يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
إخوتي الكرام! ما زلنا مع كتاب الصيام من عمدة الأحكام.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له) ].
إن الشريعة الغراء السمحة الحنيفية جاءت تنيط الأحكام بما يسهل على الناس ولا يشق عليهم، قال الله جل في علاه : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] ، ولذلك أناط الشرع الحنيف توقيت هذه العبادة بما يكون في متناول الجميع، فلم يشق عليهم ولم يكلفهم أمراً لا يستطيعونه، فأناط صيام رمضان أو ابتداء القيام بهذه العبادة برؤية الهلال بالعين المجردة، وكأن الشرع يقول لهم: لا أكلفكم ما لا تطيقون، فإني أكلفكم أن تبتدءوا صيام رمضان إذا رأيتم الهلال بالعين المجردة، أو رآه أحدكم فأخبركم أنه رآه بالعين المجردة، وإن لم تروا الهلال فلا تتعبوا أنفسكم، ولا تشقوا على أنفسكم، ولا تأتوا بالمنظار، ولا تأتوا بالحسابات الفلكية، ولا تأتوا بالتقديم ولا بالتأخير ولا بغير ذلك، بل أتموا شهر شعبان ثلاثين ثم ابدءوا صوم رمضان وأنا أقبل منكم.
فهذه دلالة على سماحة الشريعة الغراء، ولذلك سنبين في الفوائد المستنبطة أن من سماحة الشريعة ومن القواعد التي تستقى من هذا الحديث العظيم: أن اليقين لا يزول بالشك، أو الأصل بقاء ما كان على ما كان.
واستدلوا على ذلك بأدلة أخرى كحديث فاطمة بنت الحسين تروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: لأن أصوم يوماً من شعبان أفضل لي من أفطر يوماً من رمضان.
وهذا معناه أن يصام اليوم الثلاثين حتى ولو كان من شعبان، فصومه أفضل من أن يكون قد أفطر يوماً من رمضان؛ لأنه لو كان أول يوم من رمضان هو يوم الثلاثين فيعتبر قد صامه ولم يفته، فالأفضل لي أن أكون صائماً سواءً كان اليوم من رمضان أو من غير رمضان؛ حتى لا أفاجأ أني قد أكلت في يوم من رمضان.
ومما ذكروا من الأدلة على ذلك أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يتحرى صوم يوم الشك، وحين سألناهم: ما حجتكم في هذا الحديث؟
قالوا: من وجهين: أن ابن عمر صحابي، وفعل الصحابي أو قوله حجة إن لم يخالفه أحد، فما بالكم وقد وافقه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة وهو علي بن أبي طالب، فكان ابن عمر يستحب ويتحرى يوم الشك فيصوم فيه.
الوجه الثاني: أن ابن عمر هو راوي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له) وتفسير الراوي يكون أصح التفاسير التي نأخذ بها، إذ القاعدة عند المحدثين تقول: الراوي أعلم بما روى، فنأخذ به.
وأما الدليل الثالث فقالوا: إن العبادة لا بد فيها من الاحتياط، فالعبد الذي يتحرى التعبد لله جل في علاه ويتحرى رضا الله جل في علاه لا بد أن يحتاط لعبادته، وأخذ الحيطة مستحب. وهذا يخالف قولهم بالوجوب، وبعضهم قال: لا، يجب أن يحتاط لدينه فيصوم يوم الشك لأنه يجوز أن يكون من رمضان، وهذا على تفسير الحنابلة، وقد أنكر هذا القول عليهم شيخ الإسلام ، فقال: الحنابلة لم يقولوا بالوجوب، وهذه الرواية التي نسبت لأحمد لم تصح.
وكثير من المحققين في الحنابلة قالوا: نحن نقول بصيام يوم الشك، وهذا مذهب ابن عمر وعائشة وبعض الصحابة.
أولاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته) أي: صوموا رمضان عند رؤية الهلال، (وأفطروا لرؤيته) أي: عند رؤية هلال شوال، (فإن غم عليكم) أي: جاء الغيم ولم تروا شيئاً، (فإن غم عليكم فأتموا الشهر ثلاثين) فاستدلوا بهذه الرواية.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (فاقدروا له) فهو حديث يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأتموا شعبان ثلاثين)>
فإن قيل: هذا من العموم، قلنا: هناك ثلاث روايات فيها التصريح، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (فأتموا الشهر ثلاثين) وقوله: (فأتموا عدة شعبان ثلاثين) (الشهر تسعة وعشرون، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين).
فهذه دلالة على أن قوله: (فاقدروا له) بمعنى: أتموا عدة شعبان ثلاثين يوماً، بل عند الجمهور ما هو أوضح من ذلك وهو فاصل للنزاع، وهو ما ورد بسند صحيح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم)، ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة جداً، فمعنى قوله (فقد عصى): أن هذا الفعل يأثم صاحبه؛ لأنه خالف النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: وهذه دلالة واضحة جداً أن صيام يوم الشك عصيان لله جل في علاه، وعصيان لرسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون حراماً.
قالوا: والدليل الرابع ما جاء في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم من شعبان) أي: لا تستقبلوا رمضان بصوم يوم قبله كصوم يوم من شعبان.
قالوا: ويعضد ذلك قوله: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين) فهذه الرواية يدخل فيها صيام يوم الشك، فهو محرم.
وأما الأدلة النظرية فهي أن الأصل العام الذي تتفقون معنا فيه: أن كل عبادة وقتت بوقت لا يصح أداؤها قبل الوقت، فمن قال: أؤديها قبل الوقت احتياطاً قلنا: قد تكلفت، وقد أمر الله رسوله أن يقول: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].
ويقول صلى الله عليه وسلم أيضًا: (هلك المتنطعون) فالاحتياط فيما الأصل فيه براءة الذمة تنطع، فالأصل عدم شغل الذمة بالصيام، وعدم دخول شهر رمضان، فمن تعجل هذا الأمر فقد تنطع، والحيطة فيما لا حيطة فيه تنطع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون).
وقد استدل ابن تيمية رحمه الله على ذلك بحديث لـأم سلمة -ويعد هذا قول ثالث وإنما أدرجته مع الحنابلة لأنه تابع لقولهم- رضي الله عنها : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان ويصله برمضان)، وسنقف عند هذا الدليل قبل أن نرد على الحنابلة، فنقول: حديث أم سلمة جاء على الغالب.
فإن قالوا: خالفتم الظاهر؛ لأنه وصل شعبان برمضان، قلنا: فإن عائشة التي هي أبقى من أم سلمة وأثبت في نقل ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً إلا رمضان) فهذه دلالة على أن صيام شهر شعبان كان على الغالب.
وورد عن عائشة -وإن كان بسند فيه ضعف ولكن يستأنس به- أنها قالت: (كان يتحفظ النبي صلى الله عليه وسلم من شعبان، وكان لا يصوم رمضان حتى يرى الهلال أو يتم الشهر ثلاثين) وفيه دلالة على أنه ما صام يوم الشك، فقالوا: هذا يعضد فهم عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وفيه رد على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية .
أولاً: حديث فاطمة بنت الحسين عن علي الذي استدللتم به حديث ضعيف، لأن فاطمة لم تدرك علياً ، فالحديث منقطع، والانقطاع يدل على سقوط راو، وسقوط راو يدل على الجهالة، والجهالة تدل على ضعف الحديث، والأحكام فرع عن التصحيح.
كما أن للحديث سياقاً وقصة وهي: أنه جاء القوم فسألوا علي بن أبي طالب، فقال أعرابي: رأيت الهلال، فقال له: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فصام وأمر الناس بالصيام، ثم قال: لأن أصوم يوماً من شعبان خير من أن أفطر يوماً من رمضان.
ولما كان الحديث له قصة وكانت هذه إجابة عما حدث من رؤية الأعرابي للهلال فيبعد أن يكون في النزاع، ولا يصح أن تنفرد بالاحتجاج به؛ لأنه جاء إجابة عن قصة الأعرابي الذي رأى الهلال، فكأن علي بن أبي طالب يؤكد ما أمر الناس به، وكأنه يقول: وتأكيداً لكم لو أن هذا الأعرابي أخطأ برؤية الهلال ورأى حاجبه مثلاً أو شعر حاجبه فقال: هذا الهلال إن أخطأتم في الصيام يوماً من شعبان خير لكم من أن تخطئوا في فطر يوم من رمضان، فكانت إجابة عن القصة أو السياق الذي حدث من الأعرابي.
