الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا موعدنا مع الدرس الثاني والخمسين بعنوان: سهام المعاصي والدواء الشافي، في يوم الجمعة منتصف شهر رجب من عام ثلاث عشرة وأربعمائة وألف، وهذا الموضوع رحب الجوانب متعدد الشعب، ولذلك ينبغي لنا أن ندرك أن الحديث في مثل هذه الموضوعات يحتاج إلى دقة في النظر، وجمع للمتفرقات، وتركيز حتى يكون جامعاً لأكثر ما يحتاج إليه، ولذلك إذا تأملنا في معنى العنوان: سهام المعاصي، نجد أن المعصية سهم جارح؛ فإذا وقعت هذه السهام على اليد شلتها، وإذا جاءت على الأذن أصمتها، وإذا جاءت على العيون أعمتها، وأما إذا جاءت على القلوب فإنها تقتلها، ولذلك قال ابن القيم رحمة الله عليه: الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل.
فهي جروح، لكن قد يكون الجرح في مكان قاتل فيؤدي إلى ما لم يكن يتصور أنه يؤدي إليه.
الأمر الثاني: إن المعاصي قد كثرت وتفشت، وقلّ من سلم منها، بل قل من سلم من كثرتها، وقد شملت أضراب الناس وأصنافهم، كما قال ابن مفلح في (الآداب الشرعية): والناس على ضربين: عالم يغلبه هواه فيتوانى عن العمل، وجاهل يظن أنه على الصواب، وهذا الأغلب على الخلق.
ثم استعرض أنواع أجناس الناس ومخالفاتهم فقال: فالأمير يراعي سلطنته، ولا يبالي بمخالفة الشرع، أو يرى بجهله جواز ما يفعله، والفقيه همته ترتيب الأسئلة ليقهر الخصم، والقاص همته تزويق الكلام ليعجب السامعين، والزاهد مقصوده تزيين ظاهره بالخشوع لتقبل يده ويتبرك به، والتاجر يمضي عمره في جمع المال كيف اتفق؛ ففكره مصروف إلى ذلك عن النظر إلى صحة العقود، والمغرى بالشهوات منهمك على تحصيل غرضه تارة بالمطعم وتارة بالوطء وغير ذلك، فإذا ذهب العمر في هذه الأشياء، وكان القلب مشغولاً بالفكر في تحصيلها؛ فمتى تتفرغ لإخراج زيف القصد من خالصه، ومحاسبة النفس في أفعالها، ورفع الكدر عن باطل السر، وجمع الزاد للرحيل، والبدار إلى تحصيل الفضائل والمعالي؟! فالظاهر قدوم الأكثرين على حسرات، إما في التفريط للواجب أو للتأسف على فوات الفضائل، فالله الله يا أهل الفهم! اقطعوا القواطع عن المهم قبل أن يقع الاختلاف بغتة على شتات القلب وضياع الأمر، وهذا حال أكثرنا إلا من رحم الله عز وجل.
الإنسان خلقه الله عز وجل قبضة من طين ونفخة من روح، فلذلك يجتمع فيه ما يكون داعياً إلى التصاقه بالطين ودنوه وتسفله إلى الأرض والدنيا الدنية، وفيه كذلك نفخة روح الرحمن سبحانه وتعالى التي تسمو به إلى عليين وإلى ملكوت السماوات وإلى الترفع والتحليق في آفاق الرفعة بعيداً عن الدنايا والرزايا والأقذار والأوساخ.
والإنسان بين هذين الجذبين وبين هذين المتنازعين إما أن تغلب روحه وتحلق فيكون في مصاف الملائكة، بل ربما كان أعلى، لأن الملائكة مفطورة على الطاعة، وربما مال إلى شهواته وإلى غذاء بدنه وإلى طينيته ودنيويته وأرضيته فيكون أسفل من الحيوانات، كما قال الله عز وجل: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179].
وكذلك هناك أمر ثانٍ وهو: أن طبيعة النفس البشرية غير المهذبة بالإيمان وغير المنضبطة بشرع الرحمن فيها غرس يميل إلى المعصية، ويهوى الهوى، ويرغب في الشهوات.
وهنا أشير إلى أن أكثر الكلام أنقله عن ابن القيم ، وقد كنت عزمت أن أجعل عنوان الموضوع: ابن القيم وكشف المعاصي؛ لأنه فيما رأيت ممن أكثر في هذه الموضوعات، وفاض فيها، وغاص في أغوار النفس، واستقرأ خطرات العقول، واستنطق شواهد الكتاب والسنة، ودقق في الاستنباط في معانيها، وضرب الأمثلة من الوقائع، فكان إحكامه لمثل هذا الأمر ومعالجته له على أبلغ ما يكون رحمة الله عليه، فيقول في شأن البيئة المحيطة: كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا ينصفه، وعدو لا ينام عن عداوته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوىً مردٍ، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزين، وضعف مستولٍ عليه؟ فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة.
وكم من بيئة كلها قواطع وموانع من الطاعة والثبات عليها، وفيها مرغبات ومغريات ومنزلقات للوقوع في المعاصي والركون إليها.
"في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل ، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود ، واستطالة فرعون، وبغي قارون ، وقحة هامان ، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل"، وهذه كلها هي من أوصاف من كانوا بارزين في أبواب عظمى من المعاصي.
ثم قال: "وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك كله، فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند -يعني: من جند هذه الحيوانات وشاكلتها- ولا تصلح سلعته لعقد: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ [التوبة:111]"، أي: أن النفس الخبيثة لا يمكن أن تكون ثمناً للجنة، ولا أن تكون جزءاً من هذا العقد الرباني.
ثم قال: "فما للمشتري إلا سلعة هذبها الإيمان، فخرجت من طبعها إلى بلد سكانه التائبون العابدون".
إذاً: لكي نفهم أصل المسألة نعلم أن طبع النفس البشرية تميل إلى المعصية، والبيئة تحض أو تسهل أمرها، ومن هنا نعلم أن المسألة تحتاج إلى مجاهدة كبيرة، ولذلك من هذا المنطلق ومن حكمة هذا التشريع قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) .
وليس للإنسان عصمة من المعصية إلا ما قضى الله عز وجل من عصمة الرسل والأنبياء، وإلا فإن كل إنسان قد يقع في المعصية قليلاً أو كثيراً نادراً أو غالباً، ولذلك إذا قُرر هذا فإن العلة والمصيبة والخطورة ليست في مجرد الوقوع في المعصية بقدر ما هي في استمرائها والاستمرار عليها وعدم الحذر منها إلى غير ذلك.
أولاً: تعلق القلب بغير الله.
ثانياً: طاعة القوة الغضبية.
ثالثاً: طاعة القوة الشهوانية.
ثم فصلها فقال: وهي الشرك، الذي هو التعلق بغير الله، والظلم وهو القوة الغضبية، والفواحش وهي القوة الشهوانية. ثم قال: فغاية التعلق بغير الله الشرك، بأن يدعو معه إلهاً آخر، وغاية طاعة القوة الغضبية القتل، وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا؛ ولذلك جمع الله بينها في قوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68].
فهذه أسس هذه المعاصي: تعلق بغير الله، اندفاع مع القوة الغضبية يقع به الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، اندفاع مع القوة الشهوانية يحصل به إغراق وإسراف في الشهوات والملذات دون مراعاة للمنهيات والمحرمات، وهذه نماذجها: شرك، وظلم، وفواحش، نسأل الله عز وجل السلامة.
أشار إلى ذلك ابن القيم أيضاً، وهذا من الأمور المهمة التي لها أثر كبير في فهم العلاج والوقاية من المعاصي، قال رحمة الله عليه: دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة، فيصعب عليك الانتقال عنها.
فانظر ما هو أول الإدمان: هو تلك الخاطرة التي تجول ولم تستقر في العقل، فإذا بالإنسان يردد نظره فيها، ويعمل فكره فيها، ويجيء بها ويذهب، فإذا بها تنتقل من خطرة إلى فكرة تعشعش في العقل وترسخ فيه، ثم إذا به يعمل عقله في تلطف الأسباب الموصلة إليها، وفي تخيل اللذة الحاصلة منها، فإذا بها تختلط بقلبه، فإذا بها شهوة قد أنست النفس إليها، ومال القلب إليها، وإذا بها بعد ذلك تصبح همة وعزيمة قد تهيجت مشاعره لها، وتحركت نفسه لفعلها، بل ربما قد شغلت عليه فكره كله؛ فلم يعد يسمع إلا ما يوصله إليها، ولا يرى إلا ما يربطه بها، ولا يتذوق إلا ما يعينه عليها، وعند ذلك في هذه اللحظات يحتاج إلى قوة حاسمة وإلى ردع قوي، وإلا فإنه يقع في الفعل، يعني: يقع في المعصية، قال: فتداركها بضدها؛ بالحسنات والاستغفار والتوبة، فإن لم تفعل صارت عادة يصعب عليك الانتقال عنها. ولينظر كل واحد إلى ما وقع فيه من المعاصي، فإنه سيجد أنها كانت على مثل هذا التسلسل، فالفطن اللقن والحريص المؤمن هو الذي يقطع الطريق من أولها؛ فلا يسمح للخواطر الرديئة ولا للأفكار الدنيئة أن تخالط عقله، ولا يشغل بها فكره.
ثم أفاض ابن القيم في مثال طويل فقال: مثال هذه الخواطر: كرجل يطحن برحى، فيضع فيها الحب والأشياء التي يطحنها، فينتفع بها ويأكل، فيأتيه رجل ومعه تبن وحصى وتراب يريد منه أن يطحنه في طاحونه، فإذا قبل ذلك أفسد ما كان يطحن من حب وطعام، وفسد الأمر كله، وإذا منعه فإنه يبقى سليماً، وذلك مثل الخواطر إذا جاءت وطحنها في العقل طحنت، ثم نزلت وتسربت إلى القلب، ثم انقلبت إلى فعل.
أي: أن الأفكار هي كل ما يطحن، فإن طحن تبناً جاء تبناً، وإن طحن حصىً جاءت حصىً، وإن طحن حباً نقياً نظيفاً جاء دقيقاً نقياً نظيفاً، فمن كان مفكراً في الخيرات، ودائماً تكون خطراته في الطاعات، فإن طاحونه ينتج همة لها، ورغبة فيها، وتعلقاً بها، وممارسة لها، وإدماناً عليها، ومبالغة في الاستكثار منها، ومن كان على غير ذلك في شأن المعاصي كان أمره إليها، وركونه وسكونه ومحبته وملذته فيها، نسأل الله عز وجل السلامة.
ولذلك قال ابن القيم رحمة الله عليه: دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعة الله ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان على خلقه سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة الكرام! هذا الذي أشرت إليه، هدفت منه إلى أن نعرف طبيعة الإنسان في فطرته وبيئته ونفسه التي بين جنبيه، والتسلل الذي تدخل به المعاصي إلى نفسه وقلبه فترديه، نسأل الله عز وجل السلامة.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يكون حاسماً في هذه الأمور، فإن علاج الأمر والمرض في بداياته سهل يسير، أما إذا تمكن فإنه يحتاج بعد ذلك إلى وقت طويل، وإلى طبيب بصير، وإلى جراحة واستئصال، وربما فوق ذلك كله يكون قد استشرى المرض بحيث لا تنفعه كل الأدوية والعلاجات.
نقول: كل شيء عنده سبحانه وتعالى بقدر، وكل قدر له حكمة، وكل حكمة فيها رحمة ولطف منه سبحانه وتعالى، فلا يعجلن المرء في مثل هذا، وينبغي أن يعلم أن هناك حكماً كثيرة لتقدير الذنوب، وما ذكره أهل العلم منها إنما هو بقدر ما استنبطوا، وإلا فإن الإدراك لحكمة الله في أقداره أمر يعجز البشر أن يكونوا محيطين به إحاطة كاملة، ومن هذه الحكم: أن مجاهدة المعاصي من أعظم ما يقوي خوف العبد وذله لربه سبحانه وتعالى الذي ابتلاه بالشهوات والنزوات، فهو معها في حرب طاحنة، وكلما رأى عظم أثرها وخطورتها لجأ إلى الله سبحانه وتعالى وخاف من العقوبة، وهذا في حد ذاته لون من ألوان العبودية لم يكن ليحصل لولا تقدير الذنب، كما ذكر ذلك أهل العلم؛ ولذلك جاء من حديث أبي هريرة عند مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) وبعض من ليس عنده بصيرة يقول: كأن دلالة الحديث تدعو من لم يكن عاصياً إلى أن يعصي حتى يرضى الله عنه؛ لأنه يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بأقوام يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، وليس الأمر كذلك، بل هي أقدار الله التي تجعل العبد يعرف مقام عبوديته، ثم يعرف مقام ربه ومولاه سبحانه وتعالى، ويعرف عجزه، فيلجأ إلى قدرة الله عز وجل، ويعرف ضعفه فيلجأ إلى قوة الله سبحانه وتعالى، ويعرف قلة حيلته فيلجأ إلى مكر الله وكيده، ويعرف فقره فيلجأ إلى غنى الله سبحانه وتعالى، ففي هذا الأمر حكم كثيرة؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
ومن حكمة تقدير الذنوب إظهار تأييد الله سبحانه وتعالى ونصره لأوليائه، وإظهار معجزاته في قهره وعقوبته لأعدائه، فنحن نرى حكماً وعبراً ودروساً عظيمة نشهدها، لكننا ربما نغفل عنها أو لا نعطيها حقها من التأمل، أفلسنا نرى أرباب المعاصي وعلى وجوههم ظلمة! ونرى كيف تحل بهم القواصم التي لم يكونوا يحسبون لها حساباً، ولا كان الناس يقدرون لها قدراً؟!
ألم نسمع ونقرأ في كتاب الله عز وجل عن قارون الذي بغى وطغى وقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] ثم خرج على قومه في زينته فكان العقاب: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81]؟! وعلى مرأىً من الناس أظهر الله عز وجل قدرته، وفي ذلك ما فيه من المنافع والمصالح التي تجعل الناس يعرفون الحق فيقبلون عليه، ويعرفون الباطل فيحذرون منه، ويعرفون آثار المعاصي الوخيمة وآثار الطاعات النافعة المفيدة، فهذا أيضاً من الحكم.
ومن ذلك ظهور أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، كما أفاض في ذلك ابن القيم وابن تيمية وصاحب شرح الطحاوية وغيرهم، فإن من أسمائه سبحانه وتعالى التواب، ومن أسمائه سبحانه وتعالى الغفار، كما أن العزيز والجبار والقهار من أسمائه سبحانه وتعالى، فكيف يكون غفاراً وليس ثمة مذنب؟ وكيف يكون تواباً وليس ثمة تائب؟ فهذه من حكم الله سبحانه وتعالى.
وكذلك في تقدير الذنب من الحكم أن فيه إبطالاً لدعوى القائلين بالجبر، وهم الذين يقولون: إننا مجبورون، فإذا كنا كذلك فلا حساب علينا!
فهذا الاختيار جعله الله عز وجل امتحاناً وابتلاءً، كما قال سبحانه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وتقدير المعصية والطاعة فيه بيان لهذا الابتلاء والامتحان، وإلغاء وإبطال لشبه أهل الجبر والاضطراب؛ ولذلك كتب ابن القيم مقالات نفيسة تبين مثل هذا الأمر، وفيها ما نحتاج بالفعل إلى أن نعيد النظر فيها، لا تهويناً لأمر الذنوب، ولكن فهماً لحكمة تقديرها وابتلاء الناس بها، يقول ابن القيم وكان الله يخاطب آدم عليه السلام: يا آدم! كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك، أي: قبل أن تسبق من آدم معصية ما كان يشعر بأنه مفتقد إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى، وزاد ذلك توضيحاً فقال: يا آدم! لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك؛ فطنت فيها لعدوك، وعرفت مكمن الخطر الذي يتربص بك. وهذا أيضاً من حكمة تقدير الذنب، فقد استخرج الله منك داء العجب، وألبسك خلعة العبودية.
وأضرب لذلك مثالاً: لو أن مدرساً يدرس طلاباً على مستوىً عالٍ من الفهم والذكاء والحفظ والفطنة، وكان لا يسأله أحد منهم ولا يخطئ واحد منهم في إجاباته، فهل ترون هذا المدرس يكون سعيداً بهذا؟
إذا لم يكن منهم خطأ مطلقاً، ولا سؤال أبداً، فكأنه لا قيمة له، وكأن هؤلاء قد استغنوا عنه، لكن قيمته تظهر عندما يكون هؤلاء على مستوىً عال من الفهم والإدراك والحفظ والفطنة والذكاء وغير ذلك، ثم هم يفتقرون إليه ولو في أقل القليل، فإن ذلك يشعره بمنزلته كأستاذ لهم، ويعرفون أنهم طلاب له، ولله المثل الأعلى فإن العبد إذا لم يكن عنده شيء من الغفلة ولا المعصية فإنه يدل بطاعته على ربه ومولاه، ويقول: أنا لم أعص، وإنما أفعل دائماً الطاعات، فكأنه يستشعر -عياذاً بالله- منة منه على ربه ومولاه سبحانه وتعالى، والله خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] أي: لا تستكثر شيئاً تعمله في طاعة الله تمن به على الله سبحانه وتعالى، فالله أمن وأجل.
قال أهل العلم: إن في تقدير الذنب ما يشعر الإنسان بأن نعم الله عليه أكثر مما يستحق، فإنه عندما يرى ذنوبه يقول: كيف لطف الله بي، أنعم علي، وأنا على مثل هذه المخالفات؟! فإذا وفق للطاعات رأى أن ما أنعم الله به عليه أكثر مما قدم من هذه الطاعات، فلا يزال مستشعراً نعمة الله حال طاعته وحال وقوعه في الذنب، نسأل الله عز وجل السلامة، ولذلك يقول ابن القيم رحمة الله عليه في الحديث عن آدم: تالله ما نفعه عند معصيته عز: ( اسجدوا ) العز الذي جعله الله له عندما قال للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34] ، ولا شرف: ( وعلم آدم ) الشرف الذي ناله عندما قال الله له: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، ولا خصيصة: ( لما خلقت بيدي ) لما قال: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ولا فخر: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29] كل هذه المزايا ما نفعته، وإنما انتفع بذل: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] .
فتأمل كل تلك الأمور التي كانت أمور علو ورفعة، فقد يدخل العجب فيها إلى نفس الإنسان، أو إلى ما كان من آدم عليه السلام، حيث علمه الله عز وجل وخصه بأن خلقه بيديه، وشرفه بأن نفخ فيه من روحه، وعظمه بأن أسجد له ملائكته، كل ذلك أمر آخر، لكن عندما وقع في المخالفة والمعصية جبلة وفطرة وقضاءً وقدراً وحكمة من الله بالغة رجع إلى ربه كما حكى الله عنه: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] ، وكما قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37].
يقول ابن القيم رحمة الله عليه: لما كان وقوعه في الذنب -أي: العبد- ليس اجتراءً على سيده، ولكنه ضعف النفس وغفلة الهوى واستزلال الشيطان علمه كيف يتوب إليه: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37] فالذي عصى هو آدم عليه السلام حيث وقع في الاجتراء والمخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، لكن لما وقع حصول الندم والذل لله عز وجل من قبل آدم علمه الله سبحانه وتعالى الكلمات التي يتوب بها إليه سبحانه وتعالى؛ لأنه عز وجل يحب من عباده أن يسألوه، وأن يذلوا له، وأن يفتقروا بين يديه، وأن يتضرعوا إليه، وأن يكونوا مستشعرين دائماً لعبوديتهم له، ولربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى عليهم، ولذلك ينبغي أن ندرك هذا المعنى، وأن نفهمه، ولذا قال ابن القيم : لولا تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب.
وانظروا الآن إلى من كانت عنده بعض الطاعات وقلت عنده المعاصي، فإن لم يكن حذراً وإن لم يكن متيقظاً فإنه يعلوه العجب، ويخالط نفسه الغرور، ويكون غروره وكبره هو حتفه وخسارته، ولا تنفعه تلك الطاعة التي رافقتها هذه الخلال الذميمة، كما أن المذنب عندما يستشعر الخطأ والاجتراء على عظمة الله عز وجل فيندم يكون أقرب إلى الله عز وجل من ذاك الطائع إذا تكبر، ولذلك قال ابن القيم : لولا تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب.
وذنب يذل به العبد أحب إلى الله تعالى من طاعة يدل بها عليه، ولذلك قال ابن القيم : شمعة النصر إنما تنزل في شمعدان الانكسار، إذا لم تنكسر لله عز وجل وتمرغ الجبهة وتذرف الدمعة ندماً وخوفاً ورغبة فيما عند الله عز وجل فما وقعت من أمر العبودية على الأمر الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه.
وليس فيما ذكرت تهوين للذنب، وإنما بيان للحكمة البالغة التي جعلها الله عز وجل فيه.
هذه الغفلة إنما تأتي من سكرة الهوى، وإنما تأتي من لذة الشهوة، وإنما تأتي من موت القلب، وإنما تأتي من إلف المعصية وإلف عقوبتها، فيظلم القلب بها، ويغدو المرء -عياذاً بالله- يسمع الآيات تندك لها الجبال ولا يكترث لها، ويرى الأحداث والزلازل والوقائع والفتن والمحن -وكلها عقوبات- والمذكرات من الله عز وجل وكأنه في وادٍ آخر، وكأنه غير مخاطب بهذه الآيات ولا معني بهذه الحوادث ولا معاقب بهذه الأقدار، نسأل الله عز وجل السلامة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) فهو في ذلك الوقت قد طغت عليه غفلته عن الله عز وجل وعن عقوبته وعن حقيقة ما يرتكب من المعصية، وعن حقيقة ما يجترئ عليه من حرمة الله عز وجل ومجاهرته بالمعصية، ولا يشك الإنسان أنه غافل مثل الإنسان المخدر الذي يكون قد شرب مسكراً أو مخدراً فإنه لا يعي من أمره شيئاً، ويهرف بما لا يعرف، ويفعل ما لا يقدر، ولذلك فإن حال العاصي كحال هذا المدمن المخدر الذي لا يدرك شيئاً مما يفعل، نسأل الله عز وجل السلامة.
وكذلك الإنسان ينبغي له ألا يورد على نفسه تلك اللذائذ، بل ينبغي له أن يصورها في نفسه تصويراً قبيحاً، ويتصور الآثار الوخيمة في مثل هذه المعاصي.
تلك هي بعض الأسباب التي تجعل الناس يقعون في هذه المعاصي، ويتشبثون بها أو يقيمون عليها.
ليس المسلم هو الذي لا تقع منه المعصية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، ولكن المسلم الصادق المؤمن المخلص عنده من رحمة الله ومن نعمة الله ومن آثار الإيمان ومن بركات الإسلام ومن خيرات الطاعة ما يجعله متميزاً عن الكافر؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، فهل ترون كافراً يفكر في آخرة أو يفكر في حقيقة العبودية أو حقيقة الألوهية أو غير ذلك مما أشرنا إليه؟! لا يفكر؛ لأنه قد طمس قلبه وانتهى أمره إلى غير رجعة إلا أن يأذن الله له أن ينور قلبه بالإيمان بعد الكفر.
أما المسلم فله مزايا: من أعظم هذه المزايا وآكدها: أنه يستشعر أثر الذنوب والمعاصي، ويعرف أن لها آثاراً قوية عظيمة ليست على مستوى الفرد، بل على مستوى المجتمع، وليست على مستوى البشر بل على مستوى الكون كله، ولذلك أفاض أهل العلم في ذكر هذه الآثار، ولست بصدد ذكرها تفصيلاً، وإنما أجمل ما ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في مقالاته الجامعة، أما تفصيل ذلك وتفريعه فقد عقد له كتاباً كاملاً أسماه: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، صنفه رحمة الله عليه جواباً على سؤال ورد إليه عن المعاصي وكيفية البرء منها والإقلاع عنها والهجر لها، فصنف ذلك المصنف العظيم، يقول ابن القيم في ذكر أثر المعاصي على الفرد: من ذلك: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهم والغم، وضنك العيش، وكشف البال. كل هذا من آثار هذه المعاصي، أفلا يشعر الواحد منا ببعضها؟! أفلا ينقبض يوماً صدرك ويعلوك الهم ويركبك الغم؟! أفلا تجد يوماً أنك تريد أن تحفظ فتحرم الحفظ؟ أفلا ترى يوماً أن عدواً قد سلط عليك، أو أن سفيهاً قد اجترأ عليك؟!
والسلف رحمهم الله كانوا يردون كل شيء يقع لهم إلى الذنوب التي وقعت منهم، إنه فقه إيماني بصير يجعل كل شيء مرده إلى قول الله سبحانه وتعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فنحن إنما نؤتى من قبل أنفسنا، ومن زيغ قلوبنا، ومن تحول نياتنا، ومن سوء سلوكنا، ومن فلتات كلماتنا، ومن نزغات شهواتنا، ومن خيانة أبصارنا، إنما نؤتى ونحرم ونعاقب من مثل هذه المعاصي، فالمسلم الحق رغم وقوعه في المعصية إلا أنه يستشعر أثرها، ولذلك الذي يدرك الأثر يوشك -بإذن الله عز وجل- أن يطلب يوماً خلاصه من هذا، فالذي يعرف سبب المرض كالزكام الذي يحل به أو سبب الحساسية التي تقع له، ولو تحملها مرة وثانية فإنه بعد فترة سيطلب العلاج، ويلتمس البرء من هذا، أما الذي لا يستشعر ذلك من أصحاب الغفلة أو الكفر -نسأل الله السلامة- فإنه لا يطلب علاجاً؛ لأنه لا يرى ضرراً، ولا يستشعر مرضاً.
وذكر ابن القيم في موضع آخر شأن الآثار التي تنتظم الكون كله من أثر المعاصي، فقال: اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله! منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة، وبابها مفتوح، وكأنكم -أي: إذا تباطأتم وسوفتم- بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علق، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فلله در ابن القيم ما أجمع كلماته! فقد جعل كل شيء في الأرض وفي السماء وفي البشر وفي الملائكة، وفي الليل وفي النهار متأثر بهذه المعصية، وحق له ذلك، والله عز وجل يقول: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]، قال ابن القيم في (الجواب الكافي) في تفسير هذه الآية: من آثار المعاصي حصول الفساد في الماء والهواء.
وما أمر الزلازل وتلوث البيئة وما يقع من كوارث هنا وهناك إلا من أثر هذه المعاصي والذنوب، وكيف لا تكون هذه عقوبات لهذه المعاصي، إنها ليست قضية معصية، إنها قضية عداوة واجتراء وعدم تقدير ولا توقير لله سبحانه وتعالى، أفرأيتم لو أن عبداً حقيراً جاء إلى ملك عظيم وسلطان كبير ثم اجترأ عليه بكلمة شتمه بها أو بسلوك تعدى فيه على حرمته أو تعدى فيه على بعض ماله فلا شك أنه لا يقوم لغضبه قائم، وأنه يبطش به بطشاً يجعله عبرة للمعتبرين، بل ربما يتجاوز غضبه هذا الفرد ليعم سائر الرعية كلها، بل قد يدمر حتى غير البشر من الممتلكات والأموال، وهذا واقع في حق الناس، فكيف إذا كان الأمر في حق الله سبحانه وتعالى ملك الملوك ورب الأرباب سبحانه وتعالى؟! فإنه جل وعلا -كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام- أشد غيرة من خلقه، وإن غيرة الله عز وجل أن تنتهك محارمه، وما أحلمه سبحانه وتعالى! وما ألطفه بعباده فإنه يمهل، ولكنه لا يهمل، ولو كان الله سبحانه وتعالى يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكان أكثر الناس يستحقون أن يخسف بهم، وأن يطمس على قلوبهم، وأن تعمى أبصارهم، وأن تهلك أموالهم، وأن يقع لهم من الوباء والبلاء ما الله سبحانه وتعالى به عليم، ولكنه جل وعلا من لطفه ومن صلاح الصالحين ومن دعاء الداعين يخفف بعض ذلك.
وقد ذكر ابن القيم أن الحيوانات والبهائم تشكو إلى الله عز وجل من العاصين والفاسقين؛ لأنه بهم وبمعصيتهم يمنع الله عز وجل القطر من السماء، ويقع الجدب في الأرض، وتقع البلايا والرزايا، وما لهذه البهائم من ذنب، ولكنه ذنب هذا الإنسان الذي استعلى على الله عز وجل وتجبر وتكبر وطغى وبغى وفسد في هذه الأرض، ولا يألو على شيء، فيسير هنا وهناك، وينسى قبضة الله عز وجل وقوته وقهره، ولذلك تشكو هذه الحيوانات، وكما قيل: لولا شيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لم تمطروا، فإن الله سبحانه وتعالى ما أنزل عقوبة إلا بذنب، وما رفعها إلا بتوبة، كما ذكر أهل العلم والإيمان.
فكم نأت لنقوم الليل فنقعد كأنما قد أصابنا الشلل! وكم نعزم أن نصوم فنهفو إلى الطعام والشراب! وما ذلك إلا لأن النفس قد علتها الذنوب، وهذه من آثارها، كما قال بعض السلف: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل، ولذلك كان بعض السلف يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟! قال: ستري مسبل، وخيري حاصل، ولكني منعت حزبي البارحة، فلم أقدر عليه، فلا شك أنه من ذنب أذنبته.
وهكذا كان السلف يوصون ويفندون مثل هذا، جاء رجل يستفتي بعضهم، فقال: أعياني قيام الليل فما أطيقه، فقال: يا ابن أخي! استغفر الله وتب إليه، فإنها علامة سوء.
ولذلك الاستغفار وفعل الصالحات من أعظم هذه الأمور.
قال بعض أهل العلم: قلت ذنوبهم فأحصوها، وكثرت ذنوبنا فأعيتنا، فلا يستطيع الإنسان أن يحصي ذنوب يوم واحد، فإنه إذا بدأ من أول النهار إلى الظهر ربما كثرت ذنوبه عن حد الحصر والعد، وبدأ بعضها ينسي بعضاً، نسأل الله عز وجل السلامة. ولذلك ينبغي للإنسان أن يحتاط لنفسه بمثل هذه الأمور، والله سبحانه وتعالى قد وصف وبين أثر ذلك في نفس الإنسان المسلم، فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، فقد يقع بالذنب في حين غفلة، ثم يتذكر ويعود إلى التوبة، وكذلك قال الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَة [آل عمران:135] والفاحشة: ما يفحش وينتشر، بمعنى: أنه أمر عظيم وكبير، قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] فهذا هو دأب وشأن المسلم أنه يتوقى آثار الركون إلى المعصية، وأن تكون مستولية عليه لا يستطيع الفكاك منها، فهو قليل الذنوب، مدرك لآثارها، راجع إلى ربه، مكثر من الاستغفار، مبادر إلى الطاعات في أعقاب السيئات، ولذلك تجده قريباً من أثر الوعظ في نفسه، وهذا أمر مهم يحتاج كل مسلم إلى أن يأخذ حظه منه.
إن الأمر ليس وصفة سحرية، ولا خطوات نظرية، بل هو أمر قلبي إيماني نفسي يبدأ بتغيير جذري يتناول القلوب في أعماقها والنفوس في أغوارها والنوايا في طواياها قبل أن يتناول صوراً ظاهرة قد تخلو من تأثر القلب وتغير النفس، فتعود بعد ذلك تتجدد المعصية، كما يذكر الرافعي فيقول: إذا سافرت وسافر الهم معك، فأنت مقيم لم تبرح. أي: أن الذي يسافر من بلد إلى بلد لنزهة يسري بها عن نفسه ولكنه لم يحمل معه همومه فكأنه لم يسافر.
يقول: فإذا أقلعت عن المعصية وحبها في قلبك ولذتها في نفسك وخيالها في خاطرك فكأنك ما صنعت شيئاً. وكما نقول بلهجتنا العامية: يا زيد! يا ليتك ما غزيت! وكأن الإنسان ينفخ في قربة مخروقة، ولا أعني بذلك أن أهون أمر الانتقال من المعصية، فإن في ذلك خيراً، ولكني أريد أن أقول: إن الأمر الأساسي والعلاج الأكثر تأثيراً والأبعد مدىً والأقرب -بإذن الله عز وجل- إلى أن يكون علاجاً شافياً ناجعاً لا يتجدد بعده المرض ولا تستفحل معه العلة هو العلاج القلبي الإيماني الذي يستأصل حب الشهوة المحرمة، ويقضي على لذة المعاصي الآثمة من القلب، فيطمه عنها، فإذا فطم عنها فإن الصغير يحب الحليب، ويحب رضاع ثدي أمه، ولكنه لو استمر على ذلك لكان يكفيه عيباً وعاراً أن يكون كبيراً ويبقى رضيعاً في حجر أمه، كذلك الذي ما يزال يرضع ثدي المعصية ويركن إلى حضنها، ولا يستطيع أن يفارقها، ولا يستطيع أن يستقل، وكلما مضى في الأرض جذبته إليها، وكلما أراد أن يعلو هبط إلى مستواها، وإلى دناياها، ولذلك يبقى كمثل الغلام الذي لا يفطم، أما إذا فطم فقد يكون في أول الأمر يحن إلى ثدي أمه، لكنه بعد ذلك يرى في الرجوع إليه عيباً وعاراً، وصغاراً وشناراً، ولا يجد فيه حتى ما يحتاج إليه من الغذاء، ثم يستبدل به غذاءً آخر، وما يزال ينوع في أغذيته، ويستجد منها ألواناً وأصنافاً؛ لأنه قد استغنى عن ذلك الغذاء، والتمس غذاءً آخر فيه أكثر النفع وأعظم الفائدة، وكذلك من فطم نفسه عن المعصية فلا يعد إلى الحنين إليها، ولا يرجع إلى حضنها، وليستبدل من الطاعات غذاءً للقلوب فيه نورها وفيه سكينة للنفوس وفيه همة تشحذ عزمه في معالي الأمور وفيه قوة في طاعة الله عز وجل، وفيه تحرر من قيد هذه المعاصي والشهوات، كما فطم عن الحليب وغدا يأكل أنواع الطعام، فمن فطم عن المعصية فإن أبواب الطاعات رحبة أمامه، من ذكر باللسان، ومن تأمل في خلق الله بالعين، ومن تدبر في أحوال الأمم بالعقل، ومن كسب من الحلال باليد، ومن سعي إلى الخير بالرجل، ومن قضاء للشهوة بالحل، بل كل لحظة وكل ثانية وكل جارحة فيها أبواب من الطاعات عظيمة، فإذا أقلعت فإنك لن تبقى خالياً ولا فارغاً، وإذا تركت المعاصي فإن كلما تطلبه من لذة ستجده في الطاعة، وكلما تطلبه من استفراغ الطاقة والقوة ستجده في الطاعة، بل إنه ينتهي العمر وتعجز الطاقات عن أن تبلغ المدى الأعظم الأكمل الذي تتوق إليه نفوس المؤمنين في طاعة خالقها ومولاها سبحانه وتعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
واستمع إلى الجيلاني رحمة الله عليه وهو يقول لغلام له: استغث بالحق عز وجل، ارجع إليه بأقدام الندم والاعتذار حتى يخلصك من أيدي أعدائك.
من هم أعداؤك؟ النفس المزينة، والشيطان المستولي، والمعصية التي تداعب الخاطر والعقل.
يقول الجيلاني : حتى يخلصك من أيدي أعدائك، وينجيك من لجة بحر هلاكك، تفكر في عاقبة ما أنت فيه وقد سهل عليك تركه، أنت مستظل بشجرة الغفلة، اخرج من ظلها فقد رأيت ضوء الشمس وعرفت الطريق، شجرة الغفلة تربى بماء الجهل، وشجرة اليقظة والمعرفة تربى بماء الفكر، وشجرة التوبة تربى بماء الندامة، وشجرة المحبة تربى بماء الموافقة -أي: الموافقة لأمر الله عز وجل- فالنفوس والقلوب إنما تريد تحويل وجهة فقط، كمن يكون سائراً في طريق ينتهي به إلى هاوية، الحل يسير؛ أن يأخذ طريقاً آخر يؤدي إلى الفوز والفلاح والنجاح، فإذا تغيرت الوجهة سيرى في ذلك الطريق غير ما يرى في الطريق الأول، وسيرى فيه من الناس غير الذين يراهم في الطريق الأول، فإذا حولت مجرى المعصية إلى مجرى الطاعة فإنك تجد طائعين لا تراهم هنا، وإنك تجد فتوحات من الله عز وجل وخيرات لم تكن تراها هناك، وإنك تجد آثاراً ومعالم وابتلاءات وأموراً أخرى لم تكن تراها في ذلك الطريق، وإنما هو تغيير الوجهة.
يقول ابن القيم رحمة الله عليه: إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له.
فالجسم دولة، وهناك من يحكم، إما أن تحكم الشهوة فيلغى العقل ويكون الإنسان -عياذاً بالله- كما نرى حال العاصين؛ فأحدهم يشرب الخمر فإذا بالوقار الذي عليه والجاه الذي عنده يتلاعب به الصبيان، ويتسافه عليه السفهاء، ويستخدم عقله في شهوات ترديه وتهلكه، عياذاً بالله! ولذلك أوجز قول ما كتبه الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه في وصف الدنيا، حيث يقول له:
أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن، وليست بدار إقامة، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه، يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيالة التي قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المزنوة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد فشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه، فعظمت عليها ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت، وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته، وذهب بكمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها.
فمن أعظم ما يهيئ للتوبة بعد تعظيم الله عز وجل وتذكر حقه سبحانه وتعالى تذكر ما يئول الأمر إليه، وتذكر العقوبة التي توعد الله بها العاصين، فلينتبه إلى هذا الأمر.
ولنضرب لذلك مثالاً: عندما يرى إنسان طعاماً وهو محب له، ونفسه ترغب فيه، ولكنه يعلم أن عليه حراساً، وأنه إذا وضع يده فيه سوف ينال عقاباً وخيماً، وسوف يجلد كذا، فإنه يقول: يكفي أن ننظر إلى الطعام، وأن نشم رائحته وكفى، وإذا علم أن النظر أيضاً إلى هذا الطعام قد يصيبه بالأذى فإن نفسه حتى اللذة القلبية تفطم وتنتهي، فلا يعود محباً لهذا الطعام، بل لو أكل مرة من هذا الطعام ووجد العقوبة ربما يكره هذا النوع من الطعام ولا يعود لنفسه ميل له حتى لو أتي له به؛ لأن نفسه قد أصبحت لا تحبه، لأنه عرف أن مرة من المرات كانت عقوبته في مثل هذه اللذة، وكذلك إذا علم العبد شأن الآخرة وتذكرها وبلغ خوفه منها وخوفه من عقوبة الله فيها مبلغاً عظيماً فإن ذلك يمحو ويطمس كلما في القلب من تعلق بالشهوة وحب للذة التي فيها، ولذلك كان سلف الأمة رضوان الله عليهم على هذا النهج.
مر ابن مسعود على نافخ كير فوقع من خوفه في هذه النار، وكان يمر على الحدادين فيبصر الحديدة وقد أحميت فيبكي رضي الله عنه من تذكر الآخرة، وهكذا كان الصحابة والسلف على مثل هذا الأمر.
فكلما وجدت صورة المعصية وآلتها كلما كان ذلك مانعاً أو حائلاً من استمرار التوبة والبعد عن المعاصي، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43] فهذا الإله إذا وجد وجد معه الهوى إليه والحب له، ولذلك يجب أن يكون الحال كما قال أحد الكتاب: فمطرب يحطم آلات الطرب، ورسام يمزق اللوحات، ومراهق يحرق المجلات والصور الداعرة، ومدمن يكسر زجاجات الخمر ويحرق المخدرات، ومراب يسحب أموال الربا ليفرقها، ومتبرجة تحرق ثيابها كلها -أي: ثياب التبرج- صور تتكرر لما كان من فعل إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم في تحطيم هذه الأصنام، ولذلك لابد من مثل هذا.
فأول خطوة بعد الندم الإقلاع عن المعصية، وهذا الإقلاع لابد منه بكل صوره: بتحطيم أصنامها وشخوصها، وبالانتقال عن بيئتها، وبالبعد عن تذكرها، وبفطم القلب بالخوف من الآخرة عن ورودها على القلب مرة أخرى على سبيل اللذة والشهوة والمحبة، ولذلك لابد من الحسم في هذا حتى لا يتمكن الشيطان مرة أخرى من تمكين الغفلة ونسيان التذكر والبعد عن التوبة، ولابد أن يستشعر الإنسان هذا.
فالله عز وجل يفرح بتوبة عبده، فكيف بفرح العبد؟! فتأمل أيها العاصي! ما تجد من لذة التوبة ولذة الأنس بالفرح الإلهي الرباني، فإن ذلك من أعظم هذه الأمور.
إذا كثرت منك الذنوب فداوها برفع يد في الليل والليل مظلم
ولا تقنطن من رحمة الله إنما قنوطك منها من خطاياك أعظم
فرحمته للمحسنين كرامة ورحمته للمذنبين تكرم
ومن ذلك: قراءة القرآن والاستعاذة من الشيطان.
فلينظر إلى الآثار الإيجابية في التوبة، وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في (مفتاح دار السعادة) أقوالاً كثيرة في هذه الآثار منها أنه قال: توجب له من المحبة والرقة واللطف وشكر الله وحمده والرضا عنه عبوديات أخر عظيمة وعجيبة، كما قيل: وربما صحت الأجسام بالعلل، قد يقدر الله الذنب فيعقبه التوبة فيحصل ذلك الفرح والفرج والخير من الله سبحانه وتعالى.
ومنها: أنه إذا شهد ذنوبه ومعاصيه وتفريطه في حق الله عز وجل استكثر القليل من نعم ربه -يعني: أنه يقول: هذه النعم كثيرة علي وأنا عاصٍ، فإذا وجد التوبة والطاعة أيضاً استقل هذه الطاعات في عظيم نعم الله سبحانه وتعالى، ولا يدرك ذلك إلا إذا سار في طريق الطاعة، وأناب إلى طريق التوبة.
ومنها: أن الذنب يوجب لصاحبه التيقظ والتحرز من مصائد عدوه، فالذي يذنب ثم يقلع عن الذنب إلى التوبة فإنه يكون أعرف بهذه المعاصي وأبعد عنها، وشديد الحذر وعظيم الحيطة منها، كما قال عمر رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)، فإذا عرفها كان أبصر بمداخلها، ولذلك كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله وأبوابه وطرقه، وأشد الناس رغبة فيه ومحبة له وجهاداً لأعدائه وتكلماً بأعلامه، وتحذيراً من خلافه لكمال علمهم بضده، فالذين يقعون في المعصية ثم يكتب الله لهم التوبة -كما نسمع من حال كثير من التائبين- يكون عندهم علم بما يقع من هذه المعاصي، وكيف أساليبها، وكيف فتنتها، وكيف آثارها، وأضرارها، فيكون لسان حالهم في الوعظ والتذكر أبلغ ممن لم يكن كذلك، وليس في ذلك تسهيل ولا دعوة إلى تلك المعاصي.
ومنها: أن القلب يكون ذاهلاً عن عدوه من الشياطين والأبالسة، فإذا تاب علم أنه كان مستسلماً للعدو فتنبه إلى مثل هذا الأمر.
ومن ذلك: أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بعبده خيراً أنساه رؤية طاعاته، ثم يبتليه بالذنب، ويجعله نصب عينيه، فينسى الطاعات، ويجعل همه كله ذنبه، فيستغفر الله سبحانه وتعالى.. إلى آخره.
ومن آثار التوبة: أن ينشغل الإنسان بعيوب نفسه، وأن ينصرف عن عيوب الناس، فأكثر ما تجد العصاة لهم ألسنة لا يسلم منها أحد، ولهم أبصار تهتك كل ستر، عياذاً بالله! وينشغلون بالقيل والقال وبتتبع السقطات وتلمس العثرات، أما المؤمن إذا أقلع عن ذنبه وفاء إلى ربه وتاب إلى الله سبحانه وتعالى علم أن عنده ذنوباً تشغله عن ذنوب الآخرين، وأن عنده عيوباً لو قضى عمره كله في إصلاحها لشغلته عن عيوب الناس الآخرين.
فلذلك أيها الإخوة الكرام! ينبغي أن نكون -بإذن الله عز وجل- على هذا القدم من الهمة في الإقلاع عن المعصية، ومحو رسومها وشخوصها وكلما يمت إليها بصلة في واقع قلوبنا ونفوسنا، وفي واقع بيوتنا وبيئاتنا، ونسعى إلى ذلك في واقع مجتمعاتنا؛ لأن المعصية في المجتمع لها أثر عليك، مثل الهوى الملوث، فإذا خرجت في السوق ورأيت المنكرات والمعاصي فإنها تؤثر عليك شئت أم أبيت، فلابد أن يكون هناك حرب على هذه المعاصي، ودروع تقي سهامها، واحتياطات تمنع من شرورها، ولابد فوق ذلك كله من توبة فيها ندم وحرقة تدفع -بإذن الله عز وجل- إلى أن يكون هذا الندم وقوداً يدفع إلى طاعة لله سبحانه وتعالى لا تنقطع.
والله نسأل أن يمنعنا عن المعاصي، وأن يسهل لنا ويوفقنا إلى الطاعات.
الجواب: النسيان والتذكر لكل منهما وجه إيجابي وآخر سلبي، فإذا كان تذكرها ليتذكر مغبتها وجرأته فيها على الله ويزداد ندماً فذلك قد يكون فيه خير يدفعه إلى مزيد من الندم والبكاء والتضرع والذلة، ويدفعه إلى مزيد من العمل الصالح والإنفاق والتوبة والاستغفار، وأما إذا كان تذكرها للترغيب فيها والاستلذاذ بها والحنين إليها فذاك لا شك أنه داعية إلى المعصية فينبغي أن يفطم نفسه عن مثل هذا.
الجواب: ليس هناك وصفة طبية، وإنما هي: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] فاصدق الله واعزم على عدم الوقوع في المعصية، وأقلع إقلاعاً حاسماً ليس فيه تهاون ولا تسويف ولا أنصاف حلول، ثم اشرع في التوبة تذق لذتها، وابدأ في الطاعة ترى حلاوتها، فإنك حينئذ من طريق إلى طريق تتحول الوجهة بإذن الله عز وجل، وإذا صحت النوايا صح من الله سبحانه وتعالى تيسير الأمور ونزول التوفيق بإذنه سبحانه وتعالى.
الجواب: هل نضحك على أنفسنا؟ فهل تظن أن أحداً ممن ينظرون إلى الأفلام التي فيها النساء الكاسيات العاريات، والتي فيها الكلمات الفاسقة الفاجرة، والتي فيها المواقف المحمومة المشبوهة، والتي فيها كل ما هو من سخط الله، هل نظن أن أحداً من أولئك يفعل ذلك وهو يرى ذلك حلالاً أو يراه قربة وطاعة، أو يراه خيراً ومصلحة؟! إن أحداً لا يرى ذلك في أغوار قلبه وأعماق نفسه، ولكنها غفلة وهوى وضعف وأسر وقيد قد كبلته به المعاصي، فهو لا يملك لنفسه حولاً ولا قولاً وهو كرضيع لا يزال يفيء إلى أمه يرضع منها إن لم يفطم نفسه ظل على ذلك، وكان ذلك عاراً وشناراً عليه، وهل أحد يظن في مثل هذه الآثام أن فيها منفعة دنيوية أو أخروية، أو أن فيها مصالح طبية، أو أن فيها منافع اقتصادية؟! أغلب الناس يعلمون حقيقتها، ولكنهم يغالطون أنفسهم، أو ليست عندهم همة وعزيمة في مثل هذا الأمر.
الجواب: ذلك دليل ضعف إيمان ودليل عدم تمكن للطاعة وحبها وللإيمان وقوته في القلب، وإلا فإن المؤمن الصادق يكون أشد احتياطاً وتورعاً من المعصية، وأكثر إقبالاً وحباً للطاعة حال خلوته أكثر من حال جلوته مع الناس، وهذا ميزة ما بين المؤمن الصادق وغيره.
السؤال: بعض الملتزمين قد يقضون أوقاتهم في الضحك واللعب بعيداً عن ذكر الله والجد، وهذا يسبب ضعف الإيمان والغفلة، فما توجيهكم؟
الجواب: هذا من أعظم البلاء الذي قد ينتكس به حال الإنسان من حال خيرية إلى حال رديئة، فيجب الحذر من ذلك.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر