يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي, هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فإن الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين وليس لهم حط رحالهم إلا في الجنة أو النار, لأن الدنيا ليست لهم بدار مقام، وليست هي الدار التي خلقوا لأجلها, قال جل في علاه: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]، وقال جل في علاه : ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]، وقال عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المائدة:96].
وقد صور لنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حال المؤمن في هذه الدنيا الزائلة الفانية كما في الصحيح عن ابن عمر أنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه -موضحاً ومبيناً مشقة السفر وطوله-: آه من طول الطريق وقلة الزاد.
أخي المسلم: إنك في هذه الدنيا الفانية الزائلة مسافر إلى ربك, وراحل إليه، وستقف أمامه لا محالة، وسيكلمك وليس بينك وبينه حجاب.
واعلم أخي الكريم أن كل مسافر له أحوال, فالمسافر إلى الشيطان له أحوال, والمسافر إلى الرحمن له أحوال, جعلنا الله وإياك ممن يسافرون إلى الرحمن.
وفي الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً ومتعلما) أي: أن الدنيا لا تساوي عند الله شيئاً، وهي مع ذلك ملعونة وملعون من شغفها حباً وحام حولها.
فإذا شق الزهد على المسافر واشتد عليه الأمر الذي يسافر به إلى ربه، وخطفته الدنيا بشهواتها وزينتها فعليه أن يتذكر كيف كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم, فهو أسوته وقدوته صلى الله عليه وسلم, فلقد كانت حياته من الزهد في الدنيا والتقلل منها ما يكون نبراساً لكل مسافر إلى ربه جل وعلا.
وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم).
كيف لا وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند يهودي في صاع من تمر أو صاع من شعير؟ إن الله الذي اختار لنبيه أن يكون سيد المرسلين وإمام المتقين، قد اختار له أفضل حياة، ألا وهي الزهد في الدنيا والتقلل منها, فكان صلى الله عليه وسلم -من زهده في هذه الدنيا الفانية- ينام على الحصير فيظهر أثره في جسده الشريف, فدخل عليه عمر فقال: (يا رسول الله! كسرى وقيصر ينامون على الحرير، وأنت رسول الله -أي سيد الخلق أجمعين- تنام على الحصير! فقال صلى الله عليه وسلم -يعلم
وفي مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: أخرجت لنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها كساءً ملبداً -أي: مخرقاً مرقعاً- وإزاراً غليظاً، فقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين الثوبين.
فليكن أخي الكريم هذا حالك.
أيها الراحل إلى ربك! إن أردت الوصول إلى الله فكن زاهداً في الدنيا، مقبلاً على الآخرة، قد آثرت الباقي على الفاني.
إن لله عباداً فطناً طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطناً
جعلوها لجةً واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال.
واعلم أخي المسافر! أن النعيم لا يدرك بالنعيم, وأن من آثر الراحة فاتته الراحة, وبحسب الجد والاجتهاد وتحمل المشقة تكون اللذة والفرحة, فمن جد وجد, ومن طلب العلى سهر الليالي.
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
لقد كان سيد المجتهدين وإمام المرسلين يجد ويجتهد في طلب الله ورضوانه جل في علاه, فكان يقوم الليل كله إلا قليلاً، حتى تورمت قدماه, ويقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً).
واجتهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه في العبادة اجتهاداً عظيماً، ولما كان على فراش الموت قالوا له: يا أبا موسى! لولا رفقت بنفسك! فقال: إن الخيل إذا قاربت المنتهى -أي في السباق- وصلت، فالخيل تبدأ الهوينا, ثم تسرع فإذا وصلت إلى الخط الأخير اجتهدت اجتهاداً كبيراً, وهذا بقي من أجله أقل مما مضى, فلم يزل رضي الله عنه على هذا الحال من الاجتهاد في عبادة الله جل وعلا، من قيام وصيام وذكر لله حتى رحل إلى ربه جل في علاه.
وكان عامر بن عبد الله يقوم الليل كله ويقول: أذهب حر النار نوم الليل.
إن هذه الكلمات بيان، وإن من البيان لسحراً، فمن منا يستيقظ في ليله ليقومه، ويستغفر في سحره، ويتذكر النار وعرصات يوم القيامة والكلاليب والصرع ويقول: أذهب حر النار نوم الليل؟
وكان الإمام الأعظم أبو حنيفة رحمة الله عليه يقوم الليل كله، ويقبض على لحيته باكياً ويقول: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:1-5] ويتلو الآيات ويتدبرها ويعقلها ويفقه ما فيها, ثم يختمها ويقول: يا من تأخذ بمثقال الذرة اغفر لـأبي حنيفة .
إنها همم عالية كالجبال الشم الشوامخ, وإن الله يحب صاحب الهمة العالية, ويكره قليل الهمة ومن يهتم بسفاسف الأمور.
فمن زاد المسافر إلى ربه أيضا أنه إذا أنشأ عبادة داوم عليها، فلا يبكي في رمضان بكاء الأطفال، فيقوم الليل كله في ليالي رمضان, ثم إذا ذهب رمضان ذهب رب رمضان، وذهبت عبادة رمضان، ورجع إلى المعاصي كالزنا والربا, فكن فيما بعد رمضان كما أنت في رمضان, فإن المسافر إلى ربه جل وعلا إذا أنشأ عبادةً وطاعةً لله استدام عليها؛ لأنه يعلم يقيناً أنها ترفعه إلى المنازل العالية، ويستحضر في ذلك قول عائشة كما في الصحيح قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً داوم عليه, وكان يقول: (إن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلت) وفي رواية: (إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد صلاة العصر، ثم داوم عليها بعد صلاة الظهر ولم يتركها عملاً بما قال: (إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) وكان إذا نسي شيئاً من حزبه أو نام عنه قضاه في نهاره.
أخي الكريم: كن مستديماً لطاعة ربك جل وعلا تبلغ المنازل العلا.
إن المسافر إلى ربه جل في علاه لا يفتقر إلا لربه, يستغني الناس بالدنيا، فيستغني هو بربه جل وعلا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
أخي الكريم: إن المسافر إلى ربه جل في علاه يداوم على الطاعة؛ لأن عظمة الهمة العالية في صدره, فلا يرضى بالقليل، وهو يعلم أن من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز, فلا يرضى بغير مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم, ولا يرضى بدرجة سفلى في الجنة، إلا بالفردوس الأعلى, فهذا حال المسافر المجد الذي يعلم إنه إذا اجتهد بلغ عند ربه مرتبة عالية في الجنة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر, يوم أن يقترب يوم الزيارة من ربه جل وعلا.
أخي المسافر: تذكر أن زادك وأنت ترحل إلى ربك جل وعلا أن تفتقر كل الفقر لربك، وإن استغنى الناس بغير الله, واستغنوا بالجاه أو السلطة أو المال أو الولد، فاستغن أنت بربك جل في علاه, ومن كان الله معه فمن عليه؟! فمن استغنى بالله فافتقر فإنه لا يفتقر إلا إلى ربه جل وعلا.
لسان حال المسافر يقول: إذا اكتفى أهل الدنيا بنعيمها، فلا أكتفي أبداً من فضل الله وسعة رحمته، ولا غنى لي عن بركته, وهذا فقه عال، كما فعل ذلك أيوب -صلى الله عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- لما شفاه الله وأمر السماء أن تنزل عليه جراداً من ذهب جعل يحثو في ثيابه، فقال له الله جل وعلا: يا أيوب! ألم أكن قد أغنيتك؟ فقال -بفقه عالٍ وهمةٍ كبيرة- لا غنى لي عن بركتك. فهذا حال المسافر إلى ربه جل وعلا.
وإذا أنس أهل الدنيا بأحبابهم أنس المسافر بربه, وإذا استغنى أهل الدنيا بالدينا, استغنى هو بالله، فهو يتودد إلى ربه بالطاعات ويطمع في كرمه بالدعوات, ويريد العزة بالذل له, والرفعة بالتواضع له.
وانظر إلى عظم المنزلة فإن جبار السماوات والأرض يتردد في قبض روح عبده، وهذه صفة جليلة تليق بجماله وكماله, فالرب الجليل يرتدد لقبض روح المؤمن المسافر الذي رحل إلى ربه بكيانه كله, والذي تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فقال: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي لقبض روح المؤمن, يكره الموت وأكره مساءته) يا لله ما أعظمها من منزلة وما أكرمها من درجة!
إن المسافر وهو في شوقه إلى ربه على الديمومة , قد أحب لقاء الله, فأحب الله لقاءه, وقد اهتز عرش الرحمن لمن أحب الله لقاءه, فقد ورد في الآثار -ويتسامح في الأسانيد- أن عرش الرحمن اهتز فرحاً لقدوم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه, تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، أحبت المخلوقات لقاءه, فالعرش العظيم اهتز فرحاً بقدومه رضي الله عنه وأرضاه.
كيف لا وقد خير أعظم المسافرين صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة, فاختار جوار ربه صلوات الله وسلامه عليه, وقال: اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى! وكان معاذ رضي الله عنه وأرضاه في مرضه الذي مات فيه يقول: اللهم اخنق خنقك فإنك تعلم أني أحبك.
اللهم ارزقنا الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
أيها المسافر الكريم: اعلم أن الطريق شاق وطويل، فاستعد للرحيل، وهيئ الزاد، واستعن بالكريم الجليل، تفز بالعيش الهنيء وتشرب من السلسبيل, فتقطع بعون الله جل وعلا المسافات، ثم تفز بعد ذلك بالجنات.
فأول هذه السنن وأعظمها: الاعتكاف في هذه الليالي المباركات؛ لأن رسول الأنام صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر شد المئزر واجتهد في عبادة الله جل وعلا، وأحيا ليله وأيقظ أهله صلى الله عليه وسلم, طلباً لليلة هي خير من ألف شهر, وهي ليلة القدر, قال تعالى مبيناً فضل الاعتكاف مطلقاً -وقد بينه الرسول أنه في العشر الأواخر- : أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125].
وفي الصحيح عن بعض صحابة رسول الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف واعتكف أصحابه معه؛ طلباً لليلة القدر.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من المجتهدين في عبادته وطاعته.
اللهم نسألك عيش السعداء وموت الشهداء ومرافقة الأنبياء.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات, والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات, اللهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، فإنك أنت الأعز الأكرم, اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لكل ما تحبه وترضاه، اللهم خذ بنواصيهم إلى البر والتقوى، واجعلهم رحمةً على رعاياهم يا رب العالمين, اللهم اجعلهم نصراً لدينك، رافعين للواء نبيك صلى الله عليه وسلم, اللهم انصر الإسلام والمسلمين, اللهم انصر المستضعفين في كل مكان, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر