إسلام ويب

وصية عمرو بن العاصللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • آخر لحظة في الدنيا هي أصعب اللحظات، والموفق من ثبته الله فيها، فأحسن الظن بربه، ونطق شهادة التوحيد، ويمثل عمرو بن العاص رضي الله عنه مثالاً لذلك، ففي آخر لحظاته يلخص مراحل حياته من كفر وبغض للدين والرسول إلى حب وإعظام وإكبار للدين والرسول، ثم فتوحات وولايات في ميزان الحسنات، ثم هو على فراش الموت يرجو رحمة الله تعالى، ويوصي بألا يتبع بنار ولا نائحة، وأن يقفوا على قبره مقدار ما تنحر الجزور ليدعوا له بالثبات، وينظر ما يراجع به رسل ربه عز وجل ويستأنس بهم.
    إن الحمد لله تعالى؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أخرج مسلم في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن شماس المهري رحمه الله أنه قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى حتى علا نحيبه، ثم استدار ناحية الجدار، فقال له ابنه عبد الله: يا أبت! ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ فقال: يا بني! إن أفضل ما نعد: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإني لعلى أطباق ثلاثة، ولقد رأيتني وما أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إلي أني استمكنت منه فقتلته، ولو أني مت على تلك الحال لدخلت النار، فلما شرح الله تعالى صدري للإسلام أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو ؟ قلت: يا رسول الله! أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قال: قلت: أشترط أن يغفر لي. قال: يا عمرو ! أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ أما علمت أن الحج يهدم ما كان قبله؟ ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من كل شيء، وما كنت أطيق النظر إلى وجهه، ولو أني سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني من النظر إليه صلى الله عليه وسلم، ولو مت على تلك الحال لرجوت الله أن يدخلني الجنة، قال: ثم ولينا من هذا الأمر، ولا ندري ما الله صانع بنا فيها، فإذا أنا مت فلا تتبعني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، وامكثوا عند قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها كي أستأنس بكم، وأراجع رسل ربي).

    هذا حديث عظيم القدر، جليل الشأن، اشتمل على عدة مسائل في العقيدة والأحكام، حديث صاحبه إمام من أئمة المسلمين في زمن النبوة، إنه عمرو بن العاص ، صاحب مصر وواليها وفاتحها في العام الحادي والعشرين، وكان يلقب في الجاهلية بداهية العرب، كان سيداً ذكياً مطاعاً مجاهداً شجاعاً، أتى إلى مصر وفتحها سلماً أو حرباً، حتى يأتي كل مصري بعد ذلك إلى يوم القيامة في صحيفة حسنات هذا البطل المجاهد، صاحب واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يدخل بسببه ملايين الناس إلى الجنة، وهكذا كان دأبهم رضي الله تعالى عنهم، فقد باعوا أنفسهم وأموالهم بجنة عرضها السماوات والأرض.

    هذا البطل لما دخل عليه قومه وأصحابه وهو في لحظة الاحتضار، وفي آخر ساعات حياته قام يبكي؛ لأنه يعلم أنه قادم على الله عز وجل، وراحل عن هذه الدار التي لابد لكل حي أن يرحل عنها.

    لما رأى منه ذلك ولده عبد الله ذلك الابن البار والعالم النحرير، فقد كان عالماً عابداً ولا يزال طفلاً صغيراً في الثانية عشرة من عمره أثار إعجاب النبي عليه الصلاة والسلام، وإعجاب أصحابه بكثرة عبادته، وبحرصه على طلب العلم وكتابته، لما رأى ذلك من أبيه قال: يا أبت! لم تبكِ؟ ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟

    فقال له: يا بني. انظر إلى الملاطفة والموادعة: الابن يقول لأبيه: يا أبتِ، والرجل يقول لولده: يا بني. ملاطفة وموادعة، ومودة في الخطاب تفتح القلوب، وإنما فعل عبد الله ما قد أوجبه الشرع عليه من تذكير أبيه في هذا الموطن بعمله الصالح، وببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم له، حتى يقدم الوالد على ربه وقد أحسن الظن به، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم في صحيحه: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه). وقال الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) أي: إن ظن خيراً فهو خير، وإن ظن شراً في هذا الموطن فهو شر. وفي رواية: (فلا يظن بي إلا خيراً).

    من باب الإرشاد والنصح أن يحسن المرء ظنه بالله عز وجل وهو قادم عليه، ولذلك دخل النبي عليه الصلاة والسلام على رجل في سياقة الموت فقال له: (كيف تجدك يا فلان؟ قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده! لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو، وأمنه الذي يخاف).

    وقال النبي عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث في بيان البشرى وحسن الرجاء في الله عز وجل، قال: (قال الله تعالى: لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، من خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، ومن أمنني - أي: أمن مكر الله - في الدنيا أخفته يوم القيامة).

    الخوف والرجاء لا يجتمعان في قلب عبد وهو قادم على ربه ذاهب عن هذه الحياة إلا وأعطاه الله رجاه، وأمنه مما يخاف، ولذلك ذكره ابنه بما له من أعمال صالحة، وبأن الرجاء ينبغي أن يغلب عليه في هذا الموطن.

    ثم قال له ذلك المجاهد العظيم: يا بني! إن أفضل ما نعد - أي: للقاء الله عز وجل - شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. تلك الكلمة الطيبة الفاصلة بين الإيمان والكفر، الفاصلة بين الجنة والنار إذا عمل صاحبها بمقتضاها، والتزم شروطها وأركانها.

    هذه الكلمة مجردة لا تكاد تنفع صاحبها، ولذلك لما علم العرب بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام أنهم مطالبون بعد النطق بهذه الكلمة ما قد استوجبته والتزمته، امتنعوا عن قولها، وكثير من المسلمين اليوم يقولها لاعباً أو عابثاً، لا يعمل بمقتضاها، ولا يلتزم أحكامها ولا آدابها، فكيف له أن ينتفع بها؟

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088984143

    عدد مرات الحفظ

    780358751