وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم من كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب بالجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى أنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم.
وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم.
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور؟
ثم القدر الذي ينكر من فعلهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح.
ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل؛ علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله].
من أصول أهل السنة سلامة قلوبهم وألسنتهم لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى سلامة القلوب ألا يكون في قلوبهم غل أو حسد أو حقد على أحد منهم، أو أن يكون في قلوبهم عقيدة بأنهم قد بدلوا أو غيروا، أو أنهم قصروا فيما أمروا به، أو أن غيرهم خير منهم من هذه الأمة، فيجب أن يكون قلب المسلم سليماً لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما سلامة الألسن فيجب أن يكون اللسان سالماً من ثلبهم وذكر ما فيه شيء من معائبهم، فإن ذكروا فيذكرون بالثناء والاستغفار لهم والدعاء لهم، كما أمر الله جل وعلا بذلك في قوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، وهذه عقيدة أهل السنة في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الإعراض عما حدث بينهم من الخلاف، وما حدث من القتال؛ لأن الذي يشتغل به لابد أن يقع في شيء مما هو خلاف الواجب من عقيدة أو قول؛ فلهذا من مذهب أهل السنة أن يعرضوا عن ذلك؛ لأنها أمور وقعت وانتهت، وأقل ما يقال فيها: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134].
ولكن الناس في هذا أقسام، وذكر المؤلف عقيدة أهل السنة، وأنهم يتبرءون من الذين يخالفون أهل السنة في هذا النهج، وهم ما بين مُفْرط أو مُفَرط.
وقوله: الذين يبغضون الصحابة، جعل هذا وصفهم، فوصف الروافض أنهم يبغضون الصحابة، فكل من أبغض الصحابة فهو منهم، سواء كان بالعموم أو بالخصوص، وسبق أن أفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، ثم بقية العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة على هذا الترتيب، هذا هو مذهب أهل السنة في بيان مراتب فضلهم.
وسبق أن من العلماء من قال: إن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم في الجنة؛ لقول الله جل وعلا: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء:95].
أما الخصوص فقد جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وثبت في سنن أبي داود والترمذي ومسند الإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، واستثنى صاحب الجمل الأحمر فقال: (إلا صاحب الجمل الأحمر)، وصاحب الجمل الأحمر هو الجد بن قيس ، وكان منافقاً، وبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبايع الصحابة كان مختفياً تحت جمله حتى لا يبايع، فلم يبايع.
فالرافضة هم الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، والبغض والسب من سماتهم وأوصافهم.
فكل من كان مبغضاً للصحابة أو ساباً لهم فإنه رافضي، وفرق بين الرافضي وبين الشيعي، فالشيعة القدامى لم يخرجوا عن أهل السنة، وهم الذين اختلفوا في أيهما أفضل: علي أو عثمان ، فقدموا علياً على عثمان ، أما أبو بكر وعمر فلم يختلف الشيعة القدامى الذين هم شيعة علي رضي الله عنه في تقديمهما؛ ولهذا لما كلم شريك بن عبد الله في هذا -وكان من الشيعة- قيل له: تقدم أبا بكر وعمر على علي وأنت من شيعته؟ قال: من لم يقدمهما عليه فليس بشيعي، وقد سمعناه مراراً وتكراراً يقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ، والله ما كذب ولا كان أهلاً للكذب.
أما الرفض فإنه كان بعد ذلك حينما خرج زيد بن علي على هشام بن عبد الملك ، وتبعه جماعات كثيرة من الشيعة، فسألوه وقالوا: ما قولك في أبي بكر وعمر ؟ فقال: هما وزيرا جدي، وترضى عنهما، فعند ذلك تركوه ورفضوه، فقال: رفضتموني، فسموا الرافضة من ذلك الوقت، وأتباعه سموا الزيدية.
القسم الأول: المروانية، وهم الذين نصبوا العداء لأهل البيت، وسبق أن أهل البيت يجب توليهم ومحبتهم وإكرامهم وتقديمهم؛ إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل البيت هم بنو العباس، وبنو علي، وبنو عقيل، وبنو الحارث بن عبد المطلب، وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبناته؛ فهؤلاء هم أهل البيت الذين وصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء النواصب ينصبون العداء لهؤلاء، ولكن نصبهم العداء لهم لأمر سياسي؛ لأنهم يريدون الدنيا، يريدون المناصب، ويريدون الإمارة، وقد انقرضت هذه الطائفة ولا وجود لها.
القسم الثاني: الخوارج، فإنهم عادوا علياً رضي الله عنه وأهل بيته، ونصبوا لهم العداء، بل وكفروهم، عكس ما فعلته الرافضة، وكلا الطائفتين يتبرأ منها أهل السنة، ويرون أنهم ضلوا، وأن الواجب تولي الصحابة عموماً، وأن يعرف حق أهل البيت، وأن يقدموا لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز أن يؤذون لا بكلام ولا بفعل، فمن فعل شيئاً من ذلك فهو من النواصب.
قسم كثير جداً كذب صرف لم يحدث، وإنما يرويه الكذابون مثل أبي مخنف وهشام بن محمد الكلبي وغيرهما من الكذابين الذين لا يجوز أن يشتغل بما رووه وكتبوه؛ لأنهم عرفوا بالكذب، وعندهم من الحقد والبغض لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدعوهم إلى الكذب، وهذا كثير جداً، والكذبة في هذا كثير.
وقسم زيد فيه ما غيره وجعله على غير وجهه.
وقسم ثالث نقص منه مما جعله متغيراً عما وقع.
والصحيح من ذلك نزر يسير، وهم معذورون فيه؛ لأنهم مجتهدون، إما لهم أجران أجر الاجتهاد والإصابة أو لهم أجر واحد، والخطأ مغفور، هذا هو مذهب أهل السنة في الأمور التي وقعت بين الصحابة، فلا يخلو أحد منهم أن يكون له أجران: أجر الإصابة والاجتهاد لأنه مجتهد، أو له أجر واحد والخطأ مغفور؛ لأنه مجتهد.
قال: (وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم).
قوله: أن كل واحد منهم معصوم يعني: أن جميعهم معصومون أن يخطئوا أو يبدلوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو يغيروه، ولكن العصمة ليست لكل واحد، وإنما هي بمجموعهم، وإلا فيجوز على أحدهم أن يقع في الذنوب من الكبائر والصغائر، ولكن يوفقه الله جل وعلا للتوبة.
وقد علمت حالة الصحابة رضوان الله عليهم، فأهل السنة يؤمنون بقول الله جل وعلا: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، فأفضل المصطفين الذين أورثوا الكتاب هم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر مقطوع به بلا تردد ولا شك، وإذا علم أن الناس كلهم محل للخطايا وللذنوب، وأنه ليس أحد من الناس معصوماً من ذنب سواء كان صغيراً أو كبيراً؛ فالصحابة كذلك، ولكن لم يقع منهم ما يعتقده الضلال من الكفر والانحراف والردة والبهت والكذب والجحود والكتمان وغير ذلك مما يدعيه أهل الافتراء الذين يفترون على الله، ولا يصدقون كتاب الله، ولا يؤمنون به؛ لأن الله جل وعلا أثنى عليهم في آيات كثيرة، والله جل وعلا علام الغيوب لا يخفى عليه شيء، ومن المستحيل الممتنع أن يثني الله جل وعلا على قوم يعلم أنهم سوف يرتدون ويكفرون، هذا لا يجوز أن يكون، فثناء الله جل وعلا عليهم دليل على ثبوتهم على الحق إلى أن يلقوه.
أما العصمة فهي للأنبياء فقط، وأهل السنة متفقون على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغون عن الله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : واختلف أهل السنة هل يجوز أن يلقي الشيطان في شيء مما يبلغونه عن الله ثم ينسخ الله جل وعلا ما يلقيه الشيطان ويحكم آياته؛ ليكون في ذلك فتنة لمن في قلبه مرض ولمن قلبه قاس؟
يقول: والصواب وقوع ذلك لدلالة القرآن على هذا، ولكن في النهاية ينسخ هذا، ويحكم الله جل وعلا آياته. فالنتيجة أن العصمة ثابتة لهم فيما يبلغونه، أما في أنفسهم فيجوز أن يقع منهم بعض الذنوب الصغيرة، ولكن الله لا يقرهم عليها، بل يتوبون، وتكون حالتهم بعد الذنب أحسن منها قبله.
وقد ثبت بقول الرسول صلى الله عليه وسلم إنهم خير القرون، والقرون: جمع قرن، والقرن: هو الطائفة من الزمن إذا اجتمع فيه الناس على شيء من إمام أو دين حتى تنقرض هذه الطائفة وتنتهي، وهل هو محدد بسنين معينة أو بلا تحديد؟
الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الصحابة قرناً، والذين بعدهم قرناً، ومن بعدهم قرناً، فليس ذلك محدداً، ولكن حدده بعض العلماء تقريباً بمائة سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للصحابة يوماً من الأيام: (أرأيتم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض نفس منفوسة)، يعني: أن نهاية الناس الموجودين في مائة سنة، والصواب أن القرن عبارة عن اجتماع قوم على إمام ودين يجتمعون عليه، ثم تنتهي هذه الجماعة.
وخير القرون قرن الصحابة الذي عاشوا فيه، ثم أتباعهم يلونهم في الخيرية، ثم الذين يلونهم، وقد عرفنا أن ثم تأتي للترتيب مع التراخي، ثم بعد ذلك -أي: بعد أتباع التابعين- يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته، يقولون ما لا يفعلون، ويعملون ما لا يؤمرون. وأخبر أن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم وهذا عام، وقد قيل: هذا فيمن أسلم بعد الفتح فكيف بمن يأتي بعد الصحابة؟
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه وأتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر عنه به، فهذه الأمور من أسباب مغفرة الذنب المحقق، وقد ذكر المؤلف في منهاج السنة عشرة أمور من أسباب مغفرة الذنب المحقق هذه بعضها، ومنها: الحسنات العظيمة التي تكون الذنوب مغمورة فيها، ومعلوم أن حسنات الصحابة رضوان الله عليهم أفضل من غيرهم.
ومنها: التوبة فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه.
ومنها: المصائب التي يصاب بها الإنسان، فإنه ما يصيب الإنسان من مصيبة إلا كانت تكفيراً لما اقترفه من الذنوب.
ومنها: إتباع السيئة الحسنة، يعني: يأتي بحسنات بعد ذلك تمحو تلك السيئات، وهذا غير التوبة.
ومنها: دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، فإن الله يقبل دعاءهم بعضهم لبعض.
ومنها: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أحق الناس بها، والشفاعة لأهل الذنوب.
ومنها: مغفرة أرحم الراحمين جل وعلا، فإنه جل وعلا يغفر لأهل السوابق وأهل الفضل ما لا يغفر لغيرهم.
فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر، والخطأ مغفور لهم؟!
ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم -وليس من فعلهم كلهم- قليل نزر مغمور في جنب فضائلهم ومحاسنهم الكثيرة رضوان الله عليهم: من الإيمان بالله -وهو من أفضل الأعمال- والإيمان برسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، وهم أعلم الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها عقولاً، وأكثرها عملاً، رضوان الله عليهم، فالإيمان في قلوبهم أمثال الجبال الراسيات.
هذا هو قول المؤلف -رحمه الله- في الصحابة، فكيف يتهم المؤلف أنه يتكلم على الصحابة بالاحتقار والانتقاد، وأنه يخرق إجماعهم، وأن يزدريهم ولاسيما كبارهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ؟
وقد جمع ابن حجر ترجمة للمؤلف في كتابه الدرر الكامنة من أسوأ ما يكون، ذكر فيها أموراً متناقضة، مثل أنه يحتقر الصحابة، وأنه يرميهم بالجهل، وأنه يخالف إجماعهم، وأنه يزدري فضلاءهم وكبراءهم، والعجيب أنه ذكر عنه في هذه الترجمة أشياء في كتبه التبري منها مناقضتها، وما ذلك إلا دليل على اتباع المذاهب التي يتقلدها بعض الناس، وسوف يجازى كل قائل بما يقول، وإذا قارنا هذا القول مع قول هؤلاء يتبين لنا أن قولهم كذب وافتراء، والله المستعان.
من أصول أهل السنة الإيمان بكرامات الأولياء، والكرامة التي تكون للأولياء هي في الواقع من آيات الأنبياء؛ ولهذا يقرن معها المعجزات التي تكون للرسل (وهي الآيات)، مثل ما حدث لموسى عليه السلام من العصا، واليد، وفلق البحر، وإنباع الماء من الحجر، وغير ذلك، وما حدث لعيسى عليه السلام من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وكذلك ما حدث لنبينا صلى الله عليه وسلم من انشقاق القمر، وإنزال القرآن، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل حتى إنه حز من سواد بطن شاة لأكثر من ثلاثمائة رجل، أشبعهم من سواد بطن الشاة، وهذا الشيء لا يمكن أن يكون إلا خارقاً، وهو آية من آيات الله جل وعلا، وكذلك أشياء كثيرة، وقد كتب فيها العلماء كتباً مستقلة، سموها: دلائل النبوة.
ولكن المقصود هنا ليس هذا، المقصود ما يحدث لأفراد الأمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم إلى يوم القيامة من الكرامات، وسميت كرامة لأنه يكرم بها، لأنها تقع إما لحاجته لنفسه أو أهله، أو لحاجته إلى تثبيت الإيمان في قلبه، أو للدعوة حتى تثبت أن دعوته على حق.
وكذلك ما حدث لـسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في قتاله للفرس، فإنه مشى بجيشه على النهر بدون جسر بل على الماء، فإنه قال للصحابة: إنه وقع في نفسي شيء، وما أدري هل تطيعوني في ذلك؟ قالوا: ما هو؟ قال: وقع في نفسي أن أمشي على هذا البحر؛ لأنه حال بينهم وبين عدوهم، فقال: نحن عباد الله، وفي سبيل الله، فقالوا له: سر ونحن خلفك، فخاضوا الماء بخيولهم، فصارت الخيل كأنها تمشي على الرمال، وصاروا يتحدثون وهم في وسط النهر وهو يقذف بالزبد.
وقد وقع مثل هذا قبل ذلك لـابن الحضرمي ، وغير ذلك كثير، وهي كرامات، والواقع أنها من آيات الأنبياء.
والمؤلف ذكر هذا ليبين أن طريقة أهل السنة خلاف ذلك، وأن الخارق للعادة ليس هو العلامة الوحيدة على أن الإنسان ولي، فليس كل من وقع له خارقاً للعادة يكون ولياً، بل لابد أن ينظر إلى حاله، فإن كان متقياً لله جل وعلا، متبعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حكم بأنها كرامة، أما إن كان مخالفاً للسنة، صاحب بدعة، صاحب معصية، متلبساً بالكذب وأكل أموال الناس بالباطل والافتراء؛ فهي حال شيطانية من أحوال الشياطين؛ لأن الشيطان يخدم أولياءه، ويأتي إليهم بأعمال لا يستطيعها الإنس من أعمال الشياطين، فهم يفرقون بين الأولياء وبين أعداء الله بالنظر إلى التقوى وإلى الاتباع؛ لأن الله جل وعلا يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63].
ثم إنكار الكرامات إنكار للواقع؛ لأنه لا يخلو وقت منها، ومن ذلك إجابة الدعاء، وهذا يحدث لكل مؤمن متق لله جل وعلا، ولكن بعضهم تكون استجابته ظاهرة وفي الحال، كما كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فإنه كان مجاب الدعوة، وما دعا دعوة إلا ورئيت إجابتها، فإنه لما كان أميراً على الكوفة، وكانت عادتهم شكوى الأمراء، فاشتكوه ورموه بأشياء حتى قالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، وهذا من العجب! ثم سئل عنه في الكوفة، فكل من سئل عنه كان يثني عليه، إلا رجل قام فقال: أما إذا نشدتنا، فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يمشي بالسرية، ولا يعدل في القضية، فقال: اللهم إن كان كاذباً فأطل عمره، وأعم بصره، وعرضه للفتن، فوقع ذلك كما دعا، فطال عمره، وعمي، وصار يقف في الطريق يتحسس النساء، فإذا أحس بامرأة تعرض لها، وجفونه قد سقطت على عيونه من الكبر، فإذا لوم في ذلك قال: أصابتني دعوة الرجل الصالح.
وكذلك سعيد بن جبير رضي الله عنه كان مجاب الدعوة، حتى إنه كان له ديك يوقظه للصلاة، وفي يوم لم يصح الديك حين طلع الفجر، فلما رأى الفجر قد طلع قال: ما له قطع الله عنقه، فانقطع صوته في الحال، ولما دعا على الحجاج أهلكه الله، فإنه قال: اللهم اجعلني آخر من يسلط عليه من أمة محمد، فهلك بعده بزمن يسير.
فالعلوم والمكاشفات هي أن يلقى في قلبه شيء من العلم إلقاءً من الله جل وعلا، أو يكشف له عن أمر خفي إما بعيد أو مستقبل، كما حدث لـعمر رضي الله عنه فيما رواه أبو نعيم وغيره بإسناد حسن أنه أرسل جيشاً إلى نهاوند، وبينما هو يخطب في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، حصلت عليهم هزيمة من العدو، فصار ينادي أميرهم واسمه سارية : يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! فسمعوا صوته في ذلك المكان البعيد، فانحازوا إلى الجبل، فنصرهم الله جل وعلا على العدو.
ومن المكاشفة أنه أخبر أنه سيولد له ولد يكون أميراً عادلاً، فولد له عمر بن عبد العزيز ، وصار شبيهاً به في العدل.
وكذلك ذكر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لابنته عائشة : إنه سيولد لكم بنت، وكانت امرأته حاملاً قبل وفاته، فولدت بنتاً كما أخبر، وغير ذلك من أنواع المكاشفات التي يجعلها الله جل وعلا فيمن يشاء من عباده.
أما القوى والتأثيرات فمثل ما ذكر الله جل وعلا عن الذي كان عنده علم من الكتاب لما قال سليمان صلى الله عليه وسلم لجلسائه: أيكم يأتيني بعرشها؟ -يعني: عرش بلقيس- وكانت في اليمن، وسليمان في فلسطين أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي [النمل:38-40]، وهذا الذي عنده علم من الكتاب ليس نبياً، وقيل: إنه كان يعلم اسم الله الأعظم، فدعا الله جل وعلا باسمه الأعظم فجاء العرش من اليمن في تلك اللحظة الوجيزة.
ومن ذلك ما يكون من تكثير الطعام، فإنه نوع من القوى، وقد وقع لكثير من الصحابة، كما وقع لـأبي بكر لما ذهب بأضيافه إلى بيته وقدم لهم طعامهم، فبقوا ينتظرونه، فلما جاء حلف ألا يأكل معهم، ثم تراجع وأكل معهم، فلما انتهوا من الأكل إذا هو أكثر مما كان، فحمله وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه جماعات، وأما ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك فهو كثير.
ومن ذلك الشيء الذي يكون فيه إحياء الموتى، كما وقع لـصلة بن أشيم ، فإنه كان في الأهواز ومات فرسه، وهو يقاتل في سبيل الله، فسأل ربه أن يحيي له فرسه، فأحياه وقاتل عليه، ثم لما رجع إلى بلده ووصل إلى بيته قال لابنه: يا بني! خذ سرج الفرس فإنه عارية، فأخذ سرجه فسقط ميتاً.
وكذلك وقع لـعبد الله بن الشخير ، وكان عمر بن عقبة في الأهواز أيضاً، فاستطعم ربه، فسمع وجبة خلفه، فالتفت فإذا شيء مغطى بحرير، فأخذه فإذا هو رطب وفاكهة، وليس في تلك البلاد نخل، فأكله، ثم أعطى زوجته الغطاء الذي كان مغطى به، فبقي عندها وقتاً، وكان إذا ذهب مع أصحابه يشترط عليهم رعي ركائبهم، فيأتي الأسد ويتولى رعي الركائب وهو يصلي.
ونحوه حدث لـسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما انكسرت السفينة به وصل إلى جزيرة في البحر، ووجد أسداً، فقال للأسد: إني مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار الأسد يسير أمامه يدله على الطريق حتى أوصله إلى المكان الذي يهتدي إليه، ثم صار يهمهم كأنه يودعه وانصرف، وغير هذا كثير جداً.
والكرامات تبقى في هذه الأمة، وهي من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يحدث لمن يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبعه، فلهذا جعلت من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي كما قلنا: إما أن تكون لحاجة الشخص نفسه أو تأييداً للدين؛ لأنه يدعو إلى دين الله جل وعلا، فيؤيده الله جل وعلا بما يشاء من ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر