إخوتي الكرام: حين نتحدث عن مستقبل الدعوة الإسلامية، أو الصحوة الإسلامية، فإننا لا نتحدث عن طائفةٍ معينة، أو حركةٍ مخصوصة في نطاقٍ محدودٍ من المكان، أو لحظاتٍ محدودة من الزمان، لكن نتحدث عن يقظة المسلمين في كافة المجالات والأصعدة، نتحدث عن هذا البحر الذي تصب فيه جهود العلماء والفقهاء المخلصين، وتصب فيه جهود الدعاة والمربين، وتصب فيه جهود الشجعان والمفكرين، وتصب فيه جهود الكتاب والشعراء وغيرهم من الداعين إلى الله عز وجل، فهي بلا شكٍ أكبرُ من أن تكون محصورةً في نطاقٍ معين، أو مكانٍ معين، أو راية معينة، أو شعار معين.
حيث تعلمنا من الكتاب والسنة أهمية التخطيط والإعداد للمستقبل، وأهمية ترقب الأحداث ومواجهتها بصبرٍ ويقظةٍ وإيمان، فمثلاً في القرآن الكريم نجد قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وضمن هذه القصة نرى ذلك الرجل الذي كان يقول ليوسف عليه الصلاة والسلام: إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ [يوسف:43] تنتقل الرؤيا من الملك حتى تقرع سمع يوسف، ومن خلالها يعبر ما يجري في المستقبل، وأن الناس يزرعون سبع سنين دأباً، ويأمرهم بأن يضعوا هذا في سنبله ويحفظوه ليوم الشدة، قال تعالى حاكياً عنهم: فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف:47-49] هذه القصة نتعلم فن النظر والإعداد للمستقبل، فقد توقع يوسف عليه الصلاة والسلام من خلال هذه الرؤيا وتعبيرها الذي علمه الله إياه، ماذا سيقع في مقبلات الأيام، ثمَّ أخذ العدة لهذا الأمر الذي توقعه وأمر الناس بأن يدخروا ليوم الشدة.
وأخبار الأمم السابقة وقصصها وما علق وذكر الله تعالى على تلك الأحداث من العبر والدروس والآيات كفيلٌ بأن يجعل الإنسان ينظر للمستقبل من خلال الواقع، وأقرب مثال على هذا قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96] وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66] وقوله: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً [الجن:16] وقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:97-98] إلى غير ذلك من الآيات التي هي عبارة عن نواميس وسنن إلهية، من خلال استقرائها في الواقع نستطيع أن نتوقع ماذا يحدث للأمة إذا عملت بمقتضى هذه النواميس أو أخلت بها.
فبين هذه النواميس وبين الواقع علاقةً وثيقة، هي علاقة النتيجة بالسبب، وبينهما ترابطٌ عضويٌ لا ينفك بحال، ودراسة الحاضرِ بناءً على ذلك تتيح للإنسان فهم الواقع، كما تتيح له تصوراً إجمالياً للمستقبل، إضافةً إلى هذا وهذا فإنه الطريق العلمي الصحيح لاستقراء أحداث المستقبل، أن نستقرئ أحداث المستقبل من خلال النظر إلى أحداث الواقع.
وإني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع |
ومن ذلك أيضاً: أشياء كثيرة يتوقع الإنسان بها بعض ما تخبئه الأيام، هذه الأمور السابقة كلها تجتمع على أمر واحد، هي أننا لم نتعبد بشيءٍ من هذه الأشياء، بل هي محض فضل من الله عز وجل، فليس مطلوباً من الإنسان أن يجلس في انتظار فراسةٍ صادقة، أو رؤيا صالحة يبني عليها تصرفاً معيناً، أو يتبع فألاً يحدث له، لكن إن جرى هذا الأمر على لسان أحد، أو رأى أحد رؤيا صالحة؛ فإنه يفرح بها ويستبشر.
والظن أن التاسع المهدي من ولد النبي أو المسيح المهتدي |
فالأمر أقرب ما يكون وذو الحجا متأخرٌ ويسود غير مسود |
فكان يتوقع أن يكون المهدي، أو عيسى بن مريم هو مجدد القرن الثامن، أو مجدد القرن التاسع، وقد تبين بالدلالة دلالة التاريخ القطعية أن هذا الظن في غير محله، وكذلك ظن غيره ممن توقعوا مثل الأمر، ومثل الأحاديث الواردة في الكلام عن آخر الزمان، كحديث: {إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك بخاصة نفسك} فإنك تجد عالماً تكلم عن هذا الحديث ربما في القرن الرابع أو الخامس، فقال: وقد صح هذا في زماننا، فإننا نرى كيت وكيت وكيت، فيأتي عالمٌ آخر في القرن السابع فيقول: رحمة الله على فلان، كيف لو رأى ما نحن فيه الآن؟!
إنهم كانوا في خير كثير بالقياس على ما نحن فيه، وهكذا، فهذه ظنونٌ وتوقعاتٌ وحدس، قد لا يكون أحدٌ مصيباً فيها على كل حال.
بل أقول أيها الإخوة: حتى هؤلاء الموعود بهم، كالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام والمهدي، حتى هؤلاء الموعود بهم، لن ينـزلوا على أمةٍ منهكة متهالكة متآكلة، فإن الله تبارك وتعالى وحده هو الذي يحيي الموتى، بل سينـزلون على أمةٍ يجدر بها أن يقودها مثلهم، وكما أن الله عز وجل ذكر في كتابه أنه يولى بعض الظالمين بعضاً، فكذلك هو يولي بعض الصالحين بعضاً، فمتى كانت الأمة فيها صلاح وخير وقوة وجدارة، قيض الله تعالى لها من يحكمها، ممن يكون مهدياً ولو لم يكن هو المهدي المنصوص عليه في الأحاديث، لكن يكون مهتدياً بسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هذا من جهة ثانية.
إذاً الكلام في مستقبل الإسلام وأن المستقبل لهذا الدين، هو أمر مفروغ منه، ولا يحتاج إلى إفاضة أو بيان.
وكيف نستطيع أن نصنع هذا المستقبل؟
فإننا نعلم أن الله عز وجل يريد منا أن نبذل ما في وسعنا إلى الوصول إلى هذه النتيجة، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنوا واقع الإسلام، نصروا الإسلام نصراً مؤزراً حتى دانت له الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وحتى نـزل قول الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] وأنـزل قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:3] كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه سعوا وخططوا وبذلوا وتعبوا، حتى صنعوا هذا النصر لهذا الدين، كذلك المطلوب منا بعد أن علمنا أن الله تعالى آتٍ بالنصر لهذا الدين لا محالة أن يكون دورنا وجهدنا هو السعي لتحقيق النصر، وصناعة المستقبل بإذن الله تعالى لهذا الدين.
ومثله الدراسة التي أعدتها جامعة "ساسكس" وهي إحدى الجامعات في جنوب بريطانيا، ونشرت أيضاً، وكانت هذه الدراسة قد أجراها فرقٌ من الباحثين، كلما انتهى فريقٌ تولاها فريقٌ آخر، واستمرت على مدى ثلاثين عاماً، ثم نشرت وكان من ضمن النتائج التي توقعوها في تلك الدراسة أن الحضارة الغربية آيلة للسقوط، وأنهم يقولون: أن البديل هو توقع حضارةٍ تخرج مما يسمونه بالعالم الثالثة، تحتاج إلى جرأة وشجاعة وتغيير جذري في واقع ذلك العالم لإنتاج حضارة جديدة تحقق متطلبات الإنسان، إضافة إلى دراساتٍ كثيرة، قامت بها معاهد متخصصة، كمعهد المستقبل الذي يقوم عليه هملر ومعهد "هدسون" والمؤسسات المستقبلية، والجمعية الدولية لدراسات المستقبل، والتي يعد المنتسبون إليها بالألوف.
إضافةً إلى مؤتمرات ونظريات ودوريات ونشرات ومجلات، في أوروبا وأمريكا وبريطانيا، جعلت همها دراسة الإنسان والمستقبل، والعناية بذلك عنايةً كبيرة.
أولاً: نملك النواميس والسنن الكونية التي نجدها في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذه ليست في منظورهم.
ثانياً: نملك من صحة الحدس والنظر وصدق الفراسة والقرائن الأخرى ما لا يملكون، ومع ذلك فإن الدراسات الإسلامية في هذا المجال قليلة، أذكر منها -في حدود ما اطلعت عليه- كتاباً أصدره الدكتور محمد جابر الأنصاري، في البحرين بعنوان العرب والعالم عام (2000م) وقد نشر هذا الكتاب، وتوقع من خلاله ظهور حضارة جديدة يقوم عليها ما سماه المؤلف بالحضارة الصفراء، ويقصد أن يقوم على هذه الحضارة الجنس الأصفر اليابان والصين والدول المحيطة بها وتكون وريثة للحضارة الغربية، وكأنه يتوقع أن تكون جسراً تعبر من خلاله الحضارة بعد ذلك إلى هذه الأمة الإسلامية ومثل كتابات الدكتور رشدي فكار فقد كتب عن المسلمين وتحديات المستقبل، ومروان بحيرى كتب العرب والعالم عام (2000م)، والدكتور النفيسي كتب أيضاً حول الصحوة ومستقبلها، إضافةً إلى كتابات متفرقة هنا وهناك.
لأن المستقبل يولد من رحم الماضي، فالمستقبل هو امتدادٌ للحاضر، والحاضر امتدادٌ للماضي، وعليه فهل نحن ندرس أحداث الماضي دراسةً صحيحة؟
العقد الماضي مثلاً، أين الدراسات التي تحدثت عن مكاسب الإسلام فيه؟!
أو عن خسائر الأمة الإسلامية، عن الخطأ والصواب، عن الصحيح من غيره؟!
أين الدراسات التي تقوّم أعمال المسلمين خلال العقود الماضية، وتحاول أن تضع النقاط على الحروف، لتبين ما هو الخطأ الذي يجب أن يصحح وما هو الصواب الذي يجب أن يستمر، في الواقع لا يزال المسلمون -أيها الإخوة- تسيرهم عواطف تحركهم نحو أحداث الحاضر بدون وعيٍ، فهم يغرقون في مشكلات الحاضر، فلا يفكرون في جذورها لإزالتها، ولا يفكرون في حلولها المستقبلية.
مثال: إنسان يصيبه الصداع مثلاً ويؤلمه حتى لا يستطيع أن ينام من ألم الصداع، فتجد أن كل ما يفكر فيه، هو أن يأخذ حبوباً مهدئة تجعله يتمكن من النوم براحةٍ أو يتحدث براحة، أو يأكل أو يشرب أو يجلس بصورةٍ طبيعية، لكن أن يفكر في أسبابِ هذا الصداع، التي قد تزيد على اثني عشر سبباً من أجل إزالة هذه الأسباب، لا يفكر بذلك، أو يفكر أيضاً في حلولٍ مستقبلية، فإنه لا يفكر، إنما يفكر في لحظته الحاضرة، فإذا زال عنه الألم بدأ يمارس أعماله بصورةٍ طبيعية، ونسي هذا الألم الذي كان يعاني منه.
مثال آخر: إنسانٌ مسه الجوع وألمه فأصبح يتلوى منه، وينصب همه على لقمة عيشٍ تسد جوعته، وتجعله يتصرف بصورةٍ طبيعية، لكن هل يفكر ما الذي آل به إلى هذا المستوى من الفقر والمسغبة والمتربة؟
لا! أو هل يفكر بالحلول المستقبلية التي تجعله يخرج من هذه الأزمة؟
أيضاً لا! كل همه أن يجد لقمةً حاضرةً يسد بها جوعته، فإذا شبع قال لك: أنا يكفيني رزق اليوم، أما المستقبل فله ألف حلاّل كما يقولون.
ولا بد هنا من التخصص في جميع المجالات، فمثلاً:
في مجال التخصصات الشرعية، فلاشك أن العلماء والفقهاء الشرعيين هم الكواكب الذين تسير الأمة على هديهم، وتقتبس من نورهم، ويوم تغيب هذه النجوم، فإن الأمة تتيه في صحراء لا هادي فيها ولا دليل لها، ولذلك فإن التخصص في مجال الدراسات الشرعية من ضمن الأهداف التي يجب أن تضعها الأمة في قائمة الأولويات، وذلك بأن ينبري وينبعث من بين شباب الأمة وشباب الصحوة طائفة كما قال تعالى: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].
والتخصصات العلمية الأخرى: كالطب والهندسة والعلوم والاقتصاد، كل هذه تحتاجها الأمة، وتحتاج إلى متخصصين فيها، وتحتاج الدعوة إلى كوكبةٍ من المتخصصين يصدقون ما يقوله العالم الشرعي، فإذا قال العالم الشرعي: الكلام والحكم كذا وكذا وكذا، قال له الطبيب: صدقت، وقال له المهندس: صدقت، وقال له الاقتصادي: صدقت، وقال له المتخصص في كل مجالٍ: صدقت، حتى ليقول العلماني، عدو الإسلام حين يرى أن الأصوات تنادت عليه من كل مكان، تؤيد وتصدق ما قاله عالم الشرع، حتى ليقول كما قال أبو جهل: هذا أمر دبر بليل.
خذ مثلاً حين يتكلم العالم عن خطر الزنا، يستطيع أن يأتي بالنصوص الشرعية والأحاديث النبوية، ويفيض في ذلك ويبين عواقبه في الدنيا والآخرة، وما ورد في ذلك، حتى أن المؤمن بالله واليوم الآخر يقشعر بدنه ويخاف، لكن هناك الكثير من الناس لم يصل إليهم هذا الكلام، ولم يصل إلى قلوبهم، فنحتاج حينئذٍ إلى طبيبٍ يصدق كلام العالم، فيقوم يتحدث -مثلاً- عن الأمراض الجنسية: الهربز، والإيدز، والكلاميبيا، وغيرها من الأمراض الجنسية الفتاكة التي أصبحت إحصائياتها ترعب أكفر الناس وأكثرهم طغياناً وصفاقةً ووقاحةً وجرأةً على الله تعالى، تجد الطبيب يقوم فيصدق كلام هذا العالم من خلال ميدانه في الطب، ومن خلال معلوماته واختصاصاته.
مجالٌ آخر: وهذا مثالٌ قد يكون قريباً من واقعنا ويمسنا كثيراً، قضية الجن أو العين -مثلاً- هذه القضية قد يجلس العالم زماناً طويلاً يقنع بها كثيراً من الناس فيقتنعون، وقد يكون من بينهم من لا يزال في قلبه حُسيكة، بل قد يكون منهم من لم يسمع هذا الكلام، وقد يتعلق بأقاويل لبعض المنسوبين إلى العلم في مثل هذه الأمور، لكن ما رأيك حين يقوم الطبيب من خلال ميدانه وعمله ومرئياته ومختبراته، ليصدق كلام هذا العالم، ويحقق بعدما يقوم بكشوف وتحريات على هذا المريض، فيقول له: كل هذه التحاليل والكشوف كلها أثبتت أنه ليس فيك مرضاً عضوياً يمكن أن يخضع للتحليل والطب البشري، فبقي عليك الطب الشرعي، فتلجأ إلى الرقية وإلى القراءة وإلى الذكر وإلى الأوراد الشرعية التي تستعيذ بالله من خلالها، من شر شياطين الإنس والجن، فكم يكون وقع مثل هذا على نفسية المريض؟!
بل على نفسية المجتمع كله؟
وقل مثل ذلك من الناحية العملية فقد، يتحدث العالم طويلاً، عن قضية خطورة الاختلاط والتبرج، ووجوب التستر وما أشبه ذلك بكلام قوي مدعم بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال السلف والآثار، وفيه مقنع لمن أراد القناعة، لكن مع ذلك يبقى الواقع واقعاً مريراً، فإذا جاء الواحد منا إلى مستشفى، أو إلى مستوصف أو ميدان أو مختبر أو جامعة أو كلية، ووجد فيها من ألوان الاختلاط الشيء الكثير الذي لا قبل له به، فنظل نقلب أيدينا ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، لكن من خلال وجود هؤلاء المتخصصين، الذين نذروا أنفسهم في كل ميدان، واعتبروا أنفسهم مصدقين لكلمة الشرع، نستطيع أن نغير هذا الواقع تغييراً عملياً، فإذا قال عالم الشرع كلمته في تحريم الاختلاط -مثلاً- أو تحريم التبرج والسفور، وجدنا أنه ينبري كوكبة من الأطباء ليقوموا عملياً بفصل تطبيب الرجال عن تطبيب النساء، فهذه كوكبة من الأطباء أفلحت ونجحت في تكوين وإقامة مستشفى خاص بالنساء، طاقم المستشفى من ألفه إلى يائه طاقم نسائي، ويثبت للناس عملياً أن هذا ممكن وليس مستحيلاً، وكيف يكون مستحيلاً في بلاد الإسلام ونحن نعرف أنه في بلاد الغرب أصبح واقعاً عملياً، جامعات مخصصة للنساء، وفنادق مخصصة للنساء، ومستشفيات خاصة للنساء، هذا في أمريكا وبريطانيا وألمانيا، وأخبار تقرءونها في الصحف، فيصدق المتخصص في أي مجالٍ ما يقوله عالم الشرع ويطبقه تطبيقاً عملياً.
وقل مثل ذلك في مجال الاقتصاد فكم يتحدث العالم عن الربا، وخطر الربا، وضرر إقامة الاقتصاد على الربا، وخطر التفاوت الكبير بين الطبقات في توزيع الثروة، ووجوب العدل، وتحريم الظلم، إلى غير ذلك، لكن يبقى الواقع في بعض الأحيان وفي بعض المجالات يبقى الواقع بعيداً عن ذلك، لكن نحتاج مع ذلك إلى من يصدق كلام هذا العالم ويحوله، لأنه ليس صحيحاً أن نتوقع أن العالم الشرعي بيده كل شيء، يكفي في مهمة العالم الشرعي أن يبين لنا هذا الطريق، ثم نحن نسير وراءه، فيبقى دور المتخصص في الاقتصاد، أن يبين من خلال الدراسات والتحاليل والتقارير الواقعية المبنية على أوضاع العالم الغربي، والبنوك وغيرها، والألاعيب الاقتصادية، أن يثبت صدق ما قاله هذا العالم في واقع الناس، وأنه لابد من أن نقيم اقتصادنا على الأسس الإسلامية، وأن نخلصه من لوثة الربا، التي ما كانت في شيءٍ إلا أفسدته.
وكذلك في مجال الاقتصاد أقول: لابد من التوبة النصوح من الإسراف في تحذير الناس، من الحرص على المال، وترغيبهم في الوظائف، فقد أسرفنا كثيراً في تحذير الناس، من الاشتغال بالتجارة، ونسينا (نعم المال الصالح للعبد الصالح) وركزنا على قضية خطورة المال، وأنه قد يكون سبباً لانحراف الإنسان وفساده وظلمه وغفلته وانشغاله عن الدعوة، أسرفنا في ذلك كما أسرفنا في إغراء الناس بأن يتعلقوا بالوظائف، ويركزوا عليها ويغفلوا عما عداها.
وفيما يتعلق -أيضاً- بالاختصاص، ضرورة الاختصاص نلحظ أن كثيراً من الشباب المتدين، أرادوا أن يحطموا خرافة الصراع بين الدين والعلم التي كانت موجودةً في أوروبا، فدخلوا في الكليات وفي الطب وفي الهندسة وفي العلوم وفي كليات تكنولوجيا الحاسب الآلي... إلى آخره، ولكننا بعد ذلك نتساءل: هل نجحنا فعلاً في إقناع الناس بالقضاء على هذه الأسطورة؟
أم فشلنا فوجدنا أننا بعد ذلك نهرب من بعض المجالات وبعض التخصصات؟
تحت عقدة الخوف من الفشل أو الشعور بأننا نسير في طريقٍ مسدود، أو أننا يجب أن نتجه اتجاهاً آخر؟
وأحياناً تقرأ -مثلاً- أن هناك نقابة للأطباء المسلمين، كم عدد أعضاء هذه النقابة ثلاثون ألف -مثلاً- في إحدى الدول، وهؤلاء الثلاثون ألفاً من الأطباء المسلمين ماذا فعلوا لأمة الإسلام؟!
ماذا فعلوا للدعوة؟!
من المؤسف أن تقول الإحصائيات: إنه ما بين (30% إلى 50%) من هؤلاء يعيشون في بلاد الغرب، ومعنى ذلك أن جهودهم وتخصصاتهم وإبداعهم هو يصب في خدمة صحةِ وعافيةِ الكفار، وأن الأمة الإسلامية قد خسرت هذه الطاقات الهائلة الجبارة المتخصصة، هذا جانبٌ فيما يتعلق بالتخصصات العلمية.
جانبٌ آخر في قضية التخصصات العملية، مثلاً: محو الأمية، سواء أمية الحرف، أي: القراءة والكتابة، أم أمية الفكر والعلم، وذلك من خلال محو أمية الناس في عقائدهم بحيث يتعلمون مبادئ العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومحو أمية الناس في معرفة الأحكام الشرعية التي لابد لهم منها، ومحو أمية الناس في تعليمهم مبادئ التفكير الصحيح، وفي بعض الدول تحتفل منذ سنوات بمرور عشرات السنين على نهاية آخر أمي في تلك الدولة، وفي بعض البلاد الإسلامية لا تزال نسبة الأمية فيها تصل أحياناً إلى (80%)، ماذا فعلنا لمحو أمية المسلمين؟!
ما هو المانع من أن ينبري مجموعة من الدعاة، فيذهبوا إلى تعليم المسلمين مبادئ القراءة والكتابة، وقِصار السور، ومبادئ العقيدة الإسلامية في أي مكان؟
ونعتبر أننا بذلك قدمنا خدمة جليلة للدعوة الإسلامية.
وهناك -أيضاً- تخصص عملي آخر، وهو قضية توفير القوت لما يسمونه بالعالم الثالث، بل هناك ما يسمى بالعالم الرابع، أو ما يسمى بحزام البؤس، حيث يموت كثيرٌ من المسلمين من الجوع، في مناطق كثيرة، وأكثر الشعوب التي تموت من الجوع من الأمة المسلمة!! ما هو المانع أن ينبري كوكبةٌ من الدعاة في التخصص في توفير لقمة العيش للمسلمين؟
ومن خلال لقمة العيش نقدم إليهم الدعوة؟
وهل كتب على المسلمين ألا يتخصصوا في توفير الغذاء والكساء، والصحة والتعليم، وأن يتخصص في توفير ذلك المنصرون، وذلك من خلال جهودهم ومؤسساتهم وأموالهم الهائلة، لاشك أننا يجب أن نحطم ذلك، ونبين أن المسلمين يجب أن يكونوا أحق بذلك، وهؤلاء هم إخوانهم، وفي هذا وذاك لابد من الإحسان والنجاح، حتى نضمن للإسلام أرضيةً خصبةً تسيرُ الأحداث بقوة، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} والحديث رواه البيهقي وغيره وسنده حسن، يتقنه ليس فقط من أجل الصنعة، بل يتقنه لوجه الله عز وجل، وليس فقط من أجل أن يأخذ الناس عنه انطباعاً حسناً، أو حتى لا ينفض من حوله المشترون أو الرواد، بل هذه الأهداف تأتي تبعاً، لأن المؤمن الداعية يتعامل مع الله تعالى حين يقوم بصناعة أو تخصص أياً كان هذا التخصص، حتى لو كان تخصصاً دنيوياً.
أحبتي! نحن نتداول ونتناول كلمةً منقولة عن مالك رضي الله عنه وهي قوله: لن يصلح آخر هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها، ولابد أن نحول هذه الكلمة التي آمنا بها الآن، بل آمن بها الناس، وهذه من المكاسب للإسلام والدعوة والصحوة، أنَّ كثيراً من الناس حتى ممن كانوا بالأمس ناصريين أو علمانيين أو يساريين، أصبحوا اليوم على الأقل يعلنون بألسنتهم موافقتهم وقناعتهم، بأن الحل هو في الإسلام، ولذا يجب أن نحول هذه القناعة إلى برنامج علمي وعملي مفصل، وذلك من خلال الجهود والتخصصات السابقة.
أما الخطر الذي يلوح به كثيرٌ من الإخوة في كثيرٍ من الأزمات التي تعرض للأمة الإسلامية، صار للمسلمين -مثلاً- في أفغانستان، سمعنا بأصوات تنادي، وتهدد بفناء واستباحة حوزة الإسلام، إذا استبيحت أفغانستان ومثلاً: الأحداث الجديدة التي نجدها الآن ونعانيها في منطقة الخليج، أصبحنا نجد أصواتاً أخرى أيضاً تنادي وتصرخ، وكأنها تقول: إن الإسلام على وشك أن يستباح، أقول: ينبغي أن ندرك أن بيضة الإسلام لن تستباح بحالٍ من الأحوال، وينبغي أن ندرك أن الوقت الذي كان النبى صلى الله عليه وسلم فيه يرفع يديه إلى السماء، ويقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم} زال وجاء الوقت الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وهم ظاهرون على الناس، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، إلا ما يصيبهم من اللأواء}.
فالإسلام باقٍ وهو دين الله عز وجل، ويجب ألا يدفعنا شدة الخوف على الإسلام، وشدة الحرقة والشعور بالخطر الداهم، إلى أن نتسرع الخطوات ونتجاوز الواقع، ونقفز قفزات؛ فإن الواقع والتاريخ القريب والبعيد لأمة الإسلام، وأقول: إن أكثر ما دمر المسلمين وأضر بهم هو تلك القفزات، والطفرات التي كانوا يريدون أن يواجهوا بها خطراً، نستطيع أن نقول: إنهم كانوا يمكن أن يؤجلوا مواجهته بشكل أو بآخر، وهناك ما هو أكبر منه، ولا يعني هذا أن نقف أمام المخاطر سلبيين، لا، لكن هناك فرقٌ بين أن أعتبر أن كل مهمتي هي أن أواجه خطراً واقعاً يداهمني ويواجهني، حتى أشد جهودي الفكرية والعملية وغيرها، في مواجهة هذا الخطر، وأضع -كما يقول المثل-: البيض كله في سلة واحدة، فمثلاً: بلد من بلاد المسلمين ملتهب، فيه حرب ضارية ضد الإسلام، فنقوم لنعلن لشباب الإسلام أن الجهاد في هذا البلد، أو ذاك فرض عين، أي يجب أن يهاجر كل مسلم قادرٍ لهذا البلد.
إذاً: نحن اعتبرنا أن هناك خطراً واحداً يهددنا وهو خطراً عسكري، ولابد من مواجهته بحسمٍ عسكري، لكننا مع ذلك غفلنا عن مخاطر أخرى، كمخاطر الإعلام المضلل، ففغفلنا عنها، وكذا غفلنا عن مخاطر العلمانيين، ومخاطر المنافقين الذين يتسللون إلى مراكز التأثير والسلطة في جميع البلاد الإسلامية، ومخاطر الحكم بغير ما أنـزل الله، ومخاطر المنكر الذي يفرض نفسه على واقع المسلمين بصورة شعبية ورسميه.. كل ذلك غفلنا عنه، غفلنا عن حرب المنافقين، وعن حرب العلمانيين، وعن حرب المنكرات، وتفطنا إلى حرب الكفار، وليس على كل صعيد، بل حرب الكفار في رقعةٍ محدودةٍ من الزمان، وفي منطقةٍ محدودةٍ من المكان، فهنا نغرق في مشكلة معينة، ونصب كل جهودنا وإمكانياتنا فيها، وبذلك نغفل عما يجب أن يكون، والسبب قد يكون أحياناً هو شدة الحماس، وشدة الخوف على الإسلام، نقول: لا، اطمئنوا، الإسلام دين الله عز وجل، لم يكل الله تعالى حفظ الإسلام وبقاءه إلينا نحن، بل الإسلام محفوظٌ بحفظ الله تعالى، ولكن: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] فنحن حين نناضل دون حوزة الإسلام ودون حماه، ودون المسلمين، فإنما نحاول أن نكون ممن كتب الله تعالى لهم أن يكونوا ضمن أفراد هذه الطائفة المنصورة التي تصاول أعداء الدين في كل ميدان وعلى كل صعيد، أما الدين فهو باقٍ محفوظٌ بحفظ الله تبارك وتعالى له، محفوظٌ حتى يأتي أمر الله، وإذا تخلينا نحن عنه قيض الله عز وجل له غيرنا، كما قال الله عز وجل: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [المائدة:54] ماذا يحصل في حال من يرتد منكم عن دينه؟
أيضيع الدين؟!
أيهلك؟!
أتستباح الحوزة؟!
أتستحل الحرمة؟!
لا، إنما كما يقول تعالى: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] إذاً لا خوف على الإسلام، بل الخوف علينا نحن أن نتخلف عن ركب الإسلام، أو عن القيام بواجباتنا الملقاة على عاتقنا.
الذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، أما الذي يعمل فلابد أن يقع في الخطأ، وقضية نقد الذات، ونقد النفس لابد منها، كم واحداً منا يملك الشجاعة فينتقد نفسه أو ينتقد واقعه أو تاريخه أو ماضيه، وبالتالي يملك أن يراجع مسيرته؟ يراجع الأوراق ثم يصحح الأخطاء، لابد من الرجوع إلى التفسير الشرعي للأحداث، وأحب أن أضرب لكم بعض الأمثلة.
مرت الدعوة الإسلامية في تاريخها القريب بمحنٍ كثيرة في معظم البلاد الإسلامية، ومن خلال هذه المحن زج بالدعاة في غياهب السجون، وعلق جماعة منهم على أعواد المشانق، وشرد منهم من شرد، وأصبحت أحداثهم أحداثاً دامية، يرويها التاريخ في مصر، وفي بلاد الشام، وفي فلسطين، وفي الفلبين، وفي مناطق كثيرة جداً، ولا يكاد يوجد بلد إسلامي إلا وتعرض الدعاة فيه إلى محنة، بل إلى محن، كيف ننظر إلى هذه المحن التي ابتلينا بها، كثيراً ما نخرج من المسئولية بأن نقول: إن هذا ابتلاءٌ وامتحان، وقد وعد الله تعالى من يكون على الطريق الصحيح، أن يبتليه ويمتحنه، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [التوبة:16].. إلى غير ذلك من الآيات، ثم نخرج وكأن المحنة ما هي إلا ابتلاءٌ وتمحيصٌ محض، وليس لنا فيها يد، وهذا جزء من الواقع صحيح لاشك فيه، لكننا غفلنا عن الجزء الآخر المتعلق بمسئوليتنا نحن عن قضية المحنة، قال الله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165] وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن:11] وفي الآية الأخرى قال تعالى: إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] وفي الآية الثالثة قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].
إذاً: المصائب والنكبات العامة التي تنـزل بالأمم وبالدول وبالجماعات وبالطوائف، هذه المصائب لابد لها من أسباب، أما مصيبة الفرد، فقد يكون لها سبب، وقد تكون تمحيصاً كما قال عليه السلام: {أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل} قد يكون تمحيصاً ورفعةً للدرجات، لكن المصائب العامة التي تنـزل بالأمم، لها جانب مسئولية في الأمة نفسها، وفي الطائفة نفسها، وفي الدولة نفسها، فنحن نغفل عن هذا الجانب الذي نحن مسئولون عنه، ونقول: هذا ابتلاءٌ وامتحانٌ من الله تعالى وليس دورنا فيه إلا الصبر، الصبر مطلوب، لكن أيضاً مراجعة الأخطاء، فقد نكون تعجلنا في خطواتٍ كانت سبباً في المصيبة، أو سلكنا طريقاً غير صحيح، أو قصرنا في اتخاذ الأسباب، أو غفلنا عن التوكل على الله عز وجل، وتفويض الأمور إليه، واعتمدنا على أسبابنا ووسائلنا، فوكلنا الله إلى أنفسنا.. إلى غير ذلك من الأسباب التي يمكن أن نستقرئها من خلال دراسة المحنة، ومعرفة دورنا في هذه المحنة.
مثال آخر قلة الأتباع: رأيت كثيراً من الدعاة حين ينظر إلى من حوله فيجد قلةً في من يتبعونه، فيقول: هذه هي السنة، سنة الله تعالى في الأمم، ثم يسرد لك الآيات الواردة في القرآن الكريم، فيقول لك: قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] وقال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] ويستدل لك بقول النبي عليه الصلاة والسلام: {ويأتي النبي وليس معه أحد، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان} ثم يخرج وكأنه حينئذٍ يقول: قلة من يتبعونني في الدعوة ليست لتقصيرٍ عندي، ولكن هذه سنة إلهية، أي ليس لي أي دورٌ فيها، وهنا تأتي الخطورة، وهو أننا قد نجبن عن مواجهة أنفسنا بالحقائق، مع أن هذه الآيات الواردة هنا هي في شأن الكفار، أما هذه الأمة المحمدية فقد ثبت بدلالة الشرع والتاريخ والواقع أيضاً أنها أمة معطاءة، أليس الرسول عليه السلام قال في نفس الحديث، حديث عمران قال: {ثم رفع لي سوادٌ عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر فنظرت فإذا سواد قد سد الأفق، فقيل لي: هذه أمتك، وفيهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب} وفي رواية أخرى قال ابن حجر: سندها حسن: {ومع كل ألف سبعون ألفاً}.. إذاً هذه أمة العطاء وأمة البذل وأمة القبول، وحين يرتفع في هذه الأمة صوتٌ صادقٌ للدعوة، تلتف حوله الأمة ولابد على مدار التاريخ، ولما كانت هذه الأمة في الجاهلية، كانوا في سوق عكاظ والمجنة وذي المجاز، كل شاعرٍ يجتمع حوله عشرة أو عشرون لكن لما قام الرسول عليه الصلاة والسلام بدعوته اجتمع حوله في حجة الوداع -كما ذكر الحاكم أبو عبد الله وغيره- ممن سمعوا خطبته أكثر من مائة وأربعة عشر ألفاً، يستمعون خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، أولُ مرةٍ يجتمع مثل هذا الحشد، ثم ورث هذا السر أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحنا نجد مثلاً الإمام أحمد يحضر مجلس درسه ما يزيد على خمسة آلاف إنسان، هذا مجلس فقه وحديث وسنة، ومجلس وعظه يحضره ما يزيد على خمسة آلاف، ويحضر جنازته ألوف مؤلفة لا يحصيها العد، ثم يأخذ الراية بعده أئمة كُثُر، خذ منهم ابن الجوزي مثلاً كم كان يحضر مجلس وعظه؟ ذكروا أنه كان يقدر بعشرات الألوف، وقد يُسْلم في المجلس الواحد عشرات من أهل الذمة، ويتوب مئات من المؤمنين الضالين، ابن تيمية رحمه الله كيف كانت قلوب الأمة تلتف حوله؟!
إذاً: ليس بصحيحٍ أن نخرج من قلة الأتباع بأن نقول: هذه والله سنة الله تعالى، ونسوق الآيات الواردة في شأن الكفار، وأنهم أكثر أهل الأرض، ثم نطبقها على أنفسنا، لا، فقد تكون قلة الأتباع لهذا الداعية أو ذاك، ترجع إلى أسباب تعود إليه هو، مثلاً قد يكون ذلك لغياب القدوة، لأن هذا الداعية ليس على مستوى القدوة، فيدعو إلى شيءٍ لا يطبقه في نفسه، وقد يكون السبب لأجل قسوة الشروط أحياناً، فالداعية يريد من الناس أن يلتزموا بشروطٍ صعبة لا يقبلها أي إنسان، يريد إنساناً على مستوى معينٍ ذكاء معين، وطاعة معينة، وانقيادٍ معين، واستعدادٍ معين، والناس كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {كإبل مائة لا تجد فيها راحلة}.. إذاً قسوة الشرط قد يكون من أسباب قلة التابع.. إلى غير ذلك.
مثال ثالث: ضعف التأثير من الداعية في الناس، يدعو فيجد أن أثره ضعيف، يرجع يقول: هذا أمر طبيعي.. أليس الرسول عليه السلام لما ذكر الغرباء قال: {من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم} إذاً هذا أمر طبعي ولا غرابة فيه، وينسى أن هذا الأمر قد يكون بسبب ضعف المؤثر، أو ضعف الوسيلة التي يستخدمها في الدعوة، أو عدم القدرة على الوصول إلى نفسية المتلقي وعقله وقلبه وفكره.. إلى غير ذلك.
مثال رابع: قضية المفاجأة بالأحداث والنتائج، نفاجأ بأحداث كثيرة، لعل أحداث الساعة، من الأحداث التي فوجئ بها الجميع، وقبلها أحداث كثيرة وقعت على كافة المستويات، إذا فوجئنا بها نلوذ ونحتج بالقدر، ولاشك أن الله تعالى ذم المشركين على احتجاجهم بالقدر، في ثلاثة مواضع من كتابه، قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148] بل الإنسان المؤمن مسلكه مسلك أبيه آدم عليه السلام، صحيحٌ أنه يؤمن بأن هذا كله بقضاء الله وقدره، لكن لا يمنع هذا أن يكون هناك أسبابٌ أوصلت إلى هذه النتيجة، ويجب العمل على إزالة هذه الأسباب، ولذلك من آمن بالأسباب وعملها، وآمن بالقدر؛ فهو مؤمن موحد على مذهب آدم عليه السلام.. ومن يشابه أباه فما ظلم..!
لابد أن ننازع القدر بالقدر، كما قال بعض أهل العلم: ننازع الجهل بالعلم، والفقر بالمال، والمرض بالعلاج، والفوضى بالتخطيط، والتعتيم ننازعه بالمكاشفة والتعبئة، ولابد من تحديد المسئولية بدقة، كلنا مسئولون -لاشك- عما يقع لنا على مستوى الأمة، لكن درجة المسئولية تتفاوت، فليست مسئولية الفرد العادي كمسئولية العالم، أو كمسئولية الحاكم، أو كمسئولية المفكر، بل كل إنسان يتحمل من المسئولية بقدر طاقته.
أما تحميل المسئولية لجهةٍ معينة، كالحكام أو العلماء، فهذا أيضاً من المهارب النفسية التي نلجأ إليها للخروج من أزمة معينة، ونطلع نحن أبرياء، وقد نحتج بالحديث الضعيف الذي رواه أبو نعيم: {صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء} وهذا الحديث لا يصح سنداً ولا متناً، وبناء على تحديد المسئولية، نكون جميعاً مطالبين بالعمل على الخروج من الأزمة، كل في مجال اختصاصه، كل متخصصٍ في مجالٍ يقدم ورقة، ويرفع راية، ويخط طريقاً، ويجر وراءه من يستطيع.
فحين ندرك أننا لم ننتصر في معركة عسكرية، نرجع فنقول: إن الله تعالى علق النصر على أمر مستقبلي، ينصر الله عز وجل من؟
الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وما يدريك أنك إن مكنت أقمت الصلاة وآتيت الزكاة؟!
قد يكون من بين المؤمنين من لو مكن لنكص على عقبيه، فنحتاج حينئذٍ إلى أن ننصر الله تعالى في واقعنا الفردي والاجتماعي على كافة الأصعدة، وبصورة عمليةٍ صحيحة جادةٍ ومستمرة، وألا نتوقع أن نحصل للإسلام على نصر هينٍ رخيص، يتحقق من خلال معركةٍ نخوضها، ثم نستلم الراية ونبدأ الفتح، فهذا تصور فيه قُربٌ وبساطة، ولا يتناسب مع خط سير الأحداث، أقول هذا القول، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: أعتقد أنه ليس من الواقع الآن أن المسلمين يميلون إلى التفسير المادي، بل في الواقع الآن -وهو الذي ألحظه- أن المؤمنين يميلون إلى التفسير العاطفي، فالعاطفة تتلاعب فينا بشكلٍ كبير، في حبنا وبغضنا وتفسيرنا للأحداث، إن أحببنا شخصياً رفعناه إلى القمة، وإن أبغضناه أو كرهناه أنـزلناه إلى الحضيض، لا نعرف أنصاف الحلول، أي إن أبغضنا أسرفنا، وإن أحببنا أسرفنا، خلافاً لما جاء عن علي رضي الله عنه: [[أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] وإن أردنا أن نحلل الأحداث، تجدنا نميل أحياناً إلى النظرة الأحادية، تفسير الأحداث بإرجاعها إلى سبب واحد فقط، وهذا خطأ؛ لأن كثيراً من الأحداث تشترك فيها أسبابٌ عديدة، ونميل أحياناً في تفسير الأحداث إلى تبسيط الحدث، فنقول: القضية سهلة وبسيطة، ونهون الموضوع بحيث لا يحتاج إلى تفكير، أو نضخم الأمر حتى نجعله فوق مستوى التفكير، وأنه يصعب التفكير فيه.
المهم أننا نريد أن نتخلص من التفكير السليم المنطقي في الحدث، فنحن بين أمرين: إما أن نقول: إن الحدث صعب، بحيث أننا لا نفكر فيه، أو سهلٌ جداً بحيث أنه لا يستحق التفكير، وهذا يذكرني بالنكتة التي تنسب إلى جحا يقولون: إنه قام يوماً خطيباً، فقال: أيها الناس! هل تدرون ماذا أريد أن أقول؟ قالوا: الله أعلم، قال: إذاً لا فائدة أن أخبركم، فنـزل، فاتفق الناس إن صعد المنبر على أن يقولوا: نعم نعلم، فلما صعد مرة أخرى، قال: أيها الناس! هل تدرون ماذا أريد أن أقول؟
قالوا: نعم، قال: إذاً لا فائدة في أن أخبركم، ما دمتم تدرون فلا داعي أن أخبركم، ثم نـزل، وفي المرة الثالثة اتفق الناس أن يقول بعضهم: نعم، وبعضهم: لا، فلما صعد المنبر قال: أتدرون ماذا أريد أن أقول؟
قال بعضهم: نعم، وقال بعضهم: لا، فقال: من يعلم يخبر من لا يعلم، ثم استغفر ونـزل!
وقصدي من وراء هذا أن أقول: إن كثيراً من المسلمين يميلون إلى تبسيط الموضوع، أي أن عندنا -مثلاً- مشكلة نعانيها، فأحياناً نبسط المشكلة حتى تظهر بأنها مشكلة ما تحتاج إلى تفكير لأنها سهلة، فإذا جاء واحد وبين المشكلة، وأبعادها، وجذورها وما أشبه ذلك؛ قلنا: إذاً القضية خطيرة، هذه ما يمكن يبت فيها شخص، بل تحتاج إلى جهود ومؤتمرات وأحلنا القضية على مجهول حتى نتجنب التفكير فيها، وفي كل الصورتين كأننا لا نريد أن نكلف أنفسنا عناء التفكير في المشكلات، ومواجهة المشكلات بشكل صريح، ثم العمل على دفعها وحلها، وهناك طائفة من المسلمين لا شك قد يفكرون في الأسباب المادية، ويغفلون عن القضايا الشرعية، والتوكل على الله عز وجل، وهذا أيضاً خطأٌ آخر، فالعدل مطلوب.
الجواب: في الواقع أن هذا حديثُ أكثر الخطباء في حدود ما أعلم، وأقول: ينبغي حين نتحدث ألا نتحدث وكأن شعباً آخر أصيب، فالمصيبة للمسلمين جميعاً، وليست مصيبة شعبٍ معين، والذنوب قاسم مشترك فينا وفيهم، فالأمر من بعضه، ولكن هذا لا يمنع أن يكون في ذلك تنبيهاً لنا ولهم في ضرورة الإسراع بالتوبة إلى الله عز وجل، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، والإقبال على الله تعالى بالصدق في كل أمر.
الجواب: أما على المستوى القريب، فالذي يبدو أن الأحداث سوف تكون ضارة بالصحوة الإسلامية، من وجوه:-
أولها: أننا نعلم أن المناطق التي أصيبت - منطقة الخليج بشكل عام- هي من المناطق التي عرفت بأنها ذات جهد كبير في دعم المشاريع الإسلامية العالمية، في مشارق الأرض ومغاربها، وحيثما تجولت في بلاد الدنيا، فرأيت مدرسة أو مشروعاً أو مؤسسة أو معهداً أو مسجداً، لوجدت أن بصمات وأصابع الخيرين من أهل الخليج موجودةٌ فيه، وهذا لاشك سيتأثر بالأحداث تأثيراً سلبياً كبيراً.
من جهة أخرى: فإننا نجد أن هذه الأحداث اكتسحت في غمرتها مجموعة غير قليلة من الإسلاميين الذين انخدعوا بالعبارات البراقة الرنانة، وفي غمرة العاطفة المشبوبة، نسوا أحداث الماضي القريب، فبالأمس جاءت ثورة إيران، فوجدنا أن جماعة غير قليلة من دعاة الإسلام -دعك من رجل الشارع- قد انساقوا بغفلةٍ وراء هذه الدعوة الباطنية المشبوهة، وصدقوا شعاراتها الكاذبة وحلفوا لها يمين الولاء، ونفخوا في بوقها، وكتبوا لها الكتب، ودعموها حتى تكشفت الأحداث، فرجعوا عما كانوا يعتقدون بخيبة أمل، واليوم يتكرر الخطأ، فالذين وقفوا بالأمس ضد العراق في حربه مع إيران، هاهم اليوم نجد منهم طوائف في عدد من البلاد الإسلامية، يقفون إلى جانب العراق، ويقومون ببعض المظاهرات الصاخبة إلى جانبه، وينسون بذلك جرائم العراق الكبيرة ضد أهل السنة في العراق، وضد الأكراد وهم أيضاً من أهل السنة في حادثة حلابجة، التي قتل فيها ما يقارب -حسب ما ذكرت بعض المصادر الإعلامية- عشرين ألفاً بأسلحة كيماوية، ودمرت تدميراً وقضي على الدعوة الإسلامية، بل ونسوا حتى مواقفهم السابقة، ضد هذا الطاغية المتجبر، فانطلقوا وراءه، وقد يقف آخرون في مقابل ومواجهة هذا التيار، فقد تتواجه سيوف المسلمين، أو سيوف شباب الصحوة الإسلامية، وقد يقوم الدعاة إلى الله تعالى في أكثر من مكان وسط غيبة الوعي بحرب بالوكالة عن غيرهم، حرب من حروب الوكالة، هم الخاسرون فيها بكل حال، وسواءً انتهت الحرب بالنصر أم بالهزيمة، فإنهم في الحالين ليس لهم من الأمر شيء، إنما يستعان بهم في مثل هذه الأحداث إذا اهتزت الأمور، واضطربت واحتيج إليهم، صرخ بأنصاره يناديهم إلى جهاد مقدس، أو إلى قتالٍ أو ما أشبه ذلك، فاستفز عواطفهم واستثارهم فاستخفهم فأطاعوه.
فعلى المدى القريب لاشك أن هناك ضرراً يلحق بالصحوة، أما على المدى البعيد، فإن المؤمن ينبغي أن يكون متفائلاً على الدوام، ويعجبني الفأل، فنحن نتفاءل ونقول: هزيمة (1967م) كانت شرارة انطلقت بعدها الصحوة بشكل واسع متنامٍ، وامتدت امتداداً أفقياً عريضاً، وشملت قطاعات كبيرة، وأظن أن الصحوة الإسلامية حتى تمتد امتداداً رأسياً، أي امتداد عمقٍ وفهمٍ وعلمٍ ومشاركة وإيجابية وإدراك ووعي وتعقل، تحتاج إلى أحداثٍ مماثلة، تنصهر في بوتقتها، وتصحح مسيرتها، وتهزها بشدة حتى تجعلها تعي واقعها، فالمؤمن يتفاءل بمثل هذه الأحداث، ولو على المدى البعيد، وهذا قد يظهر ولو بعد سنين، قد لا يستطيع الإنسان أن يتنبأ بتحديدها.
الجواب:كما أسلفت إجمالاً في المحاضرة، دور كل متخصص أن يجاهد في ميدانه -هذا هو الأصل- ولذلك مثلاً قد تحدث حالات تحتاج الطبيب أن يقيم درساً في الحديث أو في السيرة في المسجد، وهذا قد يحدث، لكن ليس هو الأصل، الأصل أن الطبيب يتعبد من خلال القيام بشريعة الله في اختصاصه، في محاولة تصحيح أبدان المسلمين، فنحتاج إلى الصحة والعافية في بدن المسلم، حتى المسلم الضعيف، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يكون قوياً في دينه وإيمانه ومجاهداً في سبيل الله عز وجل، فضلاً عن تحقيق الإسلام من خلال المؤسسات، والمجالات والوسائل، فضلاً عن تصديق كلمة العالم الشرعي -كما أسلفت- وكلٌ في اختصاصه، يمكن أن يقال فيه ما قيل في مجال الطب.
الجواب: هذا فيه جزء من الصواب، لكن كم عندنا في الأمة من ابن المبارك؟
وكم عندنا في الأمة من مثل الشافعي؟
فمن الصعب أن نفترض في كل إنسان أنه ذو كفاءات متكاملة، فالطبيب الذي ينهمك في طبه، يصعب أن يكون متخصصاً في الحديث، حتى يعرف الأسانيد، والمتون، والرجال، والجرح والتعديل، والشذوذ والعلة القادحة، ويتكلم في الرجال والأسانيد، حتى كأنه كما ذكر السائل ابن المبارك، أو يحي بن معين في مجلس درسه، يصعب هذا، كما أن المتخصص في العلم الشرعي والحديث والفقه، يصعب أن يتحدث في القضايا الطبية، كما لو كان طبيباً متخصصاً، هذا معروف، فالتخصص لابد منه، لكن التخصص لا يعني أن الطبيب أصبح أمياً في مجال الشرعيات، لا فعنده علم أولاً: بفروض الكفاية، ومعرفة بالعقيدة الصحيحة، لابد من هذا، وعنده معرفة بالأحكام الشرعية التي يحتاج إليها، كأحكام الطهارة والوضوء والصلاة، والزكاة إن كان ذا مال وما أشبه ذلك، ومعرفة أحكام المعاشرة الزوجية.
المهم الأحكام التي هي فرض عين على أن يعرفها.
ثانياً: أن يكون عنده معرفة ببعض الأحكام التي تخصه في مجال عمله، بعد ذلك لاشك أنه يحتاج إلى العالم الشرعي، والعالم الشرعي أيضاً قد يحتاج إليه، فإن العالم الشرعي قد يقدم له استفتاء في موضوع طبي، وهو لا يفهم المصطلحات الموجودة، أو في موضوع اقتصادي، لا يدري ما معنى هذه المصطلحات الموجودة في السؤال، يحتاج إلى متخصص يأتي ويشرح له، ويبين له أبعاد الموضوع، ولذلك من أهم شروط المفتي العلم بالنازلة أولاً.
ثانياً: العلم بحكم الله تعالى فيها، فإذا لم يتصور المفتي الواقع من جميع جوانبه وأبعاده تصوراً صحيحاً، ويدرك ما وراءها، ويعرف حقيقتها، فقد يأتي حكمه ناقصاً أو مقتصراً، لأنه حكم حكماً سطحياً، وكم من إنسانٍ يقول: والله الأمر كذا، فإذا بين له الأمر تغير حكمه، قال: لا، إذا كان كذلك تغيرت المسألة.
الجواب: الصحوة الإسلامية محتاجة إلى الجميع بلا شك، وقد يكون من الصعب في مثل هذا الوقت أن أحدد حاجتها أكثر إلى العلم الشرعي، أو حاجتها أكثر إلى العلم التجريبي، لكن لاشك أن التخصصات كثيرة -كما أسلفت- فحين نقول: العلوم التجريبية أو الطبيعية مثلاً، أو الإنسانية هذا يدخل تحته علومٌ كثيرة جداً، كالطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والعلوم الإنسانية، كالتربية، وعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها، بل كل تخصصٍ فيه شعب نحتاج إلى متخصصين فيه، ولذلك نحتاج في الواقع إلى جيوش جرارة في مثل هذه التخصصات.
كما نحتاج بلا شك إلى العالم الشرعي الذي يواكب مثل ذلك، وفيما يتعلق بالعلم الشرعي، أعتقد أننا ما زلنا نحتاج إلى الكثير لكن ليس عدداً بقدر ما نحتاج إلى نوعية في مجال التخصص الشرعي، فلسنا نحتاج الآن كثافة العدد بقدر ما نحتاج جودة النوعية، ولو أن يتخصص وينبري للعلوم الشرعية آحاد من الناس، لكن يكونون ذوي كفاءات عالية، عقليات قوية، تفكير سليم، قدرات، حفظ، قوة، بحيث أنهم يسدون الفراغ الموجود، لأننا بحاجة إلى الاجتهاد في جميع المجالات، فالآن الطبيب يواجه مئات بل ألوف الإحراجات الشرعية، ويأتي ويضعها بين يديك، هات الحل؟
والمتخصص في الاقتصاد يأتي بمشاكله يضعها بين يديك، والعسكري كذلك، والمتخصص في كل فنٍ يأتي بهذه الإشكالات الجديدة الحادثة، ويضعها بين يديك، فنحن نحتاج في الواقع إلى عقليات قوية، أكثر مما نحتاج إلى عدد، كما أننا نحتاج إلى أمرٍ آخر في مجال التخصص الشرعي، وهو ما يمكن أن يسمى بالاجتهاد الجماعي، من خلال المؤسسات، كالمجمعات، والمجالس الفقهية، ونحوها التي تخرج برأي مدروس، بعد بحث ومناقشة، يشترك فيه أفراد متعددون، وتشترك فيه عقول مختلفة.
الجواب: المواثيق الدولية أولاً: هي حبر على ورق تستخدم عند الحاجة، فالذين صنعوا هذه المواثيق من الكفار يفعلون ما يشاءون، ويسرحون كيف شاءوا، وأعمالهم سواء في بلاد الإسلام أو في غيرها معروفة؛ لم تمنع المواثيق الدولية مثلاً روسيا من أن تكتسح أفغانستان، ولم تمنع أمريكا من ضرب عدد من البلاد الإسلامية، ولكنها تستخدم عند الحاجة في نطاق ضيق، وفي مجال الدول الصغيرة، التي تدور في فلك الدول الكبرى، هذا من جانب.
ثانياً: أنه بغض النظر عن المواثيق الدولية الموجودة حالياً والمنبثقة عن هيئة الأمم، ومنظمات حقوق الإنسان وغير ذلك، بشكل عام في أي زمان ومكان، وعندنا أمةٌ مسلمة وعندنا دولةٌ مسلمة، إلى أي حدٍ يسعها الالتزام بهذه المواثيق؟
أقول: هذه المواثيق يسع المسلمين أن يلتزموا بها في حدود ما لا يتعارض مع الأصول والقواعد الشرعية، ليس صحيحاً أن يلتزم المسلمون مثلاً في أي زمان أو مكان، بالمواثيق وهي تمنعهم من القيام بواجب الجهاد في سبيل الله، فالجهاد واجب، ولا يمكن أن يبطله أحد كائناً من كان، وأي ميثاق يبطل الجهاد فهو باطل، ولا يمكن أن يلتزم به المسلمون في حال من الأحوال.
وأيضاً لا يمكن أن يلتزم المسلم بمواثيق تساوي المسلم بالكافر، وتجعلهما على حد سواء في أمر من الأمور، لا يمكن أن يلتزم المسلم بمواثيق تجعل الولاء والبراء منعدماً بين المسلم والكافر أيضاً، لا يمكن أن يلتزم المسلم بمواثيق تلزمه أن يحكم بالطاغوت، ويحكم بغير ما أنـزل الله، في أموال الناس ودمائهم، وأعراضهم، وفروجهم، كل هذا لا يلتزم به المسلم على أي حال؛ لكن إذا وجدت مواثيق فيها مصلحة للمسلمين، وليس فيها ما يعارض، الذي يظهر أنه لا مانع أن يقر هذه المواثيق المسلم، ويوافق عليها إذا كان فيها خير ومصلحة للإسلام، ونفع له ونشر للدعوة، ما الذي يمنع من ذلك؟!
أرجو الإفادة..!
الجواب:قضية الولاء والبراء أولاً: هي جزءٌ من العقيدة الإسلامية بشكلٍ عام، ولا شك أن العقيدة إذا ضعفت في قلوب الناس، والذي يبرز ضعفها هو الواقع والأحداث المتجددة، فكثير من الناس يخيل إليه أنه مؤمن متمسك، فإذا نـزلت المصائب بانت الحقائق، فأما المؤمن فإنه إذا رأى الأحداث قال: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22] أما المنافق فيقول: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب:12].
التوكل مثلاً كجزء من العقيدة الإسلامية، فقد يخيل أنه متوكل، وقد يقول: توكلنا على الله، بكرةً وعشية؛ لكن إذا جاءت الأحداث، تغيرت قناعته، واهتز توكله، وأصبح قلبه نهباً للخواطر والمشاعر، والإذاعات والإشاعات؛ ويتخذ الأسباب الممكنة، ويسعى إلى الأسباب غير الممكنة، وكأنه مضبوع مسبوع، يركض بلا عقل، قد فقدَ توازنه وثقته واطمئنانه، نحن لا ننكر فعل الأسباب، لكن فرق بين من يفعل الأسباب وقلبه مطمئن واثق، وبين من يركض يسرةً ويمنةً ولا يدري بأي شيء يبدأ، وقلبه قد انهار وتأثر من حدثٍ معين، هذا مثال.
وهكذا مثال الولاء والبراء: الكلام نفسه، قد يقول إنسان مادام في حالة الرخاء والأمن وعدم الحاجة: لست بحاجة إلى هذا يمكن الكافر، وأنا في غنى؛ لكن إذا احتاج إليه في أمر من الأمور ضعف هذا التوكل، وأصبح يقول: هذا أستفيد منه، هذا كذا، وكما قال تعالى: نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ [الزمر:8] والأحداث هي التي تبين عن معادن الرجال، وصدق إيمانهم، أو عدم صدقهم، أما السبيل فلا شك أن السبل كثيرة، من أهمها الكلمة التي بعث بها الأنبياء والمرسلون، أن نبين هذا للناس ونجليه من خلال الخطب، والمحاضرات، والدروس، والمجالس، لأن الناس يحتاجون إلى تثبيت، ويحتاجون إلى دعم، ويحتاجون إلى تصحيح مواقفهم، وإذا لم يقم بذلك الداعية والعالم والخطيب، فمن يقوم به؟!
الجواب: لعله فاتني أن أشير إلى هذا المؤتمر أثناء المحاضرة، لأنني سمعت خبره في حينه، أما قضية تقييم أو تقويم المؤتمر فهذا يعتمد على قراءة الأوراق التي قدمت للمؤتمر، ومع الأسف لم تصل إلي بحيث أستطيع أن أقومها، وذلك أن الكلام على المستقبل، كالكلام عن الواقع وكالكلام عن أية قضية، قد يأخذ أكثر من منحنى، فقد يعالجه الإنسان بصورة صحيحة وسليمة، وقد يعالجه بصورة بعيدة، فبعض الناس قد يعالجون المستقبل من خلال تصحيح الأوضاع، وهي على الأقل في وجهة نظري قد تكون صحيحة، ومع ذلك يرون تصحيحها، الكلام على المؤتمر سلباً أو إيجاباً يفتقر إلى اطلاعي إلى ما جرى فيه، ولم يَتَسَنَّ لي شيء من ذلك، أما قضية الغياب، فهذا الغياب المسئول عنه الذين ينظمون مثل هذه الأعمال، فإنهم حينما يوجهون الدعوة إلى مجموعات طلبة العلم أو المتخصصين أو المهتمين، فأعتقد أنهم لا بد أن يظفروا ولو ببعض هؤلاء.
الجواب:دائماً الأحكام التعميمية لا تخلو من خطأ، فالقول بأن الصحوة عاطفية ليست علمية، عمومٌ ليس بصحيح، وكيف تكون الصحوة ليست علمية، ونحن نرى أن شباب الصحوة قد ملئوا المساجد، وعمروا حلق الذكر ومجالس الدرس، وأقبلوا على طلب العلم إقبالاً منقطع النظير، فأحيوا مجالس الذكر بعد اندراسها، وبدأنا نجد الشباب يهتمون بالبحث، والقراءة، والاطلاع، ويلتفون حول العلماء بشكل جيد ومشجع، فالواقع أن الصحوة لها جانب علميٌ كبير، هذا من الناحية الشرعية، أما من الناحية الاختصاصية، فلا شك أن البوادر طيبة، ويكفي أننا نعلم جميعاً ويعلم غيرنا أن الأكثرية في الكليات العلمية كالطب والهندسة في غالب الجامعات الإسلامية هم ملتزمون متدينون، وهذه ظاهرة لاشك مشجعة، أما قضية العاطفة، فلا شك أن هناك جانباً عاطفياً في الصحوة الإسلامية، وهذا الجانب العاطفي ليس مذموماً بكل حال، فالعاطفة مطلوبة، والإنسان الذي ليس عنده عاطفة إنسان جامد، لأن الإنسان لا يعيش فقط بالفكر وحده، الإنسان يحتاج إلى عاطفة حية، بل إنني أقول: إن العاطفة أمر لا بد منها، ونحتاج إلى قدر من العواطف أكثر مما نحتاج إلى قدر من التفكير، لأن التفكير يخاطب مجموعةً من الناس، أنت حينما تتكلم في موضوع يتعلق بالفكر، يستمع إليك مائة، لكن حين تتكلم في قضية عاطفية، يستمع إليك ألوف، ويسمعون إليك بقلوبهم، ويتجاوبون معك بشكلٍ جيد وقوي، والإسلام والدعوة الإسلامية بأمس الحاجة إلى مثل هؤلاء، لكن نحن أيضاً كما أننا بحاجة إلى العاطفة، بحاجة إلى التفكير السليم والنظر البعيد، وبحاجة إلى أن نضع العاطفة في موضعها، فلا تسيرنا العاطفة نحو الأحداث، فهذا هو الأمر الخطير أن نجعل العاطفة هي التي تحرك أعمالنا وتصرفاتنا، فنندفع لأننا مثلاً نملك تضحية، ولا نفكر بشكل جيد، فنندفع هنا وهناك، ونحن مستعدون للقتال والتضحية وأن نستشهد في سبيل الله، ونريق دماءنا بكل يسر وسهولة، والواحد يركض ويقول: هبي يا رياح الجنة، إني لأجد ريح الجنة من دون كذا وكذا، لكن أن نفكر جيداً قبل أن نضحي هذا الذي يحتاج إليه، نحتاج إلى أن نجعل الفكر يقود العاطفة، وليس العكس.
الجواب: ليس هذا من التشاؤم، لكن ينبغي مع ذلك أن يكون مع الإنسان روح التفاؤل، والبشارة للناس، ينبغي أن يثبت الناس، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة الأحزاب حينما ادلهمت الخطوب وأحاط الأحزاب بـالمدينة من كل جانب، قال تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:11] ومع ذلك لما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بالمعول خرجت النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أُريت فيها قصور بصرى، وفتحت لي كنوز كسرى وقيصر، فبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر، من خلال اشتداد الأحداث:
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج |
فحين نتحدث عن الأحداث وضراوتها وقسوتها ينبغي ألا نيئس الناس أو نقنطهم، أو نجعلهم يصلون إلى طريق مسدود، لا، بل ينبغي أن نغرس في قلوبهم الثقة بالله عز وجل، وأن المستقبل للإسلام، والسكنية، والطمأنينة، وأن نبين أنه كلما ادلهم الظلام كان هذا دليلاً على قرب انبلاج الفجر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر