يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فالله نسأل أن يجمع بيننا جميعاً في خير وعلى خير، وأن يديم علينا مجالس العلم، وأن يجعلنا ممن يسارع في طلب العلم ويحثون عليه؛ لأن أرقى الناس وأرفعهم عند الله جل وعلا هم طلبة العلم, فطلبة العلم هم الواسطة بين الخالق وبين المخلوق, وكما قال ابن عيينة: أرفع الناس منزلة: الواسطة بين الخالق وبين المخلوق.
وينبغي أن يحث بعضنا بعضاً على طلب العلم في مجالس العلم, وعلى المسارعة إلى رفعة هذه الأمة, فإن صلاح هذه الأمة في هذه الحقبة من الزمن لن يكون إلا بما صلحت به مع الرعيل الأول, الزكي النقي، الذي مكن له في مدة وجيزة من الزمن.
إن الإنسان إذا نظر في الواقع الأليم الذي تمر به الأمم والشعوب منذ سنوات طويلة وقرون عدة يعتصر قلبه ألماً, ويتحسر مما يرى أو مما يعلم بما وقع لهذه الشعوب.
والمتأمل فيما وقع لهذه الشعوب أو في الأسباب التي أوقعت هذه الشعوب في الهلاك والفناء والقتل والتشريد سيجد سبباً يلوح في الأفق، هذا السبب هو أنهم لم ينزلوا الناس منازلهم, ولم يعرفوا للرسول صلى الله عليه وسلم قدراً، ولم يعظموا له مقاماً, فخابوا وخسروا لأنهم لم يعرفوا لكل رسول قدره وعظم منزلته، ابتدءً بأمة نوح عليه السلام وانتهاءً بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فقد كان قوم نوح كلما مروا على نوح سخروا منه, والله جل وعلا يبين لنا أن هذا هو دأب الجهلة السفهاء البله, فيقول جل وعلا: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الحجر:11] أي: يسخرون من هذا الرسول، فهذا النبي جاء إلى قوم جهلاء، فأوقع الله عليهم الهلاك وصب عليهم العذاب صباً؛ لأنهم لم ينزلوا الناس منازلهم.
وما أهلك قريشاً إلا سخريتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, فلما سخروا منه وقالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] أذاقهم الله وسامهم سوء العذاب, حتى دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
فإنزال الناس منازلهم ومعرفة الأسباب التي جعلت هذه الأمة تمكن في مدة وجيزة من الزمن هو الذي يجعلنا نسير على الدرب لعلنا نصل.
هذه الأمة تمكنت؛ لأنها أولاً: نظرت إلى صفات الله جل وعلا وإلى أفعاله سبحانه، فطبقتها خلقاً واقعاً على هذه الأرض.
ونظرت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الهدي النبوي فسارت على نهج النبي صلى الله عليه وسلم.
فالله جل وعلا بين لنا أن من أوج الأسباب التي ترتفع بها الأمم أن يعرفوا قدر أنفسهم، وقدر أئمتهم, وينزلوا الناس منازلهم, فالله جل وعلا يقول: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3] فيبين الله جل وعلا أن هناك تفاوتاً عظيماً بين الناس, وأن كل صاحب فضل لا بد أن يؤتى فضله, وكل صاحب قدر لا بد أن يؤتى هذا القدر.
والله جل وعلا من أجل ذلك فاوت بين درجات العباد في الجنة, فمنهم من في الفردوس الأعلى, ومنهم من هو أنزل درجة منها، ومنهم من هو أنزل منه درجة, ومنهم من يكون في آخر درجات الجنة.
والغرض المقصود أن الله جل وعلا فارق وفاضل بين العباد؛ لأنه سبحانه وتعالى حكم عدل، وله الفضل كل الفضل، فيعرف منزلة كل أحد, ويضع كل واحد في منزلته، كما قال تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3].
وقد قررنا في كتاب الأسماء والصفات، وفي كتاب التوحيد أمراً مهماً ألا وهو: أن كل صفة من صفات الله جل وعلا فإن الله يحب أن يرى أثرها في خلق عباده، فإن الله كريم يحب كل كريم, وإن الله جل وعلا رفيق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله رفيق يحب الرفق) ويحب كل رفيق سبحانه وتعالى, والله جميل يحب الجمال، ويحب كل جميل, سواء جميل الأخلاق، أو جميل الثياب، أو حسن المنظر.
هذا خالد بن الوليد الذي قال فيه عمر -هو يبكي بعدما نحاه-: والذي نفسي بيده إن أبا بكر كان أعرف بالرجال مني, لأنه أنزل خالداً من مكانة هو يترقي إليها في عهد عمر ، وأمر أبا عبيدة بن الجراح على المدينة التي فتحها خالد .
فـخالد بن الوليد له مكانة عند الله جل وعلا، وعند رسول الله، وعند صحابة رسول الله، لكنه اشتد على عبد الرحمن والفضل كل الفضل لـعبد الرحمن؛ لأنه سبقه في الإسلامه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي) مع أن خالداً صاحب، ومن أجل الأصحاب، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد بذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (أصحابي أصحابي، لا تسبوا أصحابي، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليبين الفضل لأهل الفضل، ويؤسس أصلاً لهذه الأمة لتعرف أنها لن تمكن ولن تقود ولن تسود إلا بهذا التطبيق النبوي الشريف الظاهر الجلي, فقال لــخالد كيف تفعل ذلك مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه؟
كانت بين أبي بكر وبين عمر مشادة وأغلظ أبو بكر على عمر ، فغضب عمر من أجل شدة أبي بكر ، ثم إن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه ذهب يستسمحه فلم يسمح له, فذهب أبو بكر إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فرجع عمر بعدما ندم, فذهب إلى بيت أبي بكر فقال: أثم أبو بكر ؟ فقيل له: لا، فعلم عمر أن أبا بكر ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان أبو بكر قد ذهب إلى المسجد، فدخله ورفع ثوبه فظهرت ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وهو ينظر إليه متعجباً-: (أما صاحبكم فقد غامر) فقص على النبي صلى الله عليه وسلم القصة, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أبي بكر ، ولأنه أمرنا أن ننزل الناس منازلهم, وتطبيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر : (لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل) والذي بين فيه مكانة أبي بكر عند العامة والخاصة، فلما جاء عمر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه مغضباً، فعلم أبو بكر أنه سيشتد على عمر لا محالة, فجثا على ركبتيه شفقة عليه وقال: والله يا رسول الله لقد كنت أنا أظلم.
لكن رسول الله أحب أن يبين لهذه الأمة تأصيلاً لا بد منه، وأن يطبقه واقعاً في هذه الأمة حتى تعيش في مستوى القيادة والريادة والسيادة, هذا التأصيل والهدي النبوي لابد من أن نحذو حذوه, وأن نعرف لكل إنسان قدره, وأن نضع كل إنسان في مكانه المناسب، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلن للأمة أن خلافتها في أبي بكر فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً على عمر وظهر ذلك في وجهه ووجنتيه، وقال: (هل تركتم لي صاحبي) مع أن عمر من أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو وزير للنبي صلى الله عليه وسلم, ولما مات عمر رضي الله عنه وأرضاه قام علي يبكي ويقول: أبشر يا أمير المؤمنين، والله ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويقول: (جئت أنا و
الغرض المقصود أن عمر له منزله كبيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه, فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين مكانة أبي بكر وفضله؛ تطبيقاً للهدي النبوي فقال: (هلا تركتم لي صاحبي قلتم: كذب، فصدقني وواساني بأهله وماله) فقال الراوي: والله ما وجد أبو بكر على أحد بعد هذه المقالة, وما تجرأ أحد أنه يقف أمامه رضي الله عنه وأرضاه بعدما بين النبي صلى الله عليه وسلم منزلته بين الناس.
ولما قال أبو بكر للأنصاري: اقتص مني, قال الأنصاري: لا أقتص منك، فقال له أبو بكر : اقتص مني وإلا لأستعدين عليك رسول الله, فغضب الأنصار من أبي بكر غضباً شديداً؛ لأنه أغلظ على صاحبهم في القول، ثم قال له: لأستعدين عليك رسول الله، فقال الأنصار لصاحبهم: والله لنذهبن معك ولنستعدين عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف يخطئ في حقك، ويذهب إلى رسول الله؟ فلما قالوا ذلك، قام الأنصاري -وكان فقيهاً- فقال لهم: أتعلمون من هذا؟ إنه أبو بكر، فاسكتوا حتى لا يسمع ما تقولون فيغضب, فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لغضب صاحبه, فيغضب الله لغضب رسوله، فيهلك صاحبكم.
وهذا فقه عال من الرجل؛ لأنه علم منزلة أبي بكر ومكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما قص على النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة قال له: (قل: يغفر الله لك يا
فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين فضل كل ذي فضل، وينزل كل واحد منزلته.
ولما سئل: (من أفضل النساء عندك؟ قال:
وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه تربى على مائدة رسول الله, وعلم أن هذه الصفات من أفعال الله، وأن الله يحب أن يرى أثر صفاته على أخلاق عباده، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبين فضله للناس، حتى ظهر جلياً أمامهم, فكان يضع كل واحد في موضعه، وينزل كل إنسان في منزلته, ويعرف لكل واحد قدره؛ لأن هذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذه المسألة قد ضاعت بين الناس، فهم لا يفقهونها ويحسبونها أنها نافلة قول، والحقيقة أنها واجبة؛ لأن عائشة قالت: (أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم)، وجمهرة المحدثين يرون أن هذا من باب المرفوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بأن ينزل الناس منازلهم, فيأثم الإنسان إن لم يفعل ذلك, ولكن الجهلاء والبله في هذه العصور لا يميزون بين أهل الفضل وبين غيرهم.
فالغرض المطلوب أن أبا بكر طبق هذا الهدي النبوي وهذه الصفة التي تعد من صفات الله جل وعلا، وكان لها أثر في أخلاقه وتعامله مع صحابة رسول الله، فجعل الخير كله على يديه، حتى أن الفتوحات العظيمة التي كانت في عهد عمر كانت في حصيلة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه, لأنه عند موته لما دخل عليه عثمان أمره أن يكتب من يخلفه، فلما أفاق قال له: أكتبت أن تكون الخليفة؟ قال: لا، قال: لو كتبت كنت خليقاً بها، قال: كتبت عمر قال: ونعم ما كتبت.
فدخل الناس يشتدون على أبي بكر: كيف تستخلف علينا هذا الشديد؟ وماذا تقول لربك إذا سألك من استخلفت عليهم؟ قال: إذا سألني ربي سأقول: استخلفت عليهم أتقاهم وأعلمهم وأفقهم وأورعهم وأشدهم في دين الله جل وعلا. فبين فضل عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وكان لذلك الأثر العظيم في هذه الأمة، فالقبائل التي ارتدت عن الإسلام خافت على نفسها من المسلمين؛ بسبب جيش أسامة.
وعى عمر بن الخطاب الدرس جيداً بعد أن اختلف مع أبي بكر، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين له أن هذه المنازل لا تتعدى أصحابها الذين خلقهم الله لها.
وعند موت عمر قال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته, كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة
فكان عمر بن الخطاب يضرب مثلاً واقعاً جلياً في التطبيق النبوي لإنزال الناس منازلهم.
فقال سهيل معلماً لـأبي سفيان بن حرب: سارع إلى ربه، أو تقدم إلى ربه، أو سبقنا إلى ربه، فجعله الله يسبقنا عند العباد. أي: أنه سبق في الآخرة فسبق أيضاً في الدنيا, فبين عمر بن الخطاب أن هذا الدين له هدي وطرق وأصول لا بد أن لا نتعداها. فـبلال سجد لله جل وعلا قبل أن يسجد أي كافر من هؤلاء، بعدما من الله عليهم بالإسلام, ولقي شدة وعذاباً شديداً في الله وهو يقول: أحد أحد، فضرب لنا مثلاً رائعاً في الأخذ بالعزيمة، مع أن عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه أخذ بالرخصة، وتكلم في رسول الله، وأبى بلال على نفسه ذلك، واشتد العذاب عليه، ولم ينثني عن عقيدته رضي الله عنه وأرضاه, فتكلم عمر بن الخطاب بكلمة عظيمة تكتب على الصدور بماء الذهب، وقال: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا أي: أعتق بلالاً رضي الله عنه وأرضاه.
فهؤلاء القوم لما رضخوا لأوامر الله, وطبقوا الهدي النبوي, وأخذوا شريعة الله بحذافيرها نزع الله جل وعلا عنهم الذلة والمهانة، وجعل السيادة والقيادة والريادة في ربوع الأرض .. مشارقها ومغاربها، وفي مدة وجيزة من الزمن في أيدي هذا الرعيل الذكي النقي.
فعرف هؤلاء القوم لكل صاحب فضل فضله، وأنزلوا الناس منازلهم، فأنزلهم الله خير المنازل في الدنيا، وهم في الآخرة رفقاء النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يحذو حذوهم، ويسير على دربهم, حتى نلتقي بهم في الفردوس الأعلى.
فقيل لـأبي موسى ما قاله ابن مسعود، فقال: كيف تسألونني وفيكم هذا الحبر؟ فـأبو موسى يبين في ذلك مكانة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
أيضاً أبو موسى خرج على قومه فوجدهم يتحلقون حلقاً ويذكرون الله، ويسبحون بالحصى، فيكبرون مائة ويهللون مائة, فأنكر أبو موسى الأشعري عليهم في نفسه، وذهب إلى ابن مسعود فقال: رأيت اليوم أمراً جللاً؟ أو أمراً عظيماً أنكره قلبي, وذكر له ما يفعلون، فذهب ابن مسعود إليهم متصنعاً بثيابه، وجلس في حلقة الذكر، ثم قام من بينهم فقال: أنا ابن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال لهم: عدوا سيئاتكم وأنا أضمن لكم حسناتكم؛ إنكم على ملة أهدى من ملة رسول الله، أو إنكم مفتتحوا باب ضلالة. فنهى الناس أن يجتمعوا للذكر بمثل هذه الحلق، فإنها بدعة مميتة، وبين مكانته وأنه صاحب من أصحاب رسول الله فأنزلوه الناس منزلته, وسمعوا له وأطاعوا.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن ينزل الناس منازلهم ويطبق هذا الهدي النبوي, فالعلماء أيضاً علموا هذا الهدي النبوي، وطبقوه تطبيقاً عظيماً جليلاً ولذلك رفعهم الله.
ولما نظر إلى الشافعي وهو يعبث بإصبعه غضب منه احتراماً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن مالكاً نفسه قال: فاتني فوق العشرين حديثاً؛ لأنني كنت قائماً فلم أكتب حديثاً واحداً احتراماً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن مجلس التحديث كان مملوءاً بطلبة الحديث، وكان مالك يستمع من الزهري ولم يجد مكاناً يجلس فيه، فبقي قائماً يستمع الحديث وما كتب حديثاً واحداً، ولما سئل في ذلك قال: استحييت أن أكتب حديث النبي صلى الله عليه وسلم قائماً, فلا بد أن أجلس احتراماً وتوقيراً لحديث النبي.
ولما رأى الشافعي يصنع ذلك بأصبعه غضب غضباً شديداً هيبة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: مالي أراك سيء الأدب؟ فقال الشافعي : يا إمام وما رأيت من سوء أدبي؟ قال: أتلوا عليكم حديث رسول الله وأنت تلعب بأصبعك، فقال: والله ما كنت ألعب، إني أحفظ حديثك وما عندي ورقة وقلم ومحبرة، فكنت أكتب الأحاديث التي ذكرتها بريقي وبإصبعي على يدي، ثم ذكر كل الأحاديث التي ذكرها الإمام مالك ، فأخذه مالك إلى بيته وقال له: كلمته المشهورة: قد رأيت أن الله جعل لك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي.
فالغرض المقصود أنهم كانوا يعرفون لكل صاحب فضل فضله.
وعندما عمي رحمه الله حدثت له كرامة، وذلك أن أمه قنتت وسألت الله كثيراً أن يرد على هذا الطفل بصره، فرد الله عليه بصره, فاستخدمه في حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فـالبخاري بجلالة قدره يجلس في مجلس التحديث ويقول: ما استصغرت نفسي مثل ما استصغرت نفسي عند علي بن المديني.
و علي بن المديني من طبقة أحمد بن حنبل ، فهو من طبقة شيوخ البخاري.
فقيل لـعلي بن المديني: إن البخاري يقول كذا وكذا، فقال: دعوكم من قوله، فوالله ما رأى مثل نفسه، أي: ما خلق الله مثل البخاري!
فكان البخاري يجلس في مجلس أحمد، ولما أراد الرحيل، قال أحمد : يا محمد أترحل وتتركنا وتترك حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟
فـأحمد رحمه الله يبين مكانة البخاري رحمه الله ومنزلته بينهم.
و مسلم هو من هو في الحفظ والوعي والدقة في ترتيب الأسانيد، كما بينا في أسانيد مسلم ، فكان يجلس في مجلس البخاري فيقول له: دعني أقبل يدك ورجلك يا أستاذ العلل، والله ما يبغضك إلا حاسد.
فكل عالم من هؤلاء العلماء كان يعرف قدر العالم الآخر
فـأبو حنيفة قال فيه الشافعي : الفقهاء عيال على أبي حنيفة , وقال فيه مالك : أبو حنيفة أنظر الناس، يعني: أقيس الناس وأعقلهم، فلو ناظر أحداً على أن هذا العمود من ذهب لأقنعه بذلك.
و أحمد بن حنبل أروع ما يكون في التواضع ومعرفة الفضل لأهل الفضل، فكان ينهى الناس عن الشافعي؛ لأنه كان يظن أنه من أصحاب الرأي، فلما سمع عن الشافعي وعرف قوة علمه -بل إنه قد يسمى بناصر السنة- قال: فخرج علينا رجلاً طبيباً صيدلانياً هو الشافعي الناقل للسنة، ثم مشى ذات مرة خلف بغلته، فقالوا له: تنهانا عن الشافعي وتسير خلف البغلة؟! فقال: اسكتوا، والله لو لم يتكلم الشافعي وسرت خلف بغلته لتعلمت منه إما من لسان حاله، وإما من تدبره للمسائل.
ومن ذلك حديث: (يا
الغرض المقصود أنهم كانوا يعرفوا للعلماء قدرهم، فلم يرتقوا إلا بهم، وعلموا أن النصر لا يأتي إلا من قبلهم؛ لأن سهم الليل لا يخطئ, والسهام والرماح الأخرى يمكن أن تخطئ، لذلك عرفوا للعلماء قدرهم وأنزلوهم منزلتهم, حتى إن بعض المفسرين قال في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] قال: هم العلماء ثم الأمراء, لأن الأمراء هم أولي الأمر على العامة، والعلماء هم أولي الأمر على الأمراء.
فلا بد من إنزال الناس منازلهم حتى ترتقي هذه الأمة.
والكلام عن العلماء كثير, لكني أردت فقط أن أذكر بأن إنزال الناس منازلهم ترتقي به الأمة، وهو الذي يثمر وينبت, وألمح بذلك أن أفضل الناس هم طلبة العلم, وهم على الجادة في الطريق, وقد اصطفاهم الله بفضله من بين الخلق أجمعين؛ لينظروا في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويجعلكم الله جل وعلا بعد ذلك واسطة بين الخالق والمخلوق، فعضوا على ذلك بالنواجذ.
أسأل الله جل في وعلاه أن يجمعنا جميعاً في رضاه، ويجعلنا ممن يسيرون على درب أهل العلم؛ حتى نصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفوز بهذا الحديث العظيم : (إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر