موعدها؛ بل نحن متأكدون أنها جاءت في موعدها المحدد؛ لأن الله تعالى يقول: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، فبالرغم من أن العالم كله يتكالب على الأمة الإسلامية رأينا الإسلام يظهر في أيامنا الحاضرة والحمد لله، والشباب يقبلون على هذا الدين، والصحوة الإسلامية العارمة تظهر يوماً بعد يوم رغم أنوف الحاقدين، وتزيد وتتضخم، ويصلب عودها، وتقوى قاعدتها وتتسع والحمد لله، بالرغم من أن هناك أقواماً كانوا يظنون أنها فترة وجيزة حتى يستنفد الدين أغراضه ويخلو المكان -كما يعتقد هؤلاء الذين في قلوبهم مرض- لملة أخرى.
إن الشيوعية التي حكمت كثيراً من العالم ثلاثة أرباع قرن من الزمان سقطت في لحظة واحدة؛ لأن الله عز وجل يقول: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء:18].
إذاً: حينما يقول لك أعداء الإسلام: دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر!! فقل لهم: كذبتم؛ بل لله ما في السماوات والأرض، وهذا الدين منهج حياة كاملة، وجاء هذا القرآن ليهدي البشرية إلى ما فيه صلاح دينها ودنياها، ولذلك أشرنا آنفاً كيف تطور العالم حينما أخذ بهذا الدين، فصار الجيش الإسلامي ينصر بالرعب مسيرة شهر، وكانت الحصون تتساقط وتندك حينما تقبل عليها جيوش الأمة الإسلامية التي هتافها: الله أكبر، ولله الحمد.
فهذا الدين منهج حياة متكامل، نعمت به البشرية عبر القرون الماضية في ظل الدول الإسلامية التي تمسكت به، فكانت لها القيادة والسيادة والسلطة على العالم، وكان الناس يأتون إليها يبايعونها على الإسلام، ويدخلون في دين الله أفواجاً.
فهو منهج حياة متكامل لا يفرق بين العبادة والمعاملة والسلوك والأخلاق، لا كما يقول العلمانيون عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة: إنما هو منهج عبادة فقط ولا يتدخل في شئون الحياة الأخرى؛ لا نظام الحكم، ولا الأنظمة الاقتصادية، ولا السلوك والأخلاق، ولا غير ذلك، إنما هو عبادة، فإذا أردت هذا الدين فعليك أن تبحث عنه في المسجد، وليس لك أن تبحث عنه في مجلس الشورى -كما يقولون- أو في البرلمان، أو في مجلس الأمة!! ويا ليتهم تركوا هذا الدين في المسجد غير مطارد! ولكنهم يطاردونه ويتابعونه في المسجد، وتحصى فيه أنفاس الدعاة والمصلحين في جل العالم الإسلامي.
إذاً: هم لم يعطوه الحرية حتى في المسجد، ولو أعطوه الحرية في المسجد لاستطاع أن ينقل الناس من الركود إلى الخير والسعادة، وإلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولكنه سوف يحقق ذلك بإذن الله عز وجل رغم أنوف الحاقدين.
إذاً: لا فرق بين آيات الصلاة وآيات المعاملة؛ بل إن هناك آية واحدة نزلت مرتين، فنزلت الآية التي في سورة المائدة تتحدث عن المحرمات، وهي قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3]، هكذا نزلت الآية في أول الإسلام في بداية تشريع الأحكام، ثم نزل جزء آخر في حجة الوداع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعيره يقرر حقوق الإنسان، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر من الله عز وجل أن تشطر الآية السابقة وأن يدخل هذا الجزء في وسطها: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فكان تتمة الآية: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3].
ومن هنا فإننا نتأكد أن القرآن ليس منهج عبادة فحسب، وليس في المسجد فقط، ولكنه في المسجد والسوق والبرلمان ومجلس الوزراء والمحكمة والبيت، وفي كل حالة من حالات الإنسان، فهو تبيان لكل شيء كما أخبر سبحانه وتعالى.
إذاً: يا أخي الكريم! يجب أن نفهم هذه القضية؛ حتى لا نخدع في عصر الدعاية المسمومة، والأفكار المشبوهة، والحرب الباردة التي فشلت، ولكنها ما زالت تطارد المسلم في كل حالة من حالاته، وتريد منه أن يمرق وأن يخرج من دينه دين الإسلام، ولكن الله تعالى غالب على أمره.
فهو منهج حكم لهذه الحياة وهذه الأمة لا يمكن أن تنضبط ولا يمكن أن تنقاد إلا لحكم الله عز وجل، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، ولما جاء أقوام يحكمون شرع الله حسب مصالحهم، فإذا تعارض مع مصالحهم ضربوا بشرع الله عرض الحائط، قال الله عز وجل فيهم: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:48-50].
فالعالم اليوم بأسره -إلا من حكم شرع الله- يرفض قتل القاتل، ويقول: هذا تخلف ورجعية ووحشية أن نقتل قاتلاً لنضيف إلى المقتول الأول مقتولاً ثانياً، لكن تعال معي يا أخي! حينما يريدون أن يثبتوا عرشاً لأحد منهم فإنهم يقتلون مئات البشر؛ بل ملايين البشر! وكم قتل في الحرب العالمية الأولى والثانية من البشر! فإن الدول التي تزعم أنها متحضرة، وتعتبر قتل القاتل تخلفاً، وأعظمها الدولة الكبيرة التي تفرض الآن سلطتها على العالم، فإنها في لحظة واحدة -منذ عشرات السنين قبل أن يتطور هذا العالم ويتوسع- قتلت ثمانين ألفاً من البشر الأبرياء في لحظة واحدة بالقنبلة الذرية التي ألقيت على اليابان، حتى غيرت تلك القنبلة كثيراً من معالم تلك الأرض التي سقطت عليها، لماذا هذا؟ لأنهم يريدون أن يفرضوا سلطتهم، لكن لو قيل: هذا زانٍ محصن أفسد الأعراض، ودمر الحرث والنسل، والله عز وجل أمر بقتله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني..) فإنهم يقولون: هذه وحشية، رجل فرغ شهوة من شهواته فقط، أتقبل بهذه الطريقة؟!
وإذا ارتد رجل عن دينه ونريد أن نقيم عليه حد الردة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، ولكن لا أرى في العالم الإسلامي -اللهم إلا النادر القليل- من يقيم حد الردة، فلو قيل: هذا مرتد، لقيل: أنتم تحاربون الحرية الشخصية وحرية الاعتقاد، بينما هم يقتلون -كما ترون وتسمعون- الآن ملايين البشر، ففي أفغانستان وحدها قتل في أيام الحكم الشيوعي ما يقرب من مليونين من المسلمين، مع أن هؤلاء لم يزنِ منهم واحد، ولم يقتل، ولم يرتد عن دينه، ولكنهم يقولون: ربنا الله، فأبيد هؤلاء من أجل أن تفرض الشيوعية في بلادهم.
فأي ذلك أعظم هذا أو قتل مرتد يريد أن يشوه هذا الدين بعد أن هداه الله عز وجل للفطرة، فأصبح حرباً على هذا الدين، وقد يكون من أبناء المسلمين؟! وبعد ذلك يقال: إن قتل هذا وحشية وتخلف، أما قتل الملايين من البشر في سبل أخرى غير سبيل هذا الدين فيعتبر تقدماً وتطوراً وإنسانية.
وكذلك قطع يد السارق، فالله تعالى يقول: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، ويأتي ذلك الرجل الكافر الملحد ويقول: إن الله يريد أن نقطع أيدي الشعب!! وما علم ذلك الملحد أن هذه اليد التي تقطع سوف تؤمن الناس على نفوسهم وعلى أموالهم مدة طويلة من الزمن، حتى قال أحد الكتاب المسلمين: إن أربع أيد قطعت في العالم الإسلامي منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى نهاية القرن الرابع الهجري، وفي العالم الإسلامي كله على امتداده من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، وتصور يا أخي! الأربع الأيدي هذه كم أمنت العالم الإسلامي في أرجائه المتباعدة على نفسه وعلى ماله وعلى أعراضه، وهكذا فقس.
وهكذا نجد أن الإسلام يؤمن هذا الإنسان على حياته وعلى عقله وعلى جسده وعلى سمعته وعلى معتقده وعلى ماله، قال الله عز وجل: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33] إنما يريد الله عز وجل بذلك -والله أعلم بمراده- أن يؤمن هذه الأمة حتى تنطلق في هذه الأرض لا تخشى إلا الله عز وجل؛ ولذلك أمر بعقوبة المحاربين.. وهكذا.
إن البشرية جميعاً بحاجة إلى هذا القرآن لتحكمه من أجل أن تأمن وتطمئن، والعالم الذي قدم أكثر من ثلاثين مليوناً من البشر في الحربين العالميتين يريد أن يؤمن نفسه، ومع ذلك لم يستطع أن يحقق لنفسه الأمن، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دعا إلى هذا الدين في أرجاء هذا العالم إنما أراد الأمان لهذا العالم، ولذلك الله تعالى يقول: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، وقوله تعالى: (فِي الأَرْضِ) أي: في كل الأرض، ولذلك يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: جئنا ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وهو متوسد بردة له تحت الكعبة نائم، فأيقظه الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: (يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ -وهم يلقون ما يلقون من المشركين من الأذى- فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم، فيحفر له في الأرض، فيوضع المنشار على مفرق رأسه، فيقسم إلى قسمين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون).
إذاً: الأمن جاء مع هذا الدين، والأمم التي تبحث عن الأمن في وسائل الدمار لم تحقق الأمن لنفسها ولا لغيرها، والأمم التي تريد أن ينام الناس على اللهو واللعب وعلى المحرمات من أجل أن يتخدروا لا تستطيع أن تكون آمنة؛ لأن هذه الشعوب لربما تستيقظ في ساعة من الزمن ولكن على الجماجم والأشلاء.
فالأمن لا يتحقق إلا بتطبيق شرع الله عز وجل، وبتحكيم كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، كان العرب يقولون في الجاهلية: القتل أنفى للقتل، وقال الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أي: سعادة، فلو كان هناك رجل معتدٍ وقاتل ومتمرد، فهذا يقتل، وحينئذ تتحقق الحياة، وتحقق الرفاهية والأمن والطمأنينة لهذه الأمة.
فلو حكم الإسلام العالم كله لكان كل التعامل وفق شرع الله عز وجل كما جاء في القرآن العظيم، وفي سنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان الناس يجدون الربا في بلادهم، ولا دور الربا التي أصبحت تناطح السحاب، وهي حرب لله عز وجل: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] ثم التهديد وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].
فلو كانت هناك خشية لله عز وجل، وكان هذا القرآن هو الذي يحكم هذا العالم؛ لما رأينا المسلم يختلط بالكافر في كل أمر من أموره حتى لا تكاد -في كثير من بلاد المسلمين- أن تفرق بين المرأة المسلمة والمرأة الكافرة، زوجة المسلم وزوجة الكافر لا تكاد أن تفرق بينهما في كثير من الأحيان؛ بسبب التبرج والخلاعة وما أشبه ذلك من الأمور التي أحدثت خللاً في أخلاق الناس، وانتشرت الفواحش، وتلاها ظهور أمراض أصبحت تسابق الشمس على مطالعها في هذه الأرض، حتى سمعنا أن ملايين البشر أصيبوا بمرض الإيدز الذي يعتبر هلاكاً للعالم لو انتشر، نسأل الله العافية والسلامة.
وهذا بسبب ما أحدثه هؤلاء الناس، وبسبب ما أحدثه ذلك الإعلام المنحرف في بلاد المسلمين من الفساد والانحراف، كل ذلك يرجع إلى الإعراض عن هذا الشرف العظيم الذي يقول الله عز وجل فيه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44].
وما يدريك يا أخي! لعلها المسئولية في الدنيا، والعقوبة التي دفع ثمنها كثير من المسلمين حينما تنكبوا عن شرع الله عز وجل.
وحينما نملَّك هذا المال نعتبره نعمة من نعم الله عز وجل سوف نسأل عنه يوم القيامة، فنؤدي حق هذا المال في الإنفاق، فلا نسرف وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، ثم نؤدي حقه من الزكاة وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35]، ثم أيضاً نعرف قدر هذا المال، وحق إخواننا المسلمين في العالم الذين يموت طائفة منهم جوعاً، وطائفة ترتد عن الإسلام بسبب المجاعات، وبسبب التضليل الذي يأتي بلقمة العيش وبالخبزة ويقدمها وعليها الصليب، وحينئذ يقدم دينه كله ذلك المسكين من المسلمين مقابل تلك اللقمة التي قدمت وقد رسم عليها الصليب، إذاً: هو مطالب بأن يرتد عن دينه مقابل ذلك، وكثير من المسلمين يملكون الثروة -والحمد لله- ولربما طائفة منهم لا يقدمون ما أوجب الله تعالى عليهم.
ثم أيضاً عليه أن ينظر مرة أخرى في واقع أهله وبيته؛ علهم أن يكونوا قد نسوا شيئاً من أوامر الله عز وجل التي هي شرف لهذا البيت، وما يدريك لعل هذه البيوت التي غرق بعضها في كثير مما حرم الله عز وجل، لربما أن ذلك أنساها كثيراً مما كلفها الله عز وجل به، فغفل كثير من الناس عن تربية الأبناء والأهل، ونسوا قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، حينئذ يلزم هذا الإنسان نفسه، ويعاهد ربه سبحانه وتعالى على أن يطهر هذا البيت وينقيه؛ حتى لا يتحمل غداً المسئولية الكبرى التي لا يستطيع أن يتحملها بين يدي الله عز وجل حينما يوقفه الابن، وتوقفه البنت والزوجة والأخت وسائر أفراد الأسرة على شفير جهنم بين يدي الله عز وجل: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).
ثم حينما ينظر المسلم إلى دائرة أوسع، وإلى واجب أكبر، وهو ما فرضه الله عز وجل تجاه إخوانه المسلمين في العالم؛ فإنه يشمر عن ساعد الجد، فإن كان من أرباب العلم والمعرفة فعليه أن يبلغ الناس الدين الصحيح والعقيدة السليمة السلفية التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وحينئذ عليه أن يكون داعية خير، وإن كان من أصحاب السلطة والذين مكن الله عز وجل لهم في الأرض، فإن عليه أن يؤدي هذا الدور الذي يتناسب مع حاله ومركزه، وإن كان من عامة الناس، فإن الجهاد في سبيل الله عز وجل أمر باق ما بقيت السماوات والأرض حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولا تزال طائفة على الحق ظاهرة حتى يأتي أمر الله.
أما الطريق فإن فيه عقبات، والمسلم لا يبالي، ومنهجه دائماً:
فليتك تحلو والحيـاة مريـرة وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العـالمين خـرابُ
وهكذا يسير المسلم في طريقه إلى الله عز وجل لا يخشى على نفسه؛ لأن الآجال مقدرة من عند الله سبحانه وتعالى، ولا يخشى على ماله؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، إنما هو أجل ومقدار للرزق، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها).
أخي المسلم! لابد من العودة إلى كتاب الله عز وجل عودة حميدة، ولابد من الاستمساك لا مطلق التمسك، فإن الإمساك يختلف عن الاستمساك، فلابد أن نأخذ هذا الكتاب بقوة، ولابد أن نطبقه في كل صغيرة وكبيرة من أمرنا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا [النساء:84].
وبعد: يقول الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، نعم، لقد آن، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17]، فكما أن الله عز وجل يحيي الأرض بعد موتها فهو أيضاً يحيي القلوب بعد موتها وبعد غفلتها.
أقول قولي هذا، ولا أعلم أحداً منكم أكثر تقصيراً وإساءة مني، ولكني أستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، دور المسلم العاجز تجاه المنكرات الموجودة في بلاد المسلمين، ودور المسلم تجاه المخططات التي دبرت للأمة الإسلامية كالآتي:
أما الأول: فإن الله تعالى يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
إذاً: فالمجال مفتوح حسب الاستطاعة، لا حسب الرغبة، وقد يكون عند الإنسان استطاعة ولكنه لا رغبة عنده لتحمل بعض المسئوليات، فنقول: إنكار المنكر حسب الاستطاعة: إن استطعت بيدك -إن كنت من أصحاب السلطة- فعلت، وإذا ما استطعت ولست من أهل السلطة فباللسان، وهذا يستطيعه كل أحد، وأما آخر شيء فهو بالقلب، وذلك إذا كان الإنسان في بلد لا يمكنه أن يقول لصاحب المنكر: هذا منكر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وذلك أضعف الإيمان).
وهذا للتدرج وليس للتخيير؛ لأن الإنكار باللسان مجال يقدر عليه كل الناس في بلاد المسلمين، وليس معنى الإنكار باللسان أن يكون بقسوة وعنف؛ بل قد يكون باللسان وبطريقة فيها لين، مثل أن تقول: يا أخي! اتق الله، هذا منكر، هذا محرم.. إلخ.
أما بالنسبة للمخططات ضد الإسلام من أعداء المسلمين، فللمسلم تجاه ذلك أدوار كثيرة:
أولاً: عليك أن تحصن نفسك من هذه المخططات والمكائد التي يدبرها أعداء المسلمين، وذلك بالعلم النافع؛ لأن العلم هو السلاح، وأيضاً تحصن بيتك ومن لك سلطة عليه، بحيث لا تسمح لهذه المنكرات أو لهذه المخططات أن تصل إليهم.
ثم بعد ذلك يكون عليك دور أوسع وأكبر، وذلك بأن تسير في أرض الله سبحانه وتعالى تبين للناس طريق الحق وطريق الصواب، وتوضح وترسم مخططات الأعداء حسب استطاعتك، والله أعلم.
الشيخ: الطرق التي يمكن للمسلم أن يبلغ بها دعوة الله عز وجل كثيرة، منها: وسائل الإعلام، فلو كان المسلمون الخلص يملكون وسائل الإعلام الموجودة لكانت هذه أفضل طريقة لتبليغ دعوة الله عز وجل، ولكن قد سحبت هذه الوسائل من المسلمين في كثير من الأحيان، حتى إن المساجد التي تعتبر أفضل وسيلة إعلامية يمكن أن تبلغ بها دعوة الله، أصبح المسلم -في كثير من الأحيان- لا يتمكن من استخدامها لتبليغ دعوة الله إلا في حدود ضيقة، فما دام الأمر كذلك فإن الوسائل غيرها -والحمد لله- كثيرة: كأن تسير في أرض الله فتطلع على أحوال إخوانك المسلمين، وأن تنشر العلم بالكتاب والشريط قدر استطاعتك، وأن تربي مجموعة من الشباب هنا أو هناك وترسلهم إلى بلادهم ليبلغوا دعوة الله عز وجل، وأن يكون لك لقاء مع بعض الراغبين في هذا الخير من أجل أن تبلغهم ليبلغوا بأي وسيلة من الوسائل؛ سواء كانت خطية أو مسموعة أو مقروءة أو ما أشبه ذلك.
فالطرق ميسرة -والحمد لله- لتبليغ دعوة الله في أيامنا الحاضرة، ولكني أنصح أن يقوم بذلك جماعات من المهتمين بالعلم، أو ممن عندهم شيء من العلم يمكّنهم من تبليغ دعوة الله؛ لأن هناك أموراً بديهية وأموراً أولية نسيها كثير من المسلمين في بلاد المسلمين يمكن أن يبلغها، ولذلك كما قلت لكم: أن الشرك بالله عز وجل -الذي هو نقيض ما فطر الله الناس عليه من توحيد- عاد الآن إلى بلاد المسلمين مرة أخرى، وقلت لكم: الآن في بلاد المسلمين أكثر من عشرين ألف ضريح تعبد من دون الله، ولو وقف مسلم أمام هذه الأضرحة يقول للناس: يجب أن نعود إلى هذا المنهج الذي دعانا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم... إلخ، بكلمات معقولة لبقة؛ لأمكن أن يؤثر، وأن يفيد في كثير من الأحيان.
فيا أيها الأخ المسلم! الوسائل كثيرة، لكن عليك ألا تختار أسهلها، وإنما عليك أن تختار ما تستطيعه من هذه الوسائل.
الجواب: هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى، ولكن القاعدة دائماً في القرآن: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد تنزل آية بمناسبة، أو في قوم معينين، ويكون حكمها لكل الناس إلى يوم القيامة، وعلى هذا نقول: هذه الآية وأمثالها عامة في كل تبيين للحق للناس ولو كان نزولها في اليهود والنصارى، فيا أخي المسلم! لابد من تبليغ العلم، وأما قول الأخ: الناس قد عرفوا الحق، فنقول: نعم، عرفوا الحق والحمد لله، فقد أصبح الطالب الآن في المرحلة الابتدائية يستطيع أن يعرف الحلال والحرام والعبادة، لكن ربما تكون هناك أهواء وشهوات تحول بين الناس وبين تطبيق هذه الأمور، فأنت حينما تبينها لهم -وإن كانوا يعلمونها- فإنما تذكرهم بشيء قد نسوه أو غفلوا عنه، فالتبيين أمر مطلوب.
الجواب: ليلة النصف من شعبان ورد فيها دليل ضعيف: أن القرآن نزل فيها، لكن المؤكد أن القرآن نزل في رمضان، بدليل قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:186]، فالرأي القائل بأن القرآن نزل في ليلة النصف من شعبان يعتبر غير صحيح.
وحتى لو ورد فيها أفضلية، أو نزل فيها القرآن، فلم يرد لنا دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن سلفنا الصالح أن ليلة النصف من شعبان -أو غيرها من الليالي التي لم يرد دليل في إحيائها- لها عبادة خاصة، ولذلك فإن من صام يوم النصف من شعبان لأنه اعتاد أن يصوم أيام البيض فهذه سنة، لكن لو خص يوم النصف من شعبان بصيام فإننا نعتبره مبتدعاً في دين الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار).
إذاً: لم يرد في ليلة النصف من شعبان، ولا في يوم النصف من شعبان أي دليل، وعلى هذا فإن ليلة النصف من شعبان كسائر الليالي، ويوم النصف من شعبان كأي يوم من أيام النصف في الأشهر الأخرى، لا يجوز تخصيصه بعبادة، ونحن عندنا قاعدة: أن الأصل في العبادات هو التحريم، ولذلك لا يجوز لأي إنسان أن يحدث عبادة ليس عنده فيها دليل، بل إن من أحدث عبادة بدون دليل يكون أعظم عند الله عز وجل ممن ترك عبادة ورد فيها الدليل.
أعني: لو أن واحداً أفطر يوم النصف من رمضان، وآخر أحيا ليلة النصف من شعبان بدون عبادة، نقول: الأول أقل خطراً من الثاني؛ لأن الأول عاص، وأما الثاني فمبتدع، والبدعة أعظم عند الله عز وجل من المعصية، ولذلك فإن أصحاب النار إذا ألقوا في النار يقولون لمن أغواهم: إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات:28] أي: عن طريق الطاعة، أي: أغويتمونا بطاعات ما ورد عليها دليل من شرع الله سبحانه وتعالى.
وعلى كل يا أخي! الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، ويقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، فنقول: ما دام أنه لم يرد دليل في تخصص ليلة النصف من شعبان بعبادة، أو ليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ليلة سبع وعشرين من رجب أو يومها، أو ما أشبه ذلك، ما دام لم يرد دليل فإن العبادة التي يحدثها الناس فيها تعتبر بدعة، وتعتبر ضلالة، وهي خطر أيضاً.
فأدعو إخوتي المسلمين أن نتقيد جميعاً بأوامر الله عز وجل، وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عمل عملاً ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم فهو مردود عليه.
فصوم يوم النصف من شعبان بصفة خاصة، إلا إذا جعله من أيام البيض أو من العبادات التي كان يعبد الله بها، وأحياء ليلة النصف من شعبان تعتبر من البدع التي هي ضلالة.
الجواب: صلاة الفجر هي أعظم الصلوات الخمس؛ بدليل قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، والمراد بـ(قُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الفجر، وسماها الله تعالى قرآناً؛ لأنها تطول فيها القراءة، وهذا سنة، قال تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78] جاءت بالنص، أي: والزم قرآن الفجر، وهذا القطع يدل على أهمية صلاة الفجر، ولذلك فهي تعتبر أفضل الصلوات الخمس، وتلتقي فيها ملائكة الليل وملائكة النهار، ولا تصعد ملائكة الليل حتى تنزل ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الصبح، وعلى هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله).
فعليك يا أخي! أن تعود نفسك وأهلك على المحافظة على صلاة الفجر، وعلى أن يصلي الذكور مع الجماعة.
أما أبوك فقد لا تملك الأمر في إلزامه، ولكن عليك يا أخي! أن تعظه وتخوفه دائماً بالله تعالى، خصوصاً أن كثيراً من الذين يتخلفون عن صلاة الفجر في المسجد لربما يؤخرونها إلى ما بعد طلوع الشمس، وهذا خطر عظيم يدخلهم في الوعيد: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، فحافظ يا أخي! على صلاة الفجر، واؤمر أباك وجيرانك وأولادك ومن تستطيع بذلك، ولكن بالأسلوب الذي يناسب كل واحد منهم.
الجواب: كلمة الرافضة كلمة عامة، فما نستطيع أن نقول: الرافضة كفرة، كما يُطلق ذلك طائفة من الناس؛ لأن الرافضة أنواع: فمن يعتقد منهم أن الرسالة ليست لمحمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، ومن يؤله علياً رضي الله عنه فهو كافر، أما أن نطلق ونقول: الرافضة كلهم مارقون من الإسلام، فلا نستطيع أن نقول ذلك، وهو خطأ، ولذلك فإن الأصل أن يسلم على المسلم، ويرد عليه السلام، ما دام أنه لم يتبين شيء من أمره، حتى نتأكد من أن منهج هذا الإنسان بعينه هو الرفض.
الجواب: البدع منتشرة في أكثر بلاد المسلمين، وبلادنا هذا -والحمد لله- أقل بلاد المسلمين بدعاً، لكن نحن لا نزكي أنفسنا؛ بل علينا إذا رأينا مثل هذا الأمر -ما دام أنه لم يرد فيه دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم- أن ننهى عنه، ولكن يجب أن يكون بأسلوب رقيق.
أما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أخذ جريدة فشقها شقين، ووضع على كل قبر منهما جزءاً، فإن هذا في سبب معين، كما أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: (أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة بين الناس، وكان الآخر لا يستنزه من البول)، ولا أدري هل تعتبر هذه حجة أو ليست بحجة، وأعتقد أنها لا تصلح حجة.
وعلى كل حال: فإن الأصل في العبادات المنع إلا إذا ورد دليل، وتغليب جانب المنع في أمر العبادات أفضل من تغليب جانب الإباحة.
الجواب: نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد خفف عن المريض الصيام فقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى، فإذا كان هذا الأخ يغسل الكلى فهو لا يستطيع الصوم؛ لأنه يوصل الماء إلى جوفه، وما أدري: هل الطريقة التي يغسل بها مفطرة أو غير مفطرة؟ ولكن الأقرب أنها مفطرة، فنقول: في ذلك اليوم الذي يغسل فيه، إذا كان يفطر بالغسيل ولا يحتاج إلى الطعام ضرورة أو الشراب، فإنه يكتفي بهذا الغسيل، ويكلف بقضاء ذلك اليوم الذي أفطر فيه، كما لو احتاج إلى إبرة مغذية؛ لأن الإبرة المغذية أيضاً تفطر، فلو احتاج إلى إبرة مغذية فإننا نقول له: تفطر ذلك اليوم إذا كنت مضطراً لها في النهار، وتصوم بدل ذلك اليوم يوماً آخر من أيام السنة.
ثم نقول: إن أمكنه أن يغسل بالليل حتى لا يضطر إلى الفطر فهو أفضل، والله أعلم.
الجواب: ما أشار إليه الأخ السائل من التبرج موجود -ومع الأسف- حتى في مكة التي فيها السيئة مضاعفة؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، فالله تعالى لا يؤاخذ على الإرادة إلا في مكة؛ مما يدل على أن المعصية في مكة أسوأ منها في أي مكان آخر.
وعلى هذا نقول للأخوات المتبرجات: اتقين الله سبحانه وتعالى، فإن التبرج صفة من صفات الجاهلية الأولى، فعلى المرأة إذا اضطرت إلى الخروج أن تخرج محتشمة، ولا يجوز لها أن تتبرج.
ثم أيضاً: أكبر من ذلك ما يشاهد من التبرج -في بعض الأحيان- حول الكعبة بين الطائفين، والملاصقة بين الرجال والنساء، والازدحام الشديد، فعلى المرأة أن تبتعد عن مواطن الزحام، وخصوصاً عند الحجر الأسود، فإننا نلاحظ عند الحجر الأسود زحاماً شديداً، علماً أن تقبيل الحجر الأسود سنة وليس بواجب، فكيف نسعى لفعل سنة يترتب عليها الوقوع في المحرم من زحام بين الرجال والنساء؟!
فنقول للأخوات: اتقين الله عز وجل دائماً وأبداً، وفي مكة بصفة خاصة؛ لأن السيئة فيها أعظم منها في أي مكان آخر؛ لا سيما حول الكعبة في حال عبادة الطواف أو الصلاة وما أشبه ذلك، ويجب الحجاب وستر الزينة، وأعظم الزينة هو الوجه، وقد أصبح السفور الآن شيئاً مألوفاً حتى حول الكعبة، والله المستعان.
ثم أيضاً ننصح الإخوة الباعة أن يتقوا الله عز وجل في أمر محادثة النساء، أو استثارتهم لهن، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي ربما يستعملها بعض الباعة فتكون سبباً في فساد عظيم، كما أن ذلك البائع مطالب أن يغض البصر، وأن يتقي الله عز وجل، فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، ومن تركها من أجل الله عز وجل أبدله الله تعالى إيماناً يجد لذته في قلبه، كما جاء ذلك في الحديث القدسي عن الله سبحانه وتعالى.
الجواب: إذا كان تركها متعمداً فهو كافر مرتد، نسأل الله العافية والسلامة، ونخشى أن يكون مصير من يفعل ذلك إلى النار؛ لأن مرض القلب لا يمنع من الصلاة، والله تعالى يقول: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، فالمسألة ليست مسألة أن يصلي قائماً فقط، بل الأمر أوسع من ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، ولو أن يشير الإنسان بعينيه إشارة إلى الصلاة.
إذاً: هذه العبادة لا تسقط بأي حال من الأحوال؛ لأنه لا يوجد أحد لا يستطيع أن يصلي وهو على جنبه، أو وهو نائم، فنقول: تركه للصلاة إن كان جهلاً فنسأل الله أن يتجاوز عنه، وإن كان عمداً فنخاف عليه أن يكون قد ارتد عن الإسلام.
الجواب: نعم هي محل ثقة، لكن أنا أفضل لمن كان عنده مال كثير أن يوصله بنفسه بدلاً من أن يسلمه للهيئات المتطوعة، ونحن لا نتهم هذه الهيئات، فهي موضع ثقة إن شاء الله، ونرجو أن يكون ما يصل إليها يصل بسرعة إلى الجهات التي وجه إليها هذا المال.
لكن عليك يا أخي! إذا كنت تستطيع أن توصل هذا المال بنفسك فخير لك أن توصله بنفسك؛ حتى تكون أكثر طمأنينة. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر