السنة: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة: جماعة المسلمين وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين فاتباعهم هدى وخلافهم ضلال، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] وقال: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، وقال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].
وثبت في السنن الحديث الذي صححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)].
يحث دين الإسلام على التمسك بالسنة، ويحث على الاجتماع على العقيدة السلفية، وينهى عن التفرق والتعادي والتقاطع ، ويأمر بالتمسك بالصراط المستقيم، والأدلة على ذلك واضحة ظاهرة، ومنها قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] فأمر بالاتباع، وأمر بالتمسك بالصراط المستقيم، وهو الذي أمرنا الله تعالى بأن ندعو به في صلاتنا بقولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهو الطريق الذي سارت عليه الأمة الإسلامية، ونهجه أهل السنة، يأمر الله تعالى بالسير عليه، وبالتمسك به غاية التمسك، ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك به أشد ما يكون، وبالعض عليه بالنواجذ، التي هي أقاصي الأسنان، ولا شك أن ذلك كله دليل على أهمية السير على هذا الصراط السوي.
وينهى الإسلام عن التفرق والاختلاف؛ وذلك لأن في الاختلاف عداوة، فمتى اختلفت وجهة المسلمين فكانت طائفة تذهب إلى هذا، وطائفة تذهب إلى ذاك، وهذه تضلل الأخرى، وهذه تبدع هذه، ولم يكونوا مجتمعين على الحق، ولم يحصل بينهم التعاون على البر والتقوى؛ خيف عليهم أن يتسلط عليهم عدوهم، ويتغلب عليهم، فلا يقاومونه لاختلاف وجهاتهم، ولاختلاف أنظارهم.
والله تعالى قد نهى عن التفرق في مواضع كثيرة من كتابه، يقول الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، ويقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وينهى أيضاً عن الاختلاف كما في قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا [آل عمران:105]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159]، (شيعاً) يعني: أحزاباً، الشيع هو أن كلاً يذهب إلى رأي يتشيع له، يعني: يتعصب له.
وبكل حال فإذا عرفنا أن الإسلام يأمر بالاجتماع، فهذا الاجتماع لابد أن يكون على السنة، وأن يكون على الصراط السوي وعلى الطريق المستقيم، أما إذا كان المجتمعون قد اجتمعوا على ضلالة، اجتمعوا على بدعة، فإن اجتماعهم لا قيمة له؛ وذلك لأنهم تركوا الحق جانباً، وأعرضوا عن صراط الله الذي أمر بالتمسك به وبسؤاله، وهو الذي سارت عليه الأمة الإسلامية، وهو صراط المنعم عليهم الذين قال الله فيهم: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].
وكثيراً ما تأتي الأدلة في الحث على الجماعة، وكثيراً ما نسمع الخطباء يحثون على الجماعة، ويقولون: عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، أو فإن يد الله على الجماعة، والمراد بالجماعة هنا: جماعة الإسلام، الذين يجتمعون على قول صحيح سليم، ليس فيه خطأ ولا خلل، هؤلاء هم الجماعة، وجاءت الأحاديث تقول: (عليكم بالجماعة، (إياكم والفرقة)، (اجتمعوا على الحق ولا تفرقوا)، (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) ففيها حث المسلمين على أن يسيروا جميعاً، وأن الذي يشذ منهم فإنه إلى الهلاك، وتخطفه الشياطين، فيصير من نصيبها، كما أن الغنم إذا كانت مجتمعة فإن الراعي يراقبها ويرعاها، فإذا انفردت واحدة منها، وكانت بعيدة، وغفل عنها، جاء السبع فأكلها، فكذلك جماعة المسلمين.
ليس كذلك، بل هم أهل فرقة، وهم أهل بدعة، وهم أهل ضلالة، ولو كثر عددهم، ولو كثرت جماعاتهم، ولو حصلت لهم قوة معنوية، أو قوة حسية، فإنهم ليسوا من أهل الجماعة، وليسوا من أهل السنة، فأهل السنة والجماعة هم من كان على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويقلون ويكثرون، وأحياناً يمكن الله لهم، فيرجع ضالهم، ويرشد غاويهم، فيكثرون على الحق، ويتمسكون به، ويسيرون عليه، وأحياناً يكثر أعداؤهم فيضلون الخلق، ويشتتون الجماعات، ويقل المتمسكون بالسنة، ويصيرون أفراداً، فلا يعرفون، وربما يستخفون بمذهبهم، ويكنونه ولا يجهرون به، ومن جهر به أوذي وطرد واضطهد وسجن وشرد وهرب، وهو مع ذلك على السنة، وعلى العقيدة وعلى التوحيد، وعلى الدين الإسلامي، وعلى الصراط المستقيم، ولكن إذا قويت البدع وقويت المنكرات في بعض البلاد تسلط أهلها على أهل الحق واستضعفوهم، وساموهم سوء العذاب، ولكن النصر والتمكين لهم، والعاقبة للتقوى، إذا صبروا واحتسبوا، وما أصابهم في ذات الله وفي دينه كان رفعاً لدرجاتهم، وإعظاماً لأجرهم.
يحصل في هذه الأزمنة اضطهاد كثير لأهل الحق، وإذلال لهم، واتهام لهم بالثورات وبالانقلابات على الدولة، وأنهم يريدون السلطة، وكذلك مطاردتهم في الأسواق وغيرها، وكل من رؤي متمسكاً بالسنة وعاملاً بها اتهم بالاتهامات البعيدة، وأدخل السجون وضرب، وفرضت عليه الضرائب التي تثقل كاهله وما أشبه ذلك، كما هو موجود في كثير من الدول التي تنتمي إلى الإسلام، وهذا لا يدل على أن هؤلاء ليسوا على الحق، بل هم على حق، وإذا صبروا كان ذلك أعظم أجراً، ولا يدل على أن تلك الأمم والشعوب والدول التي أظهرت خلاف الحق، وانتهجت الباطل؛ على حق وصواب، فالعبرة لسيت بالكثرة، إنما العبرة بالإصابة، العبرة في الحق لمن كان مصيباً للحق ومتمسكاً به، هذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة.
وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.) وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى، عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً).].
هذه أدلة على أن أهل الحق هم المتمسكون بالسنة النبوية، وهم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والصحابة رضي الله عنهم ما خاضوا في علم الكلام الذي خاض فيه المتكلفون المتكلمون، وكذلك كانوا يكرهون الاختلاف حتى في الفروع، بل إذا اختلفت عليهم الأدلة قالوا: آمنا بها وفوضنا ما لم نعلم، وعملنا بما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وكان في عهده.
وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن الاختلاف، خرج عليهم مرة وقد اختلفوا في القدر، فكأنه فقئ في وجهه حب الرمان، يعني: احمر وجهه من الغضب، فقال: (يا عباد الله! أبهذا أمرتم أم بهذا كلفتم؟ أتضربون كتاب الله بعضه ببعض؟! ما عرفتم منه فاعملوا به، وما لم تعرفوا فكلوا أمره إلى عالمه.).
هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت علينا الأدلة أن نأخذ بما هو الأنسب والأظهر، وندع الاختلاف.
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بوقوع الاختلاف في هذه الأمة، ففي هذا الحديث الذي تقدم أخبر بأن أمته ستتفرق بهم الأهواء إلى ثنتين وسبعين فرقة، وكل طائفة تزعم أن الحق في جانبها، وكل طائفة تضلل غيرها وتبرر موقفها.
وهذه الاختلافات اختلافات اعتقادية، يضلل من خالف فيها، وليست اختلافات في الفروع وفي المسائل الاجتهادية التي طريقها الاجتهاد، فإن هذه لا يضلل فيها، ولهذا خالف بعض الأئمة مشايخهم دون أن يضللوهم، فالإمام مالك رحمه الله كان إماماً متبعاً، وقد خالف أبا حنيفة في أشياء، والإمام الشافعي قرأ على مالك وأخذ عنه علمه، وقد خالفه في أشياء من الفروع، وكذلك أحمد خالف الأئمة الذين قبله في أشياء، ولكن ليس هذا ضلالاً، وليست هذه المذاهب من الفرق الضالة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنها في النار إلا واحدة، إنما تلك هي البدع المضلة التي تتعلق بالعقيدة، ولا شك أن أمور العقيدة أدلتها يقينية، أدلتها قطعية، ولا يستدل عليها بالأدلة الظنية التي يتطرق إليها احتمال الثبوت أو عدمه، وإنما يستدل عليها بأمور قطعية الدلالة لا لبس فيها ولا خفاء، ولكن عميت الأعين وصمت الآذان، فإن أولئك المبتدعة يرون الحق أبلجاً، ويرون الصراط مستقيماً، فتأتيهم بالأدلة، وتوضحها لهم، ولكن هم صم ولو سمعوا، بكم ولو نطقوا، عمي ولو نظروا، بهت بما شهدوا، عموا عن الحق، وعن سماعه صموا، وعن قوله خرسوا، وهذا حرمان من الله، وإلا فالطريق واضح؛ ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأهواء الثنتين والسبعين، وأمر بالتمسك بالجماعة، وقال: (كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)، وفي رواية: (هم ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما جاءه رجل وقال: إن فلاناً يزعم أنه يكون قبل القيامة دخان يأخذ بمشام الناس، فعجب لذلك! حيث استدل بقوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10] فقال: إن الله تعالى قال لنبيكم: وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، وإن هذا من التكلف؛ لأن هذا فسر الآية بما يراه أو بما يظنه من أن الدخان المذكور فيها يكون قرب الساعة، وبكل حال فهو ينكر على من يتكلف في تفسير الآيات بمثل هذه الاحتمالات.
فإذا نظرنا فيما روي عن الصحابة رضي الله عنهم، لم نجد في علمهم شيئاً من التكلف، بل وجدناهم يأخذون الأدلة على ظاهرها، ويفوضونها أو يعتقدون ما دلت عليه.
وقد حدث الضلال في آخر عهدهم من بعض المنكرين لبعض الأمور الغيبية، كما روي أن رجلاً انتفض عند ابن عباس لما قرأ آية في الصفات استنكاراً لها، فقال ابن عباس: ما فرق هؤلاء؟! يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه!
أما الأثر المروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله!)، فإنه دليل على أنه قد وجد في عهده من يتحدث بأشياء قد تستغرب، وقد يستنكرها بعض الجهلة، فلأجل ذلك نهى أن يحدثوا بالأشياء التي فيها شيء من الغرابة، وأمرهم أن يتحدثوا بالأشياء المعلومة كالأحكام، أي: اشغلوا أوقاتكم بالأحكام، وبأمور الطاعة، وبنوافل العبادات، وإياكم أن تشتغلوا بالأشياء التي فيها غرابة، ويستنكرها العامة وينكرونها، وإذا أنكروها وهي قطعية هلكوا، حيث إنهم كذّبوا الله ورسوله، فهذه طريقة وسيرة السلف الذين هم الصحابة ومن سار على نهجهم.
وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية، فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل ونهايته، فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، فغير الله يحب في الله لا مع الله، فإن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضائه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق لمحبوبه في كل حال، والله تعالى يحب المحسنين، ويحب المتقين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ونحن نحب من أحبه الله، والله لا يحب الخائنين، ولا يحب المفسدين، ولا يحب المستكبرين، ونحن لا نحبهم أيضاً، ونبغضهم موافقه له سبحانه وتعالى.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا الله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).
فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه، وولايته وعداوته، ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة، فلابد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4].
والحب والبغض بحسب ما فيهم من خصال الخير والشر، فإن العبد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة، والحب والبغض، فيكون محبوباً من وجه ومبغوضاً من وجه، والحكم للغالب، وكذلك حكم العبد عند الله، فإن الله قد يحب الشيء من وجه ويكرهه من وجه آخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه)، فبين أنه يتردد؛ لا أن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه وتعالى يحب ما يحب عبده المؤمن، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال: (وأنا أكره مساءته)، وهو سبحانه قضى بالموت، فهو يريد كونه، فسمى ذلك تردداً، ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك، إذ هو يفضي إلى ما هو أحب منه].
وفي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، أخبر بهذا؛ لأن هذه الثلاث لابد منها حتى يجد بها المسلم حلاوة الإيمان، بدأها: بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، يعني: من النفس ومن المال ومن الأهل والوالد، ومن القريب والبعيد، ومن كل شيء حتى من نفسه، ومعلوم أنه إذا حصلت له هذه المحبة تبعها غيرها، فإذا أحب الله تعالى، وأحب رسوله صلى الله عليه وسلم تبعتها الخصلتان الباقيتان، تبعها محبة ما يحبه الله، وتبعها كراهة ما يكرهه الله، فالثلاث متلازمة مترابطة.
والخصلة الثانية: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، معلوم أن من أحب الله أحب ما يحبه الله، بل العادة أن إنساناً إذا أحبك أحب كل من تحبه، فأنت مثلاً إذا أحببت زيداً، أحببت من يحبه زيداً؛ وذلك لأنك وثقت به، وصار له قدر في قلبك، وصارت له منزلة، فصرت توقره وتحبه، فإذا رأيته يؤثر عملاً آثرت ذلك العمل معه، وإذا رأيته يجتنب شيئاً اجتنبته؛ لأنك تثق به وتعرف أنه لا يفعل إلا ما هو خير، ولا يتجنب إلا ما فيه ضرر، فكيف بما يكرهه الله تعالى؟! لا شك أنك تكرهه، كيف بما يُحرّمه ويبغضه؟! لا شك أنك تبغضه، كيف بمن يحبهم الله تعالى من الأشخاص؟! لا شك أنك تحبهم.
وقد تقول: لكن الله تعالى قد ذكر أن المؤمنين يحبون المنافقين ظاهراً، في قوله تعالى في سورة آل عمران: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119] فهؤلاء الصحابة الذين يحبون الله ويحبون الرسول، ويؤثرونه على أنفسهم، ويفدونه بأرواحهم، كيف يحبون المنافقين؟!
الجواب: لأنهم يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، ويخفون عقيدتهم، فيبطنون ما هم عليه من الضلال والبغضاء، الذي هو بغض الله، وبغض رسوله، وبغض الصحابة، وبغض المؤمنين، ولا يبدون ذلك، إنما يظهرون أنهم من أولياء الله، وأنهم من أحبابه، فلأجل ذلك وثق بهم المؤمنون فصاروا يحبونهم، يعني: تحبونهم؛ لأنهم يحبون الله ظاهراً، تحبونهم؛ لأنه يظهرون لكم محبة الرسول، وأنتم تحبون الرسول، ومحب المحبوب محبوب، ولكن هم لا يحبونكم؛ لأنكم تحبون الرسول، وهم يبغضونه، ومحب المبغوض مبغوض، فلما صرتم على يقين وعلى عقيدة من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم على الضد من ذلك يبغضونه، وأبغضوكم؛ لأنكم تحبون مبغوضهم.
إذاً: عليك أن تحب من يحبه الله، وتبغض من يبغضه الله، وتظهر عليك آثار هذه المحبة، ولا شك أن لها آثاراً، ومن آثارها: الولاء والبراء .. العطاء والمنع .. التقريب والإبعاد، فمن أحببته أعطيته، ومن أبغضته حرمته، ومن أحببته قربته، ومن أبغضته أبعدته، وابتعدت عنه، ومن أحببته واليته، ومن أبغضته عاديته.
من الخصال التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مما يجب للمسلم على المسلم، في قوله: إنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم هذه الثلاث المسائل: وذكر الثالثة منها: أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، واستدل بالآية التي في آخر المجادلة: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] لا تجد المؤمنين حقاً يوادون المحادين لله ورسوله أبداً، لا تجدهم يوادونهم، بل لابد أن يعادوهم ويقاطعوهم وينبذوا لهم قوس العداوة، ولو كانوا أقرب قريب، ولهذا قال: وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22] يعني: أقاربهم الخاصين بهم، وما ذلك إلا أنهم لما أحبوا الله أبغضوا من يبغضه الله، فالذين عادوا الله، ولو كانوا أقارب عاداهم أولياء الله، ومقتوهم، وابتعدوا عنهم، وقطعوا الاتصال بهم. أما أولياء الله فإنهم يحبونهم، ولو كانوا بعيدين في النسب، فصار بعضهم يؤثر أخاه المسلم على نفسه، ولو كان من فارس أو من الروم أو من البربر أو من الحبش أو نحو ذلك، فمثلاً: من الصحابة: بلال حبشي من الحبشة، وصهيب رومي من الروم، وسلمان فارسي من فارس، ولكن جمعت بينهم أخوة الإسلام ومحبة الله، فصاروا أخوة في ذات الله تعالى، يحب بعضهم بعضاً، ويؤثر بعضهم بعضاً، فهكذا تكون آثار هذه المحبة.
فلما أحب الله الصالحين، وأنت تحب الله أحببتهم، ولما أبغض الكافرين، وأنت تبغض ما يبغضه الله أبغضتهم، وكذلك الأعمال، فإن الله تعالى يبغض كثيراًمن الأعمال، يقول الله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]، وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32]، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23]، إذا كان الله لا يحب هؤلاء فلا تحبهم، بل أبغضهم، انظر من يحبه الله؟
الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، ويحب أهل هذه الخصال، ويحب الأعمال الصالحة، ويحب من عباده أن يأتوها، فالذي يدعي المحبة لابد أن تظهر عليه آثارها وعلاماتها الواضحة.
روي عن بعض السلف رحمه الله أنه قال: من ادعى محبة الله ولم يوافقه فدعواه كاذبة؛ لأن الذي يحب الله يوافقه في أوامره ونواهيه، ويفعل ما يحبه الله من الطاعات، ويكره ما يكرهه الله من المحرمات والمعاصي، وكذلك أيضاً يحب أولياء الله ويبغض أعداء الله، وبذلك يكون صادقاً في هذه المحبة، وإذا لم يكن كذلك فليس بصادق، والذي يتظاهر بالمعصية ومع ذلك يدعي أنه يحب الله ليس بصادق، يقول بعض الشعراء:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا عجيب في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعتـه إن المحب لمن يحب مطيع
فعلامة المحبة طاعة المحبوب.
محبة الله تعالى واجبة، وعلاماتها ظاهرة، وهي: طاعته، وحب العبادات التي يحبها، وحب العباد الذين يحبهم،وكذلك موافقته، وكذلك بغض المعاصي التي حرمها ومقتها وأبغضها، ومعاداة العصاة والكفرة الذين أبغضهم وكرههم ومقتهم، فمن كان كذلك فإنه من أحباب الله الذين وعدهم الله تعالى بالثواب العظيم، جاء في الحديث القدسي يقول الرب تعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)، هكذا ورد في هذا الحديث، ومعنى كون الله تعالى إذا أحبه يقول: (كنت سمعه... إلخ) أي: أنه لا يسمع إلا ما يحبه الله، ولا يبصر إلا ما يحبه الله، ولا يمد يده ويبطش إلا في طاعة الله، ولا يحرك قدمه ماشياً إلا فيما أمر الله به وأحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر