أما بعد:
فإن قصة يوسف عليه الصلاة والسلام مليئة بالوعظ والتذكير، والترغيب والترهيب، ويتبين من خلالها الفرج بعد الشدة، وتيسير الأمور بعد تعسرها، وحسن العواقب المشاهدة في هذه الدار.
فيجب علينا أن نأخذ من هذه القصة العظة والعبرة، لا سيما وأن المبتلى في هذه القصة نبي من خيار أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
وقد اشتملت على محن وعلى أمور عظام تعجز عن حملها الجبال، ثم يتحملها ولي من أولياء الله عز وجل؛ لنأخذ من قصته الدروس والعبر، وهذه السورة نستطيع أن نلخص محتواها في جزء من آية وردت فيها، فإن يوسف عليه الصلاة والسلام حينما انكشف أمره لإخوته قال لهم: أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] ونستطيع أن نلخص هدف السورة في قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، فالتقوى والصبر هما سبب السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فقصة يوسف عليه السلام من أروع وأعجب القصص التي وردت في القرآن الكريم، لما فيها من أنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن ذل إلى عز، ومن فرقة وشتات إلى انضمام وائتلاف، فتبارك من قصها وجعلها عبرة لأولى الألباب.
وسنتحدث عما تيسر من الدروس والعبر المستفادة من قصة يوسف عليه السلام.
ولذلك فإن العدل بين الأولاد يعتبر أمراً مهماً لا يجوز تضييعه، ولا يجوز تفضيل بعضهم على بعض، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (إني لا أشهد على جور، اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) حينما أراد أن يفضل أحد الأولاد على بعض، ولذلك ما يحدث من العقوق من الأولاد لربما يكون أكبر أسبابه هو عدم العدل بين الأولاد، فهؤلاء بينوا العلة التي جعلتهم يغارون من أخيهم يوسف عليه السلام حيث قالوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف:8] حتى قالوا لأبيهم عليهم الصلاة السلام جميعاً: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف:8] ثم أدى ذلك إلى أن يفكروا في قتل أخيهم، فقالوا: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9] وهذا دليل على أن تفضيل أحد الأولاد دون الآخرين يغرس الحقد والكراهية لهذا الولد المفضل، ولربما يصل إلى ذلك الأب فيكون سبباً من أسباب العقوق.
بنيت على كدر وأنت تريدها صفواً من الآفات والأكدار
فمن أراد أن تصفو له الحياة فعليه أن يراجع حسابه؛ لأنه يحاول أمراً مستحيلاً، فالدنيا مليئة بالمصاعب والمتاعب التي تعكر صفو هذه الحياة، وأما الراحة الأبدية والسعادة السرمدية ففي الآخرة في جنة عرضها السماوات والأرض، ولذلك أنبياء الله عليه الصلاة والسلام يلاقون في هذه الدنيا من العناء والتعب ما لا يتحمله غيرهم، ولكنهم يقابلون هذه البلايا وهذه الفتن بالصبر، ولذلك لما فوجئ يعقوب عليه السلام بالقصة المكذوبة المصطنعة في أن يوسف قد أكله الذئب قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]، والصبر الجميل هو الذي لا يكون معه جزع، وما ورد من حزن يعقوب عليه السلام على ولده يوسف فإنما هي عاطفة الأب نحو ابنه، فالصبر هو طريق الفرج، وهو طريق الجنة إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، فإذا ابتلي الإنسان بمصيبة أو بنكبة في نفسه أو ماله أو أهله أو في أي شيء من الأمور. فعليه أن يصبر الصبر الجميل، ويعقوب عليه الصلاة والسلام قال لما فقد ابنه يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] وقال لما فقد ابنه الآخر: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83].
من يصدق أن يوسف عليه السلام يلقى في البئر طفلاً ليصبح في يوم من الأيام ملك مصر؟ إنها آية من آيات الله عز وجل، فعلى المؤمنين أن يتمسكوا بطاعة الله، وعليهم التسليم والرضا بقضاء الله عز وجل وقدره في أي أمر من الأمور التي تصيبهم، فإذا كانوا كذلك فليبشروا من الله عز وجل بالفرج، فلما ألقي يوسف عليه السلام في البئر جاءت قافلة تريد مصر، فأرسلوا واردهم الذي يطلب لهم المياه فأدلى دلوه فتعلق به يوسف عليه السلام، كما قال تعالى: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [يوسف:19]، ولما ذهب به السيارة إلى مصر وباعوه بها اشتراه عزيز مصر، وأوصى ملك مصر زوجته به خيراً وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [يوسف:21] ثم علمه الله عز وجل الحكمة وتأويل الأحاديث، وهذا كله من لطف الله عز وجل بأوليائه الصالحين، فالمرء إذا تعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء عرفه الله عز وجل في حال الشدة، وإذا أعرض عن الله سبحانه وتعالى في حال الرخاء فإن الله عز وجل يتركه في وقت الشدة، ولذلك يوسف عليه الصلاة والسلام أنقذه الله عز وجل من كل هذه المحن والشدائد العظام والأحداث الجسام، قال الله عز وجل: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61].
فقد نرى ولياً من أولياء الله يحيط به العدو من كل جانب، وتتكالب عليه فتن الحياة الدنيا ومصائبها وآفاتها، حتى يظن الناس أنه قد هلك، وأنه لا يستطيع الخلاص من ذلك كله، فإذا به يتخلص بقدرة الله عز وجل وفضله وكرمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فيوسف عليه الصلاة والسلام عرفه الله عز وجل في وقت الشدة والضيق وخلصه، وندب إليه سيارة من الناس كانوا يسيرون في صحراء سيناء، ووقعوا على تلك البئر فأخرجوه منها، ثم أصبح هذا الغلام في يوم من الأيام ملكاً على مصر.
ولكن يوسف عليه الصلاة والسلام -بحفظ من الله عز وجل- لما عرضت عليه هذه الشهوة في خلوة لا يطلع عليه إلا الله عز وجل قال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23].
فالإنسان في مثل هذه المواقف عليه أن يراقب الله عز وجل، لاسيما إذا عرضت عليه هذه الشهوة وهو بعيد عن أعين الناس، ولذا كان أحد السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة، كما في الحديث: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).
وتأمل معي هذا الموقف! رجل تدعوه امرأة إلى الفاحشة، والمرأة ذات مكانة عالية، ولربما فرضت نفسها بالقوة على هذا الرجل، إضافة إلى أنها باهرة الجمال، والجمال كما هو معلوم من أشد ما يغري الرجل بالمرأة، ولكن مع ذلك كله رفض فعل الفاحشة، وقال: إني أخاف الله. فكان جزاؤه أن جعل الله عز وجل له جنتين جنة لسكنه، وجنة لأزواجه وخدمه، وإنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة، قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] فلابد من أن يتفكر العبد ويتذكر ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، ولذلك مدح الله تعالى الذين يخشون ربهم بالغيب فقال جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12] غابوا عن أعين الناس، ولكنهم استشعروا عظمة نظر الله إليهم، وذلك كله يدل دلالة واضحة على ثبات نبي الله يوسف عليه السلام في مثل هذه المواقف، التي لا يثبت فيها إلا من زكى الله قلبه وطهر نفسه.
ولكن الله عز وجل الذي بيده مقاليد السماوات والأرض أنطق طفلاً رضيعاً مازال في المهد في بيت امرأة العزيز ، وشهد شهادة حق، وجعل هذه الشهادة مؤيدة بالبينات الواضحة إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27] فأصبح العزيز أمام الأمر الواقع، فعرف أن الذي فعل هذه الجريمة هو زوجته وليس يوسف عليه الصلاة والسلام.
فأظهر الله عز وجل براءة يوسف عليه السلام بطريقة ما كان أحد يفكر فيها أو يتصورها، وما كان يوسف عليه السلام يظن أن طفلاً في المهد سوف ينطق ليشهد ببراءته، فإن هذه تعتبر آية من آيات الله عز وجل، وهكذا يظهر الله عز وجل الحق على لسان ذلك الطفل الرضيع.
ولقد وصل ضعف الغيرة ببعض الرجال إلى أنه يرى زوجته تراود شاباً ثم لا يتمعر وجهه ولا يغضب لمحارمه فضلاً أن يغضب لله عز وجل، ولذلك تجد أن العزيز لم يغضب لما تأكد أن زوجته فيها فساد في فطرتها وانحراف في أخلاقها، وإنما قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يوسف:29] وهذا في الحقيقة ليس موقف الرجال حينما يرون الخنا في أهليهم، نسأل الله السلامة والعافية، وهذه الدياثة التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث) فالرجل العاقل ذو الغيرة عليه أن يغضب في مثل هذه الأمور، وأن يضع حداً لهذه الزوجة التي تسعى إلى الفاحشة بنفسها، نسأل الله السلامة والعافية.
ففي المرة الأولى كان عرضاً سريعاً خفيفاً، لكنه في هذه المرة أصبح عرضاً إجبارياً، إما أن يفعل بها الفاحشة أو السجن، ولكنه فضل السجن على الوقوع في الفاحشة، فقال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33] فابتلى يوسف عليه السلام بحب النساء له؛ لأنه فيه نضارة، فتوسل إلى الله عز وجل بأن يصرف عنه مكر النساء، حتى لا يقع فيما حرم الله، لكنه فضل العيش في السجن على الوقوع في شيء مما حرمه الله عز وجل.
ولقد أصبح كثير من الناس اليوم لا يطيق السجن ولا ساعة من نهار، ولربما يترك كثيراً من أوامر الله عز وجل مخافة أن يدخل السجن، وأصبح كثير من الدعاة في أيامنا الحاضرة يتأخرون عن واجبهم خشية أن يدخلوا السجن، وأصبح كثير من المصلحين يرجعون من منتصف الطريق حتى لا يتعرضوا للأذى، وهذه من أكبر البلايا التي أصيب بها الناس في هذا العصر.
يوسف عليه الصلاة والسلام فضل العيش في السجن على أن يفعل شيئاً حرمه الله عز وجل، وهؤلاء استرخوا وناموا واستلذوا العيش الطيب وركنوا إلى الحياة الدنيا، فلا يقومون بواجبهم في الدعوة إلى الله تعالى، لا سيما من كان منهم من العلماء الذين أخذ الله عز وجل عليهم العهد والميثاق، ولكنهم لم يصدعوا بكلمة الحق خوفاً من البشر، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] فالناس اليوم أحوج ما يكونون إلى معرفة الحق، وحاجتهم إلى ذلك أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والهواء.
ولذلك ذكر الله عز وجل عن قوم يبدءون مشوارهم بالإيمان، ولكنهم يرجعون من منتصف الطريق دون أن يكملوا مسيرتهم إلى الله عز وجل والدار الآخرة، فإذا أوذي أحدهم بسبب إيمانه ارتد عن الدين، وجعل ما يصيبه من أذى الناس سبباً صارفاً له عن الإيمان كعذاب الله الشديد الذي يصرف الإنسان عن الكفر، وكان مقتضى إيمانهم أن يصبروا ويتشجعوا، ويروا في العذاب عذوبة وفي المحنة منحة، فإن العاقبة للمتقين، يقول الله عز وجل عن هؤلاء: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]
إن الذي يرجع من منتصف الطريق دون أن يكمل مشواره كالذي يكون على طرف من الجيش فإن أحس بظفر أو غنيمة استقر وإلا فر، قال تعالى: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ [الحج:11].
والمؤمن بمقدار ما تزيد الفتنة والبلاء والعذاب أمامه بقدر ما يزيد إيمانه ويقينه بالله والثقة بنصره عز وجل، والمؤمن الحق حينما يرى العقبات في طريقه يزداد ثقة بالطريق الذي يسير فيه، وإذا رأى الطريق ممهدة مفروشة بالورود والرياحين فإنه يشك في صحة هذا المسار، وهذا هو الصحيح بالنسبة لسير المسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، ولذلك وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ الذين تحزبوا ضدهم وأحاطوا بهم من كل جانب قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22] أي: من المحنة والابتلاء، ثم النصر على الأعداء وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:22-23].
وفي عصرنا الحاصر نصبت العقبات في طريق الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وتحولت السجون إلى معتقلات للمؤمنين، ولربما لو عملنا إحصائية في سجون العالم الإسلامي هل الذين يدخلونها أكثر من الجامحين الفسقة المجرمين أم من الدعاة الصالحين لرأينا أن جُلّ من يدخل هذه السجون هم المصلحون والدعاة إلى الله تبارك وتعالى، وهذا دليل على صحة الطريق إلى الله عز وجل والدار الآخرة.
فعلى الداعية المخلص أن يصدع بكلمة الحق، وأن يتحمل في سبيل ذلك كل ما يلاقيه حتى لو تحمل السجن مدى الحياة، وعليه أن يتحمل الأذى ما دام ذلك في ذات الله؛ لأن الله عز وجل قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
فعلى الدعاة أن يعلموا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم في بيعة سابقة مصدقة في التوراة والإنجيل والقرآن، فليس هناك خيار في مثل هذا العمل، وإنما الأمر هو جبن يصيب بعض الناس فيرجع من منتصف الطريق، يخشى على نفسه أو على ماله أو على أهله، أو يخشى أن يدخل السجن، وما عرف أن يوسف عليه الصلاة والسلام لبث في السجن بضع سنين، وأن موسى عليه الصلاة والسلام قال له الطاغية الجبار: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29] وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لبث في السجن ثلاث سنوات مقاطعاً في الشعب.
المسألة هي مسألة ابتلاء، والله عز وجل ليس عاجزاً أن ينصر أولياءه، وإنما الله تعالى يريد أن يتميز المؤمن الصادق من الكاذب المنافق، يقول تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] فتمييز الخبيث من الطيب لا يكون إلا عند الشدائد وعند الأمور العظام، أما إذا كان الناس كلهم على مستوى كامل في الإيمان وكلهم أتقياء وليس هناك من يؤذي الدعاة والمصلحين لو كان الأمر كذلك لكان الناس كلهم دعاة ومصلحين، ولتعطلت الحكمة من خلق النار، والله عز وجل يقول: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119].
إذاً التهديد لا يضير المؤمن، والمؤمن كذلك لا يقدم شهوة حاضرة على غيب تأكد من أنه سوف يلاقيه، ولذلك لما هددت امرأة العزيز يوسف عليه السلام بالسجن قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] وهذا يعتبر في الحقيقة أعلى درجات الإيمان، يرفض الشهوة في الحرام، ويتحمل في سبيل هذا الرفض أن يكون سجيناً ذليلاً طريداً عن ملك العزيز ، لكنه يعرف أنه ما زال يعيش في ملك الله عز وجل وفي كنفه وحفظه، وفعلاً يدخل يوسف عليه الصلاة والسلام السجن، ويبقى في السجن بضع سنين؛ لأنه رفض الحرام، ولأن الله عز وجل يريد أن يبتلي يوسف عليه السلام، ويريد أن يعلم الناس كيف يواجهون الطغاة والمتجبرين في الأرض، وكيف يواجهون الشهوات التي تعترض طريقهم، وأنه لا سبيل للخلاص منها إلا بالإيمان بالله والاعتصام به جل جلاله.
ومعنى ذلك الكلام أن الحكم يجب أن يكون لله كما أن العبادة لله، فالحكم جزء من العبادة، والعبادة أصل يدخل فيها الحكم، وعلى هذا فإن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر لا شك عندنا في ذلك، فإذا كانت العبادة لله فالحكم يجب أن يكون لله، ولذلك الذين يحكمون بين الناس بآرائهم ويأتون بقوانين البشر وآراء الرجال إنما هم من رءوس الطواغيت؛ لأنهم يدعون الناس إلى عبادتهم، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه فهو أحد رءوس الطواغيت الخمسة الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وبذلك يتضح ضلال العلمانيين -قاتلهم الله أنى يؤفكون- الذين يزعمون أن العبادة لله والحكم ليس لله، والله تعالى يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40] فليس هناك فرق بين الحكم وبين العبادة، فالحكم جزء من العبادة، والعبادة أصل، ومن فروعها الحكم، فمن عبد معبوداً فإن عليه أن يخضع لحكمه، فالذين يستمدون أنظمتهم من فرنسا ومن بلاد الكفر هم عباد لهؤلاء الكفرة، ومن أخذ حكمه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عبد لله عز وجل، وبمقدار ما يدنو المرء من العبودية لله سبحانه وتعالى بمقدار ما يزيد شرفه، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله:
ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
لكن ذلك الذي يكون عبداً لمخلوق من المخلوقين يأخذ قوانينه وأنظمته وتشريعاته منه هو عبد لذلك المخلوق.
فالحكم والعبادة لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولذا كان من وصايا يوسف عليه الصلاة والسلام: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40] فهذا أمر من أوامر الله عز وجل ويجب على المسلمين أن يحكموا شرع الله في كل صغيرة وكبيرة، فالحاكم بغير ما أنزل الله من رءوس الطواغيت، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] والمتحاكم إلى غير الله عز وجل يصدق فيه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:60].
ونستطيع أن نقول -وهو الأقرب والله أعلم-: إن يوسف عليه الصلاة والسلام رأى أن البلد قد أقبلت على خطر، وأقبلت على مجاعة شديدة لربما أهلكت البلاد والعباد من خلال الرؤيا التي رآها العزيز ، حينما رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، فرأى أن يتولى أمر مالية مصر لتكون الخزانة محفوظة لا يتلاعب بها أحد كما يتلاعب كثير من الناس بأموال الدول الإسلامية اليوم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة) لأن مال المسلمين محترم أكثر من مال الفرد، فكما أنه تقطع يد السارق إذا سرقت مال الفرد فإن أموال الدولة والمسلمين محترمة أكثر من ذلك؛ لأنها يدلي فيها كل واحد من هؤلاء المسلمين، فرأى يوسف عليه الصلاة والسلام أن العالم قد أقبل على هاوية وعلى مجاعة، وأنه لو تولى أمر هذه البلاد فإنه سوف يصلح الأمور، ولذلك يقول العلماء: إذا علم من يطلب الولاية أنه يستطيع أن يقوم بها على خير وجه، وأن غيره ربما يقصر فتتدهور الأمور ففي مثل هذه الحال يطلب الإمارة ويطلب الولاية ويطلب السلطة. كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55].
أما في دين الله عز وجل فإن كل امرئ بما كسب رهين في الدنيا والآخرة، فلا يؤخذ أحد بذنب غيره، ولذلك لما قال إخوة يوسف ليوسف عليه الصلاة والسلام: فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف:78-79] مع أنهم عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم ليكون بدلاً عن الذي وجدوا المتاع عنده وهو أخو يوسف، لكنه سبحانه وتعالى يريد أن يصدر تشريعاً عاماً إلى يوم القيامة، فقال حكاية عن لسان يوسف عليه الصلاة والسلام: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:79] فالذي يأخذ غير المذنب يعتبر ظالماً لنفسه وظالماً للأمة.
فلا يؤخذ الابن بذنب الأب، ولا يؤخذ الأب بذنب الابن، فـالحجاج بن يوسف وهو أشد رجل عرفه تاريخ الإسلام قساوة، كان قد أصدر ذات يوم قراراً بأنه إذا فقد الرجل فسوف يأخذ كل أهله وذويه حتى يجد ذلك الرجل، فقالوا له: لكن الله تعالى يقول: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف:79] فقال: كذب الحجاج وصدق الله.
ولذلك الله تعالى أخبر أن هناك عاملين هما السبب في أن يصل يوسف إلى ما وصل إليه من حكم بلاد مصر هما التقوى والصبر، فالذي لا يتقي الله عز وجل لا يدرك مطلوبه، والذي لا يصبر ويتحمل في سبيل دينه كل مشقة وكل عناء قد ينقلب على عقبيه، ولذلك الله تعالى قال: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
ولذلك تعتبر هذه الآية هي خلاصة القصة والهدف منها، ولا يمكن أن يصل العبد إلى مطلوبه وينال مراده إلا بالتقوى والصبر.
إن العفو عند المقدرة هو أفضل طريق يستطيع أن يكسب فيه المرء القلوب، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما ظفر بأهل مكة يوم الفتح، وكان يستطيع أن يقطع رءوس القوم الذين آذوه لمدة ثلاث عشرة سنة إضافة إلى ثماني سنوات وهو مطارد في المدينة، ثم لما دخل مكة فاتحاً قال عليه الصلاة والسلام في خطبته: (أيها الناس! ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) ولذلك دخل الناس في دين الله أفواجاً بسبب العفو عند المقدرة، ولذلك يوسف عليه الصلاة والسلام عفا أيضاً عند المقدرة، وقال لإخوته: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:92].
هذا هو سبيل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فلا بد أن نتقيد بهذا السبيل، ونتقي ونصبر ونحسن العمل، ونتحمل الأذى في سبيل الله عز وجل، ونتحمل كل ما نلاقيه في ذات الله عز وجل ومن أجل دين الله عز وجل، وهذا سبيل يوسف عليه الصلاة والسلام، وهذا سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل جميع المرسلين، وهي سبيل كل داعية، أما الداعية الذي يريد أن يسير في ركب هذه الدعوة دون أن يتحمل سجناً، أو دون أن يتحمل أذى، أو دون أن يبتلى في دينه، أو دون أن تعرض عليه شهوات الحياة الدنيا من نساء ومال ومركز وأذى وقتل وتعذيب فمثل هذا لا يسير على سبيل معتدلة، بل على سبيل معوجة، أما السبيل المعتدلة فهي ما عرفناه في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
ولذلك فإن السبيل الذي يجب أن يأخذ منه الدعاة بصفة خاصة والمسلمون بصفة عامة منهجهم كتاب الله عز وجل، فإنه فيه خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا.
علينا أن نوطن أنفسنا ونحن نضع أول قدم نسلكها في هذا السبيل إلى الله عز وجل والدار الآخرة والكفاح في سبيل حياة الأمم وسعادتها في الدنيا والآخرة، نوطن أنفسنا على أن الطريق وعرة، وأنها مملوءة بالعقبات، لكن لنتأكد أنه في آخر شوط من أشواط هذا الطريق سوف يأتي نصر الله عز وجل حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول رب العالمين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر