فهذا اعتراف مذنب: كنت قد كتبت لأخي رسالة قبل أيام عاتبته فيها على شطحات وهفوات، وتحدثت عن مشاعر وأحاسيس في نفسي، فظن هذا الأخ الكريم أني أعنيه بشخصه وأقصده بذاته، فكتب إلي متبرماً متنصلاً وقال: إن سياط عتابك أوجعتني، وكلماتك آلمتني، والحق أني ما قصدته بذاته.
بل أنا لا أعرفه لا باسمه ولا برسمه، ولكني أتحدث عن أعمال وأقوال وأحوال ربما كان يلابسها الكثير منا، -إن لم يكن كلنا؛ فجلنا- فما منا إلا وهو ذلك المخطئ المذنب، وفي سنن الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} فكلنا ذلك الخطَّاء، وكلنا ذلك المذنب.
بل وفي حديث آخر عند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه -وسنده صحيح أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، أي إن المؤمن خلق مفتناً، تواباً، نسياً، إذا ذكر }.
فحديثي لم يكن إلى ذلك الأخ الكريم بعينه، ولقد سمعت عدداً من الإخوة يقول: أنا المقصود لولا أنني لا أفعل كذا، وأنا المراد لولا أني لم أقل كذا، وأظن أن الخطاب لي لولا أنني ما وقعت في كذا.
إن اعتراف الإنسان بذنبه؛ هو دليل الإيمان، ودليل الشعور بالخوف من الله عز وجل، ولهذا قال الله تعالى عن المؤمنين، بل عن المستقيمين: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن أبي أمامة، وهو حديث صحيح-: {إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك؛ فأنت مؤمن}.
ولكن المقصود أن يعترف بين يدي ربه جل وعلا، الذي يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه خافية... أن يعترف بأن ما فعله خطأ، وذنب، ومعصية، وذلك دليل الإيمان بالله تعالى؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك؛ فأنت مؤمن}.
فالمؤمن هو ذلك الذي يلدغ الشعور بالذنب قلبه، ويكوي فؤاده، ويؤرقه.. فيتقلب على فراشه على مثل جمر الغضى؛ من الشعور بالذنب وقلق المعصية، والتوتر والخوف من عقاب الله تعالى أن ينـزل به ليلاً أو نهاراً، اليوم أو غداً.
إنه اعتراف بأن ما فعله خطأ؛ ولذلك تراه يتوب ويستغفر... وهاهو المؤمن يقول -في صباح كل يوم ومساء كل ليلة- كما أمر وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري، أنه قال عليه الصلاة والسلام: {سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك علي، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قاله حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة، ومن قاله حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة
وفي الحديث الآخر -أيضاً- الذي رواه البيهقي وأبو نعيم عن عائشة -وهو صحيح- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً}.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار... فكان إذا انصرف من صلاته، قال -وهو مستقبل القبلة قبل أن ينصرف إلى الناس-:{أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله} كما في حديث عائشة وهو في صحيح مسلم، وكما في حديث ثوبان وغيرهما... فقال هذا الاستغفار عقب طاعة من الطاعات وهي الصلاة.
كما أمره الله تعالى أن يستغفر عقب طاعة أخرى في مناسك الحج فقال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199].
فإذا كان العبد حتى النبي المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام يطلب منه أن يستغفر بعد طاعة، وصلاة، ونسك، وبعد ذكر، فما بالك بالخطائين المذنبين الذين غرقوا في أوحال المعصية إلى أذقانهم.. وتلطخوا بها؛ واشتملوا عليها!
وما بالك بالعبد وهو يخرج من ذنب، أو يقلع من معصية، أو يتوب مما لا يرضي الله عز وجل! فإنه أولى أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يستغفر الله عز وجل استغفاراً يتواطأ فيه اللسان مع القلب، فإنه خير الاستغفار.
أما أن يستغفر بلسانه وقلبه مصر على المعصية، فإن هذا لا يكون قد استغفر الله تعالى حقاً، ولهذا قال أحدهم:
أستغفر الله من أستغفر الله من كلمة قلتها لم أدرِ معناها |
إنه يستغفر من أنه ينقض بفعله ما قاله بلسانه، فذلك الإنسان الذي يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت؛ ثم ينقض عهد الله تعالى من بعد ميثاقه، ويقطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل، ويترك ما أمر الله تعالى أن يفعل، ويفعل ما أمر الله تعالى أن يترك، أين هو ممن يعترف بذنبه، أو يقر به، أو يفي بعهد الله تعالى وميثاقه؟!
إن هذا هو الاعتراف الحق... أن يعترف العبد بقلبه بما وقع من الذنب والحوب والمعصية؛ ثم ينطق اللسان بما اشتمل عليه القلب من الإقرار لله تعالى، والتوبة إليه، والندم على ما فات، والعزم على ألا يعود.
وهذا هو ما دعا إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقال سبحانه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12].
فثمرة الاستغفار الأولى المطر من السماء: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ [نوح:12] ومن ثمار الاستغفار أيضاً الكثرة في المال والبركة في الرزق: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ [نوح:12] وهذا أيضا من ثمار الاستغفار أن يجعل الله للعبد أولاداً صالحين، وذرية تخلفه من بعده.
هذا يكثر المعترفون عند الموت؛ بل ما من عبد ينـزل به الموت إلا واعترف واستغفر، لكن شتان بين من يعترف طالباً للمزيد، وبين من يعترف بعدما أفلتت من يده كل الفرص!.. فشتان بين الإمام الشافعي وبين شاعرٍ كـأبي نواس.. فالإمام الشافعي لما نـزل الموت به تلفت فيمن حوله، ثم أراق قطرة من دموعه، ثم قال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما |
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما |
فما زلت غفاراً عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منةً وتكرما |
فلولاك لم يصمد لإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما |
فلله در العارف الندب إنه تفيض لفرط الوجد أجفانه دما |
يقيم إذا ما الليل شد إزاره على نفسه من شدة الخوف مأتما |
فصيحاً إذا ما كان في ذكر ربه وفيما سواه في الورى كان أعجما |
ويذكر أياماً مضت من شبابه وما كان فيها بالجهالة أجرما |
فصار قرين الهم طول نهاره أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلما |
يقول حبيبي أنت سؤلي وموئلي كفى بل للراجين سؤلاً ومغنما |
ألست الذي غذيتني وهديتني وما زلت مناناً علي ومنعما |
عسى من له الإحسان يغفر زلتي ويستر أوزاري وما قد تقدما |
ثم فاضت روحه الطاهرة رحمه الله.
فماذا عمل الإمام الشافعي؟
إنه قضى ليله في الصلاة ونهاره في طلب العلم، وكان صاحب تقوى وعباده، إماماً في الفقه، إماماً في الحديث، إماماً في الزهد، إماماً في التقوى، إماماً في الورع، ومع ذلك هذا اعترافه وهذا ذنبه وهذا ندمه؛ لأنه ما من عبد ينـزل به الموت إلا ندم، فإن كان مؤمناً ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون نـزع عن إساءته ومعصيته، كما جاء في الأثر.
فشتان بين رجل -كالإمام الشافعي- هذا اعترافه في تلك اللحظات الأخيرات، وبين رجل -كـأبي نواس- ملأ الدنيا ذنوباً ومعاصي، وما من جريمة إلا وله فيها سهم ونصيب، وامتلأت كتب الأدب بقصائده وأشعاره وقصصه وأخباره، وغير ذلك مما يطول به الوقت ويضيق عنه الحصر؛ ثم إذا بالموت يصرعه، فيتلفت... أين أصدقاؤه؟ أين ندماؤه؟ أين قيانه؟ أين الكئوس؟ أين الجلوس؟ كل ذلك فر عنه، وبقي يصارع الموت وحده!
-وحينئذٍ: علم أنه لا باب إلا بابه جل وعلا، الذي ما رد طالباً، ولا رجع عنه أحد خائباً.. من قرع بابه بجد؛ فتح الله تعالى له وأجابه، فنظر هذا الرجل فحاول أن يستدرك فصاح:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً فلقد علمت بأن عفوك أعظم |
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المجرم |
رب دعوت كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم |
إن العبيد لا يتحجرون رحمة الله تعالى، وقد قبل الله تعالى رجلاً قتل مائة نفس، وما عمل خيراً قط.. سوى أنه ذهب إلى بلد صالح ليتوب ويعبد الله عز وجل؛ بل إن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- قال جبريل: {يا محمد! كيف لو رأيتني وأنا آخذ من وحال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة!}.
فلما غرق فرعون في اليم قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] قال الله تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:91-92] فجبريل خشي أن تدركه رحمة الله تعالى حين نطق بكلمة التوحيد؛ فكان يأخذ من طين البحر فيدسه في فمه لئلا يكرر هذه الكلمة، أو يستغفر الله تعالى في تلك اللحظة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر}.
لكن أيها الأخ الكريم: ما الذي يدريك أن تتمكن من توبة صادقة وأنت على فراش الموت؟
ربما يحال بين العبد وبين ما يشتهي، وبينه وبين ما يريد، كما فعل بأشياعه من قبل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة}.
لكن كم من إنسان حيل بينه وبينها! فلما أراد أن يقولها ثقل لسانه، أو جرى على لسانه ما كان يردده في حال حياته، -كأغنية، أو كلمة فاجرة، أو ما أشبه ذلك- وربما مات على غير ملة الإسلام! -والعياذ بالله تعالى من ذلك- ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
فإن العبد إذا عاش على الإسلام؛ مات عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد، عن ابن عباس رضي الله عنه: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} وأي شدة أشد من الموت، فإن عرف العبد ربه في الرخاء فذكره، وشكره، وصلى، وصام، وتاب إليه، وأقلع عن معاصيه، وأكثر الاستغفار؛ رحمه الله تعالى في الشدة الكبرى عند الموت؛ فختم له بخير... أما إن كان من المسرفين على أنفسهم، فيخشى أن يحال بينه وبين التوبة في آخر لحظة يمكن له فيها أن يعترف.
ربما كانت -كما حدثني ذلك الأخ الكريم المشار إليه- نظرة دافعها حب الاستطلاع لا غير، تمر من عنده المرأة فيقول: أريد أن أنظر هل هذه المرأة محجبة فعلاً؟
هل هي لابسة للقفازات؟
هل هي قد أسبلت ثوبها فلا يُرى من قدمها شيء؟
فإذا نظر إليها بهذه النظرة؛ فربما كانت هذه النظرة بداية للفتنة.
أو يقع في يده كتاب، فيقول: أريد أن أنظر ماذا يحتوي، وعلى ماذا يشتمل، أو يتصل به هاتف في أول الليل أو في آخره لا يدري أذكر هو أو أنثى؛ فيقول: أريد أن أعرف، أريد.. أن أدري ماذا يقصد.. أريد وأريد... ثم تكون تلك هي بداية الطريق الطويل كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21] إنه يغزل لك غزلاً طويلاً، ويرسم لك طريقاً لا تدري أين بدايته؛ ولكنك تدري نهايته.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى جرك إلى الكأس الأولى، والكأس الأولى قد تكون كأس خمر؛ لكن هذا ليس ضرورياً -وقد يعبر بالخمر عن غيرها- فقد تكون سيجارة، وقد تكون أغنية في شريط، وقد تكون علاقة تقتصر أول الأمر على حديث بريء -كما يقال- وقد تكون سفرة مع رفقة سوء، وقد تكون جلسة لمجرد المتعة وإزجاء وقت الفراغ، ثم يجر ذلك إلى ما بعده -وقد يظن الظان أنه يمنع نفسه- ولا يدري أنه إذا انـزلق في هذا الطريق فقد لا يكون له قرارٌ إلا في ذلك الوادي السحيق.
ولهذا قال الله تعالى: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ [الحديد:14].
فالعبد فتن نفسه حينما أوقعها في أول المعاصي؛ ثم انتقل إلى الخطوة الثالثة، وهي: أن نفسه تعلقت بهذه الأمور، فأصبحت تستحسنها وتستعذبها، وربما يكون صاحب المعصية -أحياناً- يجد لذة في معصيته أثناء مواقعتها، ثم يجد بعد ذلك ندماً في قلبه وحسرة؛ ثم تزول هذه الحسرة ويرجع إلى المعصية، وهكذا يظل عمره ضائعاً بين شهوة يتلذذ بها، وحسرة يتبعها إياها، وينتهي الأمر بعد ذلك إلى أن تصبح المعصية جزءاً من تكوينه وشخصيته وحياته؛ فلا يطيق بعداً عنها، ولا يصبر عن أصحابها.
فيكون هذا الأمر والعياذ بالله! آخر ما يتصور الإنسان أنه ينتهي إليه، وربما كان الواحد يفعل المعصية وهو يبكي، لأن هذه المعصية أصبحت جزءاً من حياته، سرت في دمه، ورسخت في قلبه، وتصورها في عينه؛ فإذا غاب عنها قفز خياله إليها.
وإني أعرف الكثيرين من هؤلاء، يتمنى كثير منهم الخلاص، ولكن شباك الشيطان قد أحكمت من حوله، فهو يصيح ويمد يده ولكن الأمر عظيم؛ لأن المعصية قد أصبحت شجرة في حياته، فامتدت جذورها في التربة، وبسقت، وتعرضت سيقانها، وهو: قد ضعفت إرادته وفترت همته، وقل إيمانه، فلا يستطيع أن يتخلص منها.
أما إذا وقع فيها فقد يكون الخلاص صعباً، ومع ذلك فإن أولئك الذين ولغوا في المعاصي إلى أذقانهم، وغرقوا في تيارها؛ فإن الله تعالى يناديهم بقوله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
أي: إنه لا ذنب أعظم من القنوط من رحمة الله عز وجل، فإن القنوط من رحمته ضلال وكفر، قال تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] وقال: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] حتى أولئك الذين كفروا، وقتلوا، وزنوا، يقول الله عز وجل عنهم: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:68-70].
ولربما جاء يوم يتمنى فيه أهل المعاصي أن لو كانوا قد استكثروا منها؛ لأنهم قد تابوا إلى الله تعالى توبة نصوحاً، كما جاء ذلك في حديث صحيح: {إن الرجل يقف بين يدي الله تعالى فيذكره بذنوبه -لا يذكر إلا صغارها، وينحي عنه كبارها- فيقول الله تعالى له: قد غفرتها لك وأبدلتها حسنات، فيقول العبد: يا رب! عملت ذنوباً لا أراها هاهنا!! فتبسم النبي صلى الله عليه سلم حتى بدت نواجذه}.
هل نتوب حينما تزول هذه المواسم، وحينما تطلق الشياطين، وحينما يتسلط شياطين الجن والإنس على بني آدم؟!!
إن من لم يتب في هذا الشهر؛ يخشى عليه ألا يتوب... وما يدريك أنه قد يحال بينك وبين رمضان آخر!
فإن الحزم كل الحزم، والعزم كل العزم أن تجدد لله تعالى نية صادقة، وتعترف له تعالى بذنوبك، وتتوب إليه تعالى من كل ما أسلفت من ذنب أو خطيئة.
خاتمة:
اللهم تب على التائبين، اللهم تب علينا أجمعين، اللهم وفقنا للتوبة النصوح ما دامت ممكنة وبابها مفتوح، اللهم تب علينا يا أرحم الراحمين، اللهم إننا نعلم أنه لا حول ولا قوة لنا إلا بك، اللهم ظلمنا أنفسنا، اللهم أسرفنا على أنفسنا، اللهم إنا نعترف بذنوبنا، اللهم إنا نعترف بعجزنا وتقصيرنا، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ليس لنا غنى عن رحمتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم إنا نعترف إليك بعجزنا عن أن نقلع عن ذنوبنا إلا بقوة من عندك؛ فجد بها علينا يا جواد يا كريم، اللهم خذ بأيدينا من ذل المعصية إلى عز الطاعة، اللهم أخرجنا من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة، اللهم تب علينا يا تواب يا رحيم، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين.
اللهم اجعل هذا الشهر حجة لنا لا حجة علينا، اللهم اجعل هذا الشهر حجة لنا لا حجة علينا، اللهم اجعل هذا الشهر حجة لنا لا حجة علينا، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل صالح مبرور، وكن لنا في جميع الأمور يا عزيز يا غفور.
نستغفر الله تعالى ونتوب إليه، نستغفر الله تعالى ونتوب إليه، نستغفر الله تعالى ونتوب إليه، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً؛ فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً؛ فأرسل السماء علينا مدراراً، وأمدننا بأموال وبنين يا أرحم الراحمين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر