يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال
وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا يكلمهم يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره)، وفي رواية: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم).
فأما المؤمن فينظر إلى يمينه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر إلى شماله فلا يجد إلا ما قدم، وينظر إلى أمامه فلا يجد إلا النار فيظن أنه قد هلك، فيقول الله جل في علاه: (عبدي قد سترت عليك ذلك في الدنيا، وسأغفرها لك في الآخرة).
وأما الكافر والعياذ بالله فسيكلمه الله جل في علاه -وقد وردت الأدلة الثابتة بذلك- فيقرره بنعمه ويكبته ويعذبه على ذلك.
ومن هذه الأحاديث التي تثبت ذلك: أن الله جل في علاه يقول: (أما يرضيك أن يكون لك شاهد من نفسك على نفسك؟ فيختم على فمه، فتتكلم الأيدي والجوارح بما عملت، ثم يقول: خبتم وخسرتم! والله كنت أنافح عنكم ومازلت أنافح عنكم).
وأيضاً: فإن الله سبحانه عندما يحشر العبد الكافر يقول له بعد ما يرى عذاب الله جل في علاه: (أرأيت لو امتلأت الأرض ذهباً أكنت تفتدي به من عذاب النار؟ فيقول: اللهم نعم، فيقول الله جل في علاه: قد طلبت منك ما هو أهون من ذلك وأنت في صلب آدم، طلبت منك أن تعبدني ولا تشرك بي).
ونحتاج إذا قررنا بهذه الأدلة إلى تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله). فإن عرصات يوم القيامة كثيرة وليست عرصة واحدة، فلابد من عرصة يكلمهم الله جل في علاه ويقررهم بذنوبهم ويعذبهم على ذلك، ومن نوقش الحساب -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- عذب، وبعد ذلك لا يكلمهم في بقية العرصات.
أو أن الله لا يكلمهم كلام رحمة وأمل، وإنما يكلمهم كلام تبكيت وتوبيخ ونذارة، حيث يقول سبحانه: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [ق:28] فيمحو الله كل حجة لهم، وكذلك يؤول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا ينظر إليهم). حيث أن الله ينظر إليهم، ولكن لا ينظر إليهم نظر رحمة، بل نظر سخط لكبائر ارتكبوها إجمالاً.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم) أي: أن لهم عذاباً أليماً في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلا يزكيهم؛ لأن الكبر دنس في القلب والله لا يزكي قلباً فيه كبر.
وأما في الآخرة فلا يدخل الله عبداً الجنة أضمر في قلبه ذرة من كبر، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
والعذاب الأليم نوعان: معنوي، وحسي.
فالعذاب في الدنيا محو البركة كما تمحى بركة الذي ينفق السلعة بالحلف الكاذب.
وأيضاً: لا راحة في القلب، ثم بعد ذلك العذاب المؤلم يوم القيامة.
المسألة الأولى: مسألة إسبال الإزار، وهذا معترك دامٍ لا بد أن نبينه ونجليه، حتى أن كثيراً من الفقهاء يحملون المطلق على المقيد ويقولون: الإسبال المذموم فقط هو: الإسبال بخيلاء، ونحن سنفصل بإذن الله المسألة برمتها وأقوال الفقهاء فيها.
فمن الأدلة التي يحتج بها الفريقان:
الحديث الأول: قال النبي صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، منهم: المسبل إزاره)، وهذا مطلق لم يقيده بشيء.
الحديث الثاني: ورد في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة)، وهذا تقييد، فالأول: كان مسبلاً بإطلاق، والثاني: قيده بالخيلاء.
الحديث الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إزار المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج) -رفع الحرج فيه دلالة على الجواز، والأصل في السنة أن يرتفع إلى نصف الساق- أو لا جناح فيما بينه وبين الكعبين. أي: إن كان بينه وبين الكعبين فلا حرج عليه، ثم قال: (من جر إزاره بطراًلم ينظر الله إليه)، وهناك حديث واحد يجمع هذه الأقسام الأربعة، وهو: (ما أسفل الكعبين ففي النار) فقسم النبي صلى الله عليه وسلم طول القميص إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: السنة: إلى نصف الساق.
القسم الثاني: الرخصة: وهو ما نزل من نصف الساق إلى الكعب.
القسم الثالث: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه).
القسم الرابع: ما كان إطلاقاً، وهو (ما أسفل الكعبين ففي النار).
الحديث الرابع: قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد: (الإسبال مخيلة). وهذا حديث ممتع، فهو يفصل لنا كل الأقوال، حتى لا يستطيع أحد أن ينازعنا في شيء، ويحمل على الإطلاق، سواء أسفل الكعبين أو فوق الكعبين.
والحديث الخامس: قصة عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه عندما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم حين مر على بيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من؟ قال:
الحديث السادس: الذي يتغنى به من يقول: بأن المسألة خاصة بالخيلاء، وهو أن أبا بكر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن إزاري يسترخي -يسقط- إلا أن أتعاهده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لست منهم يا
الحديث السابع: قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه حين صلى بالناس، فجاء أبو لؤلؤة المجوسي -عليه من الله ما يستحق- فطعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فأخذ عمر بيد عبد الرحمن بن عوف وجعله إماماً، ولما أتم الصلاة استقبل بجنبه الأرض، فدخل رجل يمدح في أمير المؤمنين، فقال: تشهد الله إذا سألك على ذلك؟ قال: أشهد الله على ذلك، فلما ولى الرجل نظر عمر بن الخطاب إلى ثوبه فوجده تحت الكعبين، فقال: إلي بالرجل، فقال له: يا بني! ارفع ثوبك، أو قال: ارفع إزارك يكن مرضاة لربك، مطهرة لثوبك. وهذا الحديث سنحتج به على من يخالف القول: بأن المسألة على العموم.
القول الأول: الإسبال حرام إذا كان بمخيلة، واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
الأول: حديث أبي بكر -وهو عمدة الباب عندهم- وهو أن أبا بكر رضي الله عنه كان يرخي إزاره إلى تحت الكعبين، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني أتعاهده ويسترخي، فقال: لست منهم يا
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، وهذا على الإطلاق، ثم قيده في الحديث الآخر بقوله: (من جر ثوبه خيلاء)، قالوا: و(خيلاء) وصف مقيد بمفهوم المخالفة، فمن جر ثوبه بلا مخيلة فلا يدخل تحت هذا الوعيد.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة! فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال يرخين شبراً. قالت: إذاً تنكشف أقدامهن. قال: فيرخينه ذراعاً ولا يزدن).
قالوا: لو كان خيلاء ما رخصه للنساء، لأنه سوف يحدث زيادة، وهذا الزيادة تدل على الكبر إن قلتم: لا، ويقولون أيضاً: إن الإسبال فقط في الإزار، أي: لا يدخل القميص ولا السروال ولا أي شيء آخر، وهذا مردود عليهم بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: وهو القول الفصل الذي لا يمكن أن نحيد عنه، وهو قول المحققين من أهل العلم، قالوا: الإسبال نوعان يتفقان ويفترقان، فيتفقان بأن كلاهما محرم، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين ففي النار). وهذا على الإطلاق.
الثاني: إذا كان كبراً وخيلاء فله عذاب أليم.
ويفترقان في العقاب، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يكلمه وله عذاب أليم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين ففي النار). وسيأتي تفسيره.
التأويل الأول: ما كان تحت الكعبين فهو في النار، أي: عندما يقف في عرصات يوم القيامة ليحاسب؛ لأنه أسبل إزاره، فيرى سبيله في الجنة أم في النار.
التأويل الثاني: إجراء الحديث على ظاهره، فقالوا: هذا من فعل أهل النار ويعاقب عليه. والصحيح: التأويل الأول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء ) أي: كبراً وتفاخراً، فحكمه: (لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يكلمه، وله عذاب أليم).
إذاً: اختلفا في الحكم، وإذا اختلفا في الحكم فلا يحمل المطلق على المقيد.
أيضاً: عندنا نوعان من الإسبال:
الأول: نوع محرم تحريماً أغلظ من الثاني.
الثاني: نوع محرم تحريماً أخف من الأول.
فأما النوع المحرم الأغلظ فهو: أن يجر ثوبه خيلاء، فيمشي به بين الناس كالطاوس، فيتكبر ويتجبر ولا يذكر لله نعمة عليه، فهذا حكمه أننا نسقط عليه كل الأدلة التي جاءت في حكم المسبل إزاره: (فلا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يكلمه، وله عذاب أليم)، بل في رواية: (لا يدخل الجنة).
وأما النوع الثاني: -وهو النوع الأخف- قول النبي صلى الله عليه وسلم (ما أسفل الكعبين ففي النار)، وهو: أن يجر ثوبه ولا يقصد الخيلاء، ولا يمر على قلبه الكبر بحال من الأحوال، لكنها عادة القوم، كأن يكون قد رأى أباه أو أهله يسيرون بثياب طويلة ففعل ذلك، فيلبس لباسهم ويسبل الإزار تحت الكعبين، وهذا أيضاً قد وقع في كبيرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل صاحبها من أصحاب النار، لكنها أخف من الأولى، وهذا هو الراجح والصحيح، وهو الذي قسمه النبي صلى الله عليه وسلم، إذ الأصل في العطف المغايرة، وقد عطف النبي صلى الله عليه وسلم بين الأول وبين الثاني، فقال: (ما أسفل الكعبين ففي النار)، ثم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة).
إذاً: الإسبال محرم مطلقاً، وهذا هو الراجح والصحيح على من حمل كل الأدلة التي جاءت في تحريم الإسبال بأنها على الخيلاء.
وأما الذين احتجوا بفعل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فنقول: إذا وقفت مع من يحتج بدليل ليس له، ورددته عليه لكان دليلاً لك، فلما قالوا: أبو بكر لا يمكن أن يفعل ذلك خيلاء؛ ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لست منهم يا
الوجه الأول: إن أبا بكر لم يكن مرخياً لثيابه، بل كان يرفع إزاره إلى الكعبين، أو إلى نصف الساق، والصحيح الراجح: أنه كان يرفعها إلى الكعبين؛ لأنه عندما كان يتركه فيسترخي فينزل تحت الكعبين.
إذاً: هذا الحديث لا يتعلق به؛ لأن أبا بكر كان لا يرخي ثوبه، بل الأصل في ثوبه أنه فوق الكعبين.
الوجه الثاني: إذا قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لست منهم يا
والرد عليهم أيضاً من دليل ابن عمر لما استأذن بالدخول على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن مجمعون على أن ابن عمر ليس من أهل الخيلاء، وإزاره كان قد أرخاه تحت الكعبين، فلو كان جائزاً هل للنبي صلى الله عليه وسلم أن ينكر عليه أمام أصحابه؟ بل قال له: (لو كنت عبداً لله) وعلامة العبودية أن تأتمر بأمر الله، وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا دلالة واضحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق هنا بين الخيلاء وغير الخيلاء.
أيضاً الرد عليهم من حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه؛ وعمر هو أفقه الناس بكلام النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتدوا باللذين من بعدي
فلما دخل الشاب يمدح في عمر ويثني عليه، قال له عمر: يا بني! ارفع ثوبك يكن مرضاة لربك ومطهرة لثوبك، فلو أن عمر فقه من النبي صلى الله عليه وسلم أن الخيلاء يحرم وغير الخيلاء لا يحرم لكان له الوقوف عند حدود الله ويقول: يا بني! أخبرني هل هذا الإسبال فيه كبر منك، أم عادة فقط؟ فلما لم يسأله عمر رجعنا إلى قاعدة الشافعي : ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فكأنه يقول: أسبلت سواء خيلاء أو غير خيلاء فقد اقترفت إثماً وتجرأت على حدود الله جل في علاه، ارفع إزارك مرضاة لربك ومطهرة لثوبك.
فهذه الأدلة كلها تثبت أن القول الأول ضعيف.
إذاً: الإسبال عند المحققين على نوعين:إ
سبال يحرم،وهو: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين ففي النار).
وإسبال أغلظ من الأول، ألا وهو: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (لم ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء يوم القيامة)، وهذه عقوبة في الآخرة.
والعلماء لما ذكروا الإسبال في العمامة قالوا: الإسبال بالعمامة يكون بالذؤابة، فإذا أرخى الذؤابة إلى غير ما اعتاد الناس على طولها فقد وقع في الإسبال.
أيضاً الإسبال يكون في الأكمام، فإذا كان الكم طويلاً يكون إسبالاً أيضاً، ولا بد من رفعه في القميص، وفي السروال، وفي البنطال، وفي الإزار كذلك.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد سوى بين الإزار والعمامة والقميص في الإسبال، وكل ذلك فيه عقوبة وخيمة في الدنيا للمتكبر أو للذي يجر ثوبه خيلاء، ليبين عظم الفارق بين من جر ثوبه من غير خيلاء، وبين من جر ثوبه خيلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل ممن كان قبلكم يمشي متبختراً جر ثوبه خيلاء إذ خسف الله به في الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، وعقوبة الخسف والمسخ تكون لمن تكبر على حدود الله جل في علاه، ويكفيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر