وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني الكرام! تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، ويسر لنا ولكم طريق الهدى، ونسأله الرفعة في الدرجات عنده جل وعلا.
إن لقبول الأعمال عند الله جل وعلا علامات، منها:
الزهد في الدنيا والمسارعة في أعمال الآخرة بترك الدنيا خلفك ظهرياً والإقبال على الله جل وعلا، ولسان حالك يقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، وطرح كل الشهوات والشبهات خلفك ظهرياً.
فالوصول إلى القمة أمر سهل، وقد يكون صعباً نوعاً ما، لكن الاحتفاظ بالقمة أمر أصعب، والعبد إذا ارتقى وفُتح له باب من الخيرات، فهذا فتح من الله جل وعلا، والأمر الأصعب من ذلك هو الثبات على هذا الخير، ولهذا رغب الله سبحانه وتعالى أهل الطاعات بالثبات على الصالحات والعبادات حتى الممات، وعاب على أقوام تركوا العبادات خلفهم ظهرياً بعدما فتح الله عليهم بها، قال الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ النحل:92]، فعاب الله على من نسجت غزلها بقوة وبحسن وبشدة، ثم بعد هذا التعب والعناء جعلته هباءً منثوراً، وهذا وصف دقيق لمن يجتهد في العبادة ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً أو شهراً ثم بعد ذلك يتوانى ويتقاعس والعياذ بالله.
وعاب الله تعالى أيضاً على أقوام سبقونا باجتهادهم في العبادة ثم بعد ذلك ولوها ظهرياً، قال الله تعالى: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، فبعدما اجتهدوا في الطاعات تركوها وتوانوا وتقاعسوا عن المسارعة في الخيرات فقست قلوبهم.
وقال جل وعلا منكراً على النصارى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ الحديد:27]، و(إلا): استثناء منقطع بمعنى: لكن ابتغاء، فهم ما فعلوا ذلك إلا مسارعة واجتهاداً في عبادة الله، قال: إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ، فتقاعسوا عن هذه الطاعات، قال تعالى: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27].
والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أناس كانوا يجتهدون في الطاعات ثم يتقاعسون عنها، فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- لـعبد الله بن عمرو بن العاص ناصحاً له: (لا تكن كفلان، كان يقوم من الليل ثم تركه)، ومعلوم باتفاق علماء المسلمين أن من حفظ القرآن ثم نساه بتفريط منه فإنه آثم عند ربه جل وعلا والعياذ بالله.
وكانت عائشة تصف عبادات النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين بقولها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على الطاعة فإن فاته من حزبه شيء -أي: من قيام الليل أو قراءة القرآن- صلى في النهار ثنتي عشرة ركعة)، وذلك حتى يثبت على الخير فلا يفوته، وكان من دأبه صلى الله عليه وسلم: أنه إذا ابتدأ طاعة لا يتركها، حتى إنه صلى الله عليه وسلم شغله تقسيم الصدقة عن سنة الظهر، فأقبل عليه العصر فصلى الفرض ثم صلى بعده سنة الظهر قضاءً حتى لا يترك هذه العبادة التي ابتدأها، ولذلك قال بعض العلماء: بأنها سنة، والصحيح الراجح: أنها ليست بسنة، بل هي خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان من دأبه صلى الله عليه وسلم: عدم ترك طاعة ابتدأها حتى يموت، وهذا هو دأب الصالحين، ولذلك حرص الصحابة رضي الله عنهم على هذا الأمر، فقد حثهم الله سبحانه وتعالى عليه وحثنا كذلك معهم.
أما الأسباب السلبية؛ فلا بد أن يتجنبها المرء، وأشد وأخطر هذه الأسباب هو الشرك بالله، فهو من الأسباب التي تعطل مسيرة الثبات على الأعمال الصالحات، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وقال الله تعالى وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال جل وعلا: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:217]، فالشرك بالله من محبطات الأعمال والعياذ بالله، وتجنب الشرك من الأسباب الميسرة للثبات على الأعمال الصالحات.
ومن الأسباب السلبية التي يجب تجنبها كذلك: الرياء والعياذ بالله، فإنه من الأسباب الصارفة عن الثبات على الأعمال الصالحات، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به) أي: فضحه إلى يوم القيامة ولم يثبته على طاعة؛ لأنه لم يفعلها لوجه الله جل وعلا.
وروى النسائي وأبو داود والبغوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه جاءه رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل ليُرى مكانه، -أي ذلك في سبيل الله؟- أو قال: ما له يا رسول الله؟! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ليس له شيء. فقام الرجل فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل ليرى مكانه، ما له؟ قال: ليس له شيء -قالها ثلاثاً- ثم قال في الثالثة: ليس له؛ إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه وابتُغي به وجه الله جل وعلا)، فالرياء من محبطات الأعمال ومن العوائق على الثبات على الأعمال الصالحات، فإن أنشأ عبادة رأى فيها مكانه عند الناس والعياذ بالله، أو طرح مكانه عند الله جل وعلا، فإنه لا يثبت على هذه الطاعة، بل تجر له المعاصي وتطرح عنه الطاعات.
أما الأسباب الإيجابية التي تثبت المرء على الأعمال الصالحات، وتيسر له أن يسارع في الخيرات عند رب البريات، فأولها وأهمها: هو الإخلاص لله جل وعلا: قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ البينة:5]، وقال: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110] أي: كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، وفي الصحيحين كذلك: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) نعوذ بالله من ذلك.
ومن الأسباب الإيجابية أيضاً التي تثبت العبد على الصالحات: القصد في الطاعات؛ لأن الهمة يمكن أن تأتي للعبد في ليلة من الليالي فيقوم تلك الليلة في طاعة الله ثم يجلس بجانب هذه الليلة شهراً بعيداً عن طاعة الله جل وعلا، وهذا ليس ممدوحاً عند الله، بل لو قام بركعة واحدة كل ليلة طيلة الشهر ولو لعشر دقائق، لكان أفضل عند الله سبحانه وتعالى من هذا الرجل الذي قام ليلة يجتهد فيها ثم مكث شهراً متقاعساً عن عبادة الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فسددوا وقاربوا، وعليكم بشيء من الدلجة)، وقال أحدهم: ما رأيت مثل النار نام هاربها، وما رأيت مثل الجنة نام طالبها.
كذلك من الأسباب الإيجابية التي تساعد العبد على الثبات على الأعمال الصالحات: الدعاء الذي هو مخ العبادة، أو كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة)، فالعبد بتضرعه وتذللـه لله جل وعلا بأن يثبته على الحق يجعل الله يثبته على الأعمال الصالحات، قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، أي: في القبر.
ومن الأسباب الميسرة أيضاً للثبات على الأعمال الصالحات: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
نسأل الله جل وعلا أن يثبتنا وإياكم على الأعمال الصالحات وأن يتقبل منا ومنكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر