إسلام ويب

فوائد من زاد المعادللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الذي يطالع الكتب ويقرؤها ويتمعن فيها يجد فيها فوائد جمة فقهية كانت أو أصولية أو عقدية، أو لغوية أو حديثية أو نحوها. وقد تحدث الشيح حفظه الله عن بعض الفوائد البديعة من كتاب زاد المعاد، وهي فوائد متفرقة في عدة مواضع وأبواب اختارها الشيخ من الأجزاء الخمسة، ثم أتم الدرس ببعض الفوائد أيضاً من كتاب العزلة لأبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي.
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعـد:

    في هذه الليلة سوف أبدأ في كتاب جديد نافع مفيد، بإذن الله العزيز الحميد، وهو كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام الحافظ المفسر الفقيه، المجاهد شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي، الشهير بـابن قيم الجوزية، المولود سنة [691/751هـ] والطبعة التي سوف أعتمد عليها، هي الطبعة التي حققها شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط, وطبعت في مؤسسة الرسالة، عام (1399هـ)، وسوف نأخذ من كل جزء بعض الفوائد والشوارد التي تستحق أن تقيد ويحتفظ بها، ونبدأ بالجزء الأول.

    حال أحاديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده

    ففي [ص:45] ذكر المصنف رحمه الله أحاديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، حيث استشهد بحديث في المسند وغيره من طريق بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنتم موفون سبعون أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله} ثم قال: قال علي بن المديني وأحمد:

    حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح.

    ونقل ابن القيم هاهنا، يشم منه رائحة الموافقة على هذا النقل، وهو تصحيح رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.

    استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة

    وفي صفحة [49] ذكر فائدة ليست بعيدة عن الموضوع الذي نتحدث فيه الآن، وهو يتحدث عن خواص القبلة، فقال: " ومن خواصها أيضاً أنه يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر بقاع الأرض وأصح المذاهب في هذه المسألة: أنه لا فرق في ذلك بين الفضاء والبنيان، لبضعة عشر دليلاً قد ذكرت في غير هذا الموضع، وليس مع المفرق -أي: بين الفضاء والبنيان- ما يقاومها البتة، مع تناقضهم في مقدار الفضاء والبنيان، وليس هذا موضع استيفاء الحجج من الطرفين".

    فتلاحظون تركيز الإمام بن القيم هاهنا على عدم التفريق بين الفضاء والبنيان، وهو قوي ألا يفرق بينهما، لكن! هل نقول بالتحريم فيهما؟

    ابن القيم وابن تيمية كما في الاختيارات وغيره، وابن حزم والشوكاني وغيرهم، يرون التحريم مطلقاً كما أسلفت، وقد ذكر المصنف أنه رد التفريق بينهما، ببضع عشر دليلاً ذكرت في غير هذا الموضع، وهو رحمه الله تكلم عن هذه المسألة، أي: مسألة استقبال القبلة واستدبارها في عدة مواضع، فتكلم عنها في الجزء الثاني من زاد المعاد وتكلم عنها في مدارج السالكين في الجزء الثاني أيضاً، وتكلم عنها في مواضع من كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين، وتكلم عنها أيضاً في تهذيب سنن أبي داود، وقد راجعت المواضع التي تمكنت من الرجوع إليها، فلم أجد هذه الأدلة التي ذكرها، وإن كان بسط الكلام بعض البسط، في الجزء الثاني من زاد المعاد وكذلك بسطه بعض البسط في تهذيب سنن أبي داود.

    من هو الذبيح

    في صفحة [71] ذكر مبحثاً مفيداً حول الذبيح، من هو؟

    قال: وهو يتكلم عن نسب الرسول صلى الله عليه وسلم " وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق عليه السلام؛ فباطل بأكثر من عشرين وجهاً، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، يقول هذا القول -أي أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام- متلقى عن أهل الكتاب؛ مع أنه باطل بنص كتابهم؛ فإن فيه " إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده... إلى آخر ما ذكر.

    مراتب الوحي

    وفي صفحة [78] ذكر مراتب الوحي السبع أو الثمان، يقول رحمه الله: " وكمل الله له -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- من مراتب الوحي مراتب عديدة.

    إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد ذكر في غير هذا الموضع معنى قوله صلى الله عليه وسلم: {الرؤيا الصادقة جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} وفسره تفسيراً لطيفاً بديعاً فقال: " ذلك لأن مدة الرؤيا الصادقة كانت ستة أشهر، ومدة الوحي كله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثة وعشرين عاماً، فإذا نسبنا ستة أشهر إلى ثلاثة وسبعين عاماً، ترتب على ذلك أن النسبة واحد إلى ستة وأربعين، يعني: نصف إلى ثلاثة وعشرين".

    إذاً: المرتبة الأولى: الرؤيا الصادقة.

    المرتبة الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء طلب الرزق، على أن تطلبوه بمعصية الله، فإنما عند الله لا ينال إلا بطاعته}.

    المرتبة الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم، كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً.

    المرتبة الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيتلبس به الملك، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها.

    المرتبة الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكره الله في سورة النجم.

    فالمرة الأولى: كما في صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لم أره على صورته التي خلق عليها إلا هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض} والثانية: عند المعراج.

    ولكن -والله أعلم- أن عدها من مراتب الوحي؛ لأن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وتنـزل الملك على الرسول صلى الله عليه وسلم مع نبوته، كلما رآه كان في ذلك فائدة، ولذلك طلب الرسول عليه الصلاة والسلام، أن يراه على صورته التي خلق عليها.

    المرتبة السادسة: ما أوحاه الله إليه وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلوات وغيرها.

    المرتبة السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك؛ كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن، وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء.

    وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة، وهي تكليم الله له كفاحاً من غير حجاب، وهذا على مذهب من يقول: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه تبارك وتعالى، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف، وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة، كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعاً للصحابة. يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يره.

    عمر المسيح عيسى

    في صفحة [84] ذكر رحمه الله الشك في عمر المسيح عليه السلام حين رفع، قال: "وأما ما يذكر عن المسيح عليه السلام أنه رفع إلى السماء، وله ثلاثة وثلاثون، فهذا لا يعرف له أثر متصل، يجب المصير إليه".

    أهمية كتاب جلاء الأفهام

    في صفحة [87] يثني المؤلف رحمه الله على كتابه جلاء الأفهام في فضل الصلاة على خير الأنام، يقول: في أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام فمنها محمد وهو أشهرها، وبه سمي في التوراة صريحاً، كما بيناه بالبرهان الواضح في كتاب جلاء الأفهام في فضل الصلاة على خير الأنام، وهو كتاب فرد في معناه، لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها، بينا فيه الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم صحيحها من حسنها من معلولها، وبينا ما في معلولها من العلل بياناً شافياً، ثم أسرار هذا الدعاء وشرفه، وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد، ثم مواطن الصلاة عليه ومحالها.

    ثم الكلام في مقدار الواجب منها، مع اختلاف أهل العلم فيه، وترجيح الراجح، وتزييف المزيف -ثم يقول رحمه الله- في أثناء هذا الثناء "ومخبر الكتاب فوق وصفه " ولذلك حري بنا جميعاً أن نقتني هذا الكتاب، ونقرؤه، مادام ثناء الشيخ عليه بهذه الدرجة، مع أنه يقتصد في الثناء عادة رحمه الله.

    زواج أم سلمة

    في صفحة [107/108] ذكر من الذي زوج أم سلمة، فذكر حديث الإمام أحمد عن ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أم سلمة أنها لما انقضت عدتها من أبي سلمة، بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: مرحباً برسول الله.. إلى قوله وفيه، فقالت لابنها عمر قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجه، يقول: وفي هذا نظر، فإن عمر هذا كان سنه لما توفي صلى الله عليه وسلم، تسع سنين، ذكره ابن سعد: وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع، فيكون له من العمر حينئذٍ ثلاث سنين -يعني يوم تزوج رسول الله صلى الله وعليه وسلم أمه- ومثل هذا لا يزوج، قال ذلك ابن سعد وغيره، ولما قيل ذلك للإمام أحمد قال: من يقول إن عمر كان صغيراً؟!

    قال: أبو الفرج ابن الجوزي ولعل أحمد قال هذا قبل أن يقف على مقدار سنه، وقد ذكر مقدار سنه جماعة من المؤرخين كـابن سعد وغيره، وقد قيل: إن الذي زوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن عمها عمر بن الخطاب، والحديث: {قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم} ونسب عمر، ونسب أم سلمة يلتقيان في كعب... فوافق اسم ابنها عمر اسمه، فقالت:قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن بعض الرواة أنه ابنها، فرواه بالمعنى وقال فقالت لابنها وذهل عن تعذر ذلك عليه، لصغر سنه، ونظير هذا وهم بعض الفقهاء في هذا الحديث، وروايتهم له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قم يا غلام فزوج أمك} قال أبو الفرج ابن الجوزي: " وما عرفنا هذا في هذا الحديث " إلى آخر ما ذكر.

    زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبه

    في صفحة [109] ذكر المصنف، تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بـأم حبيبة، وهي رملة بنت أبي سفيان، القرشية، قال: تزوجها وهي ببلاد الحبشة، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وسيقت إليه من هناك وماتت أيام أخيها معاوية هذا هو المعروف المتواتر عند أهل السير والتواريخ، وهو عندهم بمنـزلة نكاحه لـخديجة بـمكة، ولـحفصة بـالمدينة، ولصفية بعد خيبر -يعني: في الوضوح- قال وأما حديث عكرمة بن عمار، عن أبي زُميل عن ابن عباس أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {أسألك ثلاثاً، فأعطاه إياهن، منها: وعندي أجمل العرب أم حبيبة، أزوجك إياها -والحديث في صحيح مسلم، وفيه بقية الثلاث، الأولى كما سبق تزوج أم حبيبة- والثانية: معاوية تجعله كاتباً بين يديك، والثالثة: تُأمرني فأقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، فيقول: "هذا الحديث غلط، لا خفاء به" هذا يقوله ابن القيم رحمه الله ويقول: "قال أبو محمد بن حزم وهو موضوع بلا شك، كذبه عكرمة بن عمار" تعرفون عكرمة بن عمار!! لكن ابن حزم -غفر الله له- رماه بهذه المسألة ورماه بالكذب، فقال: كذبه عكرمة بن عمار، ولا شك أن هذا غلط من ابن حزم، غفر الله لنا وله.

    يقول ابن الجوزي في هذا الحديث: هو وهم من بعض الرواة، لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا به عكرمة بن عمار... إلى قول ابن القيم رحمه الله وقد أكثر الناس في هذا الحديث، وتعددت طرقهم في وجهه، فمنهم من قال الصحيح أنه تزوجها بعد الفتح -لهذا الحديث قال-: ولا يرد هذا بنقل المؤرخين، وهذه الطريقة باطلة عند من له أدنى علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان، قالت طائفة بل سأله أن يجدد له العقد تطييباً لقلبه، فإنه كان قد تزوجها بغير اختياره، وهذا باطل لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يليق بعقل أبي سفيان، ولم يكن من ذلك شيء.

    وقالت طائفة ومنهم البيهقي والمنذري: يحتمل أن تكون هذه المسألة من أبي سفيان وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة وهو كافر، حين سمع نعي زوج أم حبيبة بـالحبشة، فلما ورد على هؤلاء ما لا حيلة لهم في دفعه من سؤاله أن يأمره حتى يقاتل الكفار، وأن يتخذ ابنه كاتباً -لأن هذا كله ورد في الحديث- قالوا: لعل هاتين المسألتين وقعتا بعد الفتح، فجمع الرواي ذلك كله في حديث واحد.

    ثم ذكر أجوبة كثيرة، وفي آخرها قال: وقالت طائفة: بل الحديث صحيح ولكن وقع الغلط والوهم من أحد الرواة في تسمية أم حبيبة، وإنما سأل أن يزوجه أختها رملة، ولا يبعد خفاء التحريم للجمع عليه، أي على أبي سفيان- فقد خفي ذلك على ابنته وهي أفقه منه وأعلم، حين قالت لرسول الله صلى الله وعليه وسلم: هل لك في أختي بنت أبي سفيان: {قال: أفعل ماذا؟} قالت تنكحها، قال: أوتحبين ذلك؟ قالت: لست لك بمخلية، وأحب من شركني في الخير أختي، قال: فإنها لا تحل لي} فهذه هي التي عرضها أبو سفيان، على النبي صلى الله عليه وسلم، فسماها الراوي من عنده أم حبيبة، وقيل: بل كانت كنيتها أيضاً أم حبيبة، وهذا الجواب حسن، لولا قوله في الحديث فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سأل، فيقال حينئذٍ: هذه اللفظة وهم من الراوي، فإنه أعطاه بعض ما سأل، فقال الراوي: أعطاه ما سأل أو أطلقها اتكالاً على فهم المخاطب، أنه أعطاه ما يجوز إعطائه مما سأل، والله أعلم.

    كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن

    وذكر المؤلف رحمه الله في صفحة [117] في كتب النبي صلى الله عليه وسلم، في صفحة [118] قال: " ومنها كتابه إلى أهل اليمن وهو الكتاب الذي رواه أبو بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، ورواه الحاكم في مستدركه، والنسائي وغيرهما مسنداً متصلاً، ورواه أبو داود وغيره مرسلاً " وهذا الكتاب سبق أن تكلمت عليه، وبينت رواياته في موضع لمس المصحف، يقول المصنف: وهو كتاب عظيم، فيه أنواع كثيرة من الفقه: في الزكاة، والديات، والأحكام، وذكر الكبائر، والطلاق، والعتاق، وأحكام الصلاة في الثوب الواحد، والاحتباء فيه، ومس المصحف وغير ذلك، قال الإمام أحمد: لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه، واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات.

    المواضع التي تكون فيها لمرأتان بمثابة رجل واحد

    وفي صفحة [160] ذكر المصنف رحمه الله فائدة عزيزة في المواضع التي تكون فيها المرأتان بمثابة رجل واحد، قال: وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أبي أمامة وغيره، عن النبي صلى الله وعليه وسلم، أنه قال: {أيما امرئٍ أعتق امرأً مسلماً، كان فكاكه من النار، يجزئُ كل عضو منه عضواً منه، وأيما امرئ أعتق امرأتين مسلمتين، كانتا فكاكه من النار يجزئ كل عضوين منهما عضواً منه} وقال -أي: الترمذي- هذا حديث صحيح، قال الإمام ابن القيم: وهذا يدل على أن عتق العبد أفضل وأن عتق العبد يعدل عتق أمتين، فكان أكثر عتقائه صلى الله عليه وسلم من العبيد، وهذا أحد المواضع الخمسة، التي تكون فيها الأنثى على النصف من الذكر- أي أن بعض الناس يعتقدون أن الأنثى على النصف من الذكر في كل شيء، فإذا جاءت مناسبة قالوا للذكر مثل حظ الأنثيين، في كل شيء؛ فمثلاً: لو كان هناك مجموعة من الأقارب من المحارم يتحدثون فيما بينهم، لتكلم الرجال وقالوا للمرأة: للذكر مثل حظ الأنثيين، أي: أقلي الكلام مثلاً، وقل مثل ذلك في موضوعات كثيرة، فيقولون ذلك على سبيل المزاح، وعلى سبيل الجد أحياناً... فالمصنف يشير إلى أن هناك مواضع مخصصة، تكون فيها المرأة بمثابة نصف الرجل، وهذا أحدها، قال المصنف:

    والثاني العقيقة، فإنه عن الأنثى شاة، وعن الذكر شاتان عند الجمهور، وفي عدة أحاديث، صحاح وحسان.

    والثالث الشهادة، فإن شهادة امرأتين بشهادة رجل، وهذا أيضاً ليس على إطلاقه، فليس في كل شهادة، لأن النص ورد فيه في موضع البيوع التي يكون الرجال فيها أكثر معرفة من النساء.

    قال: والرابع: الميراث، والخامس: الدية".

    أصول الطب

    في صفحة [164/165] ذكر فائدة طبية، وأنتم تعرفون أن ابن القيم خصص جزءاً من هذا الكتاب للطب النبوي، وهو الجزء الرابع، ولكن ذكر هاهنا فائدة وأعادها في ذلك الجزء، قال: وأصول الطب ثلاثة: الحمية، وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة، وقد جمعها الله تعالى له صلى الله عليه وسلم ولأمته في ثلاثة مواضع من كتابه، فحمى المريض من استعمال الماء خشية من الضرر، فقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النساء:43] فأباح التيمم للمريض حمية له، كما أباحه للعادم -والحمية: هي المنع من تناول أطعمة وأشربة لضررها على المريض، وهي ما نسميها نحن بالحجبة- وقال: في حفظ الصحة: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] فأباح للمسافر الفطر في رمضان، حفظاً لصحته، وقال: في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] فأباح للمريض ومن به أدنى من رأسه، وهو محرم أن يحلق رأسه فيستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة التي تولد عليه القمل… إلى آخر ما ذكر رحمه الله.

    أنواع المشي

    وفي الصفحة [168] ذكر أنواع المشي، وذكر في ذلك فصلاً مفيداً أذكره واقرؤه، لأننا بحاجة إلى أن نعرف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في المشي فكثير من الناس يرون أن من الاتباع: البطء في المشي والتماوت فيه، وأن الإسراع ينافي الوقار المطلوب لطالب العلم، قال رحمه الله:

    فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في مشيه وحده ومع أصحابه

    كان إذا مشى تكفأ تكفؤاً، وكان أسرع الناس مشية، وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: [[ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كأنما الأرض تطوى له، إننا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث]] وقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: [[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا مشى تكفأ تكفؤاً، كأنما ينحط من صبب، وقال مرة إذا مشى تقلع]] قلت -القائل ابن القيم- والتقلع: الارتفاع من الأرض بجملته، كحال المنحط من صبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت، فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه، ويمشي قطعة واحدة -كأنه خشبة محمولة، وهي مشية مذمومة قبيحة، وإما أن يمشي بانـزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج، وهي مشية مذمومة أيضاً، وهي دالة على خفة عقل صاحبها، ولا سيما إذا كان يكثر الالتفات في حال مشيه يميناً وشمالاً، وإما أن يمشي هوناً وهي مشية عباد الرحمان، كما وصفهم بها في كتاب فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار، من غير تكبر ولا تماوت، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مع هذه المشية، كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، حتى كان الماشي معه يجهد نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث، وهذا يدل على أمرين:

    أن مشيته لم تكن مشية بتماوت ولا بمهانة، بل مشية من أعدل المشيات.

    ثم ذكر المصنف رحمه الله أنواع المشيات، وهي عشر، من شاء أن يراجعها فليراجعها، لكن نذكر عناوينها الرابع: السعي، والخامس: الرمل، ويسمى الخبب، والسادس: النسلان، والسابع: الخَوْزَلى، والثامن القهقري، والتاسع الجَمَزَى، والعاشر: التبختر.

    أنواع البكاء

    في صفحة [184] ذكر أنواع البكاء، فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم " وكان يبكي أحياناً في صلاة الليل، والبكاء أنواع:

    أحدها: بكاء الرحمة والرقة.

    والثاني: بكاء الخوف والخشية.

    والثالث: بكاء المحبة والشوق.

    والرابع: بكاء الفرح والسرور.

    والخامس: بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله.

    والسادس: بكاء الحزن.

    والسابع: بكاء الخور والضعف.

    والثامن: بكاء النفاق، وهو أن تدمع العين، والقلب قاسٍ، فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلباً.

    والتاسع: البكاء المستعار والمستأجر عليه، كبكاء النائحة بالأجرة، -يعني إذا مات لهم ميت ولم يوجد من يبكي عليه؛ يعطون امرأة أجرة مقابل أن تبكي عليه- يقول فإنها كما قال عمر رضي الله عنه: [[تبيع عبرتها وتبكي شَجْوَ غيرها]]

    والعاشر: بكاء الموافقة: وهو أن يرى الرجل، الناس يبكون لأمر ورد عليهم، فيبكي معهم، ولا يدري لأي شيء يبكون، ولكن يراهم يبكون فيبكي " وقد ذكر تفصيلاً في هذا يراجع في موضعه.

    هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ على السيف

    في صفحة [190] ذكر رحمه الله فائدة، جيدة ومناسبة.

    فإننا نسمع اليوم أن كثيراً من أعداء الإسلام يقولون: إن الإسلام إنما انتشر بالسيف وبالقوة فقط! ولذلك فإن الخطيب الإسلامي، يتكئ على سيفه إشارة إلى أن الإسلام، إنما انتشر وتغلب بالسيف، والقوة.

    ونحن نقول: نعم الإسلام انتشر بالسيف والقوة، وانتشر أيضاً بالدعوة السلمية، كما هو معروف، وكلاهما له دوره في الفتح الإسلامي، والمصنف يقول: "ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف، وهذا جهل قبيح من وجهين:

    أحدهما: أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم، توكأ على العصا وعلى القوس.

    الثاني: أن الدين إنما قام بالوحي، وأما السيف فلمحق أهل الضلال والشرك، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم، التي كان يخطب فيها، إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف " وقد أعاد هذا المعنى في صفحة [429] من نفس المجلد، قال: "ولم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا... ولم يحفظ عنه أنه أعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف، فمن فرط جهله.

    الجهر بالنية في الصلاة

    وفي صفحة [201] ذكر الصواب في مذهب الشافعي رحمه الله، في موضوع الجهر بالنية، وذلك لأن كثيراً من الجهال يظنون أن الإمام الشافعي من مذهبه أنه يجهر بالنية أو يشرع الجهر بالنية قال: "في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة... ولم يقل شيئاً قبلها ولا تلفظ بالنية ألبتة، ولا قال أصلي لله صلاة كذا، مستقبل القبلة أربع ركعات، إماماً أو مأموماً، ولا قال أداءً ولا قضاءً ولا فرض الوقت، وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدةً منها البتة؛ بل ولا عن أحد من أصحابه، ولا استحسنه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة؛ وإنما غرَّ بعض المتأخرين قول الشافعي رضي الله عنه في الصلاة: إنها ليست كالصيام، ولا يدخل فيها أحد إلا بذكر، فظن بعض المتأخرين أن الذكر تلفظ المصلي بالنية، وإنما أراد الشافعي رحمه الله بالذكر: تكبيرة الإحرام ليس إلا، وكيف يستحب الشافعي أمراً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، في صلاة واحدة، ولا أحدٌ من خلفائه وأصحابه، وهذا هديهم وسيرتهم فإن أوجدنا أحدٌ حرفاً واحداً عنهم في ذلك، قبلناه، وقابلناه بالتسليم والقبول، ولا هدي أكمل من هديهم، ولا سنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم".

    ركعتا النبي بعد الوتر

    في صفحة [251] حيث ذكر فيها المصنف رحمه الله الركعتين اللتين كان يصليهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوتر تارة جالساً وتارة قائماً، وهذه من المواضع المشكلة عند كثير من أهل العلم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلى ركعتين بعد الوتر جالساً مع أنه قال: {اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً} قال رحمه الله: (وكذلك الركعتان اللتان كان يصليهما أحياناً بعد وتره، تارة جالساً، وتارة قائماً، مع قوله: {اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً} فإن هاتين الركعتين لا تنافيان هذا الأمر، كما أن المغرب وترٌ للنهار، وصلاة السنة شفعاً بعدها لا يخرجها عن كونها وتراً للنهار، وكذلك الوتر لما كان عبادة مستقلة، وهو وتر الليل، كانت الركعتان بعده جاريتين مجرى سنة المغرب من المغرب؛ ولما كان المغرب فرضاً، كانت محافظته عليه السلام على سنتها أكثر من محافظته على سنة الوتر، وهذا على أصل من يقول بوجوب الوتر ظاهر جداً، وسيأتي مزيد كلام في هاتين الركعتين -إن شاء الله- وهي مسألة شريفة لعلك لا تراها في مصنف) وفي هذا إشارة إلى أنه سوف يبحث المسألة في مواضع أخرى.

    قول المصنف: [حديث غريب]

    وفي صفحة [249] ذكر المصنف رحمه الله معنى كلمة غريب، فأحياناً طالب العلم قد يجد أن الترمذي أو أبا نعيم أو غيرهما من أهل العلم، قولهم عن حديث ما: إنه حديث غريب؛ فلا يفهم من هذه الكلمة معناها وبعضهم قد يظن أن معنى غريب: أي ليس له إلا إسناد واحد، وهذا الفهم صحيح، لكن أيضاً كلمة غريب أشار المصنف إلى أنها تعني الضعف، فإذا قيل غريب فقط، فالغالب أن هذا يعني الضعف، ولذلك قال المصنف عن حديث: {أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً ... الحديث} قال: فهذا حديث لا يثبت، قال الترمذي فيه: حديث غريب ولم يزد، وهذا فيه إشارة، إلى أنه ضعيف وقد تكلم عن هذه المسألة أيضاً في صفحة [359] من نفس المجلد.

    وقال: أما حديث... {من صلى الضحى بنى الله له قصراً في الجنة من ذهب} فمن الأحاديث الغرائب، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

    وكذلك أعاد المسألة في صفحة [420] من نفس المجلد، فلتراجع.

    المواضع التي يشرع فيها الدعاء في الصلاة

    في صفحة [256] ذكر المواضع التي يشرع فيها الدعاء في الصلاة، فقال: "وأما المواضع التي كان يدعو فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فسبعة مواطن.

    أحدها: بعد تكبيرة الإحرام في محل الاستفتاح.

    الثاني: قبل الركوع وبعد الفراغ من القراءة في الوتر، والقنوت العارض في الصبح قبل الركوع إن صح ذلك فإن فيه نظراً.

    الثالث: بعد الاعتدال من الركوع كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن أبي أوفى {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ}.

    الموضع الرابع: في ركوعه كان يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.

    الخامس: في سجوده وكان فيه غالب دعائه.

    السادس: بين السجدتين.

    السابع: بعد التشهد وقبل السلام، وبذلك أمر في حديث أبي هريرة وحديث فضالة بن عبيد.

    وأمر أيضاً بالدعاء في السجود: قال: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو مستقبل المأمومين، فلم يكن ذلك من هدية صلى الله عليه وسلم أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، أما تخصيص ذلك بصلاة الفجر والعصر؛ فلم يفعل ذلك هو ولا أحدٌ من خلفائه، ولا أرشد إليه أمته؛ وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضاً من السنة بعدهما، والله أعلم".

    ولذلك: علم أن رفع اليدين في الدعاء بعد الفريضة بدعة، لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك محافظة الناس على رفعهما بعد السنة والتزام ذلك على اعتقاد أنه وارد ومأثور، فإنه ليس بوارد، فإما أن يقال: إنه غير جائز، أو يقال: إن الأولى تركه لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء في صلب الصلاة أولى من الدعاء خارجها، وإن كان الدعاء بعد الصلاة، أعني الفريضة، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح: أنه كان يستغفر ثلاثاً بعد السلام، وفي حديث معاذ: أنه كان يقول: {اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البخاري والنسائي: {اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد}.

    القنوت في صلاة الفجر

    وفي صفحة [274/275] ذكر رحمه الله، كلاماً جيداً، لم أره لغيره من أهل العلم، فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في صلاة الفجر، قال: " ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ثم تركه، فأحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا رد على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقاً عند النوازل وغيرها ويقولون: هو منسوخ، وفعله بدعة فـأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها -يعني: كالشافعية- وهم أسعد بالحديث من الطائفتين؛ فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة وتركه سنة، ومع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفاً للسنة " وإن كان في هذا نظر؛ لأنه صح عند النسائي وغيره من حديث سعد بن طارق {أنه سأل أباه عن القنوت وقال: إنك صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، فهل رأيتهم يقنتون؟ قال: أي بني محدث، وفي لفظ: بدعة} فدل على أن المداومة على القنوت في الفرائض ليس بمشروع، بل هو أقرب إلى أن يكون مكروهاً أو بدعة، ثم قال المصنف رحمه الله: " بل من قنت فقد أحسن، ومن ترك فقد أحسن، وركن الاعتدال -أي: من الركوع- محل الدعاء والثناء، وقد جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ودعاء القنوت؛ دعاء وثناء، فهو أولى بهذا المحل، وإذا جهر الإمام به أحيانا ليعلم المأمومين فلا بأس بذلك، فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين؛ وجهر ابن عباس بالفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة، ومن هذا أيضاً جهر الإمام بالتأمين وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله، ولا من تركه، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة النسك من الإفراد والقرآن والتمتع وليس مقصودنا إلا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله هو؛ فإنه قِبلةُ القصد، وإليه والتوجَّه في هذا الكتاب، وعليه مدار التفتيش والطلب.

    وهذا شيء، والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شيء، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز، ولما لا يجوز؛ وإنما مقصودنا فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم ... إلى آخر ما قال " وأذكر أنه ضمن كلامه أشار إلى أن القنوت الذي ورد من حديث أنس وغيره: {أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا} ليس معناه القنوت عند الفقهاء -بمعنى رفع اليدين وإطالة الدعاء- وإنما مقصوده: إطالة الركن بعد الركوع، أي أنه يطيل القيام بعد الركوع؛ ولذلك جاء في الصحيحين من حديث أنس: {أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع؛ وقف حتى يقول القائل قد نسي} لأن الناس كانوا يخففون هذا الركن، فأحب أن يخبرهم أن السنة إطالته، فهذا هو المقصود بقنوته صلى الله عليه وسلم حتى فارق الدنيا.

    إغماض العينين في الصلاة

    في صفحة [294] ذكر المصنف رأيه في موضوع إغماض العينين في الصلاة، وإغماض العينين فيه كلام كثير، يقول المصنف: وقد اختلف الفقهاء في كراهته، فكرهه الإمام أحمد وغيره، وقالوا: هو فعل اليهود، وأباحه جماعة ولم يكرهوه، وقالوا: قد يكون أقرب إلى تحصيل الخشوع، الذي هو روح الصلاة وسرها ومقصودها -قال رحمه الله- والصواب أن يقال: إن كان تفتيح العينين لا يخل بالخشوع، فهو أفضل؛ وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه، فهنالك لا يكره التغميض قطعاً، والقول باستحبابه في هذا الحال، أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة.

    أكثر الناس تشدداً في الرجال

    وفي صفحة [304] ذكر رحمه الله أن أشد الناس مقالة في الرجال يحيى بن معين، يعني أن أكثر علماء الجرح والتعديل تشدداً في تجريح الرجال هو يحيى بن معين، ولكن هذا ليس على إطلاق، فإن الظاهر -والله أعلم- من كلام أهل العلم، في كلام ابن معين في الرجال، أنه أقرب إلى الاعتدال، وأن أشدهم مقالة في الرجال هو أبو حاتم الرازي.

    تعدل ثلث القرآن

    في صفحة [316] ذكر سبب كون سورة [قل هو الله أحد] تعدل ثلث القرآن، فقال: " فسورة [قل هو الله أحد] متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة... إلى أن قال: فتضمنت إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه.

    ثم قال: وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي، الاعتقادي" ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر، ونهي وإباحة، والخبر نوعان:

    الأول: خبر عن الخالق تعالى، وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة [قل هو الله أحد] الخبر عنه أو الخبر وعن أسمائه وصفاته فعدلت ثلث القرآن، وخلَّصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي؛ كما خلَّصت سورة [قل يا أيها الكافرون] من الشرك العملي الإرادي القصدي ولما كان العلم قبل العمل، وهو إمامه وقائده وسائقه والحاكم عليه ومنـزله منازله؛ كانت سورة [قل هو الله أحد] تعدل ثلث القرآن، والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر.

    وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك كتاباً -عظيم الفائدة نفيساً- اسمه: جواب أهل العلم والإيمان، في أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقد طبع مرات طبعات ناقصة، ثم حقق في جامعة الإمام، قسم العقيدة، حققه الشيخ سليمان الغفيص، تحقيقاً على نسح خطية، ولكنه لم يطبع بعد.

    النوم على الشق الأيمن

    وفي صفحة [321] ذكر سر النوم على الشق الأيمن، فقال: " وفي اضطجاعه على شقه الأيمن سر، وهو أن القلب معلق في الجانب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجنب الأيسر استثقل نوماً؛ لأنه يكون في دعة واستراحة، فيثقل نومه، فإذا نام على شقه الأيمن؛ فإنه يقلق، ولا يستغرق في النوم، لقلق القلب وطلبه مستقره وميله إليه، ولهذا استحب الأطباء النوم على الجانب الأيسر، لكمال الراحة وطيب المنام؛ وصاحب الشرع يستحب النوم على الجانب الأيمن؛ لئلا يثقل نومه، فينام عن قيام الليل، فالنوم على الجانب الأيمن أنفع للقلب، وعلى الجانب الأيسر أنفع للبدن والله أعلم.

    وهنا أشير إلى فائدة ليست بعيدة عما ما ذكره المصنف وهي النوم جهة القبلة، فإن من المشهور عند الناس أنه يشرع للإنسان أن ينام مستقبل القبلة، وهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه شيء يرجع إليه سوى حديث واحد، عند أبي يعلى في مسنده، ذكره ابن كثير في تفسيره؛ في أول تفسير سورة الحديد، وهو حديث ضعيف جداً، فيه السري بن إسماعيل وهو متروك فلا يثبت في استقبال القبلة في النوم حديث صحيح.

    قضاء الوتر

    في صفحة [324] ذكر المصنف رحمه الله عدم مشروعية قضاء الوتر... فقال: " ولم يكن صلى الله عليه وسلم، يدع قيام الليل حضراً ولا سفراً، وكان إذا غلبه نوم أو وجع، صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة، قال: فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: في هذا دليل على أن الوتر لا يقضى، لفوات محله، فهو كتحية المسجد، وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوها، لأن المقصود به أن يكون آخر صلاة الليل وتراً، كما أن المغرب أخر صلاة النهار، فإذا انقضى الليل، وصُلِّيتِ الصبح؛ لم يقع الوتر موقعه، هذا معنى كلامه إلى آخر ما قال " ولكن ذكر عدد من أهل العلم ونقل عن جمع من الصحابة، أن الإنسان له أن يوتر آخر الليل، قبيل الفجر ولو أدركه الفجر، أو مع الأذان، سواء أكان هذا الوتر أداءً أم قضاءً، فمن قام قبيل الأذان، أوتر ولو أذن وهو في أثناء الوتر، وكذلك من أراد أن يوتر مع الأذان، فلا بأس بذلك إذا لم يكن هذا من عادته، بل تأخر يوماً فاستيقظ مع الأذان.

    فأوتر فلا بأس، وإن لم يوتر، فإنه يشرع له أن يصلي له من النهار ما شاء شفعاً، ركعتين أو أربع أو ست أو غير ذلك.

    أصناف الناس في القرآن

    في صفحة [338] ذكر المصنف رحمه الله أصناف الناس في القرآن الكريم فقال: " الناس في هذا أربع طبقات:

    الأول: أهل القرآن والإيمان، وهم أفضل الناس.

    والثانية: من عَدِمَ القرآن والإيمان.

    والثالثة: من أوتي قرآنا، ولم يؤتَ إيماناً.

    الرابعة: من أوتي إيماناً ولم يؤتَ قرآنا.

    قالوا: فكما أن من أؤتي إيماناً بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآناً بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبراً وفهماً في التلاوة، أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر، قالوا: وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح " إلى آخر ما قال رحمه الله.

    انتقاء الإمام مسلم أحاديث الضعفاء

    وفي صفحة [363] ذكر فائدة نافعة، لطالب الحديث، حول طريقة الإمام مسلم رحمه الله في الانتقاء من أحاديث الضعفاء، قال: " وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما {أن رسول الله صلى الله وعليه وسلم، لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة} رواه أبو داود فهو حديث ضعيف، في إسناده الحارث بن عبيد " ثم ذكر الأقوال فيه إلى أن قال: كان يشبهه في سوء الحفظ، محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعيب على مسلم إخراج حديثه " هذا الكلام نقله ابن القيم عن ابن القطان، ثم عقب عليه ابن القيم بقوله: ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطّرح من أحاديث الثقة، ما يعلم أنه غلط فيه، فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة، ومن ضعف جميع حديث سيئ الحفظ، فالأولى: طريقة الحاكم وأمثاله.

    والثانية طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن، يعني كأنه قال: إن الناس ثلاثة أصناف:

    منهم: من يطرح حديث الراوي الضعيف مطلقاً، ومنهم: يقبل حديث الراوي الثقة مطلقاً، والإمام مسلم كأنه توسط، فكان يأخذ من حديث الراوي الذي فيه ضعف ما يعلم أنه ضبطه، ويترك من حديث الراوي الموثوق ما يعلم أنه غلط فيه، فكانت طريقته وسطاً في هذا.

    الحديث المرسل

    وفي صفحة [379] ذكر فائدة تتعلق بالحديث المرسل، ومتى يصح قبوله، فإن المشهور عند كافة المحدثين، أن الحديث المرسل لا يقبل، ولكن من العلماء -كـالشافعي- وغيره من قبل الحديث المرسل بشروط والمصنف رحمه الله هاهنا قال: " في صفحة [379] والمرسل إذا اتصل به عمل، وعضده قياس أو قول صحابي، أو كان مرسله معروفاً باختيار الشيوخ، ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين، ونحو ذلك مما يقتضي قوته، عُمل به، فبين أن المرسل لا يترك مطلقاً، وقد يقبل إذا وجد ما يعضده، أو يشهد له.

    ساعة الإجابة

    في صفحة [394] ذكر ساعة الإجابة، وساعة الإجابة يوم الجمعة فيها أقوال، لعلها تزيد على اثنين وأربعين قولاً، كما ذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح، ولكن للحافظ ابن حجر والمصنف وسبقهما إلى ذلك بعض الأئمة، رأياً في ساعة الإجابة، بأنها قد تكون مفرقة في يوم الجمعة، فبعضها من دخول الإمام، إلى أن تقضى الصلاة -كما في صحيح مسلم- وبعضها في آخر ساعة من العصر، كما في السنن بسند صحيح.

    يقول المصنف: "وعندي أن ساعة الصلاة، ساعة ترجى فيها الإجابة أيضاً، وكان قد ذكر موضوع ساعة العصر، فكلاهما ساعة إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر؛ فهي ساعة معينة من اليوم لا تتقدم ولا تتأخر. وأما ساعة الصلاة فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت، لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرعهم وابتهالهم إلى الله تعالى تأثيراً في الإجابة، فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة، وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حض أمته على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في هاتين الساعتين "والحقيقة أني وجدت كلاماً له علاقة بما ذكرت قبل قليل، حول مسجد قباء ومسجد المدينة، قال: " ونظير هذا، قوله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: {هو مسجدكم هذا، وأشار إلى مسجد المدينة} وهذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذي نـزلت فيه الآية مؤسساً على التقوى، بل كل منهما مؤسس على التقوى، وكذلك قوله في ساعة الجمعة: {هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة} لا ينافي قوله في الحديث الآخر: {فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر}.

    طريقة خطب النبي صلى الله عليه وسلم

    في صفحة [424] ذكر المصنف كلاماً نفيساً عجيباً في نقد بعض طرائق الوعاظ، الذين يبالغون في تخويف الناس من موضوع الموت، ويغفلون عما هو أهم منه، وهو كلام ينبغي أن يكتب بماء الذهب! وأن يطلع عليه كل داعية وواعظ، حتى يعرف الأسلوب المناسب في الوعظ، والموضوعات المهمة. وهذا الكلام أقرؤه وإن كان فيه طولاً، لأنه كلام لذيذ جداً، يقول: وكذلك كانت خطبته صلى الله عليه وسلم، إنما هي تقرير لأصول الإيمان، من الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه وذكر الجنة النار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيداً، ومعرفة بالله وأيامه؛ لا كخطب غيره التي إنما تفيد أموراً مشتركة بين الخلائق، وهي النوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيماناً بالله، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيراً بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون، ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون، وتقسم أموالهم، ويبلي التراب أجسامهم، فيا ليت شعري أي أيمان حصل بهذا؟!

    وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟!

    ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله وذكر آلائه تعالى، التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره، الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته، وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره؛ ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، قال: ثم طال العهد وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسوماً تقام، من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها، وزينوها بما زينوها به، فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفِقَر وعلم البديع؛ فنقص بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها.. انتهى كلامه.

    وهذا صحيح، يعني أنه أصبحت خطب كثير من الناس فيها سجع وترتيب وتغنٍ بالقراءة، واعتقدوا أن هذه سنن لا يجوز الإخلال بها، وغفلوا عن المعنى الذي هو المقصود من الخطبة، باختيار الموضوعات المهمة، وتحريك قلوب الناس بها.

    قاعدة في معرفة السنن والبدع

    وفي صفحة [432] ذكر فائدة أصولية نفيسة أيضاً، وهي مرجع الإنسان في معرفة السنن والبدع فقال وهو يتكلم عن موضوع الجمعة، والسنة قبلها: " ولا يجوز إثبات السنن في مثل هذا بالقياس؛ لأن هذا مما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يفعله ولم يشرعه؛ كان تركه هو السنة، -هذه القاعدة- ويقول: ونظير هذا، أن يشرع لصلاة العيد سنة قبلها أو بعدها بالقياس؛ فلذلك كان الصحيح أنه لا يسن الغسل للمبيت بـمزدلفة، ولا لرمي الجمار، ولا للطواف ولا للكسوف، ولا للاستسقاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يغتسلوا لذلك، مع فعلهم لهذه العبادات، انتهى كلام المصنف.

    إذاً: يؤخذ من ذلك قاعدة، وهي: أن ما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، فالسنة تركه حينئذٍ.

    تحية المسجد

    وفي صفحة [435] ذكر كلاماً لعلِّي ذكرته قبل بفي مناسبة، نقل عن أبي البركات ابن تيمية في قصة الرجل الذي جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له: {أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: فصل ركعتين وتجوز فيهما} جاء في سنن ابن ماجة، في هذا الحديث زيادة: {أصليت ركعتين قبل أن تجئ؟} قال: قال أبو البركات ابن تيمية قوله: [قبل أن تجئ] يدل على أن هاتين الركعتين سنة الجمعة، وليستا تحية المسجد " انتهى كلام أبي البركات، قال الشيخ ابن القيم قال شيخنا حفيده أبو العباس: وهذا غلط، أي أن الحفيد استدرك على جده رحمهما الله جميعاً- والحديث المعروف في الصحيحين عن جابر قال: {دخل رجل يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: فصلِّ ركعتين} وقال: {إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما} فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث، وأفراد ابن ماجة في الغالب غير صحيحة، هذا معنى كلامه " هذا ما نقله ابن القيم عن ابن تيمية.

    وبناءً عليه: فإن هاتين الركعتين هما تحية المسجد، قال ابن القيم رحمه الله: " وقال شيخنا أبو الحجاج الحافظ المزي: هذا تصحيف من الرواة، إنما هو: {أصليت قبل أن تجلس؟} فغلط فيه الناسخ، وقال: -المزي- وكتاب ابن ماجة، إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به، بخلاف صحيحي البخاري ومسلم، فإن الحفاظ تداولوهما، واعتنوا بضبطهما، وتصحيحهما، قال ولذلك وقع فيه أغلاط وتصحيف يعني: سنن ابن ماجة.

    أمثلة للحديث المقلوب

    وفي صفحة [439] ذكر أمثلة للحديث المقلوب، فإنه قال في صفحة [438] في حديث عطية العوفي عن ابن عباس: " كان النبي صلى الله عليه وسلم: {يركع قبل الجمعة أربعاً، لا يفصل بينها في شيء منها} إلى أن قال: هذا الحديث فيه عدة بلايا " فذكر أن بقية بن الوليد إمام المدلسين وقد عنفه، ثم ذكر مبشر بن عبيد منكر الحديث، ثم ذكر أن الحجاج بن أرطأة ضعيف مدلس، ثم ذكر أن عطية العوفي، ضعيف، ثم قال: وقال البيهقي، عطية العوفي لا يحتج به ومبشر بن عبيد الحمصي منسوب إلى وضع الحديث، والحجاج بن أرطأة لا يحتج به، قال بعضهم: ولعل الحديث انقلب على بعض هؤلاء الثلاثة الضعفاء، لعدم ضبطهم وإتقانهم فقال: قبل الجمعة أربعاً، وإنما هو بعد الجمعة، فيكون موافقاً لما ثبت في الصحيح، ونظير هذا: قول الشافعي في رواية عبد الله بن عمر العُمري: {للفارس سهمان، وللراجل سهم} قال الشافعي: كأنه سمع نافعاً يقول: للفرس سهمان وللراجل سهم فقالللفارس سهمان، وللراجل سهمحتى يكون موافقاً لحديث أخيه عبيد الله، قال: وليس يشك أحد من أهل العلم، في تقديم عبيد الله بن عمر على أخيه عبد الله في الحفظ.

    قلت -ابن القيم-: ونظير هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة: {لا تزال جهنم يلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فيزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط: وأما الجنة فينشئ الله لها خلقاً} فانقلب على بعض الرواة فقال: {أما النار فينشئ الله لها خلقاً} فهذا أيضاً من المقلوب، قلت - أيضاً من كلامه- ونظير هذا حديث عائشة {إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم} وهو في الصحيحين فانقلب على بعض الرواة فقال: {إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فأكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال} وهذا للحافظ ابن حجر فيه كلام، في موضوع انقلاب هذا الحديث، وأن فيه نظر، قال: ابن القيم رحمه الله: "ونظيره أيضاً عندي حديث أبي هريرة: {إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه} وأظنه وهم -والله أعلم- فيما قاله رسوله الصادق المصدوق {وليضع ركبتيه قبل يديه} كما قال وائل بن حجر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه} وقال الخطابي وغيره حديث وائل بن حجر أصح من حديث أبي هريرة " فهذه أمثله للأحاديث المقلوبة في المتن.

    سكوت البخاري عن الراوي

    وأخيراً: في صفحة [471] ذكر المصنف كلاماً في سكوت الإمام البخاري عن الراوي، فإن المصنف الذي هو ابن القيم ذكر عكرمة بن إبراهيم، وأن البيهقي ضعفه، ثم قال: " قال أبو البركات ابن تيمية -يعني الجد- ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه -وتاريخ البخاري هو التاريخ الكبير، في تراجم الرواة، وهو مطبوع، قال: فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين، فكأنه بهذا يشير إلى أن البخاري إذا ذكر الراوي في تاريخه، ولم يذكره بجرح ولا تعديل، فإنه ليس بمجروح عنده، وهذا كلام مشهور عند أهل العلم، لكن فيه نظر؛ فإن الساكت لا ينسب له قول، إذا سكت الإمام عن الرجل، فإنه لا يمكن أن ينسب إليه قول، فقد يكون بيض له لأن يعود إليه فيما بعد، أو لم يحضره شيء في حاله أو في شأنه أو لغير ذلك من العلل والأسباب، فهذه القاعدة: أن من سكت عنه البخاري في تاريخه، فهو ليس بمجروح عنده، فيها نظر، ولعلها لا تثبت على إطلاقها.

    هذا ما تيسر من الفوائد في هذا الجزء.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088969996

    عدد مرات الحفظ

    780247589