وأما قولهم: إن ابن عمر كان يفعل ذلك والراوي أعلم بما روى، قلنا: سنرد عليكم من وجهين:
الوجه الأول: هذه القاعدة باطلة، وهي مما يعمل بها الأحناف، وليس نصها: الراوي أعلم بما روى، وإنما نصها: إذا خالف الراوي روايته التي رواها فالعمل بما رأى لا بما روى، فهذه قاعدة الأحناف، ومعناها: أن ابن عمر يروي حديث: (فاقدروا له) والرواية الأخرى: (فأتموا الشهر ثلاثين) ومع ذلك ابن عمر -إن لم أكن واهماً أن هذه رواية ابن عمر - خالف وصام، فالراوي خالف ما روى فتكون الحجة فيما رأى في اجتهاده لا الحجة في روايته، وجعلوا فعل ابن عمر تضعيفاً لمعنى الحديث المرفوع.
الأمر الثاني: قالوا: تنزلوا معنا وقولوا: الراوي أعلم بما روى؛ لأنه لما روى: (فاقدروا) فسرها بضيقوا، قلنا: هذا مخالف للرواية الأخرى الصريحة التي رواها، فتفسير النبي بقوله أولى بالأخذ به من تفسير ابن عمر ، فالنبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله: (فاقدروا له) بأن يتموا شهر شعبان ثلاثين، فهذا تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء ابن عمر ولعله لم يجلس في المجلس الذي فسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الحديث مثلاً، لكن هو راوي الحديث، فعندما سألوه: عن معنى قول النبي: (فاقدروا له) قال: معناه: فضيقوا له.
إذاً: فعندنا تفسيران: تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني تفسير ابن عمر فبتفسير من نأخذ؟ لا شك أن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالتقديم من تفسير ابن عمر ، قالوا: احترنا معكم فما رأيكم بالدليل النظري؟ ويعنون به الحيطة في العبادات.
قلنا: الرد عليكم فيه من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الحيطة لا دليل عليها، والأصل براءة الذمة، فلا تشغل الذمة بحال من الأحوال إلا بدليل؛ لأن الله جل وعلا بين أن العبادات لا يمكن أن تكون إلا بقال الله أو قال الرسول، وهذا لا خلاف فيه، فلا يمكن أن ينشئ المرء عبادة في حال من الأحوال إلا وقد سمع قال الله أو قال الرسول، قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
والأدلة على ذلك كثيرة وهاك بعضها: قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ومن ذلك قوله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]، ووجه الدلالة من الآية من وجهين:
أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فالوجه الأول في قوله: (ما كتبناها عليهم) إذ لا بد أن تكتب، ولا يمكن أن تكون العبادة مشروعة إلا وقد كتبها الله جل وعلا، وقد رأينا أن الله ما كتب صيام يوم الشك.
أما الثاني: فإنه قال: ( ابتدعوها ) أي: من عند أنفسهم، وعلى ذلك فالعبادات لا يمكن الحيطة فيها؛ لأن الحيطة فيها تنطع وزيادة على الدين، وقد أكمل الله الدين، وبهذا نعلم أن الراجح في المسألة الأولى: حرمة صيام يوم الشك، ومن صامه فقد عصى الله وعصى رسوله وأثم، ولا يصح هذا الصوم؛ إذ النهي يقتضي الفساد.
الحالة الأولى: صام يوم الشك وهو ينوي أنه من رمضان، فقد بيت النية على أن هذا من رمضان.
الحالة الثانية: صام يوم الشك معلقاً النية، ومعنى معلقاً النية أي: متردداً بين أن يكون اليوم هو يوم شك أم هو من رمضان، فإن كان من رمضان فهو من رمضان، وإن كان من غير رمضان فهو مطلق، فصاحبه متردد النية.
الحالة الثالثة: صام يوم الشك ولم ينو نية بحال من الأحوال، وإنما استيقظ فوجد نفسه لم يأكل، فقال: أصوم، ولم يحدد النية.
الحالة الرابعة: جاء يوم الشك فأكل وشرب، ثم ظهر يوم الشك أنه من رمضان.
فهذه أربع حالات.
فأما الحالة الأولى: إذا صام يوم الشك بنية أنه من رمضان فظهر أنه من رمضان، فهذا باتفاق الأمة أن صيامه صحيح.
الحالة الثانية: إذا صام يوم الشك متردداً في النية، فالأحناف الذين لا يجعلون النية ركناً في الصيام يقولون بصحة الصوم، والصحيح خلافه، وأن هذا الصوم لا يصح وعليه أن يمسك باقي اليوم ويلزمه القضاء.
الحالة الثالثة: من استيقظ فوجد نفسه صائماً ولم يأكل فاستمر في صيامه، فعند الأحناف يصح أن ينوي أن هذا اليوم من رمضان ولو في نصف النهار، وعند الجمهور -الأئمة الثلاثة وهذا الراجح الصحيح- أنه لا يصح؛ لأنه لا بد أن يبيت النية، وهو لم يبيت النية، فلا يصح من رمضان.
الحالة الرابعة: من أكل في يوم الشك ثم ظهر أنه من رمضان: فعند الجمهور يجب عليه الإمساك، وعليه قضاء هذا اليوم.
ولو سأل سائل عن الدليل؟ قلنا: الدليل ما جاء في صوم يوم عاشوراء عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم المنادي لينادي في الناس: (من أكل فليمسك باقي اليوم، ومن كان صائماً فليتم صومه) فعليه الإمساك، وعليه أن يقضي يوماً مكانه.
فهذه مجمل المسائل المتفرعة على صيام يوم الشك، وبقي مسألة: من صام ونوى أنه لو كان من رمضان فهو من رمضان، فظهر أنه من رمضان، فمن الممكن أن يكون فيها الخلاف على أن مطلق النية يقتضي الفساد، ومن الممكن أن نقول: بالاتفاق أنه بيت النية على أنه من رمضان فظهر أنه من رمضان، فيصح الصوم ويأثم بأنه صامه في يوم الشك، وعلى ذلك فالصحيح الراجح أن صيامه يجزئ وليس عليه قضاء، وأما من عداه فعليه قضاء هذا اليوم.
الأمر الثاني: فبإتمام شعبان ثلاثين يوماً، وهذا بالاتفاق، ويكون الاتفاق حينما يكون الجو صحواً لا غيم فيه؛ لأن الخلاف كله في الغيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن غبي أو فإن غم عليكم).
الأمر الثالث وهو المختلف فيه: إن غم عليكم أو غبي عليكم، قال بعض العلماء: يعرف بالحساب الفلكي، فالذين يعرفون ويتدبرون منازل القمر يخبرون متى يولد الهلال ومتى يكون كالعرجون القديم، ومتى يكون كذا، وعلماء الحسابات الفلكية عندهم المناظير، وعندهم كل شيء علمي، فالله جل وعلا حباهم ذلك، فاستخدموا وطوعوا هذا العلم المعروف بعلم التكنولوجيا ليعرفوا منازل القمر إذا كان خلف الشمس، ومتى يدور الدورة الكاملة ليكون في الناحية الثانية، وفي آخر الشهر يكون كالعرجون القديم فيكون في الناحية المقابلة، وهذا كما قال ابن تيمية لا يكون إلا بعد ليلة كاملة.
فالمقصود أن أهل الخبرة بالمطالع والمنازل ينظرون في منازل القمر، ويعرفون بالحساب متى يظهر وأين يظهر، وأي مكان يكون فيه الهلال، فمن قال بالاستعانة بالحسابات الفلكية قالوا: عندنا أدلة تعضد ما نقول به؛ لأن الحسابات الفلكية الآن ظهرت وأصبحت من الدقة بمكان، والعلم هذا لابد أن نستخدمه لله جل في علاه، فمن هذه الأدلة:
أولاً: أن هؤلاء أتقن وأعلم منا بهذا الحساب، وقد قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] فالآية عامة، وهم من أهل الذكر.
الأمر الثاني: أنهم قالوا بأن النظر يعضد هذا، فإن الله جل في علاه قد أمر بالصيام عند رؤية الهلال، سواءً رآه المسلم أو لم يره؛ لأن الأعمى لا يراه، كما أنه قد يكون أهل بلدة ما قدر الله عليهم مثلاً ألا يروا الهلال، فلا يصح أن نقول هنا: إن المقصود هو رؤية الهلال، وعلماء الحسابات الفلكية يعلمون متى وأين يطلع الهلال، فقالوا: إذاً من النظر أنه لابد علينا أن نأخذ بهذه الحسابات الدقيقة.
وهذا القول للمُحْدَثين من الفقهاء ولم يكن في القرون الخيرية الثلاثة الأولى أبداً، بل هو لبعض المتأخرين من الفقهاء، وهؤلاء أيضًا ما قالوا بهذه التوسعة التي نراها في هذه العصور، بل قالوا: إن الذي عنده علم بالحساب الفلكي ويدقق النظر فيه فله أن يصوم بنفسه فقط ولا يأمر غيره، فليس له أن يذهب إلى القاضي ولا إلى ولي الأمر ليأمر الناس بالصيام، بل ما يفعله ديانة هو أن يصوم بنفسه ولا يلزم غيره، وأما المعاصرون فقد أوسعوا المسألة بحثاً وقالوا: كل الناس يلزمون بذلك، وخالفهم جمهور أهل العلم في هذا، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أناط مسألة الصيام بالرؤية، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) وتعليق الشرع بالرؤيا مقصوده الرؤيا البصرية بالعين المجردة، وهذه لا مدخل ولا نظر فيها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتموه) يعني: بأم أعينكم، (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا).
وكذلك قول الله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] وشهود الشهر يكون بالرؤية.
ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو الفاصل في النزاع: (إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، فإذا رأيتموه فصوموا)، فهذا كأنه تفسير لقوله: (إنا أمة أمية) بمعنى: إنا لسنا بصدد الحساب الفلكي، (لا نحسب ولا نكتب، فإذا رأيتموه) فنفى الاعتماد على الحساب؛ لأننا أمة أمية لا نحسب، وعلق الحكم بالرؤية.
قالوا: ومن النظر أن علم صيام الشهر بالحساب الفلكي فيه تعليق بما يشق على الأمة، فقد نكون غير متحضرين وليس عندنا تكنولوجيا ونحن في فقر مدقع لا نستطيع أن نحسب، فهذا تعليق لحكم الشرع بما يشق على الناس، وهذا مخالف للتأصيل الشرعي العام: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] .. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].
والوجه الثاني من النظر: أن إلزام الناس بالحساب الفلكي تكلف وحرج في الدين، وقد رفع الله الحرج عن الدين، وأيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون)، وأمره الله أن يقول: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].
فهذان قولان في مسألة الحساب الفلكي، والصحيح الراجح: أن من قال بالحساب الفلكي فقد أبعد النجعة، ولا يصح بحال من الأحوال الاعتماد على الحساب الفلكي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن هذه الأمة أمية لا تحسب ولا تكتب، ولابد أن تأخذ بما أناط الشرع به، والقاعدة عند العلماء: إذا أناط الله الحكم بوصف فلا يصح إلغاؤه وإدخال وصف غيره، فالله جل وعلا أناط حكم ثبوت الشهر بوصف وهو الرؤية، فلا يصح إلغاء ما علق الله به الحكم، وإثبات ما ألغى الله عنه الحكم، فتعليق الله الحكم لثبوت الشهر بالرؤيا هو الوصف الصحيح، وإلغاؤه حكم ثبوت الشهر بالحساب الفلكي.
وقد ألغاه الله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (نحن أمة أمية لا نحسب) فألغى أن يحكم الشرع بوصف الحساب، وأناط الحكم وعلقه على الرؤية، فمن قال بالاعتماد على الحساب الفلكي فقد ألغى ما اعتبره الله وصفاً في الحكم، وأثبت ما ألغاه الشرع وصفاً للحكم؛ ولذا نقول: من قال بالاعتماد على الحسابات الفلكية فقد أخطأ وأبعد النجعة.
وهناك وصف آخر قال به بعض المعاصرين، فقالوا: نحن نعتمد على الرؤية ونستأنس بالحساب الفلكي، قلنا: هذا قول وجيه لكنه مخالف لظاهر الحديث، وإلا فإن من قال بأنه يستأنس بالحساب الفلكي ويأخذ بالرؤية إذا نظرت ودققت النظر فيه لا يخرج ولا ينظر إلى الرؤيا، بل يعتمد على التكنولوجيا والعلم المتحضر، ولسان حاله يقول: نحن في القرن العشرين، فلماذا نذهب إلى أهل الجاهلية؟! فعندنا علم متحضر يحسب لنا منازل القمر فنعتمد عليه، فالكلام من بعض المعاصرين: أننا نعتمد على الرؤية ونستأنس بالحساب الفلكي وسيلة إلى إلغاء ما اعتبره الشرع! والوسائل لها أحكام المقاصد، فنقول: هذه وسيلة وذريعة إلى أن تلغي ما اعتبره الشرع -وهو رؤية الهلال- وتكتفي بعد ذلك بالحساب الفلكي؛ لأنك لا تستأنس بالحساب الفلكي إلا وأنت تحسن الظن بهذه الحسابات، وهي نظريات تخطئ وتصيب.
وأما من قال بأننا نستأنس بالحسابات الفلكية فهذا لا دليل عليه، بل إن ابن تيمية يقول: الحسابات الفلكية بدعة في الدين، وبعض العلماء يقولون: هذا وسيلة إلى الشرك، ويستدلون على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر)؛ لأن من يقول بالاعتماد على الحساب الفلكي يجعل الناس يعتقدون في كلام الكهنة والعرافين الذين ينظرون في النجوم، فكأننا فتحنا لهم الباب على مصراعيه، والنووي نفسه قال في رحلته في طلب العلم: وحبب إلي النظر إلى النجوم -علم الحساب-، وقال به الرازي وذكره كثيراً في تفسيره، قال النووي فلما نظرت في هذه العلوم -علم النجوم- أظلم قلبي، وما استطعت أن أتفهم مسألة واحدة من العلم، فلما تبت إلى الله من هذا العلم رجع لي ما كنت أعهده من نفسي قبل ذلك، فالصحيح الراجح: أنه لا ينظر في النجوم ولا الحساب الفلكي اعتماداً؛ لأن الاعتماد بدعة في الدين لا يمكن أن تقبل، ولا استئناساً لأنها وسيلة إلى بدعة في الدين أيضاً، فالمسألة كلها: (إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب) و(الشهر هكذا وهكذا) (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته).
القول الثاني: أنهما يشتركان إذا كانت المسافة بينهما مسافة قصر، ومسافة القصر هي ثمانون كيلو، وعليه تكون القاهرة والإسكندرية منفصلتين، وكل مدينة لها رؤيا، ورؤيتها لا تلزم المدينة الأخرى.
القول الثالث: كل قطر أو بلدة لها ولاية معينة فلها رؤيتها لوحدها، فلو رأت الرؤية عملت بها، وإن لم تر الرؤية فلا تلزمها رؤية البلد الأخرى والقطر الآخر.
وبعض المعاصرين حدد المطلع بألفين ومائتين كيلو، أو ألفين ومائتين وستة وستين كيلو، أو ألفين ومائتين وستة وعشرين، وقد تأملت من أين أتى بهذا فكان أقرب شيء أنه نظر في حديث كريب ؛ لأن المسافة بين الشام وبين المدينة يمكن تقديرها بهذه المسافة، فعندما وجد ابن عباس لم يأخذ بكلام كريب قال: هذه بسبب المسافة بين الشام وبين المدينة، فيكون اختلاف المطلع واتحاد المطلع على هذه المسافة، فحيثما كانت فهذا معنى اختلاف المطالع. فهذه مقدمة حتى ننظر في المسألة: هل يعمل باختلاف المطالع أم لا يعمل باختلاف المطالع؟
ومعنى ما سبق: أن من قال باختلاف المطالع ولو كان على مسافة الألفين قال: إن فصل بين بلدة وبلدة ألفان ومائتان وستة وعشرون كيلو، فكل بلد يستقل برؤيته، فأي بلدة رأت الرؤيا فإنها تصوم، وإن لم تر الرؤيا فلا يلزمها الصوم، ومن قال بأنه لا اختلاف في المطالع ولا اعتبار باختلاف المطالع، قال: إذا رأت الرؤيا بلدة واحدة أو دولة فكل الأمة الإسلامية عليها أن تصوم في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا القول قول الجمهور؛ إذ إن جمهور أهل العلم من المالكية والحنابلة والأحناف يقولون بعدم اختلاف المطالع، وعندهم أدلة قوية أثراً ونظراً.
فأما الأثر: فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) وهذا على الجماعة، بمعنى: أيتها الأمة! صوموا إذا رأيتم هلال الشهر، وقد ترونه بواحد أو باثنين، وقد ترونه بمصر أو بلدة، فإن رأيتموه فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فهذا على عمومه.
واستدلوا أيضًا بعموم قول الله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [البقرة:185] قالوا: والشهادة هي الرؤيا، وهذه أيضًا عامة على عموم المسلمين.
وأما من النظر: فإن من مقاصد الشريعة والقواعد الكلية تآلف المسلمين واتحادهم وتجانسهم وتحابهم، وتكون الألفة والترابط بأن يتعبدوا لله في وقت واحد، وأن ينتهوا من العبادة في وقت واحد، فإن ظاهر الحديث الإلزام بالعبادة عند رؤية أي بلد من البلاد، وهذه تؤدي إلى التجانس والتآلف والتحاب، وهذا يوافق القواعد الكلية في الشريعة ومقاصدها في التآلف والاتحاد في عبادة الله جل في علاه، فقالوا: هذه وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى ائتلاف الأمة واتحادها وتحاب أبنائها وتعاطفها، فقد التي تشرذمت كثيراً.
القول الثاني -والأقوال كثيرة، لكننا سنوجز الأقوال المهمة- وهو قول الشافعية وبعض الحنابلة، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية؛ ولهم وجهان:
وجه باختلاف كل بلدة عن الأخرى في المطلع، والوجه الثاني: التفصيل، فإذا اتفقوا في جزء من الليل أو في مطلع فعليهم الصيام، وهذا ما وجهه شيخ الإسلام ابن تيمية من أقوال الشافعية.
وهناك تفصيل في مذهب الشافعية لسنا بصدده، وهو: أن كل بلدة رأت رؤيا فإنها تصوم بها، وأما القول الثاني للشافعية فمداره على اشتراط جزء من الليل، فلو أن السعودية رأت لزم مصراً أن تصوم، وكذا لو رأت مصر يجب على السعودية أن تصوم معها، وهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، فشيخ الإسلام ابن تيمية لم يرجح إطلاق قول الشافعية، إذ إن إطلاق قول الشافعية أن كل بلدة لها أمير عليها الصوم بالرؤيا، وبالمثال يتضح المقال، فمصر تصوم مع ولي أمر مصر فقط، وتصوم السعودية مع ولي أمر السعودية فقط، وتصوم المغرب مع ولي أمر المغرب فقط، وتصوم ليبيا مع رؤية بلد ليبيا فقط، فهذا أصل قول الشافعية.
واستدلوا على ذلك بحديث كريب ، وأنا أضم القول هذا للقول الثاني؛ لأن هذا الدليل هو دليل للفريقين، لمن قال بالتفصيل في اختلاف المطالع، وكذا من اشترط جزءاً من الليل، استدلوا بحديث كريب وهو في الصحيح، أن أم سلمة بعثت كريباً لحاجة لها في الشام عند معاوية، فلما وصل إلى الشام استهل رمضان ليلة الجمعة فصام مع معاوية، ثم رجع إلى المدينة بعدما قضى حاجة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فلما رجع قابل ابن عباس ، فتكلما، ثم سأله ابن عباس على الهلال، فقال: رأينا الهلال ليلة الجمعة فصمنا وسنفطر مع معاوية ، فقال له: وأنتم؟ قال: ما رأيناه إلا ليلة السبت، قال: ألا تأخذ برؤية معاوية ؟ قال: لا نصوم حتى نرى الهلال أو نتمّ الشهر ثلاثين، هكذا أمرنا رسول الله).
فكأن ابن عباس يقول: أمرنا رسول الله أن أهل الشام إذا رأوا الهلال فليصوموا، ولا نصوم نحن حتى نراه نحن في المدينة، ونحن في المدينة لا نصوم ولا نفطر حتى نرى الهلال، فكأنه يقول: هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (صوموا لرؤيته) فكل بلدة رأت الهلال عليها أن تصوم، وهذا حديث من القوة بمكان.
وأما من النظر: فقالوا بقياس العقل، قالوا: أنتم توافقوننا بأن الشمس إذا غربت في مصر لم تغرب في السعودية؛ لأن الفرق بين السعودية ومصر بقدر ساعة، وهذه تنفع الرجل المسافر بالطائرة، ولو أن رجلاً مصرياً أو من غيرها كان جالساً في مصر ففتح التلفاز وكان يشاهد قناة فضائية مسلمة تنقل الغروب والأذان، فنظر فقال: قد سقط حاجب الشمس في السعودية، والله قد أناط الفقه بسقوط حاجب الشمس أو بزوال الشفق الأبيض، وقد سقط حاجب الشمس في السعودية فعلى الأمة كلها أن تأكل، فمنا من سيصوم ساعة، ومنا من سيصوم دقيقة، ومنا من لا يصوم؛ لأن الشمس لم تطلع أبداً في حياته، ومنا من يفطر قبل الناس بساعة، قالوا: وأنتم تمنعون هذا، مع أن الإفطار علق على غروب الشمس وقد غربت الشمس في السعودية، فسيقال لهم: غربت في السعودية ولم تغرب في مصر، فقالوا: الحمد لله أتينا من لسانكم بما نحجكم به، فإن رؤي في السعودية ولم يروه في مصر فعلى نفس السياق، فأنتم قلتم: غربت في السعودية ولم تغرب في مصر، فسنقول: وكذلك هذا رأوه في السعودية ولم يروه في مصر، فلابد أن نعمل بذلك لأننا لنا رؤية وهم لهم رؤية، كما لهم سقوط حاجب الشمس وعندنا سقوط في حاجب الشمس.
قالوا: وهذا النظر أقوى من نظركم، فاختلاف المطالع واختلاف الشروق والغروب يبين لنا الاختلافات في الأوقات.
والراجح الصحيح في هذا القول هو قول الشافعية، وأنه لابد من العمل باختلاف المطالع، لأن ابن عباس ما قال ذلك اجتهاداً؛ وإذا قالوا: هذا اجتهاد من ابن عباس وقد خالف العموم، قلنا: لا، إن هذا ليس اجتهاداً من ابن عباس، بل هذا قول صريح من رجل عاقل يعلم مراد رسول الله، وهو حبر الأمة وبحرها، على أنه قال: أمرنا، وهذا ليس فيه اجتهاد بحال من الأحوال؛ لأنه نسب الأمر للرسول.
فهذا رد قاطع وفاصل في النزاع لمن يقول: إن هذا كان اجتهاداً من ابن عباس ، فقد رفع الحديث حيث قال: (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) فالصحيح الراجح في ذلك الاعتداد والعمل باختلاف المطالع، فكل بلدة لها رؤيا تعمل بها، واختلاف المطالع -كما قال شيخ الإسلام - هو القول الفصل، وعند الشافعية العمل باختلاف المطالع، فكل بلدة تشترك مع بلدة في جزء من الليل تأخذ برؤيتها أو نقول: إن كان البعد بينهما ألفين ومائتين وستة وعشرين كما حسبها بعضهم، فاختلاف المطالع له أثر أقوى بكثير من الكلام على عدم اختلاف المطالع.
بقي لنا مسألة متفرعة على هذه المسألة وهي: إذا قلنا بأن اختلاف المطالع يعتد به، فلو رأوا الهلال في السعودية وما رأوه في مصر فماذا نفعل؟ نقول: الحق مع اختلاف المطالع، فنأخذ برؤية مصر، ونحن تبع لولي الأمر هنا، فكل بلدة تأخذ برؤيتها بشرط ألا يدخلوا في ذلك الحسابات الفلكية.
فلو قالوا: سيولد أو سيكون جنيناً أو سيكون محاقاً، فلا تأخذ بهذا القول، لأنك أمرت بأن تأخذ بالرؤيا، فإذا قالوا بالحسابات فلا تأخذ بهذا، والأخذ باتفاق المطلع أولى.
أما إذا قالوا: نحن نأخذ بالرؤيا والحسابات تساعدنا مثلاً، فإنني أجد في نفسي حرجاً من ذلك، لكن لو قالوا: الأصل عندنا وعمدتنا هو رؤية الهلال فوجب عليك أن تتبع ولي أمرك في ذلك، فإذا قالوا بالحسابات الفلكية نقول: إذاً لا سمع ولا طاعة، لكن بالاستتار دون أن تأتي بالمفاسد العظيمة، أو أن تهيج الناس عليك وعلى الإخوة الملتزمين وعلى الشرع، فتجدهم يقولون: أتوا بدين جديد.
أنك إذا كنت تعلم أنهم يعتدون بالحسابات الفلكية ولا يأخذون بمسألة الرؤيا، فعليك أن تأخذ بالرؤيا وتفطر في بيتك دون أن تبين لأحد سراً، وتقول: لا سمع ولا طاعة، دون مفاسد، لأن السمع والطاعة مقيد بالسمع والطاعة لله ولرسوله، قال تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، فما قال: وأطيعوا أولي الأمر منكم، وإنما قال: وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] يعني: أنها تابعة لطاعة الله وطاعة الرسول، فإن جاءت مخالفة لله وللرسول فلا سمع ولا طاعة، ولكن سراً دون أن تفسد على الناس ديانتهم وما يعتقدون؛ لأن العامة ليس لهم من أمرهم شيء، والعامة يقولون: هذه حسابات ونحن لسنا عالمين فضعها في رقبة مفتي أو عالم تصبح سالماً، فالعامة لا شيء لهم ولا يحاسبون على هذا، لكن من كان طالب علم وتعلم الفرق بين الصحيح والغث والسمين فليأخذ بالصحيح دون أن يأتي بمفاسد.
وهذا هو الراجح الصحيح في الكلام على اختلاف المطالع دون الأخذ بالحسابات الفلكية، وإن قالوا بالرؤيا قلنا باختلاف المطالع وكل بلدة تأخذ برؤيتها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر