وبعــد:
أيها الإخوة: يسرني في بداية هذا اللقاء بعد أن ألقي عليكم تحية الإسلام، وهي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أن أرحب بهذا الجمع الأخوي المبارك، ببيتين من الشعر ليس من نظمي، ولكنهما من تجميعي، فأنا لا أنظم ولكنني أجمع، وأنتم جميعاً تعرفون المصانع أو الصناعات التجميعية.
يا قوم إن حبال الله تجمعنا فهل يفرقنا خيطٌ من البشر |
أما البيت الآخر فهو:
والشوق في أضلعي ما إن يبينه نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخطب |
إن مثل إن هذا الجمع الطيب، يثير في النفس مشاعر الأخوة الإسلامية، فعلى رغم تنائي الديار، وتباعد الأخطار والأمصار؛ إلا أن لواء الأخوة الإسلامية يظلل الناطقين بـ(لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويجمعهم على كلمة التقوى، ويوحد بينهم، ويُقِّرب مشاعرهم، فهم من أقصى بلاد العالم الإسلامي إلى أقصاه، يلتقون في شعورٍ واحد منسجم، حتى كأنهم جسدٌ واحد، فيكون شأنهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} وفي الحديث الآخر: {كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه}.
وكما قال الشاعر:
تذوب حشاشات العواصم حسرةً إذا دميت في كف بغداد أصبع |
ولو أن بَرَدى أنَّت لخطبٍ أصابها لسالت بـوادي النيل للنيل أدمع |
هكذا أخوة الإسلام تجمع المتباعدين والمتقاربين.
إخوتي الأكارم، إن الذي يستمع إلى مثل هذا الحديث، يفترض -بادئ ذي بدء- أن عنده تسليماً مطلقاً لا يقبل الشك، في قضية الصراع بين الحق والباطل.
إذاً: من البدهيات التي يجب أن نوقن بها يقيناً كاملاً: أن الحق والباطل منذ وجد الإنسان في صراع دائم لا ينتهي، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، صراع يبدأ بالدعوة إلى الحق، وانقسام الناس إلى مؤمنٍ وكافر، كما قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45].
إذاً: يترتب على الدعوة إلى الله انقسام الناس إلى فريقين: مؤمن وكافر، لا تنتهي القضية عند حد مجرد اختيار الإنسان للهدى أو للضلال، للإيمان أو للكفر، كلا! بل تنتقل إلى مسألة الصراع والخصام، ولذلك قال: فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45] الخصام بكل وسيلة، بالصراع العقائدي، واللسان والإعلام والبيان، وبكل وسيلة ممكنة، ولذلك يقول الله عز وجل أيضاً: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112].
إذاً: هناك صراع بالقول واللسان والحجة والبيان، وغير ذلك من الأساليب، بين جند الله وجند الشيطان، حتى الرسل والأنبياء جعل الله تعالى لهم أعداءً، بل إن الله تعالى عبَّر عن الكافرين بأنهم أعداء الله سبحانه، فقال تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] فالكافر عدوٌ لله تعالى، كما أن الله تعالى عدوٌ له، وهذا الزخرف اللفظي والبهرج الإعلامي، الذي يستخدمه الضالون، يغتر به من لم يرد الله تعالى هدايتهم بل أراد فتنتهم، ولذلك قال في الآية السابقة: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ [الأنعام:113] أي هذا الزخرف وهذا الخداع والتضليل الإعلامي الذي يسلكه أعداء الإسلام: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:113] بعد ذلك ينتقل الصراع إلى مرحلته الثالثة والأخيرة، وهي الحرب الصريحة بين الإسلام والكفر، وهذا ظاهر جداً، كما في قوله تعالى -حين ذكر عن فرعون أنه كان يهدد موسى وبنى إسرائيل بقوله- سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127] هذه هي نهاية الصراع، أنه يتحول إلى صراع عسكري مسلح دامي، والعاقبة للمتقين في الدنيا وفي الآخرة.
ولذلك أصبحت تجد -عياناً- أن المجتمعات الإسلامية اليوم، بدأت تتحول تدريجياً إلى التميز الذي ورد الإخبار عنه في حديثٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه أشار أنه في آخر الزمان وقبل قيام الساعة، يتحول الناس إلى معسكرين، معسكر إيمان لا نفاق فيه ومعسكر نفاق لا إيمان فيه، الآن بدأ هذا التميز وبدأت بوادره، فأصبح كثير من الناس يتجهون اتجاهاً إسلامياً صحيحاً عن علم ومعرفة ووعي وقناعة بالدين، فيضحون في سبيل الدين بالغالي والنفيس، ويختارونه على علم، ويبذلون في سبيله الوقت والمال والإمكانيات والجهود وكل ما يستطيعون، ويتحملون في سبيله الأذى والتعب. وفى مقابل ذلك، تجد أن هناك جموعاً من المنسلخين عن جسم هذه الأمة، الذين رضوا لهم اسماً آخر غير اسم الإسلام، الذي سماهم به الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قال الله:هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78] رضوا أن يكونوا شيوعين -مثلاً- أو علمانيين أو ملحدين أو زنادقة، أو أي أمر آخر غير الإسلام، هؤلاء اختاروا طريقهم -أيضاً- عن عمد وبوضوح، وصاروا يضحون في سبيله، ويتعبون من أجله، ويدعون إليه.
إذاً: أصبح المجتمع يتميز إلى معسكر إيمان عن وعي وبصيرة، ومعسكر نفاق أو ضلال -أيضاً- عن معرفة وإدراك وإصرار مسبق، وموقع الوسط الذي كان بالأمس يشغله أكثر الناس، بدأ ينقص ويتآكل تدريجياً، فبعض الناس تتجه نحو الإسلام عن وعي، وبعضهم يتجه إلى الضلال والانحراف عن وعي وتعمد وإصرار أيضاً، أما الوسط فيقل شيئاً فشيئاً، وربما يأتي يوم من الأيام لا تجد في أي مجتمع إسلامي شخصاً تستطيع أن تقول: إنه متوسط، ليس مؤمناً إيماناً حقاً ولا عدواً للإسلام، قلَّ أن تجد شخصاً كهذا. وهذا نموذج للصراع بين الحق والباطل وبين الإسلام والكفر والهدى والضلال.
أحياناً نسمع من يقول: إن الغربيين يعطون الحرية للإسلام والمسلمين في الدعوة والصلاة وغيرها، وهذا الكلام قد يكون فيه شيء من الحق ولكن أُريد به باطل، أو شيء من الحق حمل أكبر من حجمه الطبيعي، فالواقع أن أولئك القوم، قد يقبلون بنشاط إسلامي إلى مدى معين وإلى مستوى معين، لكن لا يقبلون أن يرتفع الإسلام عن هذا المستوى، بحيث يتحول الإسلام إلى خطر يهددهم ويهدد مجتمعاتهم وأديانهم. فنحن جميعاً يجب أن نعلم ونقتنع -بمقتضى مطلق الصراع بين الحق والباطل، الذي قرره الله تعالى في كتابه، وقرره الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، بأكمل وأوضح بيان- أنهم لا يمكن أن يرضوا بذلك.
ولا مانع أن أشير إلى مثال صغير ولكنه معبر: فرنسا بدأ يغزوها الإسلام، وقبل فترة ليست بالقريبة، كتب أحد الصحفيين الفرنسيين، يشكو من الإسلام ومن تعاظم مده ويقول: كأنني أتصور ذلك اليوم الذي إذا جاء وقت الأذان، وضعت مكبرات الصوت في شوارع باريس، ولبس الناس الثياب البيضاء، فإذا أذن المؤذن أغلقت المحلات، وفرشت البسط في الشوارع، واتجه الناس إلى مكة وقالوا: الله أكبر. ويذكر كيف أن عدداً من أصدقائه كان منهم واحد رسام، وآخر وثالث ورابع، وتحولوا إلى مسلمين، فكان الإسلام يتحرك في فرنسا بصورة جيدة، وينتشر بشكل سريع، لكن الكل سمعوا بقصة الفتيات الثلاث المحجبات، التي أصبحت قضيتهن قضية كبرى في الصحافة العالمية، وقد حصلت على قصاصات من كثير من الصحف الأوروبية والأمريكية، تتحدث عن قضية الحجاب، لأن مجموعة من الفتيات العربيات المسلمات لبسن الحجاب في المدرسة، فثارت قضية كبرى، ومنعن من دخول المدرسة، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبحت قضية صحفية، ونبش أولئك القوم التاريخ الماضي، ونبشوا قضية الحجاب في مصر، وقضية الطهطاوي وقاسم أمين وتاريخ الحجاب، ثم انتقلوا إلى قضية الخميني والخطر القادم من الإسلام، وربطوا هذا كله بوجود ثلاث فتيات يلبسن الحجاب في المدرسة.
إذاً حالوا أن يضفوا على القضية زخماً كبيراً، ويعظم الأمر ويتطور ليصبح قضية كبرى في صحافتهم، بل في مؤسساتهم الإدارية.
إذاً قضية الحرية التي تمنح للإسلام هناك، هي مجرد غطاء وهمي أو حرية إلى مستوى معين، فإذا تخطَّاها وتعداها المسلمون فسيواجهون حرباً ضارية.
أولاً: إن الذي لا يعرف أساليب الخصوم في حرب الإسلام؛ قد يتأثر بهذه الأساليب، فربما يذهب بعضنا ضحية تضليل، أو خداع أو تلبيس من أعداء الإسلام، بسبب جهله بالأساليب والطرائق التي يسلكونها.
ثانياً: قد يتعدى الأمر ذلك، ليشارك الواحد منا مشاركة فعلية في هذه الأساليب، ويكون عوناً لأعداء الإسلام على المسلمين من دون أن يشعر، لماذا؟
لأنه مغفل لم يدرك هذه الأساليب.
ثالثاً: لأننا باعتبارنا مسلمين، مطالبون بمواجهة هذه الأساليب بمثلها. فحتى نواجهها ونرد كيد المعتدي في نحره؛ لابد أن نعرف هذه الأساليب واحداً بعد آخر.
وسأشير إلى خمسة من الأساليب، التي ظهر لي أنها تجمع معظم الأعمال والخطط التي يسلكها أعداء الإسلام، سواءً كانوا من القريبين أو البعيدين.
فالدعوة الإسلامية في كل مكان، يجب أن يكون هدفها هو: إعادة عبودية الناس لله جل وعلا فقط، ليس لها أي هدف أو مطمع، إلا أن تجعل الناس عبيداً حقيقيين لله تعالى، تدعوهم إلى الله عز وجل، قال تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه [الأعراف:59] وكثيراً ما يحاول الأعداء في البداية -بدلاً من أن يواجهو الدعوة صراحةً- أن يفرغوها من محتواها، أن يحتووا هذه الدعوة، ويسيطروا أو يهيمنوا عليها بطريقة أو بأخرى.
على سبيل المثال: ربما يشغلون الداعية بالوسيلة عن الغاية، فيشغلون الداعية -مثلاً- بالمنصب، الذي يخيل إليه أحياناً أنه وسيلة إلى الدعوة إلى الله تعالى، وإلى حمل الناس على الإسلام، فيشغلونه بذلك عن الحقيقة التي يدعو إليها ويعمل من أجلها، يشغلونه بالوظيفة، ويشغلونه ببعض الأشياء السياسية، عن هدفه الأعظم والأسمى الذي يهدف إليه.
من الوسائل في موضوع الاحتواء: أنهم قد يظهرون نوعاً من الإصلاحات أو نوعاً من التدين، الذي يوهم الناس بأن هؤلاء القوم معهم، فيحاولون بذلك، أو ينجحون في سحب مشاعر الناس، أو تخدير مشاعرهم، وكثيراً ما يظهر العدو الموافقة لك على ما تريد وعلى ما تقول، خاصةً حين يجد أنك جادّ فيما تدعو إليه. وهذا أمر قد نجده في حياتنا القريبة, فلو أراد شخص منا من آخر أمراً فشعر ذلك الشخص أنك مصمم على ما تريد، وتطلبه بقوة ومستعد أن تضحي في سبيله، فإنه لا يبدأ بمواجهتك فيستثير بذلك غضبك وانفعالك، بل في البداية يقول لك: يا أخي، ما تريده سوف أنفذه وأنا مستعد, ويعطيك وجهاً يدل على الرضى والموافقة والقبول، حتى يسحب هذا الشعور الموجود عندك، ويشعرك بأنك وإياه على خطٍ واحد، ثم يُنفَّذ بعد ذلك ما يريد.
من ذلك مثلاً: النصارى فقد يظهرون للمسلمين نوعاً من التسامح أحياناً، أو يمكنونهم من العبادات, ولهذا لا غرابة أن تجد أن هناك مؤتمرات تعقد في كثير من البلاد، مما يسمونه بالحوار الإسلامي المسيحي، وهذا الموضوع عُقد له مؤتمرات كثيرة جداً في لبنان، وفي مصر، وفي أسبانيا، وفي الفاتيكان، وفي ليبيا، وفي غيرها من البلدان الإسلامية، مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي، يقولون لك: يا أخي! نحن نريد أن نسمع منك وتسمع منا، نجلس على مائدة المفاوضات، ما كان عندك من حق تقبله وما عندنا من حق نقبله، نتعاون جميعاً في حرب الشيوعية وفي حرب المادية، إلى غير ذلك من الشعارات البراقة، التي يخادعون بها بعض السذج من المسلمين.
فالهدف من وراء هذا الأسلوب: هو تفريغ الدعوة من محتواها، وتذويب هذه المشاعر الفياضة لدى المسلمين, مشاعر العداء لليهود, وللنصارى, ومشاعر العداء للشيوعيين، ولأي أمة من الأمم الكافرة. ولذلك تجد كثيراً من المسلمين -اليوم- أصبح الواحد يخجل أن يطلق عليهم كفاراً، يخجل أن يسمي النصراني كافراً، حتى أنى قرأت في بعض صحفكم قبل وقت ليس بالبعيد، مقالاً طويلاً يدافع فيه صاحبه عن اليهود، وعن النصارى، ويقول: من الخطأ أن تفهموا أن اليهود كفار، أو أن النصارى كفار، فاليهود مسلمون والنصارى مسلمون، والله تعالى لا يطالب اليهود بأن يكونوا مسلمين مثلنا، ولا يطالب النصارى بذلك, لكن يطالب اليهود بأن ينفذوا تعاليم دينهم، ويطالب النصارى كذلك بأن ينفذوا تعاليم دينهم، كما يطالبنا نحن بأن ننفذ تعاليم ديننا!!
وهذا في الواقع تكذيب للمعلوم من الدين بالضرورة؛ لأن جميع المسلمين مجمعون على أن الدين الوحيد المقبول عند الله تعالى، هو الدين الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد نسخ جميع الأديان السابقة، نسخ اليهودية، ونسخ النصرانية، حتى لو كانت غير محرفة، فكيف وقد دخل في اليهودية والنصرانية من التحريف ما تعرفون!!
وهذه القضية ليست جديدة، فإن التتار حين جاءوا إلى البلاد الإسلامية، كانوا متوحشين وثنيين، فلما جاءوا إلى بلاد الإسلام، كانوا يملكون القوة والسلاح لكن لا يملكون الفكر؛ فلذلك أظهروا الإسلام، وكانت الجحافل والغزوات المتأخرة من التتار، يأتي مع جيشهم عدد من القضاة والمؤذنين والأئمة، ويحملون المصاحف ويظهرون شيئاً من الإسلام، ويدَّعون أنهم مسلمون، وقد ينطقون بالشهادتين، بل ينطقون بها، ومع ذلك كانوا يقاتلون المسلمين ويحاربونهم، وهذا أوجد الشك عند كثيرٍ من المسلمين في قضية حرب التتار، فحسم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الإشكال: كيف نقاتل التتار وهم يعلنون الإسلام؟
حسم ذلك بفتوى مشهورة معروفة موجودة ضمن الفتاوى. المهم أن التتار كانوا بهذه الطريقة يستميلون المسلمين إلى ألا يحاربوهم ولا يقاتلوهم، ويستسلموا أمامهم؛ لأن هؤلاء مسلمون، فكيف نحاربهم وفى صفوفهم القضاة والمؤذنون والمرشدون، ومعهم المصاحف يحملونها على أيديهم وعلى ركائبهم حيث حلوا وارتحلوا؟
كما أنه يدفع المسلم إلى أن يحارب الشر ولو كان شراً جزئياً؛ لأنه يرى أنه شر عظيم، وينبغي دفعه عن مجتمع المسلمين، فنفرق بين قضية تحصيل المصالح ودفع المفاسد، وبين قضية الاستجابة لأعداء الإسلام في بعض المطالب التي يريدون من ورائها تحويل مسار الدعوة عن هدفها الحقيقي، وهو إعادة عبودية الناس لله جل وعلا.
وهذا الأسلوب من المكر اليهودي، فبعد أن استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وضرب الإسلام بجرانه في الأرض، علم اليهود أن من الصعب حرب الإسلام علانية؛ فزرعوا ودسوا أذرعهم الخفية وهم المنافقون، ولذلك كانت الأولى البذرة من النفاق في المدينة على أيدي اليهود، كانوا منافقين من اليهود، الذين أظهروا الإسلام لضرب الإسلام وحربه، وهؤلاء أشد خطراً من الكافر المعلن وذلك لما يأتي:
أولاً: لأنهم يعيشون بين المسلمين، ويعرفون عورات المسلمين، ويستطيعون أن يصيبوهم في الصميم.
ثانياً: لأنه يصعب اتقاؤهم، فالكافر المعلن يمكن معرفة الخطر منه؛ لأنه معروف متميز، أما المنافق فإنه يعيش داخل الصف المسلم، وبالتالي يصعب معرفته واتقاء شره، ولذلك قال الله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون:4] أي: المنافقين، وقوله: (هُمُ الْعَدُوُّ ) هذا أسلوب حصر، ومعروف عند العارفين باللغة العربية كأن معنى قوله: (هُمُ الْعَدُوُّ ) أي لا عدو إلا هم، وليس المقصود حصر العداوة فيهم فقط، لكن المقصود التأكيد على شدة عداوتهم، وضراوتها وقسوتها وصعوبة الحذر منها، ولذلك قال: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4] والمنافقون في كل زمان ومكان، لهم شخصيات ومؤسسات وملل ونحل، يدخلون وينفذون من خلالها.
على سبيل المثال: من شخصياتهم التاريخية عبد الله بن سبأ اليهودي، المعروف بـابن السوداء، وكان يهودياً من أهل صنعاء، فلمَّا رأى قوة الإسلام وانتشاره؛ أعلن الإسلام وجاء بين المسلمين، ثم تسلل إليهم، وبدأ يفتك بالمسلمين ويدعو وينشر بينهم الأفكار الضالة باسم الإسلام.
والشخصيات المنافقة على مدار التاريخ كثيرة، أما الملل والنحل فلعل من أكثرها وأعظمها التي استغلها المنافقون، على سبيل الإجمال ما يسمى: المذاهب الباطنية، والمذاهب الباطنية لفظٌ عام يشمل طوائف كثيرة، من الرافضة، والصوفية، والقاديانية، والبهائية في العصر الحاضر، وغيرها من الملل والنحل التي انشقت عن جسم الأمة الإسلامية، وأصبحت تقيم المؤسسات والمدارس والمراكز في بلاد العالم الإسلامي، وفي بلاد أمريكا وأوروبا، وتعلن أنها تدعو إلى الإسلام، وهي في الواقع تدعو إلى دينٍ آخر غير دين الإسلام، وإلى نبيٍ آخر غير محمد عليه الصلاة والسلام، لكنها تتمسح بالإسلام؛ للخداع والتضليل لهؤلاء السذج المغفلين، خاصة حين يكون الإنسان غير مسلم فيدعى إليهم، أو يكون حديث عهد بالإسلام، ولا يعرف عنه شيئاً ولا يميز بين الحق والباطل، فيضله هؤلاء، وقد يدخلونه في دينهم وملتهم ونحلتهم. فهذه نماذج من المنافقين.
والمدّون هوى الإسلام سيفهم مع الأعادي على أبنائه النجب |
كم من إنسان كانت خطبه ملأى بالكلام عن الإسلام، والدعوة إلى الإسلام، وحماية الإسلام، وتاريخ الإسلام، وتمجيد محمد صلى الله عليه وسلم، لكن أعماله على النقيض من ذلك!
وهذا يذكرني بالأسطورة التي تذكرها بعض الكتب، عن انخداع بعض الناس بهذا الأمر، يقولون: إن هناك صياداً كان معه بندقية، فدخل إلى مكان ليصطاد بعض الطيور، فكان هناك عصفوران، فقال أحدهما للآخر: انظر إلى هذا يريد أن يصطادنا، فنظر إليه وقال: إنه لن يصطادنا، ألا ترى أن عينيه تدمع وتبكي رحمة لنا وشفقة علينا؟ فقال له: لا تنظر إلى دمع عينيه، ولكن انظر إلى هذا السلاح الذي في يديه.
فكثير من الناس -كما يقال- يذرفون على الإسلام دموع التماسيح، لكن أقوالهم تقول لكل رائي ومتأمل: إنهم كاذبون في ذلك، ومن قبل كان عبد الله بن أبي بن سلول، شيخ النفاق والمنافقين في المدينة، كان إذا قام الرسول صلى الله عليه وسلم وخطب، قام بعده عبد الله بن أبي بن سلول يعقب على الخطبة، ويشيد بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا لهذا النبي الكريم الذي اختاره الله لكم واجتباه وخصكم به... إلى غير ذلك من الكلام، وكان الناس ينخدعون بكلامه في أول الأمر.
إذاً ليس المقياس هو الكلام والخطب الرنانة، فكم من خطبٍ قيلت وليس لها رصيد من الواقع، إنما المقياس هو اتباع القول بالعمل، هذا هو الميزان الشرعي الحقيقي لمعرفة صدق الإنسان من كذبه، فإذا قال الإنسان قولاً -وهنا أيضاً أحذر- إذا قال الإنسان قولاً حسناً، لا ينبغي أن نسارع في اتهامه، بل يجب أن نتميز بالعدل حسناً جميلاً، نقول: هذا قول حسن وجميل، ولكن ننظر ماذا بعد هذا القول؟
فإن وجدناه أتبع القول بالعمل، كان هذا آيةً على صدقه، وإن وجدنا أنه توقف عند حد هذه البضاعة الكاسدة، بضاعة القول فحسب، وخالف ما يقول؛ عرفنا أن هذا القول كمجرد خداع وتضليل، وترويج هذا الأمر على الناس فقط.
فمن أوجب الواجبات على المسلم؛ أن يعرف عدو الإسلام من وليه، وهذا أمر تقتضيه الأخوة، والولاء والبراء في الإسلام، فلا ننخدع بشخص لمجرد أنه يتكلم بكلام معسول، حتى نرى مصداق ذلك في سيرته وسلوكه.
الأمر الآخر: لابد من فضح المنافقين وبيان خططهم ومؤامرتهم على الإسلام، سواءً كانوا أشخاصاً أو مؤسسات، أو أجهزة أو جمعيات، أو أحزاب أو تجمعات، أو ملل أو نحل، لابد من فضحها، وهذا من ضمن المقاصد التي نـزل القران من أجلها، قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55] فاستبيان سبيل المجرمين -أي: إيضاح ومعرفة سبيل الكافرين والضالين- هي من مقاصد إنـزال الكتب وبعثة الرسل؛ لأن المسلم مطالب بأن يحب المسلم ويبغض الكافر والمنافق ويتبرأ منه، وكيف تبغضه وتبرأ منه وتحاربه وأنت لا تعرفه؟
ولذلك من أعظم المصائب التي يبتلى بها المسلمون، أن يلتبس العدو عندهم بالصديق، فيتحول الصديق -أحياناً- إلى عدو، ويتحول العدو -أحياناً- إلى صديق، لماذا؟
خذ مثالاً: قد يقع داعية من الدعاة في خطأ -والخطأ لا يسلم منه أحد- فيتحول هذا الداعية من صديق نعرف أنه مجاهد في سبيل الله ومضحٍ، عند بعض الناس إلى عدو؛ لأنه أخطأ، ومن هو الذي لا يخطئ؟
فهنا جعلنا الصديق عدواً.
مثال آخر: قد ينصح الداعية لبعض قومه، والنصيحة -أحياناً- توجد البغضاء، كما قال الأول:
وكم مرة أتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصح |
أي أن الناصح ربما يبغض، لماذا؟
لأنه قال لنا كلاماً ما نحب أن نسمعه، نحن دائماً نحب أن نسمع من يمدحنا، ويقول: كلكم على صواب، وكل فعلكم حسنٌ وجميل، ولم يقع منكم ما يعاب، فهذا من طبيعة الإنسان: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24] ولذلك إذا وجد إنسان يقول لنا: أخطأتم. ربما نبغضه ونحوله إلى عدو، ولو كان داعية للإسلام.
فهنا جعلنا الصديق عدواً، وفى أحيان أخرى لغفلتنا وسذاجتنا نجعل العدو صديقاً؛ لمجرد أنه كان يجيد فن الخداع.
من غير الممكن -مطلقاً- أن نجمع الأمة على كلمةٍ واحدة في جميع الأمور، أصولها وفروعها، فلابد من الخلاف، لأنه إذا اختلف أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والعشرة المبشرون بالجنة، فكيف يعتقد أحد أن أصحاب الدعوة وأهل الإسلام، في القرن الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، سوف يجتمعون على كلمة سواء في كل شيء؟ هذا لا يمكن أن يكون، لابد من وجود خلاف بين المسلمين، وهذا أمر يجب أن نسلم به، لكن هذا الاختلاف لا يعني التفرق ولا يعني التنازع والتناحر.
أعداء الإسلام يحاولون أن يستغلوا هذا الخلاف -الذي هو واقع لا محالة- يستغلونه لتحقيق مآربهم ومقاصدهم، فيصطادون في وسط هذا الجو، فكم من إشاعة أشيعت بين الدعاة إلى الله تعالى، وبين الصالحين من المسلمين ضد فلان، أو ضد الفئة الفلانية أو الطائفة الفلانية، أو أن فلاناً يريد بك شراً، أو قال عنك شيئاً، وحين تتحقق تجد أن هذا ليس له رصيد من الواقع، خاصة والنفوس -في كثير من الأحيان- تكون مشحونة بنوع من الحساسية، فإذا كان عندي حساسية ضد فلان؛ لأن له أسلوباً في الدعوة يختلف عن أسلوبي وطريقةً تختلف عن طريقتي، يكون عندي جو نفسي مهيأ لتقبُّل ما ينقل عنه، فإذا قيل لي: إن فلاناً يتكلم فيك ويغتابك ويسبك؛ سارعت إلى تصديق هذا الأمر، لماذا؟
لأنني أقول: الشيء من معدنه لا يستغرب، ليس ببعيد أن يتكلم عني فلان؛ لأنه يخالفني في الأسلوب والمنهج والطريقة والتعلم وما أشبه ذلك.
فالنفوس مشحونة ومستعدة لتقبل مثل هذه الإشاعات، حتى لو كانت كاذبة، وهذه فرصة للمنافقين وضعاف النفوس؛ لأن يندسوا في وسط المسلمين وفي وسط الدعاة، ويلوثوا هذا الجو الأخوي الطيب الآمن.
وقد يصل الأمر إلى التحريض، فيحرضون بعض الجهات الإسلامية على بعض، ويشغلون بعضها ببعض، وما ألذها على نفوس الكفار وأعداء الإسلام، أن يوفروا قوتهم وإمكانياتهم، ويجعلوا المسلمين ينشغلون ببعضهم ببعض، فما يبنيه زيد يهدمه عمرو، وما يكتبه صالح يمحوه إبراهيم، وهكذا يصبح المسلمون أحدهم يبني والآخر يهدم، كما قال الأول:
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم |
على سبيل المثال: في بعض البلاد الإسلامية يكتب أحد الدعاة كتاباً، يوضح فيه مسألة يعتقد هو أن من الواجب عليه أن يوضحها، ثم يوظف مجموعة كبيرة من الناس الذين يثقون به؛ لينشروا هذا الكتاب بين الناس، حتى يصل إليهم، فينشرونه في المساجد والمدارس والمراكز وفي كل مكان, وفي ذلك بذلوا جهداً كبيراً، في كتابة الكتاب وطباعته، وفي الإنفاق عليه، وتوزعيه وفي غير ذلك، بعد ذلك يسمع مسلمٌ آخر بهذا العمل، وهو يعترض عليه ويعتقد أنه ضار؛ فيجند مجموعة أخرى لأخذ هذا الكتاب من كل مكان يوجد فيه، وإتلافه والقضاء عليه، وهكذا يؤخذ الكتاب ويتلف ويُقضى عليه, فهذا الجهد كم ثمرته للمسلمين؟
لا شيء، بل أقل من لا شيء وهي السلبية؛ لأن الكتاب الذي تَعب عليه قد أتلف وانتهى ولم يستفد منه أحد، ولكن هناك جهود كبيرة من المسلمين من الطرفين ضاعت هباءً منثوراً.
وفى أحيان أخرى الأعداء لا يكتفون بمجرد التحريض، بل يساعدون بعض المسلمين على بعض، ولعلنا نذكر على سبيل المثال نماذج تاريخية، إذا كنت ذكرت لكم -آنفاً- أن عبد الله بن سبأ اليهودي المتمسلم -ابن السوداء- دخل الإسلام ليهدم من الداخل، فإنه استغل بوادر الاختلاف بين المسلمين في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه؛ فبدأ بنشر الفتنة، فلمَّا جاءه خبر موت علي بعد فترة، رفض وقال: والله لو أتيتموني بدماغ علي في سبعين صرة ما صدقت، بل إنه حي وإنما ذهب إلى ربه كما ذهب موسى إلى ربه، وسوف يعود ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً ظلماً. وبدأ يؤلب الناس ويدعوهم وينشر بينهم العقيدة المعروفة عقيدة الرفض، حتى أسس هذا المذهب الذي ظل -على مدار التاريخ- هدماً للإسلام.
كيف استطاع عبد الله بن سبأ اليهودي ومن معه، أن يؤججوا الصراع بين المسلمين على رغم أن المسلمين كانوا على درجة كبيرة من الوعي؟
اندس بعضهم في جيش علي، واندس بعضهم في جيش معاوية، رضي الله عنهم أجمعين، فلما التقى مبعوث علي ومبعوث معاوية لكتابة الصلح، وكانت نفوس الصحابة رضي الله عنهم مستعدة جداً للمصالحة ورأب الصدع وخم الصف، أصبح الذين في جيش علي من أتباع ابن سبأ يتحرشون بجيش معاوية، والذين في جيش معاوية يتحرشون بجيش علي، حتى كان معاوية يقول: غريب أمر علي! كيف يتفاوض معي في الليل وجنده ينهالون على جيشي؟!
ويقول علي: غريب أمر معاوية! كيف يتفاوض معي في الليل وجنده ينهالون على جيشي؟! وما زال هؤلاء يتحرشون حتى أنشبوا الخصومة والقتال بين المسلمين وحدث ما حدث.
أريد أن أوضح أن أعداء الإسلام -من المنافقين وغيرهم- يستغلون الخلاف بين المسلمين ويؤججونه، وقد يدخلون فيه ويستغلون عملاءهم في داخل الصف الإسلامي؛ لتأجيج الصراع بين المسلمين وإنهاك جسم الدعوة الإسلامية.
المهم أن قريشاً فرضت حصاراً اقتصادياً واجتماعياً على المسلمين في الشعب لمدة ثلاث سنوات، قريش التي كانت تتبجح بالكرم والجود، حتى قال زهير، كما هو معروف في قصيدته يمدح بعض زعمائهم، يقول:
على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل |
فما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل |
كانت العرب تتمدح بالجود والكرم والعطاء، حتى كان عبد الله بن جدعان- وهو من أجود قريش المشهورين- كان يجعل موائداً كبيرة جداً، من العسل والطعام والبر وغيرها، ويرسل أناساً يصيحون في أطراف مكة: هلموا إلى الطعام في دار عبد الله بن جدعان، وبذلك مدحه أمية بن أبي الصلت في قصيدته التي يقول فيها:
له داع بـمكة مشمعلٌّ وآخر فوق دارته ينادي |
إلى قطع من الشيزى عليها لُبابُ البر يُلبَكُ بالشهادِ |
هؤلاء لما صارت الحرب مع الإسلام، نسوا كل ما تعارفوا عليه من الأخلاق والقيم والعادات والتقاليد، والأشياء التي توارثوها، وحاصروا المسلمين، حتى كان يسمع تضاغي وصراخ الأطفال في الشعب من شدة الجوع، لا تلين لذلك قلوب القرشيين، حتى إن المسلمين هاجروا إلى الحبشة فراراً من هذا الإيذاء، وبعد ذلك إلى المدينة.
وبعد ذلك يأتي دور المنافقين -أيضاً- قال الله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7] وكم نجد في هذا العصر من الحصار على المؤمنين في أرزاقهم، ووظائفهم، وأموالهم، وفي التضييق عليهم بكل وسيلة، فضلاً عما يشيعه كثير من أعداء الإسلام من شائعات عن المسلمين؛ لمنع نجاحهم في أي مشروع يريدونه، فإذا قام الدعاة إلى الله تعالى -مثلاً- بمشروع إصلاحي أو دعوي، أو إغاثة أو مساعدة للمسلمين في أي مكان، لا يبعد ولا يستغرب أن تجد من يشيع الشائعات الكاذبة، أن هذا المال يتلاعب به، وأن هذا المشروع لصالح فلان أو علان، أو أنه ما أريد به وجه الله، وإلى غير ذلك من الأقاويل، التي يقصدون من ورائها الحصار الاقتصادي والمالي على المؤمنين وعلى الدعاة.
قريش فعلت هذا الحصار الإعلامي، بطريقة تتناسب مع عصرها وبيئتها، فبعد ما استفاد الرسول عليه الصلاة والسلام من التجمعات التي كانت تحدث في مكة، مثل اجتماعهم في سوق عكاظ، ومجنة وذي المجاز وغيرها، وكذلك في مواسم الحج التي كانت العرب تجتمع فيها، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يذهب، وأحياناً كان يذهب ومعه أبو بكر إلى القبائل، فيعرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم دعوته، كما ورد في حديث ربيعة بن عباد الديلي، وطارق بن شداد وجابر وغيرهم، وهي أحاديث صحيحة ثابتة، أن الرسول عليه السلام كان يأتي إلى الناس والقبائل، فيقول: {من أنتم؟ فيقولون: نحن بنو فلان. فيقول: من يؤويني وينصرني، حتى أبلغ رسالة ربي؟ فإن قريشاً منعوني أن أبلغ رسالة ربي } وأحياناً يقول لهم: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} وكان خلفه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين، يلاحقه ويرميه بالحجارة ويضع التراب على رأسه ويقول: لا تطيعوه! إنه صابئ كذاب، يريد أن تتركوا ما تعبدون، ويريد أن تتركوا حلفاءكم من الجن. فيقول ربيعة: سألت أبي: من هذا؟
قال: هذا محمد وهو يذكر النبوة، وهذا الذي خلفه يمشى وراءه هو أبو لهب بن عبد العزي.
فكانت قريش تحاول أن تحاصر الدعوة الإسلامية حصاراً إعلامياً، حتى إذا قدم أحد إلى مكة قالوا له: إن محمداً -ونقول صلى الله عليه وسلم- ساحر، يفرق بين المرء وزوجه وبين المرء وأخيه. فلا يزالون ببعض الناس حتى يضعون في آذانهم القطن -كما ورد في قصه الطفيل، وهي قصة في الصحيح- حتى لا يسمعوا شيئاً من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى هذا الحد بلغت محاصرة قريش الإعلامية لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
واليوم في هذا العصر وسائل الإعلام أصبحت تؤثر في الناس، وتصوغ عقولهم ومناهجهم وأفكارهم، ربما نستطيع أن نقول: إن وسائل الإعلام أبلغ من أي أمر آخر في التأثير على الناس، أبلغ من المدرسة مثلاً، وأبلغ من الأصدقاء، وأبلغ من أي وسيلة أخرى.
وسائل الإعلام اليوم أخذت جميع الوسائل، فلننظر ماذا تقول وسائل الإعلام أو الكثير منها عن المسلمين وعن الإسلام.
كثيراً ما نجد من يصف المسلمين والدعاة بأوصاف مثل لفظ الأصوليين، -مثلاً- أو لفظ المتطرفين، أو غير ذلك من الألفاظ التي يريدون من ورائها السب والشتم، أنا لست أنكر أنه يوجد بين المسلمين -في الماضي والحاضر والمستقبل- يوجد بينهم غلاة، ويوجد بينهم من تجاوز الحد ومن يعتدون ويظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، ويوجد بينهم المخطئ، لكن هل أصبح هؤلاء هم الأكثرية والأغلبية حتى أن معظم الحديث ينصب عليهم؟
ثم ما هذه التقسيمات التي أصبحنا نسمعها عن عامة المسلمين، أن هؤلاء متشددون وهؤلاء معتدلون، وهؤلاء متطرفون وهؤلاء كذا وهؤلاء كذا؟
هل من حق إنسان سواءً كان علمانياً أو زنديقاً أو ملحداً أو عدواً للإسلام، ربما لا يصلي مع الجماعة، ولا يُعرف بأنه من العلماء ولا من طلاب العلم، ولا من الدعاة إلى الله عز وجل، هل من حقه أن يصنف المسلمين إلى مثل هذه الأصناف؟
نحن قد نقبل تصنيف العلماء، حين يقول لنا أهل العلم الشرعي المعروفون الموثوق بهم: إن هذه الفئة ضالة أو غالية أو متطرفة. نقبل ذلك، وحين نجد أدلة صريحة على ذلك نقبل، لكن حين يقول لنا إنسان -نعرف أنه ليس من أولياء الإسلام، ولا حزبه ولا من أهله، شخص قضى عمره في حرب الإسلام، وفي تشويه التاريخ الإسلامي، وفي الوقيعة بين المسلمين -فنجد أنه يتعارض لشخصيات إسلامية مرموقة، شخصيات جاوزت القنطرة، شخصيات دعوية جهادية، علمية، فيبدأ يشرِّح ويجرح، ويرفع هذا ويخفض ذاك، فإننا نقول لكل مسلم: إنه لا ينبغي لك أن تصغي لمثل هذا، وإن أصغيت له فلا تقبل منه، بل كن معه كما قال الأول:
لقد أنلتك أذناً غير صاغيةٍ ورب متنصت والقلب في صمم |
أما أن نتقبل نحن -مثلاً- ترويجات الصحافة والإذاعة وأجهزة الإعلام، في تقسيم المسلمين وتصنيفهم، فهذا خطأ كبير، وأعود فأكرر وأقول: أنا لست أنكر أنه يوجد بين المسلمين من يقع منهم الخطأ، ويوجد غلاة في الماضي والحاضر والمستقبل، بل يوجد في كل أمة من الأمم، على سبيل الإجمال والتفصيل، ما من أمة في الدنيا إلا ويوجد فيها غلاة ومعتدلون، ويوجد فيها مفرطون، سواءً الأمم الكتابية كاليهود والنصارى، أو الأمم الوثنية أو الشيوعية أو غيرها، تجد في الشيوعية -مثلاً- الغلاة الشيوعيون الحمر، الذين لا يؤمنون إلا بالقوة والحديد والنار، وتجد فيهم من دون ذلك، وتجد فيهم من يتسامحون في هذا الأمر ويجاملون الأوضاع، وقد يتمسحون بالإسلام ويخادعون أو يتقون به.
من الاتهامات التي توجه -أحياناً- عبر هذا الحصار الإعلامي للدعوة الإسلامية: اتهام الدعاة في نياتهم ومقاصدهم. وإمام هذه الطريقة هو فرعون، فإنه كان يقول لموسى وهارون، يتهمهم بأن لهم مطامع ونيات سياسية: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عليهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ [يونس:78] أي: إنكم تريدون من وراء هذه الدعوة، أن تكونوا زعماء وقادة وسادة، ويكون الأمر لكم وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ [يونس:78].
وبعده واجه الرسول صلى الله عليه وسلم التهمه نفسها، فلما جهر بدعوته وقال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:5-6] وقولهم: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] -كما ذكر بعض المفسرين- يقصدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم، ليس يريد دعوتكم للإسلام، وإنما يريد أن تكونوا أتباعاً له، وأن يكون زعيماً وقائداً لكم، فاتهموا الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقظاً في هذا الأمر -وهو كذلك- وقد سدده الله تعالى وعصمه، فكان يتجنب الأمور التي تكون مدعاة لإثارة الأقاويل في هذا الباب، كما سيأتي.
ومن التهم -أيضاً- التي واجهها العلماء عبر التاريخ: ما نذكره أن شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد قام بدعوته وإصلاحه وتجديده، وشى به بعض الناس إلى السلطان المملوكي، وقالوا له: إن ابن تيمية يريد الملك ويريد السلطان. فدعا ابن تيمية وأحضره في مجلسه، وسأله عما قيل له، فقال له ابن تيمية: أنا أريد ملكك! والله إن ملكك وملك التتار لا يساوي عندي فلساً واحداً، إنما أنا أدعو إلى الله عز وجل، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما الدعاة المعاصرون، فكم رأينا وسمعنا من يتهمهم بمثل هذه التهمة، وأنهم متآمرون، وأن لهم مطامع، وأن لهم مقاصد وأغراض سياسية، وما أشبه ذلك، ولذلك أقول: إن كثيراً من الناس يُلتبس عليهم هذا الأمر، لأننا لا نقول: إن الإسلام لا سياسة فيه مثلاً، بل السياسة جزء من الدين ولاشك في هذا، والقرآن الكريم فيه نصوص كثيرة تتعلق بتنظيم حياة الناس، كأفراد ومجتمعات ودول وأمم إلى غير ذلك، وفى القرآن الكريم قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] الظالمون، الفاسقون.
ولهذا أرى أنه من الواجب على الدعاة -دائماً وأبداً- أن يحرصوا على تجنب كل أمر يمكن أن يوقع اللبس عند الناس، مثلاً: تحالف بعض المسلمين مع جهات مشبوهة أحياناً، هذا يحدث، وهو يوقع لبساً عند كثير من الناس، أن هؤلاء القوم ليس لهم هدف إلا الوصول إلى السلطة، فبأي أمرٍ وصلوا لا يهمهم ذلك. فلهذا نقول: الأجدر بالداعية أن يتجنب أي أمر يمكن أن يوقع اللبس عند الناس، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين من حديث عائشة- قال لـعائشة رضي الله عنها: {لولا أن قومك حديثو عهد بكفر؛لهدمت الكعبة وأقمتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين: باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه} لكنه لم يفعل ذلك الذي تمناه صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الفعل قد يوقع عند الناس لبساً، وقد يقول بعضهم -وهم حديثو عهد بكفر-: إن محمداً صلى الله عليه وسلم صنع هذا ليكون له مكانة، أو حتى يذكر بهذا، أو حتى يكون له الذكر الحسن، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي قد تسبق إلى أذهانهم، فاتقى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المصلحة تحصيلاً لما هو أعظم منها، وكذلك أقول: الداعية يهمه ثقة الناس به وبدعوته، حتى لو فاتته بعض المصالح الآنية العاجلة.
وذلك لأن تحطيم شخصية الداعية هو تحطيم للدعوة، والناس لا يمكن أن يتصوروا حقاً مجرداً عن الأشخاص، ولذلك الله عز وجل كان يرسل الرسل من الناس وينـزل معهم الكتب؛ لأن مجرد إنـزال كتاب -مثلاً- أو مجرد كلمة الإسلام؛ لا يمكن أن يتقبلها الناس، إلا بعد أن تتمثل في أشخاص يدعون إليها، فبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام، ثم جعل العلماء والدعاة من بعده يرثون هذا التراث والميراث والهدي الذي خلَّفه لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فحماية شخصية الداعية، من أن يمسها سوء أو تنال بسوء أو يعلق عليها أحد، هو من أعظم المقاصد الذي ينبغي الحرص عليها.
ولهذا نجد أنه -أيضاً- عبر التاريخ، هناك من يُحاول تشويه وتلويث شخصيات الدعاة بأي صورة، حتى -أحياناً- في أمور تستطيع أن تقول: إنها تافهة.
خذ مثلاً: ما قاله بنو إسرائيل عن موسى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا [الأحزاب:69] إذاً هو مجرد تشويه بأي أسلوب وبأي صورة، حتى لو كان أسلوباً ساقطاً أحياناً، قالوا عن موسى: إنه آدر، أي: إنهم ذكروا أن أعضائه التناسلية فيها تفاوت، أو فيه عيب خلقي في هذا الباب، حتى أنه ورد في الحديث أنهم رأوه وهو يغتسل عرياناً ما به من سوء، فعرفوا أن هذه التهمة باطلة ومكذوبة على نبي الله موسى عليه السلام.
خذ مثلاً آخر: حادثة الإفك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، المنافقون يحاولون أن يشوهوا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بكل وسيلة، فمن ذلك أنهم يتهمونه في أعز من لديه، في زوجه عائشة رضي الله عنها، وكانت أحب نسائه صلى الله عليه وسلم إليه، فاتهموه فيها، وقالوا عنها قالة السوء، التي انتشرت وذهبت وغدت، وكان هؤلاء الخبثاء يفيضون الحديث، دون أن يكونوا مسئولين عنه، فقد يجلس الواحد منهم في مجلس، ويقول: هذا كلام نبرأ إلى الله منه، لكن رجل وامرأة شابة، والشيطان موجود، والخطر قائم وكذا وكذا، فيلمح دون أن يقول كلاماً صريحاً يؤخذ به، ولذلك بعض المسلمين أقيم عليهم الحد، لكن كثيراً من المنافقين لم يقم عليهم الحد؛ لأنه لم يثبت ضدهم أنهم صرحوا بهذه التهمة تصريحاً يدانون به، والله تعالى أعلم. هذا أحد الأقوال في أنه لم يقم علهيم الحد.
فكثير من الناس اليوم، من أعداء الدعوة الإسلامية، يحاولون أن يلوثوا شخصيات بعض الدعاة، ومن الطريف أنني أذكر أن بعضهم كان في مجلس يتحدث ويتبجح، ويقول: إن هذا الداعية الفلاني -ويشير إلى رجل مرموق- يحارب الاختلاط ويحارب الدراسة المختلطة، ومع ذلك له بنتٌ تدرس في الجامعة. فقال له أحد الحضور الذين يعرفون هذا الرجل حق معرفته: كذبت، إن هذا الرجل عقيمٌ ليس له ولد!! فألقم حجراً، وكم من إشاعة وكذبة بلغت الآفاق عن كثير من الدعاة، بسبب عدم تثبت الناس.
ولذلك أدعو إلى التثبت فيما يقال عن الدعوة والدعاة، فالله تعالى علَّمنا من خلال حادثة الإفك منهج: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:12] فإذا سمعت عن أخيك في الله، من الدعاة وطلاب العلم أو العلماء كلاماً لا تتوقعه، ولا يليق بك، فالأولى أن تسارع إلى نفيه وإنكاره وأن هذا لا يليق به، تظن به خيراً كما تظن بنفسك، كما تتوقع أنك أنت لمن تفعل هذا الأمر، فظن أنه لا يفعله.
مثلاً: سمعت يوماً من الأيام عن داعية، أن هذا الداعية عنده فساد مالي مثلاً، هذا كثيراً ما يقال عن الدعاة؛ لأنه من الأمور التي تؤثر في نفوس الناس، فمثل هذا الأمر، أولاً: اعرضه على نفسك أنت أيها المؤمن، لو كنت في موقعه هل كنت تقبل أن يدخل في جيبك قرش من حرام؟
هل كنت ترضى أن تجمع المال من الناس بحجة -مثلاً- دعم الجهاد الأفغاني، ثم تأخذه لنفسك؟
ستقول لنفسك -إن كنت مؤمناً-: لا أرضى هذا لنفسي، ولا يمكن أن يقع مني؛ فإذا كان هذا لا يمكن أن يقع منك، فظن بأخيك المسلم كما تظن بنفسك أنك لا يمكن أن تفعل هذا، ولا يمكن أن يفعله هو وقل: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].
وهذا أمر خطير، يعمل أعداء الإسلام فيه على قناتين، القناة الأولى: على قناة المجتمعات، فأعداء الإسلام يحاولون تلويث البيئة العامة وتلويث المجتمع.
خذوا على سبيل المثال: المخدرات كيف تفتك بالمجتمعات الإسلامية بشكل غريب، قضية ما يسمى بالبث المباشر، أفلام الفيديو، أوكار الدعارة والبغاء والفساد، وبيوت الربا، إلى غير ذلك من المؤسسات الكثيرة، التي تهدم في داخل المجتمع المسلم، وتحاول أن تلوث البيئة العامة، ليست مجرد مفاسد مستترة، لأن الفساد إذا كان مستتراً كأن يكون رجل واحد في بيته فساد، فهذا أمره هين، ولا يضر إلا نفسه، المشكلة الكبيرة، هي حين يتحول المجتمع إلى مجتمع منحرف، تعلن فيه صور الانحراف والرذيلة والفساد، وتستقر حتى تصبح عرفاً مستقراً عاماً، لا أحد يستطيع أن ينكره أو يغيره، هنا تكون البيئة فسدت، فأعداء الإسلام يحاولون من جهة أن يبالغوا في إفساد البيئة، وينشروا مثل هذه الوسائل التي تساهم في تضليل الأجيال وصدها عن دين الله عز وجل.
ومن جهة أخرى -أيضاً فيما يتعلق بالمجتمع- يحاولون أن يبينوا للناس: إن الدعاة سيخرجونكم من أمورٍ قد ألفتموها وعرفتموها، فإذا أراد أعداء الإسلام أن يتحدثوا عن داعية، قالوا: أتدرون إلى ماذا يدعو هذا الإنسان؟ يدعوكم إلى أن تتركوا كذا وكذا، وتتركوا التعامل بكذا، أمور قد تعودنا عليها، فبمجرد ما نعرف أن إنساناً ويحذرنا منها نشمئز منه، كما كان زعماء قوم نوح يقولون لهم: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح:23] فيذكرون لهم أسماء هذه الأصنام المحببة إليهم الأثيرة في نفوسهم (لا تذرن آلهتكم) أي: هذا شُغلكم أنتم، لا تتركوه من أجل فلان أو فلان.
وفي كثيرٍ من الآيات القرآنية، يقول تعالى: لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عليهِ آبَاءَنَا [يونس:78] إذاً أنت تريد أن تُغيِّر وضعاً مستقراً وعرفاً قائماً في نفوس الناس، فهذا مدعاة إلى أن يرفض الناس هذه الدعوة.
فمن جهة يحاول أعداء الإسلام أن يفسدوا المجتمع، وأن يزيدوا من تشبث وتمسك المجتمع بالانحرافات الموجودة فيه، ومن جهة ثانية: يحاول الأعداء أن يضغطوا على الدعوة الإسلامية، بكافة الوسائل وأنواع الحصار، حتى -أحياناً- بالاعتقال، والتعذيب، والإنهاك، والقتل، إلى غير ذلك، وهذا من أجل أن يكون تفكير هؤلاء -الذين يحملون الدعوة- أن يكون تفكيرهم تفكيراً غير معتدل؛ لأن الإنسان إذا كان يُفكِّر في جوٍ من الكبت والضغط، غالباً يكون تفكيره يتجه نحو العنف، واستخدام القوة والشدة في مواجهة هذا الوضع الذي يعيشه، وهذا يريده الأعداء -أحياناً- ليستعدوا على الدعوة، ويُحولوا الأمر إلى صراع بينها وبين المجتمع.
ولذلك تلاحظون اليوم -أيها الإخوة- خاصةً في الصحافة الغربية، وأبواق أعداء الإسلام في البلاد الإسلامية، أن هناك تركيزاً على موضوع الصحوة الإسلامية، والتقارير يوماً بعد يوم من مراكز الدراسات الغربية، في أمريكا، وفي أوروبا وفي روسيا عن الخطر الإسلامي، وعن الصحوة الإسلامية، وعن مستقبل الصحوة، وعن أشياء كثيرة، وهذه التقارير المختلفة والتي تخرج يومياً، وعشرات الكتب -ولابد أنكم جميعاً عندكم خلفية عن مثل هذا الأمر- المقصود منها الاستعداء على الإسلام، يريدون أن يقولوا للناس: احذروا الإسلام فالإسلام خطرٌ قادم يهددكم ويريدون أن ينشبوا صراعاً بين الإسلام وبين المجتمعات الإسلامية.
ولذلك فإنني أقول: إن الحل في هذا الأمر، هو أن يدرك الدعاة إلى الله عز وجل، أن من الضروري أن ينغمسوا في المجتمعات.
ما قيمة الداعية إذا خرج عن مجتمعه؟
الداعية في المجتمع كالسمكة في البحر، فإذا خرج منها فقد جدواه وفقد معنى كونه داعية.
فالواجب على الداعية أن ينغمس في المجتمع ويدخل في الناس، يتعرف إليهم ويعرفهم بنفسه، لا يجوز أن يكون الداعية لغزاً غير معروف بين الناس، بل ليعرف الناس ماذا تدعو إليه، ومن أنت، وما هي أخلاقك، وما هو أسلوبك، وما هو منهجك، ولتكن واضحاً معهم. كما أنه يجب على الداعية أن يكون محبوباً لدى الناس، بحسن الخلق والتلطف وتحمل الأخطاء من الناس ومداراتهم، ومدارة الناس صدقة، كما ورد عن جمع من السلف، وهي تختلف عن المداهنة أو الإدهان في الدين، المداراة مطلوبة، دفع بعض الشر ببعض، واتقاء أعظم الشرين وجلب خير الخيرين، والتلطف مع الناس في الدعوة، والتحبب إليهم والابتسام في وجوههم، ومحاولة إعطائهم صورة حسنة عن الدعوة إلى الله عز وجل.
من أعظم المكاسب التي يمكن أن يحققها الدعاة إلى الله تعالى: أن يلتحموا بالمجتمع، ويتبنوا هموم المجتمع وآلامه ومشاكله؛ ليكونوا هم جزءاً منه، كما أن من الواجب عليهم أن يسعوا سعياً حثيثاً إلى دفع الفساد الذي يجتاح المجتمعات الإسلامية، ولذلك كم هو حسن وجميل، أن يسعى الدعاة إلى الله تعالى إلى إيجاد مراكز ومؤسسات وأجهزة، تسعى إلى إصلاح المجتمع بشكل عام.
صحيح أن هناك جهات لإصلاح الشباب -أحياناً- نشاطات خاصة بالشباب، أو مراكز أو مخيمات، أو ما أشبه ذلك، لكن من الواجب -أيضاً- أن نسعى إلى إصلاح المجتمع شيباً وشباباً، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، وكافة الطبقات يجب أن نوصل إليها كلمة الإسلام؛ لنحول دون هذا الانفصال الذي يسعى إليه الأعداء؛ للوقيعة بالطرفين بكل حال.
سواء في ذلك المواجهة العقدية، التي تتمثل في نقد الإسلام صراحةً، كما نجد كثيراً منهم يسبون الدين والعياذ بالله وما أكثر ما نجد في أجهزة الإعلام من النيل من الإسلام، أو النيل من الرسول صلى الله عليه وسلم، بل قد يتعرض بعضهم لذات الله عز وجل إما نثراً أو شعراً. أو التعرض لبعض أحكام الإسلام وتشريعاته، بحيث يحاول أن يقتطع هذا الغصن من تلك الشجرة، ويقول: هذا ليس من الإسلام، ثم ينهال عليه.
مثلاً: يأتي إلى قضية الربا، فيحاول أن يستل هذا الحكم الشرعي الثابت، ثم يسب أولئك الذين يمنعون من الربا، أو من بعض صور الربا بحجة أنهم لا يفهمون الدين، أو قضية الحجاب، أو تحريم الغناء، أو أي قضية معينة، يأخذها ويحاول أن يفصلها من الدين، ويقول: ليست من الدين. ثم يتكلم عنها كما يحلو له، وأحياناً قد لا يجرؤ على هذا ولا على ذاك، فينتقل إلى الخطوة الثالثة وهي: المواجهة مع شخصيات الدعاة، والنيل منهم كما أسلفت.
أما القسم الثاني من المواجهة، فهي: المواجهة المادية. وأعني بها: الحرب المعلنة على الإسلام والمسلمين، كما كان فرعونهم الأول يقول: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127] وهذا قد يكون في بداية الدعوة، كما كان فرعون يقول: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:56] وقد يكون بعدما تكتمل الدعوة، وتكون قوةً مرهوبة الجانب، فيخشى منها الأعداء، فيحاولون أن يعاجلوها بالمواجهة المادية الصريحة المعلنة.
نسأل الله تعالى أن يقي المسلمين شر هؤلاء الأعداء، ويبصرهم بمؤامراتهم، ويهبهم القيادة الصالحة التي تقودهم إلى التوفيق والعز والنصر والسعادة، إنه على ذلك قدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجواب: لست أقصد أن الناس يختلفون في الأصول وفي الفروع أي: أصول الدين وفروعه، لكنني أقول: إن اتفاقهم على الأصول والفروع كلها غير ممكن، بمعنى أنهم يمكن أن يتفقوا على الأصول، لكن لا يمكن أن يتفقوا على الجزئيات وتفاصيل الأحكام، فالخلاف في الأحكام موجود، أما في القضية الاعتقادية فإنني لا أعلم، بل أجزم أنه لم يقع أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم، تلبس ببدعة في ذلك، بل حمى الله هذا الجيل الشريف المبارك المختار، عن أن يتلبس ببدعةٍ اعتقادية، وانقرضوا عن آخرهم وهم على النهج الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم أصبحوا مقياساً يعرف به الحق من الباطل، ولهذا لما قال صلى الله عليه وسلم، أو ذكر الفرقة الناجية قال: {من كان على ما أنا عليه وأصحابي} إذاً: الوضع الذي كان عليه الصحابة هو المقياس الذي يعرف به الحق من الباطل، وتحاكم عليه أوضاع الناس.
فموضوع أصول الاعتقاد لا يُختلف فيها قد يختلف أهل السنة أحياناً في بعض تفاصيل الاعتقاد، يختلفون في جزئية من جزئيات العقيدة، فقد اختلفوا -مثلاً- في إثبات الصورة وما أشبه ذلك، هذا قد يقع داخل أهل السنة، وإن كان الحق ظاهراً في كثير من هذه المسائل بقوة الدليل. لكن أن يوجد بين أهل السنة من يسلك مسلك التأويل، فهذا لا يمكن أن يكون على الإطلاق.
يمكن أن يجتمع المسلمون على أصولٍ واحدة، لكن الاجتماع على الفروع هو الذي أقول: لا يمكن، كما أنني أريد أن أؤكد على أمرٍ آخر، وهو: لابد من الاختلاف في الأسلوب، الأساليب تتنوع من عصرٍ إلى عصر، والوسائل تختلف، وأحياناً يرى الحاضر ما لا يرى الغائب.
وفي أول عهود الصحابة رضي الله عنهم، اختلفوا في جواز كتابة الحديث، فكان منهم من يرى أنه لا يجوز أن يكتب الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال -كما في حديث أبي سعيد-: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه} ولكن هناك آخرون يرون جواز الكتابة، ويحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم: {اكتبوا لـ
فالوسيلة تختلف من عصر إلى عصر، ولذلك لا يمكن أن نجمع الدعاة على أسلوب واحد، فهذا داعية يهتم ببناء المساجد، وآخر يهتم بنشر الدعوة، وثالث يهتم بنشر العلم، ورابع يهتم بدعوة العامة، وخامس يهتم بدعوة الخاصة، وسادس وسابع وثامن... قد علم كل أناس مشربهم، وكل امرئٍ منهم له مقام معلوم، قد لا يستطيع أن يقومه غيره، فهذا من التنوع المحمود، من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد.
الجواب: البدعة هي إحدى مصائد الشيطان، لكنها ليست كالكفر، وهذا الأمر هو ظاهر لكن نحتاج إلى بيان، فالكفر درجة أعظم من البدعة، وإذا حصل الشيطان من الإنسان على الكفر؛ فلا يهمه بعد ذلك شيء من أمره، فإذا لم يقع منه على الكفر، قنع منه بالبدعة، فإذا لم يقع منه على البدعة، قنع منه بالمعصية الكبيرة، فإذا لم يستطع قنع بالمعصية الصغيرة، فإذا لم يستطع فقد يقنع من الإنسان بأن يشتغل بالمفضول ويترك الأمر الفاضل، فالشيطان له مراحل متدرجة من الإنسان.
أهل البدع أنواع: هناك بدع مكفرة. يعتبر أصحابها الذين يقولون بها ويعرفون معناها -فعلاً- من خارج الأمة الإسلامية، كما هو ظاهر -مثلاً- في القاديانية والبهائية والتجانية، وكثير من الطوائف التي تعتقد كفراً بواحاً صراحاً لا لبس فيه ولا غموض، فهذه الطوائف لا يمكن أن تحسب من الإسلام، ولا من الثنتين والسبعين فرقة التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا بضربٍ من التأويل، وهؤلاء يصدق عليهم الكلام الذي ذكرته آنفاً. وهناك بدع دون ذلك، بدع لا يصل الأمر فيها إلى حد الكفر، منها بدعٌ غليظة، ومنها بدع خفيفة، والناس مراحل في هذا الباب، وينبغي أن نفرق ونميز بينهم، فلا نعاملهم معاملة واحدة، وهؤلاء ليسوا أعداءً للإسلام دائماً حتى نستطيع أن نقول: إنهم يسلكون هذه الأساليب لحرب وضرب الإسلام، بل قد يكون فيهم أناس صالحون وفيهم دعاة إلى الله، وفيهم من نفع الله بهم، وهدى الله على أيديهم بعض الكفار، وإن كانت ليست هداية مطلقة، لكنه تحول من الكفر الصراح إلى إسلامٍ مشوبٍ ببدعة، وهذا خير من بقائه على الكفر، وخيرٌ من ذلك لو أنه سلك مسلك الاعتدال، وآمن بالعقيدة الصحيحة وسار على طريقة أهل السنة والجماعة، فإذا تيسر هذا فهو غاية المطلوب.
أما موضوع العقيدة، فيجب الاهتمام بالعقيدة، والعقيدة تعني أموراً:
فمن العقيدة: معرفة أسماء الله تعالى وصفاته، والإيمان بها وإثباتها كما أثبتها السلف الصالح رضي الله عنهم، دون أن يدخل الإنسان في تأويلها أو تكييفها أو نفيها، أو ما أشبه ذلك.
ومن العقيدة: الإيمان بربوبية الله تعالى، وأنه المالك الخالق المتصرف المدبر.
ومن العقيدة: الإيمان بألوهية الله، وهذا جانب مهم جداً ويغفل عنه الكثيرون، وهو أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله تعالى، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] فكثير من المنتسبين إلى الإسلام أصبحوا يثقون بأصحاب القبور مثلاً، يثقون بمن يسمونهم بالأولياء أكثر مما يثقون برب العالمين، فإذا نـزلت بالواحد منهم نازله، نادى فلاناً أو علاناً من المقبورين يرجوه كشف الضر أو دفعه أو ما أشبه ذلك. كذلك الحكم بغير ما أنـزل الله، واستيراد قوانين وأنظمة كافرة وتحكيمها في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم ورقابهم، هذا أيضاً مما ينافي توحيد الألوهية، قال الله أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54] أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].
ومن العقيدة: إحياء المعاني العقدية في نفوس الناس، وهذا يغفل عنه الكثير أيضاً، قضية حب الله تعالى وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، وما أشبه ذلك من معاني العقيدة التي يغفل عنها الكثيرون ولا يتحدثون عنها، وهذا أمر ينبغي التنبه له.
فالمسلم يهتم بهذه الأشياء وهي المنطلق، لا يتصور إنسان مسلم بدون عقيدة، بل لا يتصور إنسان بلا عقيدة، إما عقيدة صالحة أو منحرفة، لأن هذه ميزة الإنسان أنه يعتقد، بخلاف الحيوان الأعجم الذي لا ينطق ولا يفهم ولا يخاطب، أما الإنسان فهو مخاطب، وأول ما يخاطب به هو العقيدة، ولذلك أول واجب على المكلف هو شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا هو أول ما بعث به الرسل وأول ما قالوا لأممهم، وأول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم. كما في حديث ابن عباس، حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن -كما في الصحيحين- {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} فالعقيدة أولاً، ولا إشكال في هذا، وهي أولاً وأخيراً أيضاً، بمعنى: أننا لا ندعو إلى العقيدة ثم تنهي دور العقيدة، وبدأنا ندعو إلى غيرها، ليس هناك تجزئة، بل ندعو إلى العقيدة وإلى غيرها، وفي جميع المراحل.
القرآن الكريم نـزل في المدينة، كان يرسخ العقيدة في نفوس الناس، حتى في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فالعقيدة لا ينتهي تعليمها عند حد معين، بل ينبغي سقي شجرتها، ولا تنتهي إلا بموت الإنسان وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
الجواب: هذه مثل الأخطاء التي تشيع، إذا انتشر شيء ووقع فيه لبس عند الناس، وربما كان سبباً في وقوع بعضهم في أخطاء وهو لا يشعر، واجب على العلماء وعلى الدعاة وعلى من يحسنون الحديث؛ أن يبينوا هذه الأخطاء للناس، سواءً ربطوها بكتابٍ أو شخصٍ أو ما أشبه ذلك أو تحدثوا عنها حديثاً عاماً، لكن أعتقد أن من الصعب -بل من العسير إن لم يكن المتعذر- أن يرد الإنسان على كل من تكلم، لأن الباطل لا يتناهى، كل إنسان يقول ما يشاء، وله هواه من أقوال وآراء وأمور يضلل بها الناس، فلا يمكن أن يقف الإنسان أمام هؤلاء جميعاً فيرد على كل إنسان بعينه، لكن مهم جداً أن نبدأ نحن ببيان الحق، لا تكون دعوتنا مجرد رد فعل لجواب، أو رد على فلان أو علان فقط، الأصل أن ندعو الناس إلى الله تعالى وإلى الإسلام وإلى الدين، ونبينه لهم حتى يتقبلوه، والفطرة السليمة تقبل الحق، خاصةً إذا كان في جو هادئ، ليس بجو شد وجذب وأخذ وعطاء وجدل وخصومة.
ثم ما هي صحة عبارة قلتموها وهي: الإسلام يغزو فرنسا؟
الجواب: العبارة إن شاء الله نرجو أن تكون صحيحة، أنا ما زرت فرنسا، ولا أدري كيف أحوال المسلمين فيها، لكن الذي نسمع وحسب ما رأينا في بعض البلاد في أوروبا وأمريكا؛ أن هناك توجهاً طيباً نحو الإسلام، سواءً من قبل المسلمين الذين يقيمون هناك، من الطلاب والعمال وغيرهم، أو حتى من قبل أهل البلاد الأصليين، الذي يدخلون في الإسلام أفواجاً، وهذا أمر رأيناه في أمريكا بشكل واضح ويبشر بخيرٍ كثير، وهناك تعطش للإسلام، ولولا ما تبثه أجهزة الإعلام هناك، من تشويه متعمد للإسلام، وما تركز في نفوس الجميع هناك، من أنه لا يفكر الواحد منهم بالإسلام أصلاً؛ لأنه لا يفهم من الإسلام إلا أنه دين قمع ووحشية ودماء، فالمثقف منهم يعرف عن الإسلام قضية تعدد الزوجات، وقضية قتل المرتد فقط، فهم يفهمون مجموعة شبهات، أثيرت في نفوسهم على الإسلام، ولذلك الذي يبحث منهم عن الدين -كما رأينا مع الأسف الشديد- يبحث في اليهودية فييئس، ثم يبحث في النصرانية فييئس، ثم يبحث في البوذية، ويبحث في الأديان الوثنية، وفي القاديانية، ولكن لا يبحث في الإسلام، قد أسقط الإسلام من الحساب ابتداءً، بسبب التشويه الإعلامي الغريب فعلاً.
أي: أنها أصبحت قضية غير قابلة للنقاش عندهم مسألة الإسلام، فهناك واجب علينا، أن نقشع هذه الغشاوة التي قد غطت على عقولهم وأفكارهم عن الإسلام، ثم نبين لهم الإسلام الصحيح، وأعتقد أنهم سوف يقبلون عليه بشكل غريب جداً؛ لأنهم متعطشون وقلقون، ومستاءون من الأوضاع التي يعيشونها، يعيشون والله في جحيم لا يطاق، ذكرهم وأنثاهم سواء، حتى من النواحي الاقتصادية، ليس السقوط للشيوعيةفقط، بل الدور ينتظر الدول الغربية، التي تعاني من بوادر أزمات اقتصادية، وربما نشاهدها عن قريب.
فنعتقد ونرجو الله تعالى أن يكون الإسلام يكتسح كثيراً من بلاد الأرض، وعلى الأقل هذا أمل نرجو أن يتحقق.
أما مسألة: إلى أين تسير الدعوة؟
كأن الأخ يتساءل عن مستقبل الدعوة الإسلامية، والواقع أن الذي ينظر إلى أوضاع العالم الإسلامي والدعوة الإسلامية؛ يتفاءل بخيرٍ كثير، وأنا من المتفائلين بمستقبل الإسلام، ولكن حين ننظر إلى واقع الدعاة، لا أقول: إن هذا التفاؤل يضعف أو يقل، لكن ربما يحس الإنسان، بأن وقت تحقق هذا الفأل ليس بالقريب جداً، وذلك لأن أوضاع كثير من المنتسبين إلى الإسلام وحملة الدعوة، أوضاع تحتاج إلى مراجعة وتحتاج إلى تصحيح. على سبيل المثال: نفتقد العدل، ونفتقد التوازن، ونفتقد الشمول.
أما قولك: أيهما أخطر العدو القريب أم البعيد؟
العدو القريب أخطر دائماً، ولذلك أمرنا بالابتداء بهم، والعدو الأخطر هو العدو الملابس، أي: العدو الذي يكون قريباً من الإنسان جداً، أحياناً نفسك، وأحياناً قد يكون إنساناً يسير معك في نفس الطريق، وكثيراً ما تجد انحراف داعية -مثلاً- يفت في عزيمه كثيرين، ويقعدهم عن الانطلاق في الدعوة إلى الله تعالى، كما أن عزيمة الإنسان نفسه -أحياناً- تقعده عن الدعوة، ولا أريد أن أستشهد بحديث {رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر} أولاً: لأنه حديث ضعيف. وثانياً: لأن معناه ليس على الإطلاق، فلا يمكن أن نصف القتال بالجهاد الأصغر، وجهاد النفس بالأكبر دائماً، وإن كان جهاد النفس أمراً عظيماً؛ لأن الإنسان إذا انتصر على نفسه يستطيع -بأذن الله تعالى- أن ينتصر في المعركة العسكرية، المعركة الكبرى.
الجواب: الإنسان ينبغي أن ينظر إلى نفسه، أول سؤال تسأل نفسك: ما هي البيئة التي أستطيع أن أدعو فيها؟ فأحياناً بعض الناس وهبه الله سبحانه وتعالى صلابة وقوة في شخصيته، عنده قوة في عقله وقلبه، ومقاومة ضد الشبهات بإذن الله تعالى، وصمود أمام المغريات والشهوات، فهذا لا يمنع أن يهجم على بعض المجالس ويتحدث، ويجادلهم ويناظرهم ويدعوهم إلى الله تعالى، ولا نقول: إنه آمن، فليس هناك أمن من الانحراف، لكنه مطمئن إن شاء الله إلى نفسه، وما وهبه الله تعالى.
هناك إنسان آخر يشعر من نفسه بالضعف الشديد، بحيث أنه إذا جلس في تلك المجالس وخالط أولئك القوم؛ وجد من نفسه أنه تأثر، حتى أنه -أحياناً- قد يكون قاب قوسين أو أدنى من الفاحشة والرذيلة، وأحياناً يسمع الشبهة؛ فترن في ذهنه أسبوعاً أو أسبوعين، وتنغص عليه حياته وعبادته، فمثل هذا نقول له: انج بنفسك، اترك هذه المجالس وهذه المجتمعات، واحصر دعوتك في الناس الذين ليس لديهم شبهات ولا شهوات، لكنهم ضعفاء يحتاجون إلى تقوية، ودعم، وتشجيع، وما أشبه ذلك.
هناك شخصٌ ثالث عنده بعض القوة، لكن قد يشعر -أحياناً- بتأثر، فهذا أرى أن الأصل أن يندفع في الدعوة إلى الله تعالى؛ لأنه يقل أن يوجد إنسان إلا ويتأثر، حتى الدعاة الكبار إذا سمعوا الشبهات لا تتشربها قلوبهم، لكن لا شك أن سماع الإنسان للشبهة ثم رده عليها؛ يورث قلبه نوعاً من الجفاء، فليس الذي يجلس ليناظر المنحرفين مثل ذلك الشخص الذي يجلس ليتعبد ويذكر الله تعالى ويبكي ويخشع ويسجد، بينهما فرق كبير. بل إن الذي يقاتل العدو في المعركة، ليس في إشراق قلبه وشفافية روحه، مثل ذلك الشخص المتعبد في محرابه، فبينهما فرق، لكن قد يكون أجر هذا أعظم من أجر هذا، وإن كان قلبه أصابه نوع من الجفاف، فهذا الداعية ينبغي أن ينتبه لهذا.
فليس المقياس هو مجرد إشراق القلب وسعادة النفس، قد أجلس في مجتمع أعاني وأشعر بجفاف في قلبي، لكنني أحس بأنني على ثغرة، لو تركتها لأتي الإسلام من قبلها، فأنا أجلس مع هؤلاء القوم، وأدعوهم وأنصحهم، على رغم أني أحس بأن قلبي قد يكون فيه نوع من الانقباض، ولو كنت جالساً للتعبد وقراءة القرآن؛ لكان قلبي أكثر إشراقاً، لكن الفائدة أقل، فهذا نفعٌ متعدٍّ وذاك نفعٌ لازم، والنفع المتعدي -عند التعارض- يقدم على النفع اللازم، مع أن الإنسان ينبغي أن يجمع بينهما، فتجعل لنفسك أوقاتاً تخصصها للعبادة والذكر وترقيق القلب؛ لئلا تصاب بقسوة القلب وهو داء الأمم السابقة.
الجواب: لعلي أشرت خلال هذا الحديث إلى بعض هذه المواقف، ولعل الموقف الأساسي يتكون من ثلاث نقاط أشرت إليها في البداية أيضاً، وهي: معرفة هذه الأساليب لتجنب التأثر بها، وتجنب المشاركة فيها، ومواجهتها بالأساليب المكافئة؛ فإذا كان العدو يستخدم -مثلاً- أجهزة الإعلام لضرب الإسلام، فلماذا يبقى المسلمون متخلفون في كل مجال؟ وكأن التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي وقفٌ على أعداء الإسلام، هذا خطأ ينبغي أن ينتهي.
الجواب: الواقع أنا لا أعتقد أن الغزالي من أعداء الإسلام، الغزالي رجل أخطأ في أمور معينة، وهذا لا ينسي أن الرجل كان له جهاد، وله مواقف معينة سابقة، في مواجهة النصارى، وفي مواجهة العلمانيين، ومواجهة الشيوعيين، وله كتابات عن الإسلام، فالله تعالى يأمرنا بالعدل، ومع ذلك الرجل له مواقف -خاصة في الأخير- مواقف كثيرة مؤسفة ومحزنة أن تصدر من مثله، وإلا لو صدرت من غيره لم يكن في الأمر غرابة، وهذه الأشياء تحدث عنها العلماء وتصدوا لها وردوها، وأكثروا في ذلك -جزاهم الله خيراً- حتى استبان الحق للناس أو لأكثر الناس، ونتمنى للشيخ أن يهديه الله تعالى، ويبصره بعيوب نفسه حتى يتراجع، ونرجو الله تعالى أن يختم لنا وله بخاتمة خير.
لست أعتقد أن الرجل عدواً للإسلام حتى أصنفه من الأصناف السابقة، وإن كانت سمعة الرجل وتاريخه السابق وبلاؤه، جعل كثيراً من الشباب الأغرار، الذين ليس لديهم استقرار وعمق في العلوم الشرعية، يتقبلون ما يقول بحجة أن هذا كلام فلان، وهو له كذا وكذا من التاريخ والكتب والمواقف، فالسمعة جعلت كثيراً من الناس يتقبلون هذه الأشياء دون تمحيص، وهذه من العيوب الكبيرة؛ أننا أصبحنا نعرف الحق بالرجال، والواقع أن العكس هو الذي يجب أن يكون، أن نعرف الرجال بالحق، وليس نعرف الحق لأنه قاله فلان أو قاله علان.
إذا كان نعم، فما السبيل إلى جمعهم على كلمة سواء؟
الجواب: الواقع لست أعتقد أن مجرد التفرق والاختلاف بذاته عائقاً كبيراً، لأن هذا الاختلاف قد يكون اختلافاً محموداً، وقد يكون من العسير -كما أسلفت- جمع الناس على رأي واحد، لكن أعتقد وأجزم أنه من المعوقات -كما أشرت إليه- أن ينشغل الدعاة بعضهم ببعض، فيكون الأمر كما قال الإمام الشافعي:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا |
ونهجو ذا الزمان بغير جرمٍ ولو نطق الزمان بنا هجانا |
وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ ويأكل بعضنا بعضاً عيانا |
كم من داعية يهمه أن يسقط أخاه، إسقاطاً مادياً أو معنوياً، يشوه سمعته ويحط من قدره، إما غيرةً وحسداً، وإما مخالفةً، وإما لحاجةٍ في نفسه، فتجد أنه يستغل جميع السبل والوسائل لهذا الأمر، ولو أنه صرف هذا الجهد للتحذير من منحرف أو عدوٍ للإسلام؛ لكان ذلك خيراً له.
أذكر قصة طريفة بغض النظر عن كونها صحيحة أو غير صحيحة لكن فيها عبرة:
دخل بعض الخوارج على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، الخليفة الأموي العادل، وكان عمر بن عبد العزيز أرسل من يناظر الخوارج ويأخذ منهم ويناقشهم، وهدى الله تعالى على يديه جمعاً غفيراً، وكانوا يرتاحون لـعمر بن عبد العزيز من بعض النواحي؛ لأنه رجل عادل ومنصف، والعدل والإنصاف من أسباب جمع كلمة المسلمين دائماً وأبداً، فدخلوا على عمر بن عبد العزيز وقالوا: أنت رجلٌ فيك وفيك... لكن نريد منك أمراً وهو أن تلعن معاوية، لأنك لا تلعن معاوية، فلماذا لا تلعن معاوية؟
فقال للسائل: منذ متى عهدك بلعن فرعون؟
ففكر السائل وقال: والله منذ زمن بعيد. فقال للسائل: إذاً انتظر حتى ننتهي من لعن فرعون. وليس المقصود أن عمر سينتقل بعد لعن فرعون إلى لعن معاوية، حاشاه من ذلك رضي الله عنه؛ لأنه لا يمكن أن يلعن صحابياً من المؤمنين، وهو معاوية رضي الله عنه، لكنه أراد أن يقيم الحجة على هذا الخارجي، أن مسألة اللعن لا يتعبد بها، مجرد لعن أشخاص، ولذلك هذا الرجل لا يتذكر متى لعن فرعون، ربما لم يلعن فرعون إلا أن يقرأ القرآن الذي فيه لعنه ولعن أمثاله.
فمن المؤسف أن بعض الدعاة يشتغلون بإخوانهم، قد يتفق معك أخوك في (70%) أو (80%) من اجتهاداتك، ومع ذلك تشتغل به وتحاول أن تسقط مكانه، والآخر الذي تختلف معه (100%) من أعداء الإسلام أو خصومه، ربما لم يصب منك بسوء، وأذكر أن رجلاً كان في مجلس عبد الله بن المبارك رضي الله عنه ورحمه الله، فاغتاب رجلاً من الصالحين، فقال له عبد الله بن المبارك: هل غزوت الروم؟
قال: لا. قال: هل غزوت الفرس؟
قال: لا. قال: هل غزوت الهند والسند؟
قال: لا. قال: فسلم منك الروم والفرس والهند والسند ولم يسلم منك أخوك المسلم!!!
فالغيبة داء يفتك بالمؤمنين، تناول أعراض الدعاة والوقيعة فيهم والحط والتجريح، وتأتي -أحياناً- بأساليب ملفوفة، أحياناً تأتي بأسلوب النقد أو بأسلوب التقييم أو بأسلوب النقد الذاتي، وأحياناً يسميها ملاحظات، وهي في الواقع غيبة، حتى -أحياناً- مجرد كلمة، فإذا ذكر شخص فأنت في نفسك تريد أن تسقط قيمته، لكن من باب الورع لا تريد أن تقول كلمة صريحة، فتقول: دعوه الله يستر علينا وعليه. هذه الكلمة بحد ذاتها غيبة، لماذا؟
لأنك تقول للناس هذه عليه أشياء وملاحظات لا أريد أن أبينها، دعوه ستر الله علينا وعليه. أو يُذكر شخص فتقول: لا أريد أن أغتابه وهذه غيبة؛ لأنك حين قلت: لا أريد أن أغتابه. معناه: إنني لو أردت أن أقول فيه لقلت فيه شيئاً كثيراً، ومجال الحديث فيه واسع، لكن أنا ورع لا أريد، فاغتبته من حيث تدري ولا تدري.
الجواب: هذا صحيح، مسألة العلم الشرعي أصل ينبغي الاهتمام به خاصةً للداعية، ليس من الضروري أن يتحول كل داعية إلى عالم، لكن ينبغي أن يقوم من بين الدعاة من يتخصصون في العلم الصحيح، كما قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] فأولاً: لابد أن يقوم من بين الدعاة من يتخصص للعلم الشرعي، ويبني نفسه في هذا المجال بناءً صحيحاً متوازناً متدرجاً.
أما ثانياً: فإن الداعية ينبغي أن لا يدعو إلا إلى ما يعلم، أما أن تدعو إلى شيء وأنت لم تتأكد منه، ولم تعرف دليله؛ فهذا خطأ، لا تدعو إلى شيء تعلمه أنت، من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهل رأيت أن هناك إيجابية لمن رددت ضده، وهو الغزالي؟
الجواب: بالنسبة للصدى، فأحمد الله تعالى وأثني عليه، فهذا توفيق منه وفضل، فقد كان لهذا الكتاب ولله الحمد صدى كبيراً في سائر البلاد الإسلامية وغير الإسلامية ووقفت على ذلك، فقد وصلني عبر البريد -بدون مبالغة- مئات الرسائل من السعودية وجميع دول الخليج، ومصر والأردن والعراق والجزائر والمغرب وبريطانيا وفرنسا وأمريكا، وكلها تتحدث عن أثر هذا الكتاب وصداه، وتقبل الناس له. ثم رأيت بعيني في بعض الزيارات التي قمت بها إلى عددٍ من الدول، وخاصةً في أمريكا، رأيت هذا الكتاب -ولله الحمد- في كل مكتبة، وعند كثير من الشباب، ولقي من كثير منهم حفاوة وتقبلاً، وفتح عيونهم على بعض الاجتهادات الخاطئة، التي تحدث عنها الغزالي، في كتابه المعروف: السنة النبوية، فله صدى طيب ولله الحمد.
أما إن كان السائل يقصد صداه لدى الغزالي نفسه، فالأقوال متضاربة في ذلك، فبعضهم يقول: إنه تقبله بقبولٍ حسن، ووعد بالتعديل والإصلاح، وبعضهم يقول خلاف ذلك، ولكن قطعت جهيزة قول كل خطيب، فالمقابلات الصحفية التي أجريت مع الشيخ في عدد من المجلات، منها مجلة الأنباء هنا، ومنها جريدة الأنباء، ومنها جريدة المسلمون، ومنها جريدة اسمها جريدة المساء، وكلها تدل على أن الرجل لا يزال متمسكاً بآرائه، بل وبأسلوبه الذي يستخدمه في مواجهة الآخرين، وتدل على أنه ما زال متمسكاً بهذا الأمر.
وقد زرت المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، والذي ذكره الشيخ الغزالي في مقدمة الكتاب، وقال: إنني وضعت الكتاب بناءً على مشورتهم. وحدثني مديره، أنهم حين اطلعوا على الكتاب -كتاب حوار هادئ مع الغزالي- رأوا فيه أشياء كثيرة، ينبغي أن يعاد النظر في كتاب الغزالي على ضوئها، وقال لي: إننا أرسلنا نسخة من الكتاب إلى المؤلف الغزالي، وقلنا له: إن هذا ليس أي كلام، وإنما هو كلام علمي، ويجب أن تعيد النظر فيه وتصححه؛ ليطبع الكتاب مرةً أخرى بعيداً عن الأخطاء الموجودة فيه.
الجواب: الحقيقة السؤال عندي مشكلة؛ لأنني لا أعرف حقيقة الأوضاع، وكما يقول الأصوليون: الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فهذا يتوقف -أولاً- على وضع الجامعة التي يمكن أن تنتقل أو تدرس فيها هذه الفتاة، هل يمكن أن تلتزم بالإسلام فيها أو لا يمكن؟
ثم يتوقف -ثانياً-: على مدى قدرة هذه الفتاة على التحمل، كما سلفت آنفاً في موضوع الدعوة، فبعض الناس قد يعيش في أجواء ليست نظيفة تماماً، لكن عنده صبر وجلد واعتزاز بدينه وبشخصيته يمنعه من الانجراف، وهناك إنسان آخر يشعر في نفسه بأنه رخو العزيمة قريب من الانحراف، فمثل هذا لا شك أنه لا يستشار في الموضوع، بل ينبغي أن يبتعد عن المجالات الموبوءة، ويطالب بأن ينجو بنفسه.
هذا هو التفصيل الذي يمكن أن تقيس الفتاة نفسها ووضعها على ضوء هذا المقياس العام.
الجواب: أما النصيحة: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ومراقبته في السر والعلانية، فهذه كلمة قصيرة تغني عن غيرها.
أما الجدول اليومي، فلا أرى من الضروري أن المسلم يجعل له جدولاً يومياً؛ لأن الإنسان بشر وليس آلة، فلا يستطيع أن يجعل لنفسه جدولاً مبرمجاً بالدقيقة؛ لأنه مرتبط بآخرين وبظروف وبأشياء كثيرة، فتؤثر في وقته، لكن الشيء الذي أقترحه عليكم كبديلٍ عن الجدول اليومي: أن يرسم الإنسان لنفسه أهدافاً متنوعة، مثلاً خلال هذا الأسبوع أرسم لنفسي هدفاً أن أنهي قراءة هذا الكتاب، وأحدد لنفسي كتاباً مناسباً أعرف أنه يتناسب مع وقت فراغي، فأعمل خلال هذا الأسبوع على أن أختم هذا الكتاب، قد أجلس يوماً كاملاً للقراءة، وفي آخر ربما لا أجد ولا ساعة للقراءة، فعندي مجال للتحرك ومرونة، المهم أن لا يضيع وقتي، فالمهم ليس رسم الجدول، كما لو كان الإنسان في مخيم مثلاً، المهم هو ضبط الوقت.
فالذي أنصح به الإخوة لضبط أوقاتهم، أن يرسموا لأنفسهم أهدافاً محددة، وأن يقووا في قلوبهم الاستشعار بقيمة الوقت وأهميته، فالأمر كما قال الله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر:37] فهذا العمر هو الذي بمقتضاه تحاسب وتعذب أو تنعم، ويقول شيخ الإسلام الهروي: إن الوقت سريع التقضي، أبي التأتي، بطيء الرجوع. فسرعان ما يضيع الوقت، ولذلك كثيراً ما نجلس جلسة طويلة، وخاصةً حين نكون مطمئنين، فإذا نظر الإنسان إلى الساعة قال: سبحان الله! كيف وصل الوقت إلى هذا الأمر. فهو سريع التقضي، بطيء التأتي أبي الرجوع، فإذا مضى الوقت لا يمكن أن يعيده الإنسان بحالٍ من الأحوال
ما مضى فات والمؤمل غيبٌ ولك الساعة التي أنت فيها< |
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر